عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-27-2
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٥٣

أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

(وَقالَ الشَّيْطانُ). عن أبي جعفر عليه‌السلام : هو الثاني. وليس في القرآن (وَقالَ الشَّيْطانُ) إلّا وهو الثاني. (١)

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : إذا كان يوم القيامة يؤتى إبليس في سبعين غلّا وسبعين كبلا فينظر إلى زفر في عشرين ومائة كبل وعشرين ومائة غلّ. فينظر إبليس ويقول : من هذا الذي أضعف له العذاب وأنا أغويت هذا الخلق جميعا؟ فيقال : هذا زفر ؛ جدّد (٢) له هذا العذاب ببغيه على عليّ عليه‌السلام. فيقول له إبليس : ويل لك وثبور لك! فيقول زفر لإبليس : أنت أمرتني بذلك! فيقول له : لم عصيت ربّك وأطعتني؟ فيردّ زفر عليه ما قال الله : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ) ـ الآية. (٣)

(لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ). أي : لمّا فرغ من الحكم بين الخلائق ودخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النار النار ، أذن الله له في الكلام توبيخا لأهل النار. وقيل : إنّه يوضع له منبر في النار فيرقاه ويجتمع الكفّار عليه باللّائمة. (وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) من البعث والنشور والثواب والعقاب. (وَوَعَدْتُكُمْ) أن لا بعث ولا نشور ولا جنّة ولا نار. أو : وعدتكم الخلاص من العقاب بارتكاب المعاصي. (فَأَخْلَفْتُكُمْ) ؛ أي : كذبتكم. أو : لم أوف لكم بما وعدتكم. (مِنْ سُلْطانٍ) ؛ أي : ما كان لي عليكم من سلطان الإكراه والإجبار على الكفر والمعاصي. وإنّما كان لي سبيل الوسوسة والدعوة. (فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) بسوء اختياركم. وقيل : معناه : ما أظهرت لكم حجّة أحتجّ بها عليكم إلّا أن دعوتكم. فيكون من الاستثناء المنقطع. أي : دعوتكم إلى الضلال فصدّقتموني. (فَلا تَلُومُونِي) على ما حلّ بكم من العقاب بسوء اختياركم. (وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) حيث عدلتم عن أمر الله إلى اتّباعي من غير دليل وبرهان. (٤)

__________________

(١) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٢٣ ، ح ٨.

(٢) المصدر : «حدد» بالمهملة.

(٣) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٢٣ ، ح ٩.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٤٧٨.

٦٠١

(فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ). فيه دليل على أنّ العبد هو الذي يختار السعادة أو الشقاوة وليس من الله إلّا التمكين ولا من الشيطان إلّا التزيين. ولو كان كما زعم المجبّرة لقال : فلا تلوموني ولا أنفسكم. فإنّ الله قضى عليكم [الكفر] وأجبركم عليه. (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) : لا ينجي بعضنا بعضا من عذاب الله ولا يغيثه. والإصراخ : الإغاثة. (بِما أَشْرَكْتُمُونِ). ما مصدريّة. و (مِنْ قَبْلُ) متعلّق بما أشركتمون. يعني : كفرت اليوم بإشراككم إيّاي من قبل هذا اليوم ، أي في الدنيا. ومعنى كفره بإشراكهم إيّاه ، تبرّؤه منه واستنكاره له. كقوله : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ».)(١)

وقيل : يتعلّق بقوله : (كَفَرْتُ) وما موصولة. أي : كفرت من حين أبيت السجود لآدم بالّذي أشركتمونيه وهو الله عزوجل. ومعنى إشراكهم الشيطان بالله ، طاعتهم له فيما كان يزيّنه لهم من عبادة الأوثان وغيرها. (إِنَّ الظَّالِمِينَ). هذا من قول الله. ويحتمل أن يكون من قول إبليس وحكاه الله في ذلك الوقت ليكون لطفا للسامعين في النظر لعاقبتهم. (٢)

(بِمُصْرِخِيَّ). حمزة بكسر الياء على الأصل في التقاء الساكنين. وهو أصل مرفوض في مثله لما فيه من اجتماع ياءين وثلاث كسرات. (٣)

[٢٣] (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ)

(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ). متعلّق بأدخل. أي : أدخلتهم الملائكة الجنّة بإذن ربّهم وأمره. (٤)

(تَحِيَّتُهُمْ) ؛ أي : تحيّيهم الملائكة بالسلام بإذن ربّهم. (٥)

[٢٤] (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها

__________________

(١) الممتحنة (٦٠) / ٤.

(٢) الكشّاف ٢ / ٥٥٢.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٥١٧.

(٤) الكشّاف ٢ / ٥٥٢.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٥١٧.

٦٠٢

فِي السَّماءِ)

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً) ؛ أي : وصفه. (١)(كَلِمَةً). نصب بمضمر. أي : جعل كلمة طيّبة. وهو تفسير لقوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً). ويجوز أن ينتصب مثلا وكلمة بضرب. أي : ضرب كلمة طيّبة مثلا ، بمعنى جعلها مثلا ، ثمّ قال : (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) على تقدير : هي كشجرة طيّبة. (أَصْلُها ثابِتٌ) ؛ أي : ضارب في الأرض بعروقها فيها. (وَفَرْعُها) : ورأسها (فِي السَّماءِ). أو يراد بالفرع الجنس. والكلمة الطيّبة كلمة التوحيد. وقيل : كلّ كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة. وعن ابن عبّاس : شهادة أن لا إله إلّا الله. وأمّا الشجرة ، فكلّ شجرة مثمرة طيّبة الثمار كالنخلة وشجرة التين والعنب ونحوها. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّها النخلة. وقوله : (فِي السَّماءِ) ؛ أي : في جهة العلوّ والصعود. (٢)

(كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) : النخلة. قال ابن عبّاس : أراد أنّه يؤكل ثمرها في الصيف وطلعها في الشتاء وما بين صرام النخلة إلى حملها ستّة أشهر. (٣)

(كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) : شجرة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله : (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ) فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أصلها. وأمير المؤمنين عليه‌السلام فرعها. والأئمّة من ذرّيّتهما عليهم‌السلام أغصانها. وعلم الأئمّة ثمرها. وشيعتهم المؤمنون ورقها. والله إنّ المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها ، وإنّ المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها. كذا في الكافي. (٤)

وفي الخصال عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلق الناس من شجرة شتّى. وخلقت أنا وعليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام من شجرة واحدة. أصلي عليّ عليه‌السلام. وفرعي جعفر. (٥)

وفي كتاب الخرائج والجرائح عن الباقر عليه‌السلام : الشجرة نحن ؛ نعطي شيعتنا ما نشاء من العلم. (٦)

__________________

(١) المصدر : وضعه.

(٢) الكشّاف ٢ / ٥٥٢.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٤٨٠ ، عن الحسن وسعيد بن جبير.

(٤) الكافي ١ / ٤٢٨ ، ح ٨٠.

(٥) الخصال / ٢١ ، ح ٧٢.

(٦) الخرائج ٢ / ٥٩٧ ، ح ٨.

٦٠٣

[٢٥] (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

تعطي أكلها» : تعطي ثمرها كلّ وقت وقّته [الله]. (بِإِذْنِ رَبِّها). أي إثمارها بتيسير الله خالقها وتكوينه. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ). لأنّ في ضرب الأمثال زيادة إفهام وتذكير وتصوير للمعاني. (١)

(كُلَّ حِينٍ) أقّته الله لإثمارها. (٢)

وقال مجاهد وعكرمة : (كُلَّ حِينٍ) ؛ أي : كلّ سنة. لأنّها تحمل في كلّ سنة مرّة. وقيل : في كلّ شهرين. لأنّ من وقت ما يطعم النخل إلى صرامه يكون شهرين. وقيل : معناه : في جميع الأوقات. لأنّ ثمر النخل يكون أوّلا طلعا ، ثمّ يصير بلحا ، ثمّ بسرا ، ثمّ رطبا ، ثمّ تمرا. فيكون موجودا في الأوقات كلّها. شبّه الإيمان بالنخلة لثبات الإيمان في قلب المؤمن كثبات النخل في منبتها. وشبّه ما يكسبه المؤمن من الأعمال الصالحة في كلّ وقت بما ينال من شجرة النخلة في أوقات السنة كلّها. (٣)

عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّ عليّا عليه‌السلام قال في رجل نذر أن يصوم زمانا قال : الزمان خمسة أشهر. والحين ستّة أشهر. لأنّ الله يقول : (تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ). (٤)

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : جعل الله أهل الكتاب القائمين به والعالمين بظاهره وباطنه من شجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين ؛ أي : يظهر منها العلم في الوقت بعد الوقت. ولو علم المنافقون لعنهم الله ما عليهم من ترك هذه الآيات التي بيّنت لك تأويلها ، لأسقطوها مع ما أسقطوا. (٥)

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٥٥٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٥١٨.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٤٨٠.

(٤) علل الشرائع / ٣٨٧ ، ح ١. ومثله في الكافي ٤ / ١٤٢.

(٥) الاحتجاج ١ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣.

٦٠٤

[٢٦] (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ)

(وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ) ؛ أي : صفتها صفتها. (كَلِمَةٍ) ؛ أي : كلمة الشرك. أو : كلّ كلمة قبيحة. والشجرة الخبيثة : التي لا يطيب ثمرها ، كشجرة الحنظل. وقوله : (اجْتُثَّتْ) مقابل (أَصْلُها ثابِتٌ). ومعنى اجتثّت : استؤصلت. وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثّة كلّها. (مِنْ قَرارٍ) ؛ أي : استقرار. شبّه بها القول الذي لم يعضد بحجّة فهو غير ثابت. (١)

(كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ). عن الباقر عليه‌السلام : هم بنو أميّة. (٢)

(مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ). لأنّ عروقها قريبة منه. (٣)

[٢٧] (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ)

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) : الذي ثبت بالحجّة والبرهان في قلب صاحبه وتمكّن فيه. وتثبيتهم به في الدنيا أنّهم إذا فتنوا في الدنيا في دينهم ، لم يزلّوا ، كالذين نشروا بالمناشير. وتثبيتهم في الآخرة أنّهم إذا سئلوا عند مواقف الأشهاد عن معتقدهم ودينهم ، لم يتحيّروا من أهوال المحشر. وروي أنّه جواب منكر ونكير. (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) ؛ أي : الذين لم يتمسّكوا بحجّة في دينهم وإنّما اقتصروا على تقليد شيوخهم كما قلّد المشركون آباءهم. وإضلالهم في الدنيا أنّهم لا يثبتون في مواقف الفتن وتزلّ أقدامهم أوّل شيء. وهم في الآخرة أضلّ وأذلّ. (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) ؛ أي : ما توجبه الحكمة. لأنّ مشيّة الله تابعة للحكمة من تثبيت المؤمنين ومن إضلال الظالمين وخذلانهم والتخلية بينهم وبين شأنهم. (٤)

(وَفِي الْآخِرَةِ). عن الباقرين عليهما‌السلام : انّ الله يثبّت المؤمن في القبر للجواب عند السؤال و

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٥٥٣ ـ ٥٥٤.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٤٨١

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٥١٨.

