عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-27-2
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٥٣

العزيز ملك مصر. [و] روي عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام. (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا) ؛ أي : كما أنعمنا عليه بالسلامة والخروج من الجبّ ، مكّنّاه في الأرض بأن عطفنا عليه قلب الملك الذي اشتراه حتّى صار بذلك متمكّنا من الأمر والنهي في أرض مصر. (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) : يحفظه ويرزقه حتّى يبلغه ما قدّر له من الملك والنبوّة. وقيل : معناه : والله غالب على أمر نفسه لا يعجزه شيء من تدبيره وأفعاله. (١)

(وَلِنُعَلِّمَهُ). عطف على مضمر. تقديره : ليتصرّف فيها ولنعلّمه. (مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) ؛ أي : معاني كتب الله وأحكامه لينفذها. أو : تعبير المنامات المنبّهة على الحوادث الكائنة. (٢)

[٢٢] (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) : منتهى اشتداد جسمه وقوّته. وهو سنّ الوقوف ما بين الثلاثين والأربعين. وقيل : سنّ الشباب ومبدؤه البلوغ. (٣)

(أَشُدَّهُ). من ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة. عن ابن عبّاس. وقيل : إنّ أقصى الأشدّ أربعون سنة. (حُكْماً). الحكم : النبوّة. والعلم : الشريعة. وقيل : الحكم بين الناس. فإنّ الناس كانوا إذا تحاكموا إلى العزيز ، أمره بأن يحكم بينهم لما رأى من عقله ورأيه. (وَكَذلِكَ) ؛ أي : مثل ما جزينا يوسف بصبره ، نجزي كلّ من أحسن ؛ أي : فعل الطاعات. وقيل : أراد به محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله. أي : كما فعلنا بيوسف وأعطيناه الملك بعد مقاساة الشدّة ، كذلك نفعل بك يا محمّد. (٤)

[٢٣] (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٠.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٠.

(٤) مجمع البيان ٥ / ٣٣٩.

٥٠١

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها). أي : زليخا. (عَنْ نَفْسِهِ) : طلبت منه أن يواقعها. (وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ). كانت سبعة أبواب. أو باب الدار وباب البيت. (هَيْتَ لَكَ) ؛ أي : أقبل وبادر إلى ما هو مهيّأ لك. أهل المدينة والشام : (هَيْتَ) بكسر الهاء وفتح التاء. وابن كثير بفتح الهاء وضمّ التاء. والباقون بفتح الهاء والتاء. وكلّها اسم فعل بمعنى أقبل وتعال ، والحركات في أواخرها لالتقاء الساكنين. أمّا الفتح فكأين وكيف ، والكسر لأنّ الساكن يحرّك به ، والضمّ لأنّها في معنى الغايات كحيث ومنذ. (مَعاذَ اللهِ) : أعتصم بالله وأستجير به. (إِنَّهُ رَبِّي). الهاء عائدة إلى زوجها عند أكثر المفسّرين. يعني : انّ زوجك مالكي ، أحسن تربيتى ورفع منزلتي ، فلا أخونه. وإنّما سمّاه ربّا لما كان ثبت له عليه من الرقّ في الظاهر. وقيل : الهاء عائدة إلى الله. والمعنى : انّ الله ربّي ، رفع من محلّي وجعلني نبيّا ، فلا أعصيه أبدا. وفيه دلالة على أنّ يوسف لم يهمّ بالفاحشة. لأنّ من همّ بالقبيح ، لا يقول مثل ذلك. (١)

[٢٤] (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ)

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها). فرق بين الهمّين مع اتّحاد سياقهما لوجود الدليل من القرآن. (ع)

عن الرضا عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها) : فإنّها همّت بالمعصية ، وهمّ يوسف بقتلها إن أجبرته ، لعظم ما تداخله. فصرف الله عنه قتلها والفاحشة. وهو قوله : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) يعني القتل والزنى. (٢)

وفي حديث آخر لمّا سأله المأمون فقال عليه‌السلام : لقد همّت به. ولو لا [أن] رأى برهان ربّه ، لهمّ بها كما همّت به. لكنّه كان معصوما والمعصوم لا يهمّ بذنب ولا يأتيه. ولقد حدّثني أبي

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٣٣٩ ـ ٣٤١.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ / ١٥٤ ، ح ١.

٥٠٢

عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : لقد همّت بأن تفعل وهمّ بأن لا يفعل. فقال المأمون : لله درّك يا أبا الحسن. (١)

وعن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام في قوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) قال : قامت امرأة العزيز إلى الصنم فألقت عليه ثوبا. فقال لها يوسف : ما هذا؟ فقالت : أستحيي من الصنم أن يرانا. فقال : أتستحين ممّن لا يسمع ولا يبصر ولا أستحيي أنا ممّن خلق الإنسان وعلّمه؟ فذلك قوله : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ). (٢)

