عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-27-2
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٥٣

الشمس. (١)

(لَوْ أَنَّ عِنْدِي) ؛ أي : في قدرتي وإمكاني. (ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ) من العذاب ، (لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) : لأهلكتكم عاجلا غضبا لربّي ولتخلّصت منكم سريعا. (وَاللهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ). وبما يجب في الحكم من كنه عقابهم. (٢)

[٥٩] (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ). جعل للغيب مفاتح على طريق الاستعارة ، لأنّ المفاتح يتوصّل بها إلى ما في المخازن المستوثق منها بالأغلاق والأقفال ومن علم مفاتحها وكيف يفتح ، توصّل إليها. فأراد أنّه هو المتوصّل إلى المغيبات وحده كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها فهو المتوصّل إلى ما في المخازن. والمفاتح : جمع مفتح وهو المفتاح. وقيل : هي جمع مفتح ـ بفتح الميم ـ وهو المخزن. (وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ). عطف على ورقة وداخل في حكمها. كأنّه قيل : وما يسقط من شيء من هذه الأشياء إلّا بعلمه. وقوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) كالتكرار لقوله : (إِلَّا يَعْلَمُها). والكتاب المبين علم الله أو اللّوح. (٣)

(إِلَّا يَعْلَمُها) ، فيعلم أوقاتها أو ما في تعجيلها وتأخيرها من الحكمة فيظهرها على ما اقتضت حكمته. (وَما تَسْقُطُ). مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيّات. (إِلَّا فِي كِتابٍ). بدل من الاستثناء الأوّل بدل الكلّ ، على أنّ [الكتاب] المبين علم الله ، أو بدل الاشتمال ، إن أريد به اللّوح. (٤)

روي أنّ مفاتح الغيب خمس : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ـ الآية. (٥) وقال ابن عبّاس :

__________________

(١) الكافي ٨ / ٣٨٠ ، ح ٥٧٤.

(٢) الكشّاف ٢ / ٣٠.

(٣) الكشّاف ٢ / ٣١.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٤.

(٥) لقمان (٣١) / ٣٤.

٤١

معناه : انّ الله تعالى عنده خزائن الغيب من الأرزاق والأعمار. وتأويل الآية أنّ الله تعالى عالم بكلّ شيء من مبتدآت الأمور وعواقبها وهو يعجّل ما تعجيله أصلح ، وأنّه الذي يفتح باب العلم لمن يريد من الأنبياء ، لا يعلم الغيب سواه. (١)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : الورقة السقط. والحبّة الولد. وظلمات الأرض الأرحام. والرطب ما يحيى الناس. واليابس ما يقبض. وعلم ذلك كلّه في كتاب مبين ؛ أي : إمام مبين. (٢)

[٦٠] (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ). استعير التوفّي من الموت للنوم ، لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس والتمييز. فإنّ أصله قبض الشيء بتمامه. (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) : كسبتم فيه.

خصّ اللّيل بالنوم والنهار بالكسب جريا على المعتاد. (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ) : يوقظكم. أطلق البعث ترشيحا للتوفّي. (فِيهِ) ؛ أي : النهار. (أَجَلٌ مُسَمًّى) ليبلغ المتيقّط آخر أجله المسمّى في الدنيا. (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ) بالموت. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) بالمجازاة عليه. (٣)

(وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) ؛ أي : أنتم منسدحون باللّيل كلّه كالجيف. (وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) : ما كسبتم من الآثام فيه. (ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ) ؛ أي : من القبور في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم باللّيل وكسب الآثام بالنهار ومن أجله. (لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى). وهو الأجل الذي سمّاه الله تعالى وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم. (ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ). وهو المرجع إلى موقف الحساب. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). في ليلكم ونهاركم. (٤)

__________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٤٨٠ ـ ٤٨١.

(٢) الكافي ٨ / ٢٤٨ ، ح ٣٤٩. معاني الأخبار / ٢١٥ ، ح ١.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٤.

(٤) الكشّاف ٢ / ٣١ ـ ٣٢.

٤٢

[٦١] (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)

(حَفَظَةً). ملائكة حافظين لأعمالكم وهم الكرام الكاتبين. فإن قلت : إنّ الله غنيّ بعلمه عن كتبة الملائكة. فما فائدتها؟ قلت : فيها لطف للعباد. لأنّهم إذا علموا أنّ الله رقيب عليهم والملائكة [الذين] هم أشرف خلقه موكّلون بهم يحفظون عليهم أعمالهم ويكتبونها في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة ، كان ذلك أزجر لهم عن القبيح. (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) ؛ أي : استوفت روحه. وهم ملك الموت وأعوانه. (لا يُفَرِّطُونَ) ؛ أي : لا يتوانون ولا يؤخّرون. (١)

(تَوَفَّتْهُ). حمزة : «توفاه». (٢)

[٦٢] (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (٦٢))

(ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ) ؛ أي : إلى حكمه وجزائه. (مَوْلاهُمُ) ؛ أي : مالكهم الذي يلي أمورهم. (الْحَقِّ) : العدل الذي لا يحكم إلّا بالحقّ. (لَهُ الْحُكْمُ) : لا حكم فيه لغيره. (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ) ولا يشغله حساب عن حساب. (٣)

(وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ). يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة. (٤)

(وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ). روي عن عليّ عليه‌السلام أنّه سئل : كيف يحاسب الله سبحانه الخلق ولا يرونه؟ قال : كما يرزقهم ولا يرونه. (٥)

[٦٣] (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٣٢.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٤٨٣.

(٣) الكشّاف ٢ / ٣٢.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٥.