(٤) الكشّاف ٢ / ٥٥٤ ـ ٥٥٥.

٦٠٥

يخلّي الكافر ونفسه فلا يقدر ولا يعرف الجواب. (١)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : يضلّ الله الظالمين يوم القيامة عن دار كرامته ؛ ويهدي أهل الإيمان [والعمل الصالح] إلى جنّته. (٢)

قال الصادق عليه‌السلام : إنّ الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا عن يمينه وشماله ليضلّه عمّا هو عليه ، فيأبى الله له ذلك. وذلك قوله : (يُثَبِّتُ اللهُ) ـ الآية. (٣)

[٢٨] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ) : ألم تر إلى هؤلاء الكفّار عرفوا نعمة الله بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ أي : عرفوا محمّدا ، ثمّ كفروا به فبدّلوا مكان الشكر كفرا. وروي عن الصادق عليه‌السلام : نحن ـ والله ـ نعمة الله التي أنعم بها على عباده. وبنا يفوز من فاز. ويحتمل أن يكون المراد جميع نعم الله بدّلوا شكرها بالكفر بها. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : انّه عنى بذلك كفّار قريش ؛ كذّبوا نبيّهم ونصبوا له الحرب والعداوة. وسأل رجل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن هذه الآية. فقال : هما الأفجران من قريش ؛ بنو أميّة وبنو المغيرة. فأمّا بنو أميّة ، فمتّعوا إلى حين. وأمّا بنو المغيرة ، فكفيتموهم يوم بدر. (وَأَحَلُّوا) ؛ أي : أنزلوا قومهم دار الهلاك بأن أخرجوهم إلى بدر. وقيل : معناه : أنزلوهم النار بدعائهم إيّاهم إلى الكفر. (٤)

(بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ) أي : شكر نعمته (كُفْراً) بأن وضعوه مكانه. أو : بدّلوا نفس النعمة كفرا. فإنّهم لمّا كفروا ، سلبت عنهم فصاروا تاركين لها محصّلين الكفر بدلها. كأهل مكّة ؛ أسكنهم الله الحرم وجعلهم قوّام بيته ووسّع عليهم أبواب رزقه وشرّفهم بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكفروا ذلك ، فقحطوا سبع سنين وأسروا وقتلوا يوم بدر وصاروا أذلّاء فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر. (٥)

__________________

(١) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٢٥ ، ح ١٧.

(٢) التوحيد / ٢٤١ ، ح ١.

(٣) الفقيه ١ / ٨٠ ـ ٨١ ، ح ٣٦٣.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٤٨٢ ـ ٤٨٣.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٥١٨.

٦٠٦

[٢٩] (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ)

(جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها). تفسير لدار البوار. (وَبِئْسَ الْقَرارُ) [قرار] من قراره النار. (١)

[٣٠] (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) : نظراء ومثالا في العبادة زيادة على كفرهم وجحدهم. (قُلْ) يا محمّد لهؤلاء الكفّار : انتفعوا بما تهوون. فإنّ المراد به التهديد. (مَصِيرَكُمْ) ؛ أي : مرجعكم. (٢)

(لِيُضِلُّوا). ابن كثير وأبو عمرو وبفتح الياء. وليس الضلال والإضلال غرضهم في اتّخاذ الأنداد ، لكن لمّا كان نتيجته جعل كالغرض. (٣)

(قُلْ تَمَتَّعُوا). إيذان بأنّهم لانغماسهم في التمتّع بالحاضر وأنّهم لا يعرفون غيره ، مأمورون به قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه وهو أمر الشهوة. والمعنى : إن دمتم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة ، فإنّ مصيركم إلى النار. (٤)

[٣١] (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ)

(قُلْ لِعِبادِيَ). مفعول قل محذوف يدلّ عليه جوابه. أي : قل لعبادي الذين آمنوا : أقيموا الصلاة وأنفقوا. (يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا). فيكون إيذانا بأنّهم لفرط مطاوعتهم الرسول بحيث لا ينفكّ فعلهم عن أمره وأنّه كالسبب الموجب له. (سِرًّا وَعَلانِيَةً). منتصبان على المصدر. أي : إنفاق سرّ وعلانية. أو على الحال. أي : ذوي سرّ وعلانية. (لا بَيْعٌ فِيهِ) فيبتاع مقصّر ما يتدارك به تقصيره أو يفدّي به نفسه. (وَلا خِلالٌ) : ولا مخالّة فيشفع لك خليلك. (لا بَيْعٌ). ابن كثير وأبو عمرو بالفتح فيهما على النفي العامّ. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٤٨٣.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٤٨٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٥١٩.

(٤) الكشّاف ٢ / ٥٥٥.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٥١٩.

٦٠٧

(يُقِيمُوا الصَّلاةَ) : يؤدّوها لمواقيتها. (سِرًّا وَعَلانِيَةً) في الفرائض والنوافل. ينفقون في النوافل سرّا وفي الفرائض جهرا ليدفعوا عن أنفسهم تهمة المنع. (وَلا خِلالٌ) ؛ أي : لا مصادقة كما قال : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)(١). (٢)

فإن قلت : كيف طابق الأمر بالإنفاق وصف اليوم بأنّه (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ)؟ قلت : من قبل أنّ الناس يخرجون أموالهم في عقود المعاوضات فيعطون بدلا ليأخذوا مثله وفي المكارمات ومهاداة الأصدقاء ليستجرّوا بهداياهم أمثالها أو خيرا منها. وأمّا الإنفاق لوجه الله خالصا ، فلا يفعله إلّا المخلصون فبعثوا عليه ليأخذوا بدله في يوم لا بيع فيه ولا خلال ؛ أي : لا انتفاع فيه بمبايعة ولا بمخالّة ولا بما ينفقون به أموالهم من المعاوضات والمكارمات وإنّما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه الله. (٣)