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام مجيبا لبعض الزنادقة وقد قال : وأجده قد شهر هفوات أنبيائه بقوله في يوسف : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ). فقال عليه‌السلام : وأمّا هفوات الأنبياء عليهم‌السلام وما بيّنه الله في كتابه ، فإنّ ذلك من أدّل الأدّلة على حكمة الله. لأنّه علم أنّ براهين الأنبياء تكبر في صدور أممهم وأنّ منهم من يتّخذ بعضهم إلها ـ كالنصارى في ابن مريم ـ فذكرها دلالة على تخلّفهم عن الكمال الذي انفرد به عزوجل. (٣)

(وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ). الهمّ في اللّغة يأتي على وجوه : منها العزم على الفعل. ومنها خطور الشيء بالبال وان لم يقع العزم عليه. ومنها أن يكون بمعنى المقاربة. قالوا : همّ فلان أن يفعل كذا ؛ أي : قارب. ومنها الشهوة وميل الطبع. وإذا كان معاني الهمّ في اللّغة مختلفة ، يجب أن ينفى عن نبيّ الله يوسف ما لا يليق به وهو العزم على القبيح. لأنّ الدليل قد دلّ على أنّ الأنبياء لا يجوز عليهم المعاصي. وأجزنا عليه ما سواه من معاني الهمّ. لأنّ كل واحد من ذلك يليق بحاله. (بُرْهانَ). وهو النبوّة المانعة من ارتكاب الفواحش والحكم الصارفة عن القبائح. روي ذلك عن الصادق عليه‌السلام. (كَذلِكَ) ؛ أي : كذلك أريناه البرهان لنصرف عنه الإثم والزنى. (٤)

(وَلَقَدْ هَمَّتْ) : قصدت مخالطته وقصد مخالطتها. والهمّ بالشيء : قصده والعزم عليه. و

__________________

(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ / ١٥٥ ـ ١٦٠ ، ح ١.

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ / ٤٤ ، ح ١٦٢.

(٣) الاحتجاج ١ / ٣٤٥ ـ ٣٤٩.

(٤) مجمع البيان ٥ / ٣٤١ ـ ٣٤٢ و ٣٤٤ ـ ٣٤٥.

٥٠٣

المراد بهمّه ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياريّ. وذلك ممّا لا يدخل تحت التكليف ، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكفّ نفسه عن الفعل عند قيام الهمّ أو مشارفة الهمّ. (عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) : الذين أخلصهم الله لطاعته. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بالكسر في كلّ القرآن. أي : الذين أخلصوا دينهم لله. (١)

(بُرْهانَ رَبِّهِ). قيل : رأى مكتوبا في سقف البيت : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) ـ الآية. (٢) وقيل : إنّه حجّة الله في تحريم الزنى والعلم بما على الزاني من العقاب. وقيل : إنّه مثّل له يعقوب فرآه عاضّا إصبعه ويقول له : أتعمل عمل الفجّار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء؟ وقيل : إنّه سمع في الهواء قائلا يقول : يابن يعقوب ، لا تكن كالطير إذا زنى ذهب ريشه. وقيل : ركضه جبرئيل فلم يبق فيه شيء من الشهوة. (حسن عفي عنه)

فإن قلت : إذا لم يكن ليوسف همّ ، فما معنى (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ)؟ وما يبقى له فائدة. قلنا : بل فيه أعظم الفوائد ؛ وهو بيان أنّ ترك الهمّ بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعدم قدرته عليهنّ ، بل لأجل أنّ دلائل دين الله منعه عن ذلك العمل. (حسن عفي عنه)

[٢٥ ـ ٢٧] (وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ * قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ * وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ)

(قالَتْ) إيهاما بأنّها فرّت منه تبرئة لساحتها عند زوجها وإغراءه بيوسف. (ما جَزاءُ). ما نافية أو استفهاميّة بمعنى : أيّ شيء جزاؤه إلّا السجن؟ (قالَ هِيَ راوَدَتْنِي). ولو لم تكذب عليه لما قاله. (فَصَدَقَتْ). لأنّه يدلّ على أنّها قدّت قميصه من قدّامها بالدفع عن نفسها. (فَكَذَبَتْ). لأنّه يدلّ على أنّها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدّته. (٣)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٠ ـ ٤٨١.

(٢) الإسراء (١٧) / ٣٢.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨١.

٥٠٤

(وَاسْتَبَقَا الْبابَ) : طلب كلّ واحد من يوسف وزليخا السبق إلى الباب. أمّا يوسف فهربا من ركوب الفاحشة. وأمّا هي ، فلأنّها طلبته لقضاء الحاجة فقصدت غلق الباب لتمنعه من الخروج وتراوده ثانيا. ولمّا عدت من خلفه ، شقّت قميصه طولا من خلفه. (وَأَلْفَيا سَيِّدَها) ؛ أي : لمّا خرجا ، وجدا زوجها عند الباب. سمّي سيّدها لأنّه مالك أمرها. فسبقت بالكلام لتجعل الذنب على يوسف فقالت : ليس جزاء من أراد بأهلك خيانة إلّا أن يسجن أو يضرب بالسياط. قالوا : ولو صدق حبّها ، لم تقل ولآثرته على نفسها ، ولكن حبّها إيّاه كان شهوة. (شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها). قيل : كان الصبيّ ابن أخت زليخا وهو ابن ثلاثة أشهر. (١)

(شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها). قيل : ابن عمّها. وقيل : طبيب كان مع زوجها. (٢)

[٢٨] (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ)

(عَظِيمٌ). لأنّ النساء أنفذ حيلة من الرجال وألطف كيدا. ومنه قوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ). (٣) وعن بعض العلماء : إنّما أخاف من النساء أكثر ما أخاف من الشيطان. لأنّ الله يقول : (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً)(٤) وقال في النساء : (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ). (٥)

إنّما وصفه بالعظيم لأنّه حين فاجأت زوجها عند الباب لم يدخلها دهش ولم تتحيّر في أمرها وركّبت الذنب على يوسف. (٦)

[٢٩] (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ)

(يُوسُفُ أَعْرِضْ). يعني أنّ الشاهد قال ليوسف : أمسك عن ذكر هذا الحديث حتّى لا يفشى في البلد. عن ابن عبّاس. وقيل : إنّما قاله زوجها. وقيل : معناه : لا تلتفت يا يوسف إلى هذا الحديث ولا تذكره على سبيل طلب البراءة. فقد ظهرت براءتك. ثمّ أقبل على

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٣٤٧.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨١ ، ومجمع البيان ٥ / ٣٤٧.

(٣) الفلق (١١٣) / ٤.

(٤) النساء (٤) / ٧٦.

(٥) الكشّاف ٢ / ٤٦١.

(٦) مجمع البيان ٥ / ٣٤٧.

٥٠٥

زليخا فقال : (وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) ؛ أي : سلي زوجك أن لا يعاقبك على ذنبك. وقيل : إنّه لم يكن غيورا سلبه الله الغيرة لطفا منه بيوسف حتّى كفي شرّه. ولذلك قال ليوسف : (أَعْرِضْ عَنْ هذا) واقتصر على هذا القدر. وقيل : معناه : استغفري الله من ذنبك وتوبي إليه. فإنّ الذنب كان منك لا من يوسف. فإنّهم كانوا يعبدون الله مع عبادة الأصنام. (١)

[٣٠] (وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

(نِسْوَةٌ). جمع ليس له مفرد من لفظه.

(نِسْوَةٌ). اسم جمع امرأة. وتأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقيّ. (فِي الْمَدِينَةِ). ظرف لقال. أي : أشعن الحكاية في مصر. أو صفة نسوة وكنّ خمسا. (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ). هو بلسان العرب الملك. و (حُبًّا) نصب على التمييز. (٢)

(وَقالَ نِسْوَةٌ) ؛ أي : جماعة من النساء. (تُراوِدُ فَتاها) ؛ أي : تدعو مملوكها إلى الفجور بها. قيل : كنّ خمس نسوة : امرأة ساقي الملك ، وامرأة الخبّاز ، وامرأة صاحب الدوابّ ، وامرأة صاحب السجن ، وامرأة الحاجب. (شَغَفَها). بالعين المهملة معناه : ذهب بها كلّ مذهب. وبالمعجمة : خرق شغاف قلبها ـ وهو غلافه ـ فوصل إلى قلبها. عن عليّ وزين العابدين ومحمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد عليهم‌السلام بالعين المهملة. (٣)

[٣١] (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ)

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ) ؛ أي : بتعييرهنّ إيّاها وقصدهنّ إشاعة أمرها. وسمّاه مكرا لأنّ

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٢.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٣٥٢ ، و ٣٤٨ ـ ٣٤٩.

٥٠٦

قصدهنّ من هذا القول كان أن تريهنّ يوسف لما وصف لهنّ من حسنه. وقيل : لأنّها أظهرت لهنّ حبّها إيّاه واستكتمتهنّ ذلك ، فأظهرنه ، فسمّى ذلك مكرا. قيل : اتّخذت مائدة ودعت أربعين امرأة منهنّ وأعتدت لهنّ وسائد يتّكئن عليها. وقيل : المتّكأ : الطعام. من قولهم : اتّكأنا عند فلان ؛ أي : أطعمنا عنده. (أَكْبَرْنَهُ) ؛ أي : أعظمنه وتحيّرن في جماله فجرحن أيديهنّ ، أو أبنّ ، ولم يجدن ألم القطع. (حاشَ لِلَّهِ) ؛ أي : بعد يوسف عن هذا الذي رمي به لله ؛ أي : لخوفه ومراقبته أمر الله. هذا قول أكثر المفسّرين. وقال آخرون. هذا تنزيه له من شبه البشر. يعني أنّه منزّه عن البشريّة وليس خلقته خلقة البشر ولكنّه ملك كريم لحسنه ولطافته. وقيل : في عفّته. (مُتَّكَأً). عن أبي جعفر بغير همز مشدّدة التاء. قالوا : المتّك : الأترج. واحده متّكة. وقيل : هو الزماورد. (حاشَ لِلَّهِ). أبو عمرو : حاشى الله» (١)