(٥) مجمع البيان ٤ / ٤٨٤.

٤٣

(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ). مجاز عن مخاوفهما وأهوالهما. يقال لليوم الشديد : يوم مظلم. ويجوز أن يراد ما يشرفون عليه من الخسف في البرّ والغرق في البحر فإذا دعوا وتضرّعوا كشف الله عنهم الخسف والغرق فنجوا من ظلماتهما. (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا). على إرادة القول. (مِنْ هذِهِ) الظلمة والشدّة. (١)

(خُفْيَةً). أبو بكر عن عاصم بكسر الخاء. (٢)

أهل الكوفة : (أَنْجانا) بالألف ، إلّا أنّ عاصما قرأ بالتفخيم والباقون بالإمالة. وقرأ غيرهم : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا). (يُنَجِّيكُمْ). خفيفة يعقوب وسهل. (٣)

ومرّ عيسى عليه‌السلام بقوم رفعوا أصواتهم بالدعاء ، فقال : لا تدعون أصمّ نائيا. إنّما تدعون سميعا قريبا. (٤)

[٦٤] (قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ)

(يُنَجِّيكُمْ). غير أهل الكوفة وأبي جعفر بالتخفيف. (٥)

(تُشْرِكُونَ) : تعودون إلى الشرك ولا توفون بالعهد. وإنّما وضع تشركون موضع لا تشكرون ، تنبيها على أنّ من أشرك في عبادة الله ، فكأنّه لم يعبده رأسا. (٦)

[٦٥] (قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)

(قُلْ هُوَ الْقادِرُ). روي : انّه لمّا نزلت هذه الآية ، قام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فتوضّأ وصلّى ، ثمّ سأل الله سبحانه أن لا يبعث على أمّته عذابا من فوقهم ولا من تحت أرجلهم ولا يلبسهم شيعا ولا يذيق بعضهم بأس بعض. فنزل جبرئيل فقال : يا رسول الله ، لقد سمع الله مقالتك. وإنّه

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٣٣.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٤٨٤.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٤٨٤.

(٤) مجمع البيان ٤ / ٤٨٤.

(٥) مجمع البيان ٤ / ٤٨٤.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٥.

٤٤

أجارهم من خصلتين ولم يجرهم من الخصلتين الأخيرتين. فقال : يا جبرئيل ، ما بقاء أمّتي مع قتل بعضهم بعضا؟ فقام وعاد إلى الدعاء. فنزل : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا) ـ الآيتين. (١) فقال : لا بدّ من فتنة تبتلى بها هذه الأمّة بعد نبيّها ليتميّز الصادق والكاذب. لأنّ الوحي انقطع. وبقي السيف وافتراق الأمّة إلى يوم القيامة. (٢)

(هُوَ الْقادِرُ) الذي عرفتموه قادرا وهو الكامل القدرة. (عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ). كما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل الحجارة وعلى قوم نوح الطوفان. (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ). كما أغرق فرعون وخسف بقارون. وقيل : (مِنْ فَوْقِكُمْ) : من أكابركم وسلاطينكم. (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ) : سفلتكم وعبيدكم. وقيل : هو حبس المطر والنبات. (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً) : أو يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتّى كلّ فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم أن ينشب القتال بينهم فيختلطوا أو يشتبكوا في ملاحم القتال. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سألت ربّي أن لا يبعث على أمّتي عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم ، فأعطاني ذلك. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم ، فمنعني. وأخبرني جبرئيل عليه‌السلام أنّ فناء أمّتي بالسيف. ومعنى الآية الوعيد بأحد أصناف العذاب المعدودة. (٣)

(مِنْ فَوْقِكُمْ). عن أبي جعفر عليه‌السلام : (مِنْ فَوْقِكُمْ). هو الدخان والصيحة. (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ). وهو الخسف. (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً). وهو اختلاف في الدين وطعن بعضكم على بعض. (وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ). وهو أن يقتل بعضكم بعضا. وهذا كلّه في أهل القبلة. يقول الله : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ). (٤)

(يُذِيقَ بَعْضَكُمْ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : هو سوء الجوار. (٥)

(نُصَرِّفُ الْآياتِ) بالوعد والوعيد. (٦)

__________________

(١) العنكبوت (٢٩) / ١ ـ ٣.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٤٨٧.

(٣) الكشّاف ٢ / ٣٣ ـ ٣٤.

(٤) تفسير القمّيّ ١ / ٢٠٤.

(٥) مجمع البيان ٤ / ٤٨٧.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٥.

٤٥

[٦٦] (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ)

(وَكَذَّبَ بِهِ). راجع إلى العذاب. (وَهُوَ الْحَقُّ) لا بدّ أن ينزل بهم. (بِوَكِيلٍ) ؛ أي : بحفيظ وكّل إليّ أمركم أمنعكم من التكذيب إجبارا. إنّما أنا منذر. وقيل : الضمير في به للقرآن. (١)(قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) ؛ أي : لست بحافظ لأعمالكم لأجازيكم بها. إنّما أنا منذر والله المجازي. وقيل : معناه : لم أؤمر بحربكم ولا أخذكم بالإيمان كما يأخذ الموكّل بالشيء الذي يلزم بلوغ آخره. (٢)

[٦٧] (لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)

(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ) ؛ أي : لكلّ خبر قرار على غاية ينتهي إليها ويظهر عندها. قالوا : استقرّ يوم بدر ما كان يعدهم من العذاب. وسمّي الوقت مستقرّا ، لأنّه ظرف للفعل الواقع فيه. (وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما يحلّ بكم من العذاب. (٣)

(لِكُلِّ نَبَإٍ) : لكلّ شيء ينبأ به. يعني إنباءهم بأنّهم يعذّبون وإيعادهم به. (مُسْتَقَرٌّ) : وقت استقرار وحصول لا بدّ منه. (٤)

(تَعْلَمُونَ) عند وقوعه في الدنيا والآخرة. (٥)

[٦٨] (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

(الَّذِينَ يَخُوضُونَ). عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : منه القصّاص. (٦)

(يَخُوضُونَ فِي آياتِنا) : في الاستهزاء بها والطعن فيها. وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك. (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) فلا تجالسهم ، (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ). فلا بأس أن تجالسهم

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٣٤.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٤٨٨.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٤٨٨.