عن سماعة عنه عليه‌السلام قال : إنّ الله فرض للفقراء في مال الأغنياء فريضة لا يحمدون بأدائهاء ، وهي الزكاة ؛ بها حقنوا دماءهم وبها سمّوا مسلمين. ولكنّ الله فرض في الأموال حقوقا غير الزكاة. قال الله تعالى : (وَيُنْفِقُوا) ـ الآية. (٤)

[٣٢] (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ)

(اللهُ). مبتدأ. (الَّذِي). خبر. (سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ). قيل : تسخير هذه الأشياء تعليم كيفيّة اتّخاذها. (٥)

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) : أنشأهما من غير شيء. (ماءً) ؛ أي : غيثا ومطرا. (بِهِ) ؛ أي : بذلك الماء. (الْفُلْكَ) : السفن والمراكب. (بِأَمْرِهِ) ؛ أي : بأمر الله. لأنّها تسير بالرياح والله هو المنشئ لها. (الْأَنْهارَ) التي تجري بالمياه التي ينزلها من السماء ويجريها في الأودية و

__________________

(١) الزخرف (٤٣) / ٦٧.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٤٨٥.

(٣) الكشّاف ٢ / ٥٥٦.

(٤) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٣٠ ، ح ٢٩.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٥١٩.

٦٠٨

تنصبّ منها في الأنهار. (١)

[٣٣] (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)

(الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ). ذلّل لمنافعكم الشمس والقمر في سيرهما لتنتفعوا بضوء الشمس نهارا وبضوء القمر ليلا وليبلغ بها الثمار والنبات في النضج الحدّ الذي عليه تتمّ النعمة فيهما. (دائِبَيْنِ) لا يفتران في صلاح الخلق ومنافعهم. (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) : ذلّلهما لكم ولمنافعكم لتسكنوا في اللّيل ولتبتغوا في النهار من فضله. (٢)

(دائِبَيْنِ) في مرضاته يبليان كلّ جديد ويقرّبان كلّ بعيد. (٣)

[٣٤] (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)

(مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ). وقال الضحّاك : إنّ ما للنفي. أي : آتاكم من كلّ شيء لم تسألوه إيّاه. ومن للتبعيض هنا. لأنّه لا يعطي كلّ ما يسأل لعدم موافقته الحكمة. وقيل : معناه : وأعطاكم من كلّ ما بكم إليه حاجة. فما من شيء يحتاج إليه العباد إلّا وهو موجود فيما بينهم. وهو كقوله : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً)(٤) ولم يخصّص كلّ واحد من الخلق بإيتاء كلّ ما سألتم. وقيل : معناه : وآتاكم من كلّ شيء سألتموه ولم تسألوه. فما هنا نكرة موصوفة والجملة صفة له. كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ). (٥)(مِنْ كُلِّ) قراءة الباقر والصادق عليهما‌السلام : (مِنْ كُلِّ) بالتنوين. (إِنَّ الْإِنْسانَ). ليس المراد بالإنسان هنا العموم ، بل هو مثل : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ). (٦)

(ما سَأَلْتُمُوهُ). إذا كانت ما للنفي يكون محلّه النصب على الحال. أي : آتاكم من جميع ذلك

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٤٨٥.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٤٨٦.

(٣) نهج البلاغة / ١٢٣ ، الخطبة ٩٠.

(٤) البقرة (٢) / ٢٩.

(٥) النحل (١٦) / ٨١.

(٦) مجمع البيان ٦ / ٤٨٦ و ٤٨٤.

٦٠٩

غير سائليه. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) : يظلم النعمة بإغفال شكرها ، شديد الكفران لها. وقيل : ظلوم في الشدّة يشكو ويجزع ، كفّار في النعمة يمنع ويجمع. والإنسان للجنس. (١)

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : الثوب والشيء لم تسأله إيّاه أعطاك. (٢)

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها). فيه دليل على أنّ المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة. (٣)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : من كان معسرا فلم يتهيّأ له حجّة الإسلام ، فليأت قبر جدّي أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام فليعرّف عنده. فذلك يجزئه عن حجّة الإسلام. هذا للمعسر. وأمّا الموسر ، إذا كان قد حجّ حجّة الإسلام وأراد أن يتنفّل للحجّ والعمرة فمنعه من ذلك شغل فأتى الحسين عليه‌السلام يوم عرفة ، أجزأه ذلك عن حجّته وعمرته ، وضاعف الله له بذلك أضعافا مضاعفة. قلت : كم تعدل حجّة؟ وكم تعدل عمرة؟ قال : لا يحصى ذلك. قلت : مائة؟ قال : ومن يحصي ذلك. قلت : ألف؟ قال : وأكثر. ثمّ قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها). (٤)

[٣٥] (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ)

(هَذَا الْبَلَدَ) ؛ يعني : البلد الحرام. (آمِناً) : [ذا أمن]. والفرق بينه وبين قوله : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً)(٥) أنّه في الأوّل سأل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، و [في] الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدّها من الأمن. كأنّه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمنا. (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ) ؛ أي : ثبّتنا وأدمنا على اجتناب عبادتها. (وَبَنِيَّ). أراد بنيه من صلبه. (أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ). إنّما كانت أنصاب حجارة لكلّ قوم. قالوا : البيت حجر ، فحيث ما نصبنا حجرا ، فهو بمنزلة البيت. فكانوا يدورون بذلك الحجر ويسمّونه الدوار. فاستحبّ أن يقال : طاف بالبيت ، ولا يقال : دار بالبيت. (٦)

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٥٥٧.