(بِمَكْرِهِنَّ) ؛ أي : اغتيابهنّ. سمّاه مكرا لأنّهنّ أخفينه كما يخفي الماكر مكره. (مُتَّكَأً). قيل : المتّكأ طعام يحزّ حزّا كأنّ القاطع يتّكئ عليه بالسكّين. (أَكْبَرْنَهُ). قيل : أكبرن بمعنى حضن. من أكبرت المرأة ، إذا حاضت. لأنّها تدخل الكبر بالحيض. والهاء ضمير للمصدر أو ليوسف على حذف اللّام. أي : حضن له من شدّة الشبق. (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ) تنزيها له من صفات العجز وتعجّبا من قدرته على خلق مثله. وأصله : حاشا ، فحذف ألفه الأخيرة تخفيفا. واللّام للبيان ؛ كما في قولك : سقيا لك. وقيل : حاشا فاعل من الحشا الذي هو الناحية وفاعله ضمير يوسف. أي : صار في ناحية الله ممّا يتوهّم فيه. (٢)

[٣٢] (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ)

(فَذلِكُنَّ) ؛ أي : هو ذلك العبد الكنعانيّ الذي لمتنّني في الافتتان به قبل أن تتصوّرنه حقّ تصوّره. أو : فهذا هو الذي لمتنّني فيه. فوضع «ذلك» موضع هذا رفعا لمنزلة المشار إليه. (وَ

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٣٥٢ ـ ٣٥٣ و ٣٤٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٢.

٥٠٧

لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) : فامتنع طلبا للعصمة. أقرّت لهنّ حين عرفت أنّهنّ يعذرنها كي يتعاونّها على إلانة عريكته. (١)

وليكونن». بالتشديد. والتخفيف أولى. لأنّ النون كتبت في المصحف ألفا على حكم الوقف ، وذلك لا يكون إلّا في الخفيفة. (٢)

(فِيهِ) ؛ أي : في أمره وحبّه. (فَاسْتَعْصَمَ) ؛ أي : امتنع. أو : سأل الله العصمة. وليكونن». هذه النون الخفيفة وإذا وقفت عليها وقفت عليها بالألف. وهي بمنزلة التنوين الذي يوقف عليها بالألف في نحو قولك : رأيت رجلا. (مِنَ الصَّاغِرِينَ) : من الأذلّاء. (٣)

[٣٣] (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ)

(السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ). لمّا رأى إصرارها على ذلك وتهديدها ، اختار السجن على المعصية فقال : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ) ؛ أي : أسهل عليّ من الفاحشة. وفيه دلالة على أنّ النسوة دعونه إلى ما أرادته زليخا. روي عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام أنّ النسوة لمّا خرجن من عندها ، أرسلت كلّ واحدة منهنّ إلى يوسف سرّا من صاحبتها تسأله الزيارة. وقيل : إنّهنّ قلن له : أطع مولاتك واقض حاجتها. فإنّها المظلومة وأنت ظالم لها. (أَصْبُ) ؛ أي : أمل إليهنّ وأكن بمنزلة الجاهلين في فعلي. (٤)

[٣٤] (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) : فأجابه فيما دعاه فعصمه من مكرهنّ. (٥)

(فَصَرَفَ عَنْهُ) : فثبّته بالعصمة حتّى وطّن نفسه على مشقّة السجن وآثرها على اللّذّة

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٣.

(٢) الكشّاف ٢ / ٤٦٧.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٣٥٣ و ٣٥١.

(٤) مجمع البيان ٥ / ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

(٥) مجمع البيان ٥ / ٣٥٤.

٥٠٨

المتضمّنة للعصيان. (١)

[٣٥] (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ). كان العزيز سامعا لقول امرأته فطاوعها في سجنه مع ما رأى من الآيات. (٢)

(لَيَسْجُنُنَّهُ). وذلك لأنّها خدعت زوجها وحملته على سجنه زمانا حتّى تبصر ما يكون منه. (٣)

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ). لم يقل : لهنّ ، لأنّه أراد به الملك. وقيل : زليخا وأعوانها ، فغلب المذكّر. وأراد بالآيات العلامات الدالّة على براءة يوسف. وقيل : العلامات الدالّة على الإياس منه. وقوله : (بَدا) فاعله مضمر ـ أي : بدا لهم بداء ـ دلّ عليه : (لَيَسْجُنُنَّهُ). فإنّ السجن هو الذي بدا لهم. وذلك أنّ المرأة قالت لزوجها : إنّ هذا العبد قد فضحني في الناس حيث إنّه يخبرهم أنّي راودته عن نفسه. ولست أطيق أن أعتذر بعذري. فإمّا أن تأذن فأخرج وأعتذر. وإمّا أن تحبسه. فحبسه بعد علمه ببراءته. وقيل : إنّ الغرض من الحبس أن يظهر للناس أنّ الذنب كان منه ، لأنّه إنّما يحبس المجرم. وقيل : كان الحبس قريبا منها فأرادت أن يكون بقربها حتّى إذا أشرفت عليه رأته. (حَتَّى حِينٍ) ؛ أي : إلى سبع سنين أو خمس. وقيل : إلى وقت ينسى حديث المرأة معه وينقطع فيه عن الناس خبره. (٤)

(لَيَسْجُنُنَّهُ). جواب قسم محذوف.