(٤) الكشّاف ٢ / ٣٤.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٦.

(٦) تفسير العيّاشيّ ١ / ٣٦٢ ، ح ٣١.

٤٦

حينئذ. (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ) ؛ أي : وإن شغلك بوسوسته حتّى تنسى النهي عن مجالستهم ، (فَلا تَقْعُدْ) معهم بعد أن تذكر النهي. ويجوز أن يراد : وإن كان الشيطان ينسينّك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين. لأنّها ممّا تنكره العقول. (فَلا تَقْعُدْ) بعد أن ذكّرناك قبحها ونبّهناك عليه معهم. (١)

(يُنْسِيَنَّكَ) ابن عامر : (يُنْسِيَنَّكَ) بالتشديد. (غَيْرِهِ). أعاد الضمير على معنى الآيات لأنّها القرآن. (مَعَ الْقَوْمِ) ؛ أي : معهم. فوضع الظاهر موضعه دلالة على أنّهم ظلموا بوضع التكذيب والاستهزاء موضع التصديق والاستعظام. (٢)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ثلاثة مجالس يمقتها الله ويرسل نقمته على أهلها : مجلس فيه من يصف لسانه كذبا في فتياه ؛ ومجلس ذكر أعدائنا فيه جديد وذكرنا فيه رثّ ؛ ومجلس فيه من يصدّ عنّا وأنت تعلم. ثمّ تلا ثلاث آيات من كتاب الله : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ). (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ). (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ)(٣). (٤)

[٦٩] (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)

ناسخة لقوله : (فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى). (٥)

(وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ) ؛ أي : وما يلزم المتّقين الذين يجالسونهم شيء ممّا يحاسبون عليه من ذنوبهم (وَلكِنْ) عليهم أن يذكّروهم (ذِكْرى) إذا سمعوهم يخوضون ، بالقيام عنهم وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم. (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) : لعلّهم يجتنبون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم. ويجوز أن يكون الضمير للّذين يتّقون ؛ أي : يذكّرونهم إرادة أن يثبتوا على تقواهم ويزدادوها. وروي أنّ المسلمين قالوا : لئن كنّا نقوم كلّما استهزؤوا بالقرآن ، لم نستطع

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٣٤ ـ ٣٥.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٦.

(٣) النحل (١٦) / ١١٦.

(٤) الكافي ٢ / ٣٧٨ ، ح ١٢.

(٥) مجمع البيان ٤ / ٤٩٠.

٤٧

أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف ، فرخّص لهم. (ذِكْرى). يجوز أن يكون [محلّه] نصبا على : ولكن يذكّرونهم ذكرى ؛ أي : تذكيرا. أو محلّه الرفع على : ولكن عليهم ذكرى. (١)

[٧٠] (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)

(وَذَرِ الَّذِينَ). يجوز أن يكون تهديدا لهم ؛ كقوله : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً). (٢) ومن جعله منسوخا بآية السيف ، حمله على الأمر بالكفّ عنهم وترك التعرّض لهم. (٣)

(دِينَهُمْ) ؛ أي : دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به. (لَعِباً وَلَهْواً). وذلك أنّ عبادة الأصنام وما كانوا عليه من تحريم البحائر والسوائب وغير ذلك من باب اللّعب واللهو واتّباع هوى النفس والعمل بالشهوة ومن جنس الهزل دون الجدّ. أو : اتّخذوا ما هو لعب ولهو من عبادة الأصنام وغيرها دينا لهم واتّخذوا دينهم الذي كلّفوه ودعوا إليه ـ وهو دين الإسلام ـ لعبا ولهوا سخروا به واستهزؤوا. وقيل : جعل الله لكلّ قوم عيدا يعظّمونه ويصلّون فيه ويعمرونه بذكر الله. والناس كلّهم من المشركين وأهل الكتاب اتّخذوا عيدهم لعبا ولهوا غير المسلمين. فإنّهم اتّخذوا عيدهم كما شرعه الله. ومعنى ذرهم : أعرض عنهم ولا تبال بتكذيبهم واستهزائهم. (وَذَكِّرْ بِهِ) ؛ أي : بالقرآن. (أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ) : مخافة أن تسلم إلى الهلكة والعذاب وترتهن بسوء كسبها. (٤)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ما اجتمع ثلاثة من الجاحدين إلّا حضرهم أضعافهم من الشياطين. فإن تكلّموا ، تكلّم الشياطين بنحو كلامهم. وإذا ضحكوا ، ضحكوا معهم. وإذا نالوا من أولياء الله ، نالوا معهم. فمن ابتلي من المؤمنين بهم ، فإذا خاضوا في ذلك ، فليقم و

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٣٥.

(٢) المدّثّر (٧٤) / ١١.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٦.

(٤) الكشّاف ٢ / ٣٥ ـ ٣٦.