(٢) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٣٠ ، ح ٣٠.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٥٢٠.

(٤) تهذيب الأحكام ٦ / ٥٠ ، ح ١١٤.

(٥) البقرة (٢) / ١٢٦.

(٦) الكشّاف ٢ / ٥٥٧ ـ ٥٥٨.

٦١٠

(رَبِّ اجْعَلْ). هذا الدعاء بعد فراغه من الكعبة. (١)

عن الزهريّ قال : أتى رجل أبا عبد الله عليه‌السلام فسأله عن شيء فلم يجبه. فقال له الرجل : إن كنت ابن أبيك ، فإنّك من أبناء عبدة الأصنام. فقال له : كذبت. إنّ إبراهيم لمّا أنزل إسماعيل بمكّة قال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ). فلم يعبد أحد من ولد إسماعيل صنما ، ولكنّ العرب عبدة الأصنام. وقالت بنو إسماعيل : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وكفرت ولم تعبد الأصنام. (٢)

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : أنا على دعوة أبي إبراهيم قال : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ).

فانتهت الدعوة إليّ وإلى أخي عليّ عليه‌السلام. لم يسجد أحد منّا لصنم قطّ. فاتّخذني الله نبيّا وعليّا وصيّا. لأنّه قال : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). (٣) يعني من سجد لصنم لا يكون إماما. (٤)

[٣٦] (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

(أَضْلَلْنَ كَثِيراً). فأعوذ بك أن تعصمني وبنيّ من ذلك. وكونهنّ أضللن لأنّ الإضلال بسببهنّ. (فَمَنْ تَبِعَنِي) ؛ أي : كان على ملّتي حنيفا مسلما. (فَإِنَّهُ مِنِّي) ؛ أي : هو بعضي ، لفرط اختصاصه بي. (غَفُورٌ) تغفر لهم ما سلف منه من عصياني إذا ندم واستحدث الطاعة لي. وقيل : معناه : ومن عصاني فيما دون الشرك. (٥)

عن الحلبيّ قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : من اتّقى الله منكم وأصلح ، فإنّه منّا أهل البيت من آل محمّد عليهم‌السلام أنفسهم. أما سمعت قول إبراهيم : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي)؟(٦)

وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام : لا أنّه من القوم بأعيانهم ، وإنّما هو [منهم] بتولّيه إيّاهم و

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٤٨٩.

(٢) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٣٠ ، ح ٣١.

(٣) البقرة (٢) / ١٢٤.

(٤) أمالي الطوسيّ ١ / ٣٨٨ ، ح ٨١١.

(٥) الكشّاف ٢ / ٥٥٨.

(٦) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٣١ ، ح ٣٣.

٦١١

اتّباعه لهم. ثمّ قرأ الآية. (١)

[٣٧] (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)

(مِنْ ذُرِّيَّتِي) : بعض أولادي ؛ وهم إسماعيل ومن ولد منه. (بِوادٍ). هو وادي مكّة. (غَيْرِ ذِي زَرْعٍ). لا يكون فيه شيء من زرع قطّ. (الْمُحَرَّمِ). لأنّ الله حرّم التعرّض له والتهاون به وجعل ما حوله حرما لمكانه. أو لأنّه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه كلّ جبّار كالشيء المحرّم الذي حقّه أن يجتنب. أو لأنّه محترم عظيم الحرمة لا يحلّ انتهاكه. أو لأنّه حرّم على الطوفان ؛ أي : منع منه. كما سمّي عتيقا لذلك. (لِيُقِيمُوا) ؛ أي : أسكنتهم ليقيموا الصلاة عند بيتك المحرّم ويعمروه بعبادتك. (٢)

(ذُرِّيَّتِي). عن أبي جعفر عليه‌السلام : نحن بقيّة تلك الذرّيّة. (٣)

(الْمُحَرَّمِ). لأنّه لا يدخله إلّا المحرم. (٤)

(أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ) ؛ أي : من أفئدة الناس. ومن للتبعيض. ويدلّ عليه ما روي أنّه لو قال : أفئدة الناس ، لزحمتكم عليه فارس والروم. ويجوز أن يكون للابتداء. أي : أفئدة ناس. ونكّر المضاف إليه لتنكير أفئدة ليتناول بعض الأفئدة. (تَهْوِي إِلَيْهِمْ) ؛ أي : تسرع إليهم وتطير نحوهم شوقا. (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ) مع سكناهم واديا ليس فيه شيء منها بأن تجلب إليهم من البلاد. (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) النعمة على هذا الرزق. (٥)

عن الباقر عليه‌السلام : لم يعن الناس كلّهم بل أنتم أيّها الشيعة رحمكم الله. إنّما مثلكم في الناس مثل الشعرة البيضاء في الثور الأسود. (٦)

__________________

(١) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٣١ ، ح ٣٤.

(٢) الكشّاف ٢ / ٥٥٨.

(٣) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٣١ ، ح ٣٥.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٤٩٠.

(٥) الكشّاف ٢ / ٥٥٩ ـ ٥٦٠.

(٦) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٣٣ ، ح ٣٩.