[٣٦] (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ) ؛ أي : اتّفق أن أدخل معه حدثان أو مملوكان لملك مصر

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٣.

(٢) الكشّاف ٢ / ٤٦٨.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٣.

(٤) مجمع البيان ٥ / ٣٥٤.

٥٠٩

الأكبر ـ وهو الوليد بن ريّان ـ أحدهما صاحب شرابه والآخر خبّازه للاتّهام بأنّهما يريدان أن يسمّاه. (قالَ أَحَدُهُما). يعني الشرابيّ. (إِنِّي أَرانِي). هو من رؤيا النوم. لأنّ يوسف لمّا دخل السجن قال لأهله : إنّي أعبر الرؤيا. فقال أحد الرجلين لصاحبه : هلمّ فلنختبره. فسألاه من غير أن رأيا شيئا. وقيل : بل رأياه على صحّة وحقيقة ولكنّهما كذبا في الإنكار. وقيل : إنّ المصلوب منهما كان كاذبا ، والآخر كان صادقا. وهو المرويّ عن ائمّتنا عليهم‌السلام. (أَرانِي). أي قال الساقي. (أَعْصِرُ خَمْراً) ؛ أي : عنبا في كأس الملك فسقيته إيّاه. (وَقالَ الْآخَرُ) ـ أي الخبّاز ـ : كأنّ فوق رأسي ثلاث سلال فيها الخبز وسباع الطير تنهش منه. (مِنَ الْمُحْسِنِينَ) : توفّر الأعمال الجميلة. لأنّه كان إذا ضاق على رجل مكانه وسّع له ، وإن احتاج جمع له ، وإن مرض قام عليه. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام. وقيل : ممّن يحسن تأويل الرؤيا. وفي الحديث أنّ الرؤيا جزء من ستّة وأربعين جزءا من النبوّة. وتأويله أنّ الأنبياء يخبرون بما سيكون والرؤيا تدلّ على ما سيكون. وقيل : معناه : نراك من المحسنين إلينا إن فسّرت لنا الرؤيا. (١)

[٣٧] (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ)

ثمّ ذكر لهما ما يدلّ على أنّه عالم بتعبير الرؤيا فقال : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) في منامكما (إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) في اليقظة (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) التأويل. وذلك أنّه كره أن يخبرهما بالتأويل لما على أحدهما فيه من البلاء فأعرض عن سؤالهما وأخذ في غيره. وقيل : إنّه إنّما قدّم هذا ليعلما ما خصّه الله من النبوّة وليقبلا عليه فقال : لا يأتيكما طعام من منزلكما إلّا أخبرتكما بصفة ذلك الطعام وكيفيّته قبل أن يأتيكما. كما قال عيسى عليه‌السلام : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ). (٢)(ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي). كأنّهما قالا له : كيف عرفت

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦.

(٢) آل عمران (٣) / ٤٩.

٥١٠

تأويل الرؤيا ولست بكاهن ولا عرّاف؟ فأخبرهما أنّه رسول الله وأنّه تعالى علّمه بالوحي ذلك. (إِنِّي تَرَكْتُ). فلذلك خصّني الله بهذه الكرامة. (١)

(مِمَّا عَلَّمَنِي) بالإلهام والوحي. (إِنِّي تَرَكْتُ). إمّا تعليل لما قبله ـ أي : علّمني ذلك لأنّي تركت ـ أو كلام مبتدأ لتمهيد الدعوة وإظهار أنّه من بيت النبوّة لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه. ولذلك جوّز للخامل أن يصف نفسه فيقتبس منه. وتكرير الضمير للدلالة على تأكيد كفرهم بالآخرة. (٢)

(إِلَّا نَبَّأْتُكُما). وصف نفسه بإخبار الغيب وأنّه ينبّئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما ويقول : اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت ، فيجدانه كما أخبرهما. (٣)

[٣٨] (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ)

(وَعَلَى النَّاسِ). لهداية الناس بهم.

(ما كانَ لَنا) ؛ أي : لا ينبغي لنا ـ ونحن معدن النبوّة ـ أن ندين بغير التوحيد. (ذلِكَ) ؛ أي : التمسّك بالتوحيد. وقيل : النبوّة والعلم. (مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) خصّنا الله بها (وَعَلَى النَّاسِ) أيضا بإرسالنا إليهم واتّباعهم إيّانا. (لا يَشْكُرُونَ). أي نعم الله. وقد كان يوسف أقام فيما بينهم زمانا ولم يحك الله أنّه دعا إلى الدين وكانوا يعبدون الأصنام ، لأنّه لم يطمع منهم في الاستماع والقبول. فلمّا رآهم عارفين بإحسانه مقبلين عليه ، رجا منهم القبول منه ، فدعاهم إلى التوحيد على ما أمره الله سبحانه في قوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(٤). روي أنّ صاحبي السجن قالا له : قد أحببناك حين رأيناك. فقال : لا تحبّاني. فو الله ما أحبّني أحد إلّا دخل عليّ من محبّته بلاء. أحبّتني عمّتي فنسبتني إلى السرقة. وأحبّني

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٣٥٦ ـ ٣٥٧.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٤.