٤٨

لا يكن شرك شيطان وجليسه. فإنّ لعنة الله لا يردّها شيء. فإن لم يستطع ، فلينكر بقلبه وليقم ولو حلب شاة. (١)

(غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) حتّى أنكروا البعث. (وَلا شَفِيعٌ) يدفع عنها العذاب. (٢)

(وَإِنْ تَعْدِلْ) ؛ أي : وإن تفد كلّ فداء. والعدل : الفدية. لأنّ الفادي يعدل المفديّ بمثله.

(لا يُؤْخَذْ مِنْها). فاعل يؤخذ قوله : (مِنْها) لا ضمير العدل. لأنّ العدل هنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ. (أُولئِكَ). إشارة إلى المتّخذين دينهم لعبا ولهوا. (٣)

(لا يُؤْخَذْ مِنْها) ؛ أي : لا يقبل. لأنّ الآخرة ليست بدار تكليف. (ع)

(أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا) ؛ أي : سلّموا إلى العذاب بسبب أعمالهم القبيحة وعقائدهم الزائغة. (لَهُمْ شَرابٌ) ـ الآية. تأكيد وتفصيل لذلك. والمعنى : هم بين ماء مغلى متجرجر في بطونهم ونار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم. (٤)

[٧١] (قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ)

أمر سبحانه نبيّه بخطاب الكفّار فقال : قل لهؤلاء الذين يدعون على عبادة الأصنام. (٥)

(أَنَدْعُوا) ؛ أي : أنعبد. (ما لا يَنْفَعُنا) ؛ أي : ما لا يقدر [على نفعنا وضرّنا](٦). (وَنُرَدُّ) ؛ أي : نرجع إلى الشرك بعد إذ هدانا الله فأنقذنا منه ورزقنا الإسلام. (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) : كالّذي ذهبت به مردة الجنّ في المهامه. استفعال من هوى يهوي هوى ، إذا ذهب. وقرأ حمزة : استهواه بألف ممالة. ومحلّ الكاف النصب على الحال من فاعل نردّ أي مشبهين الذي استهوته ، أو على المصدر ، أي : ردّا مثل ردّ الذي استهوته. (حَيْرانَ) : متحيّرا

__________________

(١) الكافي ٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ ، ح ٦.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٦.

(٣) الكشّاف ٢ / ٣٦.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

(٥) مجمع البيان ٤ / ٤٩٣.

(٦) في النسخة : «عليه» ما بين المعقوفتين.

٤٩

عن الطريق. (لَهُ أَصْحابٌ) : لهذا المستهوي رفقة (يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى) : إلى أن يهدوه الطريق المستقيم. أو : إلى الطريق المستقيم. وسمّاه هدى تسمية للمفعول بالمصدر. (ائْتِنا) ؛ أي : يقولون له : ائتنا. (هُدَى اللهِ) الذي هو الإسلام ، (هُوَ الْهُدى) وحده ، وما عداه ضلال. (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ). من جملة المقول ، عطف على (إِنَّ هُدَى اللهِ). واللّام لتعليل الأمر. أي : أمرنا بذلك لنسلم. وقيل : هي بمعنى الباء. وقيل : زائدة. (١)

(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ) : كالذي ذهبت به مردة الجنّ والغيلان (فِي الْأَرْضِ) : في المهمه ضالّا عن الجادّة تقول له رفقته : (ائْتِنا). وقد تعسّف المهمه تابعا للجنّ لا يجيبهم ولا يأتيهم. وهذا مبنيّ على ما تزعمه العرب وتعتقده أنّ الجنّ تستهوي الإنسان والغيلان تستولي عليه. كقوله : (الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ».)(٢) فشبّه به الضالّ عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان والمسلمون يدعونه إليه فلا يلتفت إليهم. ومعنى استهوته : طلبت هويّه وحرصت عليه. (٣)

(قُلْ) يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. (الْهُدَى) ؛ أي : دلالة الله لنا على توحيده.

(لِنُسْلِمَ) ؛ أي : أن نسلم أو نسلّم في أمورنا ونفوّضها إلى الله. (٤)

[٧٢] (وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

(وَأَنْ أَقِيمُوا). عطف على لنسلم. أي : للإسلام ولإقامة الصلاة. أو على موقعه. كأنّه قيل : وأمرنا أن نسلم وأن أقيموا. (تُحْشَرُونَ) يوم القيامة. (٥)

(وَأَنْ أَقِيمُوا) ؛ أي : قيل لنا : أقيموا الصلاة. (٦)

[٧٣] (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٧.

(٢) البقرة (٢) / ٢٧٥.

(٣) الكشّاف ٢ / ٣٧.

(٤) مجمع البيان ٤ / ٤٩٤.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٧.

(٦) مجمع البيان ٤ / ٤٩٤.

٥٠

الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)

(وَيَوْمَ) ؛ أي : اذكر يوم. أو (يَوْمَ يَقُولُ) معطوف على (السَّماواتِ). أي : خلق يوم [يقول] كن فيكون وهو يوم القيامة. وقيل : معناه : ويوم يقول كن فيكون (قَوْلُهُ الْحَقُّ) ؛ أي : يأمر فيقع أمره ؛ أي : ما وعد به من الثواب وحذّر به من العقاب. والحقّ صفة قوله. وقوله فاعل يكون. كما تقول : قلت ، فكان قولك. (١)