٦١٢

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : نظر إلى الناس يطوفون حول الكعبة فقال : هكذا كانوا يطوفون في الجاهليّة. إنّما أمروا أن يطوفوا بها ثمّ ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتهم ومودّتهم ويعرضوا علينا نصرتهم. ثمّ قرأ : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً) ـ الآية. (١)

قال الباقر عليه‌السلام : إنّ الثمرة تحمل إليهم من الآفاق حتّى لا يوجد ثمرة في بلاد الشرق والغرب إلّا توجد فيها. حتّى حكي أنّه يوجد فيها في يوم واحد فواكه ربيعيّة وصيفيّة وخريفيّة وشتائيّة. (٢)

(تَهْوِي). قال الباقر عليه‌السلام : (تَهْوِي) بفتح الواو. (٣)

وعن الصادق عليه‌السلام : هو ثمرات القلوب. (٤)

[٣٨] (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ)

(تَعْلَمُ ما نُخْفِي) : تعلم السرّ كما تعلم العلن. أي : إنّك أعلم بأحوالنا وما يصلحنا ويفسدنا منّا ، فلا حاجة إلى الدعاء ، وإنّما ندعوك إظهارا للعبوديّة لك وتخشّعا لعظمتك واستعجالا لنيل أياديك. وقيل : ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة وما نعلن من البكاء والدعاء. وقيل : ما نخفي من كآبة الافتراق وما نعلن. وهو ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا؟ قال : إلى الله أكلكم. قالت : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم.

قالت : إذن لا نخشى. تركتنا إلى كاف. (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ). هذا من كلام الله تصديقا لإبراهيم ، أو من كلام إبراهيم. ومن للاستغراق. (٥)

[٣٩] (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ)

__________________

(١) الكافي ١ / ٣٩٢.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٤٨٧.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٤٨٧.

(٤) عوالي اللّآلي ٢ / ٩٦ ، ح ٢٥٧.

(٥) الكشّاف ٢ / ٥٦٠.

٦١٣

(عَلَى الْكِبَرِ). على بمعنى مع. أي : وهب لي في حال الكبر. روي أنّ إسماعيل ولد له وهو ابن تسع وتسعين سنة. وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة. (لَسَمِيعُ الدُّعاءِ) ؛ أي : تقبله. كما تقول : فلان يسمع كلامي. (عَلَى الْكِبَرِ) لأنّها حالة اليأس من ولد. (١)

[٤٠] (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ)

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ؛ أي : وبعض ذرّيّتي ، عطفا على المنصوب في اجعلني. وإنّما بعّض لأنّه علم بإعلام الله أنّه يكون في ذرّيّته كفّار. وذلك قوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ). (٢)(وَتَقَبَّلْ دُعاءِ) ؛ أي : عبادتي. (٣)

[٤١] (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)

(وَلِوالِدَيَّ). استدلّ أصحابنا بهذا على أنّ أبوي إبراهيم لم يكونا كافرين. لأنّه إنّما يسأل المغفرة لهما يوم القيامة ، فلو كانا كافرين ، لما سأل ذلك. قال الله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ). (٤) فصحّ أنّ أباه الذي كان كافرا إنّما هو جدّه لأمّه أو عمّه على الخلاف فيه. ومن قال : إنّما دعا لأبيه لأنّه كان وعده أن يسلم ، فلمّا مات على الكفر تبرّأ منه ـ على ما روي عن الحسن ـ فقوله فاسد. لأنّ إبراهيم إنّما دعا بهذا الدعاء بعد الكبر وبعد أن وهب له إسماعيل وإسحاق وقد تبيّن له في هذا الوقت عداوة أبيه الكافر بالله ، فلا يجوز أن يقصده بدعائه. (٥)

في تفسير عليّ بن إبراهيم : قوله (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ). قال : إنّما أنزلت : لولديّ إسماعيل وإسحاق. (٦) وفي مجمع البيان : وقرأ الحسين [بن] عليّ وأبو جعفر محمّد بن عليّ عليهم‌السلام : (وَلِوالِدَيَّ). يعني إسحاق وإسماعيل. (٧) وفي رواية أخرى عن أحدهما عليهما‌السلام أنّه قرأ : (وَلِوالِدَيَّ) قال : آدم وحوّاء. (٨)

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٥٦١.

(٢) البقرة (٢) / ١٢٤.

(٣) الكشّاف ٢ / ٥٦١.

(٤) التوبة (٩) / ١١٤.

(٥) مجمع البيان ٦ / ٤٩١.

(٦) تفسير القمّيّ ١ / ٣٧٢.

(٧) مجمع البيان ٦ / ٤٨٨.

(٨) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٤٢٣ ، ح ٤٦.

٦١٤

وعن جابر قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قول الله : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ). قال : هذه كلمة صحّفها الكتّاب. إنّما كان استغفار إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إيّاه. وإنّما كان (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ). يعني إسماعيل وإسحاق والحسن والحسين والله إنّما عنى (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٢)

[٤٢] (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ)

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ) ؛ أي : لا تظنّنّ الله ساهيا عن مجازاة الظالمين على أعمالهم. (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ) ؛ أي : يؤخّر عقابهم إلى يوم القيامة ، وهو الذي فيه الأبصار شاخصة عن مواضعها لا تغمض لهول ما ترى في ذلك اليوم ولا تطرف. وقيل : تشخص أبصارهم إلى إجابة الداعي حين يدعوهم. (٣)

(تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ). قال : تبقى أعينهم مفتوحة من هول جهنّم لا يقدرون أن يطرفوها. (٤)

[٤٣] (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ)

(مُهْطِعِينَ) ؛ أي : مسرعين. وقيل : دائمي النظر إلى ما يرون لا يطرفون. (مُقْنِعِي) ؛ أي : رافعى رؤوسهم إلى السماء حتّى لا يرى الرجل مكان قدمه من شدّة رفع الرأس. وقيل : معناه : ناكسو رؤوسهم بلغة قريش. (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) ؛ أي : لا ترجع إليهم أعينهم ولا يطيقون تغميضها وإنّما هو نظر دائم. (هَواءٌ) ؛ أي : قلوبهم خالية من كلّ شيء فزعا وخوفا. وقيل : خالية من كلّ سرور وطمع في الخير لما يرون من الأهوال كالهواء الذي بين السماء والأرض. وقيل : زائلة عن مواضعها قد ارتفعت إلى حلوقهم لا تخرج ولا تعود إلى

__________________

(١) المصدر : «ابنا» بدل (إنما عنى».