(٣) الكشّاف ٢ / ٤٦٩ ـ ٤٧٠.

(٤) النحل (١٦) / ١٢٥.

٥١١

أبي فألقيت في الجبّ. وأحبّتني امرأة العزيز ، فألقيت في السجن. (١)

هذا الحديث رواه عليّ بن إبراهيم عن الرضا عليه‌السلام إلّا أنّه قال السجّان. وفي آخره : قال : يا ربّ بما استحققت السجن؟ فأوحي إليه : أنت اخترته حين قلت : (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي). (٢)

[٣٩] (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) ؛ أي : يا صاحبي فيه. فأضافهما إليه على الاتّساع. كقوله : يا سارق الليلة أهل الدار». (٣)

(أَأَرْبابٌ). استفهام توبيخ.

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) ؛ أي : ملازمي السجن ، أصنام متباينون من حجر وخشب لا تضرّ ولا تنفع ، خير لمن عبدها ، أم الله الواحد القهّار الذي إليه الضرّ والنفع؟ والاستفهام للتقرير. (٤)

[٤٠] (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

(ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ). خطاب لجميع من في السجن. (سَمَّيْتُمُوها). يعني : الأرباب والآلهة هي أسماء فارغة عن المعاني ، ما أنزل الله سبحانه من حجّة بعبادتها. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ). فلا يجوز العبادة والخضوع إلّا له. (أَمَرَ) ؛ أي : أمركم. (ذلِكَ) ؛ أي : الذي بيّنت لكم من توحيده الدين المستقيم الذي لا عوج فيه. (لا يَعْلَمُونَ) ما للمطيع من الثواب وللعاصي من

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٣٥٧.

(٢) تفسير القمّيّ ١ / ٣٥٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٤.

(٤) مجمع البيان ٥ / ٣٥٨.

٥١٢

العقاب. أو : لا يعلمون صحّة ما أقوله لعدولهم عن النظر والاستدلال. (١)

(سَمَّيْتُمُوها) ؛ أي : سمّيتم بها. (٢)

(أَمَرَ) على لسان أنبيائه. (٣)

[٤١] (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ)

(أَمَّا أَحَدُكُما) وهو الساقي ، أخبره أنّه يبقى ثلاثة أيّام [ثمّ] يخرجه الملك في اليوم الرابع ويعود إلى ما كان عليه. وأجرى على مالكه صفة الربّ لأنّه عبده. (وَأَمَّا الْآخَرُ) ؛ يعني الخبّاز ، أخبره أنّه بعد ثلاثة أيّام يخرجه الملك فيصلب فتأكل الطير من رأسه. فقال عند ذلك : ما رأيت شيئا وكنت ألعب. فقال يوسف : (قُضِيَ الْأَمْرُ) ؛ أي : فرغ من الأمر الذي تطلبان معرفته. وما قلته لكما ، فإنّه نازل بكما لا محالة. وفي ذلك دلالة على أنّه كان يقول ذلك عن جهة الإخبار عن الغيب بما يوحى إليه لا كما يعبر أحدنا الرؤيا على جهة التأويل. (٤)

(فَيَسْقِي رَبَّهُ) كما كان يسقيه من قبل. (ع)

(قُضِيَ) ؛ أي : قطع الأمر الذي تستفتيان فيه وهو ما يؤول إليه أمركما. ولذلك وحّده. فإنّهما وإن استفتيا في أمرين ، لكنّهما أرادا استبانة عاقبة ما نزل بهما. (٥)

[٤٢] (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ)

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٣٥٨.

(٢) الكشّاف ٢ / ٤٧١.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٤.

(٤) مجمع البيان ٥ / ٣٥٨ ـ ٣٥٩.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٥.

٥١٣

(وَقالَ) ؛ أي : يوسف قال للّذي علم من طريق الوحي (أَنَّهُ ناجٍ) ؛ أي : متخلّص. كما في قوله : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ). (١) هذا قول الأكثرين. وقال قتادة : للّذي ظنّه ناجيا لأنّه لم يحكم بصدقه فيما قصّه من الرؤيا. والأوّل أصحّ. (عِنْدَ رَبِّكَ) ؛ أي : عند سيّدك بأنّي محبوس ظلما. (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ) ؛ يعني : أنسى الشيطان يوسف ذكر ربّه تعالى في تلك الحال حتّى استغاث بمخلوق فالتمس من الناجي منهما أن يذكره عند سيّده. وكان من حقّه التوكّل على الله في ذلك. (فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ) ؛ أي : سبع سنين. وروي ذلك عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام. وقيل : معناه : فأنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف عند الملك فلم يذكره حتّى لبث في السجن. وتقديره : فأنساه الشيطان ذكر يوسف عند ربّه. وقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : عجبت من أخي يوسف كيف استغاث بالمخلوق دون الخالق! وروي أنّه عليه‌السلام قال : لو لا كلمته في السجن ، ما لبث طول ما لبث. يعني قوله : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ). وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جاء جبرئيل فقال : يا يوسف ، من جعلك أحسن الناس؟ قال : ربّي. قال : فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال : ربّي. قال : فإنّ ربّك يقول : ما دعاك إلى أن تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟ البث في السجن بضع سنين. قال : فبكى يوسف عند ذلك حتّى بكى لبكائه الحيطان. فتأذّى ببكائه أهل السجن. فصالحهم على أن يبكي يوما ويسكت يوما. فكان في اليوم الذي يسكت أسوأ حالا. (بِضْعَ سِنِينَ). قيل : البضع ما بين الثلاث إلى الخمس. وقيل : إلى التسع. وأكثر المفسّرين على أنّ البضع في الآية سبع سنين. قال الكلبيّ : وهذه السبع سوى الخمسة التي كان قبل ذلك. (٢)