(بِالْحَقِّ) ؛ أي : قائما بالحقّ والحكمة. (وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ). جملة اسميّة قدّم فيها الخبر. أي : قوله الحقّ يوم يقول. والمعنى : انّه الخالق للسموات والأرض [و] قوله الحقّ نافذ في الكائنات. وقيل : يوم منصوب بالعطف على السموات أو الهاء في (وَاتَّقُوهُ) أو بمحذوف دلّ عليه بالحقّ. و (قَوْلُهُ الْحَقُّ) مبتدأ وخبر ، أو فاعل «يكون» على معنى : وحين يقول لقوله الحقّ ـ أي : لقضائه ـ : كن ، فيكون. والمراد به حين يكوّن الأشياء ويحدثها ، أو حين تقوم القيامة فيكون التكوين حشر الأموات وإحياؤها. (يَوْمَ يُنْفَخُ). كقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ) ـ الآية. (٢)(وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ). كالفذلكة. (٣)

(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ). لأنّ ذلك اليوم لا يخالف الله في أوامره. لأنّها محتومة ليس فيها تخيير ولا يقدر أحد على معصيته. وأمّا الصور ، فهو قرن ينفخ فيه إسرافيل عليه‌السلام نفختين ، فتفنى الخلائق كلّهم بالنفخة الأولى وتحيون بالنفخة الثانية. وقال الحسن : هو جمع صورة. فيكون معناه : يوم ينفخ الروح في الصور. والأوّل أولى. (٤)

[٧٤] (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

(وَإِذْ) : واذكر إذ قال. (لِأَبِيهِ آزَرَ). في آزر أقوال. قيل : إنّه اسم أب إبراهيم. قال الزجّاج ليس بين النسّابين اختلاف في أنّ اسم أب إبراهيم تارخ. وقيل : إنّ آزر عندهم ذمّ

__________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٤٩٥.

(٢) المؤمن (٤٠) / ١٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٧.

(٤) مجمع البيان ٤ / ٤٩٦.

٥١

في لغتهم بمعنى : يا مخطئ. وقيل : آزر اسم صنم. وما قاله الزجّاج يقوّي ما قاله أصحابنا من أنّ آزر كان جدّا لإبراهيم لأمّه أو كان عمّه ؛ من حيث إنّه صحّ عندهم أنّ آباء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى آدم كلّهم كانوا موحّدين. (١)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : انّ آزر أبا إبراهيم كان منجّما لنمرود يصدر عن رأيه. فنظر ليلة في النجوم فأصبح يقول لنمرود : لقد رأيت عجبا. رأيت مولودا في أرضنا يكون هلاكنا على يده ولا يلبث إلّا قليلا حتّى يحمل به. قال : وهل حملت به النساء؟ قال : لا. فحجب النساء عن الرجال ولم يدع امرأة إلّا جعلها في المدينة. ووقع آزر بأهله ، فعلقت بإبراهيم فظنّ أنّه صاحبه. فأرسل القوابل فنظرن. فألزم الله ما في الرحم الظهر. فقلن : ما نرى شيئا. وكان فيما أوتي من العلم أنّه يحرق بالنار ولم يؤت علم أنّ الله ينجيه. فلمّا وضعت أمّ إبراهيم ، أراد آزر أن يقتله ، فلم تدعه أمّه. فقال لها : امضي به. فذهبت به إلى غار فأرضعته وجعلت على بابه صخرة. فصيّر الله في إبهامه لبنا يشرب منه ويشبّ في الشهر كما يشبّ غيره في السنة. فمكث ما شاء الله. ثمّ إنّ أمّه قالت لأبيه : لو أذنت لي حتّى أذهب إلى ذلك الصبيّ. فأذن لها فجاءت إليه وضمّته إلى صدرها. فلمّا رجعت ، سألها أبوه. فقالت : واريته في التراب. ثمّ كانت تأتيه بعد ذلك. فلمّا أرادت الانصراف يوما ، أخذ بثوبها وقال : اذهبي بي معك. فأستامرت أباه وأعلمته القصّة. فأذن لها. فلمّا رآه أبوه ، وقعت عليه المحبّة منه. وكان إخوة إبراهيم يعملون الأصنام. وكان إبراهيم يكسرها ويقول : أتعبدون ما تنحتون؟ فقال آزر : هذا الذي يذهب بملكنا. (٢)

(أَتَتَّخِذُ). استفهام إنكاريّ. أي : لا تفعل. الأصنام : جمع صنم. والصنم ما كان له صورة. والوثن ما كان غير مصوّر. (٣)

[٧٥] (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ)

__________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٤٩٧.

(٢) الكافي ٨ / ٣٦٦ ، ح ٥٥٨.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٤٩٧ ـ ٤٩٨.

٥٢

(وَكَذلِكَ نُرِي) ؛ أي : مثل ما وصفناه من قصّة إبراهيم وقوله لأبيه ما قال نريه (مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ أي : القدرة التي تقوى بها دلالته على توحيد الله. وقيل : معناه : كما أريناك ـ يا محمّد ـ أريناه آياتنا وآثار قدرتنا فيما خلقنا من العلويّات والسفليّات ليستدلّ بها. وقال أبو جعفر عليه‌السلام : كشف الله عن الأرضين حتّى رآهنّ وما تحتهنّ ، وعن السموات حتّى رآهنّ وما فيهنّ من الملائكة وحملة العرش. كذا قاله الطبرسيّ. (١)