(٢) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٣٥ ، ح ٤٧.

(٣) مجمع البيان ٦ / ٤٩٣.

(٤) تفسير القمّيّ ١ / ٣٧٢.

٦١٥

أماكنها بمنزلة الشيء الذاهب في جهات مختلفة المتردّد في الهواء. وقيل : معناه : خالية عن عقولهم. (١)

(هَواءٌ). قال : قلوبهم تتصدّع من الخفقان. (٢)

الهواء : الخلأ الذي لم تشغله الأجرام. فوصف به فقيل : قلب فلان هواء ، إذا كان جبانا لا قوّة في قلبه ولا جرأة. (٣)

[٤٤] (وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ)

(وَأَنْذِرِ النَّاسَ) ؛ أي : دم يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله على الإنذار. (ظَلَمُوا) نفوسهم بارتكاب المعاصي. (إِلى أَجَلٍ) أي : ردّنا إلى الدنيا واجعل ذلك مدّة قريبة نجب دعوتك فيها. (أَوَلَمْ تَكُونُوا). أي : يقول لهم الله أو الملائكة بأمره : أو لم تكونوا أقسمتم في دار الدنيا ما لكم من انتقال عنها إلى الآخرة ، أو مالكم من زوال من الراحة إلى العذاب. وفي هذه دلالة على أنّ أهل الآخرة غير مكلّفين ، خلافا لما يقوله النجّار وجماعة. لأنّهم لو كانوا مكلّفين ، لكان ينبغي لهم أن يؤمنوا ويتخلّصوا من العقاب. (٤)

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : والله للّذي صنعه الحسن بن عليّ عليهما‌السلام كان خيرا لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس. والله لقد نزلت هذه الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) إنّما هي طاعة الإمام وطلبوا القتال (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) مع الحسين عليه‌السلام (قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ)(٥)(نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ). أرادوا تأخير ذلك إلى القائم عليه‌السلام. (٦)

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٤٩٣ ـ ٤٩٤.

(٢) تفسير القمّيّ ١ / ٣٧٢.

(٣) الكشّاف ٢ / ٥٦٣.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٤٩٤.

(٥) النساء (٤) / ٧٧.

(٦) الكافي ٨ / ٣٣٠ ، ح ٥٠٦.

٦١٦

(أَقْسَمْتُمْ). إقسامهم إمّا بلسان الحال حيث بنوا شديدا وأمّلوا بعيدا ، وإمّا بلسان المقال بطرا وأشرا. (١)

[٤٥] (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ)

(وَسَكَنْتُمْ). هذا زيادة توبيخ لهم. أي : سكنتم ديار من كذّب الرسل قبلكم فأهلكهم الله وعرفتم ذلك. وقيل : إنّهم عاد وثمود. وقيل : هم المقتولون ببدر. (وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ) : بيّنّا لكم الأشباه وأخبرناكم بأحوال الماضين قبلكم لتعتبروا بها. وقيل : الأمثال ما ذكر في القرآن ممّا يدلّ على أنّه تعالى قادر على الإعادة كما أنّه قادر على الإنشاء. (٢)

(فِي مَساكِنِ). أي سكنوا واستقرّوا فيها مطمئنّين في الظلم والفساد لا يحدّثون أنفسهم بما لقي الأوّلون من العذاب. (الْأَمْثالَ) ؛ أي : صفات ما فعلوا. (٣)

قال رجل بحضور أبي عبد الله عليه‌السلام : قد ثبت دار صالح ودار عيسى ـ ذكر دور العبّاسيّين.

فقال رجل : أرانا الله خرابها. فقال عليه‌السلام : لا تقل هكذا ، بل يكون مساكن القائم وأصحابه. أما سمعت يقول الله : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا)؟ (٤)

[٤٦] (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ)

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ) العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم. (وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ). إمّا أن يكون مضافا إلى الفاعل كالأوّل ، على أنّ المعنى : ومكتوب عند الله مكرهم فهو مجازيهم عليه بمكر هو أعظم منه ، أو يكون مضافا إلى المفعول ، على معنى : وعند الله مكرهم الذي يمكرهم به وهو عذابهم الذي يستحقّونه. (لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) لعظم مكرهم. (٥)

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٥٦٥.

(٢) مجمع البيان ٦ / ٤٩٤.

(٣) الكشّاف ٢ / ٥٦٥.

(٤) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٣٥ ، ح ٤٩.

(٥) الكشّاف ٢ / ٥٦٥.

٦١٧

في الشواذّ عن عليّ عليه‌السلام : وإن كاد مكرهم». (١)

(وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ) في العظم والشدّة (لِتَزُولَ) ؛ أي : مسوّى لإزالة الجبال. وقيل : إن نافية ، واللّام مؤكّدة لها. كقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ). (٢) على أنّ الجبال مثل لأمر النبيّ ونحوه. (٣)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : وإن كان مكر بني عبّاس بالقائم لتزول منه الجبال. (٤)

وعن عليّ عليه‌السلام قال : إنّ نمرود أراد أن ينظر إلى ملكوت السماء. فأخذ نسورا أربعة وجعل تابوتا من خشب وأدخل فيه رجلا ، ثمّ شدّوا قوائم النسور بقوائم التابوت. ثمّ جعل في وسط التابوت عمودا وعلى رأسه لحما ، وطرن بالتابوت والرجل فارتفعن إلى السماء.