وعن أبي محمّد العسكريّ عليه‌السلام قال : إنّ الخليل عليه‌السلام لمّا رفع في الملكوت ، قوي بصره حتّى أبصر الأرض ومن عليها. فرأى رجلا وامرأة على فاحشة فدعا عليهما بالهلاك. فهلكا. ثمّ رأى آخرين فهمّ بالدعاء عليهما بالهلاك ، فأوحي إليه : يا إبراهيم ، اكفف دعوتك عن عبادي وإمائي. فإنّي أنا الغفور الرحيم الجبّار الحليم. لا تضرّني ذنوب عبادي ، كما لا تنفعني طاعتهم. ولست أسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك. فاكفف دعوتك عن عبادي. فإنّما أنت عبد نذير لا شريك في المملكة ولا مهيمن عليّ ولا على عبادي. وعبادي بين خلال ثلاث : إمّا تابوا إليّ فتبت عليهم وغفرت ذنوبهم. وإمّا كففت عذابي لعلمي بأنّه سيخرج من أصلابهم ذرّيّات مؤمنون ، فإذا خرجوا منهم ، حقّ عليهم عذابي. وإن لم يكن هذا ولا هذا ، فإنّ الذي أعددته لهم من عذابي أعظم ممّا تريدهم به. فإنّ عذابي لعبادي على حسب جلالي يا إبراهيم. فخلّ بيني وبين عبادي. فإنّي أرحم بهم منك ـ الحديث. (٢)

وبالجملة فالّذي يستفاد من الأخبار : انّ الله سبحانه قوّى بصر إبراهيم حتّى نظر إلى السموات وما فوقها والأرض وما تحتها بنظر العين. وليس المراد كما قيل بأنّ الله نوّر قلبه ووسّع علمه حتّى أحاط بها إحاطة علميّة ، لعدم الحاجة إلى هذا التأويل. وفي الأحاديث أنّ هذه الحالة قد أتاها الله مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام. فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لمّا عرج إلى السماء كشف لأمير المؤمنين فرأى عجائب ما رأى فأخبر النبيّ عند هبوطه. (٣) وكذلك الأئمّة عليهم‌السلام حيث

__________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٤٩٨.

(٢) بحار الأنوار ٩ / ٢٧٩.

(٣) كنز الدقائق ٤ / ٣٦٣ ـ ٣٧٠.

٥٣

أعطاهم النظر إلى الملكوت كلّما أرادوا وفي أيّ وقت شاؤوا (١) وبه يفضلون على إبراهيم كما لا يخفى.

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً) ـ الآيات. قال جماعة من المفسّرين : إنّما قال ذلك عند مهلة النظر. لأنّه لمّا أكمل الله عقله وحرّك دواعيه على الفكر والتأمّل ، رأى الكوكب فأعجبه حسنه ونوره ـ وقد كان قومه يعبدون الكواكب ـ فقال : هذا ربّي ، على سبيل الفكر. فلمّا علم أنّ ذلك لا يجوز على الإله ، استدلّ بذلك على أنّه محدث مخلوق. وكذلك كان حاله في رؤية القمر والشمس. (٢)

أقول : هذا خلاف ما دلّت عليه الأخبار ولا يناسب منصب النبوّة.

القمر يسمّى لثلاث ليال من أوّل الشهر الهلال. ثمّ يسمّى قمرا إلى آخر الشهر. وسمّي قمرا لبياضه (٣) ، أو لأنّه مأخوذ من قمره بمعنى غلبه.

في حديث الجاثليق الذي سأل أمير المؤمنين عليه‌السلام عن قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ)(٤) قال عليه‌السلام : إنّ الله تعالى خلق العرش من أنوار أربعة. نور أحمر منه احمرّت الحمرة ؛ ونور أخضر منه اخضرّت الخضرة ؛ ونور أصفر منه اصفرّت الصفرة ؛ ونور أبيض منه البياض. وهو العلم الذي حمّله الله الحملة. ثمّ قال بعد كلام طويل : فالّذين يحملون العرش هم العلماء الذين حمّلهم الله علمه. وليس يخرج عن هذه الأربعة شيء خلقه الله في ملكوته. وهو الملكوت الذي أراه الله أصفياءه وأراه خليله عليه‌السلام فقال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ) ـ الآية. (٥)

أقول : هذا الحديث لا ينافي ما قدّمناه من أنّ رؤية الخليل عليه‌السلام كانت بالعين ، لتلازم الرؤيتين بالنسبة إليهم عليهم‌السلام.

(وَكَذلِكَ) ؛ أي : مثل هذا التبصير نبصّره. وهو حكاية حال ماضية. (مَلَكُوتَ

__________________

(١) كنز الدقائق ٤ / ٣٦٣ ـ ٣٧٠.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٥٠٠.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٥٠٠.

(٤) الحاقّة (٦٩) / ١٧.

(٥) الكافي ١ / ١٢٩ ـ ١٣٠ ، ح ١.

٥٤

السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : ربوبيّتهما وملكهما. وقيل : عجائبهما وبدائعهما. والملكوت أعظم من الملك. والتاء فيه للمبالغة. (وَلِيَكُونَ) ؛ أي : ليستدلّ وليكون. أو : فعلنا ذلك ليكون. (١)

[٧٦] (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ)

(فَلَمَّا جَنَّ) تفصيل وبيان لذلك. وقيل : عطف على (قالَ إِبْراهِيمُ) و (كَذلِكَ نُرِي) اعتراض. فإنّ أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام والكواكب ، فأراد أن ينبئهم على ضلالتهم ويرشدهم إلى الحقّ من طريق النظر والاستدلال. و (جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ) : ستره بظلامه. والكوكب كان الزهرة أو المشتري. وقوله : (هذا رَبِّي) على سبيل الوضع ـ فإنّ المستدلّ على فساد قول ، يحكيه على ما يقوله الخصم ، ثمّ يكرّ عليه بالإفساد ـ أو على وجه النظر والاستدلال. وإنّما قاله زمان مراهقته لا بلوغه ، أو أوّل زمان بلوغه. (أَفَلَ) ؛ أي : غاب. (لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ، فضلا عن عبادتهم. فإنّ الانتقال والاحتجاب بالأستار يقتضي الإمكان والحدوث. (٢)

(رَأى). أبو عمرو : «رئي» بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان. وابن عامر وحمزة والكسائيّ بكسر الراء والهمزة. (٣)

[٧٧] (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ)

(هذا رَبِّي) ؛ أي : هذا النور الطالع ربّي. (٤)

(بازِغاً) : مبتدئا بالطلوع. (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي). استعجز نفسه وأعان بربّه في درك الحقّ ـ فإنّه لا يهتدى إليه إلّا بتوفيقه ـ إرشادا لقومه وتنبيها لهم على أنّ القمر أيضا لتغيّر

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٨.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٨.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٤٩٩.