فمكث ما شاء الله ، ثمّ نظر إلى الأرض فإذا هو لا يرى شيئا فقلب العمود وطلب النسور اللّحم وسمعت الجبال هدّة النسور فخافت من أمر السماء. وهو قول الله : (وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ). (٥)

[٤٧] (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ)

(مُخْلِفَ وَعْدِهِ). كقوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا). (٦)(كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي). (٧) وأصله : مخلف رسله وعده. فقدّم المفعول الثاني إيذانا بأنّه لا يخلف الوعد أصلا فكيف يخلف رسله. (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) غالب لا يماكر (ذُو انتِقامٍ) لأوليائه من أعدائه. (٨)

[٤٨] (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ)

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) ؛ أي : تبدّل الأرض وهيئتها. قال ابن عبّاس : تبدّل آكامها و

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٤٩٥.

(٢) الأنفال (٨) / ٣٣.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٥٢٢.

(٤) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٣٥ ، ح ٥٠. وفيه : لتزول منه قلوب الرجال.

(٥) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٣٥ ، ح ٥١.

(٦) غافر (٤٠) / ٥١.

(٧) المجادلة (٥٨) / ٢١.

(٨) تفسير البيضاويّ ١ / ٥٢٣.

٦١٨

آجامها وجبالها وأشجارها والأرض على حالتها وتصير بيضاء كالفضّة لم يسفك عليها دم ولم يعمل عليها خطيئة وتبدّل السموات فيذهب بشمسها وقمرها ونجومها. أو يكون المعنى : تبدّل الأرض وتنشأ أرض غيرها ، وكذلك السموات. عن جماعة من المفسّرين. وفي تفسير أهل البيت عليهم‌السلام أنّها تبدّل خبزة نقيّة يأكل الناس منها حتّى يفرغ من الحساب. وقيل : تصير السموات جنانا ويصير مكان البحر النار وتبدّل الأرض غيرها. (وَبَرَزُوا لِلَّهِ) أي : يظهرون من قبورهم للمحاسبة. (١)

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لعلّكم ترون أنّه إذا كان يوم القيامة وصيّر الله أهل الجنّة في الجنّة وأهل النار في النار أنّ الله لا يعبد في بلاده ولا يخلق خلقا يعبدونه ويوحّدونه. بلى ، والله ليخلقنّ خلقا من غير فحولة ولا إناث يعبدونه ويخلق لهم أرضا تحملهم وسماء تظلّهم. أليس الله يقول : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ)؟ وقال عزّ وعلا : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)(٢). (٣)

ورد في الأخبار أنّ الأرض تبدّل خبزة بيضاء نقيّة يأكل منها أهل القيامة. (٤) وفي بعضها أنّها تبدّل بأرض حارّة كالجمر. (٥) وفي بعضها أنّها تكون فضّة حارّة. (٦) والجمع بين الأخبار إمّا بحمل التعدّد على تعدّد أهل الموقف من المؤمنين والفاسقين والكافرين فيقف كلّ فرقة في أرض تناسب حالها ، وإمّا بحمل التعدّد على تعدّد المواقف. فإنّ للقيامة خمسين موقفا ، فيكون أحد المواقف خبزة نقيّة والآخر جمرا يتوقّد وهكذا.

[٤٩] (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ)

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ). يعني الكفّار يوم القيامة. (مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ) ؛ أي : مجموعين في الأغلال قرّنت [أيديهم] بها إلى أعناقهم. وقيل : يقرّن بعضهم إلى بعض. وقيل : يقرّن كلّ

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٤٩٨.

(٢) ق (٥٠) / ١٥.

(٣) الخصال ٢ / ٣٥٨ ، ح ٤٥.

(٤) الكافي ٦ / ٢٨٦ ، ح ١ و ٤.

(٥) تفسير أبي الفتوح ٧ / ٤١.

(٦) تفسير أبي الفتوح ٧ / ٤١.

٦١٩

كافر مع شيطان كان يضلّه في غلّ من حديد. (١)

(الْأَصْفادِ) : القيود. وقيل : الأغلال. (٢)

[٥٠] (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ)

(مِنْ قَطِرانٍ). هو ما يتحلّب من شجر الأبهل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى لحدّته. (٣)

[٥١] (لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)

(لِيَجْزِيَ). متعلّق بما تقدّم. أي فعل ذلك بهم ليجزي كلّ نفس بما كسبت. (سَرِيعُ الْحِسابِ) ؛ أي : المجازاة. (٤)

[٥٢] (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)

(هذا) ؛ أي : القرآن. (بَلاغٌ) ؛ أي : عظة للناس. وقيل : هذا إشارة إلى ما تقدّم ذكره من الوعيد. (وَلِيُنْذَرُوا) ؛ أي : ليخوّفوا بما فيه من الوعيد وليعلموا أدلّة التوحيد منه وليتّعظ به أهل العقول. (٥)

(بَلاغٌ) ؛ أي : كفاية في التذكير والموعظة. يعني بهذا ما وصفه من قوله : (فَلا تَحْسَبَنَّ) إلى قوله : (سَرِيعُ الْحِسابِ). (وَلِيُنْذَرُوا). معطوف على محذوف. أي : لينصحوا ولينذروا.

[وقرئ : (وَلِيُنْذَرُوا) بفتح الياء.]. (٦)

__________________

(١) مجمع البيان ٦ / ٤٩٩.

(٢) الكشّاف ٢ / ٥٦٧.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٥٢٣ ـ ٥٢٤.

(٤) مجمع البيان ٦ / ٤٩٩ ـ ٥٠٠.

(٥) مجمع البيان ٦ / ٥٠٠.

(٦) الكشّاف ٢ / ٥٦٨.

٦٢٠