(٤) مجمع البيان ٤ / ٥٠٠.

٥٥

حاله لا يصلح للألوهيّة وأنّ من اتّخذه إلها فهو ضالّ. (١)

[٧٨] (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي). ذكّر اسم الإشارة لتذكير الخبر وصيانة للرب عن شبهة التأنيث. (هذا أَكْبَرُ). كبّره استدلالا وإظهارا لشبهة الخصم. (بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها. ثمّ لمّا تبرّأ عنها ، توجّه إلى موجدها ومبدعها الذي دلّت هذه الممكنات عليه وقال : (إِنِّي وَجَّهْتُ) ـ الآية. وإنّما احتجّ بالأفول دون البزوغ ، مع أنّه أيضا انتقال ، لتعدّد دلالته. لأنّه انتقال مع خفاء واحتجاب ، ولأنّه رأى الكوكب الذي يعبدون في وسط السماء حين حاول الاستدلال. (٢)

(هذا) ؛ أي : هذا النور الطالع ربّي ، ليكون الخبر والمخبر عنه جميعا على التذكير. (٣)

[٨٠] (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ)

(وَحاجَّهُ) ؛ أي : خاصموه في التوحيد. (أَتُحاجُّونِّي). قرأ نافع وابن عامر بتخفيف النون. (فِي اللهِ) : في وحدانيّته. (هَدانِ) إلى توحيده (وَلا أَخافُ) معبوداتكم في وقت. لأنّها لا تضرّ بنفسها ولا تنفع. (٤)

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ) ؛ أي : إلّا وقت مشيّة ربّي شيئا يخاف. فحذف الوقت. يعني : لا أخاف معبوداتكم في وقت قطّ. لأنّها لا تقدر على منفعة ولا مضرّة إلّا إذا شاء ربّي أن يصيبني بمخوف من جهتها إن أصبت ذنبا أستوجب به إنزال المكروه مثل أن يرجمني بكوكب أو بشقّة من الشمس أو القمر أو يجعلها قادرة على مضرّتي. (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) ؛ أي :

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٨.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٨.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٥٠٠.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

٥٦

ليس بعجب ولا مستبعد أن يكون في علمه إنزال المخوف به من جهتها. (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ) فتميّزون بين الصحيح والفاسد والقادر والعاجز؟ (١)

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي) أن يغلب هذه الأصنام عليّ فتضرّني وتنفعني فيكون ذاك دليلا على حدوثها. وقيل : معناه : إلّا أن يشاء ربّي أن يعذّبني ببعض ذنوبي. (٢)

[٨١] (وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

(وَكَيْفَ أَخافُ) ؛ أي : أخاف لتخويفكم شيئا مأمون الخوف لا يتعلّق به ضرر بوجه (وَ) أنتم (لا تَخافُونَ) ما يتعلّق به كلّ خوف وهو إشراككم بالله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ) : بإشراكه (سُلْطاناً) ؛ أي : حجّة. كأنّه قال : وما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الخوف؟ ولم يقل : فأيّنا أحقّ بالأمن أنا أو أنتم ، احترازا من تزكية نفسه. فعدل عنه إلى قوله : (فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) ؛ يعني : فريقي المشركين والموحّدين. (٣).

(تَعْلَمُونَ) ؛ أي : تستعملون علومكم فيتميّزون بين الحقّ من الباطل. (٤)

[٨٢] (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)

(الَّذِينَ آمَنُوا). من قول إبراهيم. وروي ذلك عن عليّ عليه‌السلام. (بِظُلْمٍ) ؛ أي : بشرك. عند أكثر المفسّرين. (الْأَمْنُ). أي من الله بحصول الثواب والأمن من العقاب. (٥)

ثمّ استأنف الجواب عن السؤال بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) ؛ أي : يخلطوا إيمانهم بمعصية. تفسّقهم. وأبى تفسير الظلم بالكفر لفظ اللّبس. (٦)

(الَّذِينَ آمَنُوا). استئناف منه ، أو من الله ، بالجواب عمّا استفهم عنه. والمراد بالظلم هنا

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٤٢.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٥٠٥.

(٣) الكشّاف ٢ / ٤٢.

(٤) مجمع البيان ٤ / ٥٠٥.

(٥) مجمع البيان ٤ / ٥٠٦ ـ ٥٠٧.

(٦) الكشّاف ٢ / ٤٢ ـ ٤٣.

٥٧

الشرك ؛ لما روي أنّ الآية لمّا نزلت شقّ ذلك على الصحابة وقالوا : أيّنا لم يظلم نفسه؟ فقال عليه‌السلام : ليس ما تظنّون. إنّما هو ما قال لقمان لابنه : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ). (١) ولبس الإيمان به أن يصدّق بوجود الصانع الحكيم ويخلط به الإشراك به. وقيل : المعصية. (٢)

(وَلَمْ يَلْبِسُوا). عن الصادق عليه‌السلام قال : بما جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الولاية ولم يخلطوا بولاية فلان وفلان. (٣)

[٨٣] (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا). إشارة إلى جميع ما احتجّ به إبراهيم على قومه من قوله : (فَلَمَّا جَنَّ) إلى قوله : (وَهُمْ مُهْتَدُونَ). (آتَيْناها) : أرشدناه إليها ووفّقناه لها. (دَرَجاتٍ) في العلم والحكمة. (٤)

(عَلى قَوْمِهِ). متعلّق بحجّتنا إن جعل خبر تلك ، وبمحذوف ، إن جعل بدله. أي : آتيناها إبراهيم حجّة على قومه. (حَكِيمٌ) في رفعه وخفضه. (عَلِيمٌ) بالقابل لأحدهما. (٥)

قرأ أهل الكوفة : (دَرَجاتٍ) منوّنا ، والباقون : (دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) بالإضافة. (٦)

[٨٤] (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)

(كُلًّا) ؛ أي : كلّا منهما. (مِنْ قَبْلُ) ؛ أي : من قبل إبراهيم. عدّ هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنّه أباه ومن شرف الوالد يتعدّى إلى الولد. (٧)

__________________

(١) لقمان (٣١) / ١٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٩.

(٣) الكافي ١ / ٤١٣ ، ح ٣.

(٤) الكشّاف ٢ / ٤٣.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٩.

(٦) مجمع البيان ٤ / ٥٠٧.

(٧) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٩.

٥٨

(هَدَيْنا). الهداية هنا بمعنى الإرشاد إلى الثواب دون الهداية التي هي نصب الأدلّة. ألا ترى إلى قوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)؟ وذلك لا يليق إلّا بالثواب الذي يخصّ المحسنين دون الدلالة التي يشترك بها المؤمن والكافر. (١)

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ). الضمير لنوح أو لإبراهيم. (وَداوُدَ) ؛ أي : هدينا داوود. (٢)

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ). الضمير لنوح. لأنّه أقرب ، ولأنّ يونس ولوطا ليسا من ذرّيّة إبراهيم. فلو كان لإبراهيم ، اختصّ البيان بالمعدودين في تلك الآية والتي بعدها والمذكورون في الآية الثالثة عطف على نوح. (٣)

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ). في خبر طويل عن الكاظم عليه‌السلام مع هارون الرشيد قال له : كيف قلتم : إنّا ذرّيّة رسول الله ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يعقّب؟ وإنّما العقب للذكر لا للأنثى. وأنتم ولد لابنته ولا يكون لها عقب. فقال عليه‌السلام بعد كلام طويل : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ) ـ الآية. إنّ عيسى بن مريم عليهما‌السلام ليس له أب وألحقه الله بذرّيّة الأنبياء من طريق مريم. وكذلك ألحقنا بذراريّ النبيّ من قبل أمّنا فاطمة عليها‌السلام. (٤)

(وَأَيُّوبَ) ابن أموص من أسباط عيص بن إسحاق. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) ، أي : نجزي المحسنين مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته وكثرة أولاده والنبوّة فيهم. (٥)

[٨٥] (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ)

(وَعِيسى). هو ابن مريم. وفي ذكره دلالة على أنّ الذرّيّة يتناول أولاد البنت. (وَإِلْياسَ). قيل : هو إدريس جدّ نوح. فيكون البيان مخصوصا بمن في الآية الأولى. وقيل : هو من أسباط هارون أخي موسى. (مِنَ الصَّالِحِينَ) : الكاملين في الصلاح ؛ وهو الإتيان بما ينبغي والتحرّز عمّا لا ينبغي. (٦)

__________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٥١٢.

(٢) الكشّاف ٢ / ٤٣.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٩.

(٤) عيون الأخبار ١ / ٨٤ ، ح ٩.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٩.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠٩ ـ ٣١٠.

٥٩

[٨٦] (وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ)

(وَالْيَسَعَ). أهل الكوفة غير عاصم : والليسع بتشديد اللّام وفتحها وسكون الياء. (١)

(وَيُونُسَ) ابن متّى. (وَالْيَسَعَ) ابن أخطوب. (وَلُوطاً) ابن هارون ابن أخي إبراهيم. (فَضَّلْنا) : فضّلناهم بالنبوّة. (٢)

[٨٧] (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

(وَمِنْ آبائِهِمْ). في موضع النصب ، عطفا على كلّا بمعنى : وفضّلنا بعض آبائهم. (٣)

(وَمِنْ آبائِهِمْ). عطف على كلّا أو نوحا. أي : فضّلنا كلّا منهم. أو : هدينا هؤلاء وبعض آبائهم وذرّيّاتهم وإخوانهم. فإنّ منهم من لم يكن نبيّا ولا مهديّا. (وَاجْتَبَيْناهُمْ). عطف على فضّلنا أو هدينا. (وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ). تكرير لبيان ما هدوا إليه. (٤)

[٨٨] (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

(ذلِكَ هُدَى اللهِ). إشارة إلى ما دانوا به. (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ). دليل على أنّه متفضّل بالهداية. (٥)

(وَلَوْ أَشْرَكُوا) مع فضلهم وتقدّمهم وما رفع لهم في الدرجات ، لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم. كما قال : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ)(٦). (٧)

__________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٥٠٧.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣١٠.

(٣) الكشّاف ٢ / ٤٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣١٠.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٣١٠.

(٦) الزمر (٣٩) / ٦٥.

(٧) الكشّاف ٢ / ٤٣.

٦٠