فإن قلت : كيف يقدر الشيطان على الإنساء؟ قلت : يوسوس إلى العبد بما يشغله عن الشيء من أسباب النسيان حتّى يذهب عنه ويزول عن قلبه. وأمّا الإنساء ابتداء ، فلا يقدر عليه إلّا الله عزوجل. (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها)(٣). (٤)

__________________

(١) الحاقّة (٦٩) / ٢٠.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

(٣) البقرة (٢) / ١٠٦.

(٤) الكشّاف ٢ / ٤٧٢.

٥١٤

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لمّا قال يوسف للفتى : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ). أتاه جبرئيل فضربه (١) برجله حتّى كشط له من الأرض السابعة فقال له : يا يوسف ، انظر ما ذا ترى؟ قال : أرى حجرا صغيرا. ففلق الحجر فقال : ماذا ترى؟ قال : أرى دودة صغيرة. قال : فمن رازقها؟ قال : الله. قال : فإنّ ربّك يقول : لم أنس هذه الدودة في ذلك الحجر في قعر الأرض السابعة. ظننت أنّي أنساك حتّى تقول للفتى : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ)؟ لتلبث في السجن بمقالتك هذه بضع سنين. (٢)

[٤٣] (وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ)

أخبر سبحانه عن سبب نجاة يوسف من السجن ؛ وهو أنّه لمّا قرب الفرج ، رأى الملك رؤيا أشكل تعبيرها على قومه. (وَقالَ الْمَلِكُ). يعني الوليد بن ريّان والعزيز وزيره فيما رواه الأكثرون. (عِجافٌ) ؛ أي : مهازيل. فدخلت السمان في بطون المهازيل حتّى لم أر منهنّ شيئا. (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ) ؛ أي : وأرى في منامي سبع سنبلات قد انعقد حبّها وسبع سنبلات أخرى يابسات قد استحصدت فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبن عليها. (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) ؛ أي : جميع الأشراف. (أَفْتُونِي) ؛ أي : عبّروا ما رأيت في منامي وبيّنوا لي الفتوى فيه وهو حكم الحادثة. (سُنْبُلاتٍ). قرأ جعفر بن محمّد : وسبع سنابل خضر» ان كنتم للرؤيا تعبرون أي : كنتم عابرين للرؤيا. وقيل : إنّ اللّام بمعنى إلى. أي : إن كنتم توجّهون العبارة للرؤيا. (٣)

(لِلرُّءْيا). اللّام للبيان أو لتقوية العامل ، فإنّ الفعل لمّا أخّر عن مفعوله ضعف فقوّي باللّام كاسم الفاعل ، أو لتضمين (تَعْبُرُونَ) معنى فعل يعدّى باللّام كأنّه قيل : إن كنتم تنتدبون لعبارة الرؤيا. (٤)

__________________

(١) كذا في المصدر أيضا.

(٢) تفسير العيّاشيّ ٢ / ١٧٧ ، ح ٢٧.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٣٦٣ ـ ٣٦٤ و ٣٦١.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٥.

٥١٥

[٤٤] (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ)

(أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ؛ أي : هذه أباطيل أحلام. وقيل : تخاليط أحلام. يعني أنّها منامات كاذبة لا يصحّ تأويلها. (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ) التي هذه صفتها (بِعالِمِينَ). وإنّما نعلم تأويل ما يصحّ منها. وكان جهل الملأ بتاويل رؤيا الملك سبب نجاة يوسف. لأنّ الساقي تذكّر حديث يوسف فجثا بين يديه وقال : أيّها الملك ، إنّي قصصت أنا وصاحب الطعام على رجل في السجن منامين فخبّرنا بتأويلهما وصدق. فإن أذنت ، مضيت إليه وأتيتك من قبله بتعبير هذه الرؤيا. (١)

(أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ؛ أي : هي أضغاث أحلام. وهي تخاليطها. جمع ضغث. وأصله ما جمع من أخلاط النبات وحزم ، فاستعير للرؤيا الكاذبة. وإنّما جمعوا للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان ـ كقولهم : فلان يركب الخيل ـ أو لتضمّنه أشياء مختلفة. (٢)

عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : إنّ الأحلام لم يكن فيما مضى في أوّل الخلق ، وإنّما حدثت. وذلك أنّ الله بعث رسولا إلى أهل زمانه فدعاهم إلى طاعة الله وعدهم الجنّة وتوعّدهم بالنار ، فقالوا : وما الجنّة والنار؟ فوصف لهم ذلك وقال : ترونهما بعد الموت. فقالوا : رأينا أمواتنا صاروا عظاما ورفاتا! فازدادوا تكذيبا. فأحدث الله فيهم الأحلام. فأخبروه بما رأوا. فقال : إنّ الله أراد أن يحتجّ عليكم بهذا. هكذا تكون أرواحكم إذا متّم. وإن بليت أبدانكم ، تصير الأرواح إلى عقاب حتّى تبعث الأبدان. (٣)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، [قال الراوي :] الرؤيا يراها الرجل فتكون كما يراها. وربما يرى فلا يكون شيئا. فقال : إنّ المؤمن إذا نام ، خرجت من روحه حركة ممدودة صاعدة إلى السماء. وكلّ ما رآه المؤمن في ملكوت السماء في موضع التقدير والتدبير ، فهو الحقّ. وكلّ ما رآه في الأرض ، فهو أضغاث أحلام. (٤)

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٣٦٤.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٥ ـ ٤٨٦.

(٣) الكافي ٨ / ٩٠ ، ح ٥٧.

(٤) أمالي الصدوق / ١٢٤ ـ ١٢٥ ، ح ١٥.

٥١٦

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : رأت فاطمة عليها‌السلام في النوم كأنّ الحسن والحسين عليهما‌السلام ذبحا أو قتلا ، فأحزنها ذلك فأخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال : يا رؤيا. فتمثّلت بين يديه. فقال : أرأيت (١) فاطمة هذا البلاء؟ فقالت : لا. قال : يا أضغاث ، أنت أريت (٢) فاطمة هذا؟ قالت : نعم يا رسول الله. قال : فما أردت بذلك؟ قال : أردت أن أحزنها. فقال : يا فاطمة ، اسمعي. ليس هذا بشيء. (٣)

[٤٥] (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ)

(وَادَّكَرَ) : أصله : اذتكر ، من الذكر ، فقلب وأدغم. (ع (ره)).

(وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) ؛ أي : تذكّر يوسف بعد جماعة من الزمان مجتمعة ؛ أي : مدّة طويلة. (٤)

(وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) : تذكّر شأن يوسف وما وصّاه به بعد حين من الدهر. (٥)

(فَأَرْسِلُونِ). تقديره : فأرسلوه إلى يوسف فقال : (يُوسُفُ). (ع)

[٤٦] (يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ)

فأتى [الساقي] إليه وقال : (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) : الكثير الصدق. (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ) إلى : (يابِساتٍ). فإنّ الملك رأى هذه الرؤيا واشتبه تأويلها. (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) : الملك وأصحابه. (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) فضلك فيخرجوك من السجن. أو : لعلّهم يعرفون تأويل رؤيا الملك. (لَعَلِّي). أتى بلفظ لعلّ لاحتمال الاخترام قبل الرجوع. روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره ـ والله يغفر له ـ حين سئل عن البقرات العجاف و

__________________

(١) كذا في المصدر أيضا. والظاهر أنّ الصحيح : «أريت» كما يأتي في العبارة الآتية.

(٢) المصدر : أرأيت.

(٣) تفسير العيّاشيّ ٢ / ١٧٨ ـ ١٧٩ ، ح ٣١.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٦.

(٥) مجمع البيان ٥ / ٣٦٤.

٥١٧

السمان. ولو كنت مكانه ، ما أخبرتهم حتّى أشترط أن يخرجوني من السجن. (١)

[٤٧] (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ)

(قالَ تَزْرَعُونَ). يعني أمّا البقرات السبع العجاف والسنابل السبع اليابسات ، فالسنون الجدبة. وأمّا السبع السمان والسنابل السبع الخضر ، فإنّهنّ سبع سنين مخصبات ذوات نعمة وأنتم تزرعون فيها. (دَأَباً) ؛ أي : فازرعوا سبع سنين متوالية على عادتكم في الزراعة. ويجوز أن يكون حالا. أي : تزرعون دائبين. (فَما حَصَدْتُمْ) من الزرع ، فاتركوه في سنبله ليكون أبعد من الفساد. يعني أنّ ما أردتم أكله فدوسوه واتركوا الباقي في السنبل. وقيل : إنّما أمرهم بذلك لأنّ السنبل لا يقع فيه سوس وإن بقي مدّة من الزمان. (دَأَباً). حفص : (دَأَباً) بفتح الهمزة ، والباقون بسكونها. الدأب : العادة. ويقال : دأب في عمله : اجتهد. (٢)

[٤٨] (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ)

(سَبْعٌ شِدادٌ) ؛ أي : سبع سنين مجدبة يشتدّ الأمر على الناس ويأكلون فيها ما قدّموا في السنين المخصبة. قال ابن أسلم : كان يوسف عليه‌السلام يصنع طعام اثنين فيقرّبه إلى رجل فيأكل نصفه. حتّى كان ذات يوم قرّبه إليه فأكله كلّه ، فقال : هذا أوّل يوم من السبع الشداد. (تُحْصِنُونَ) ؛ أي : إلّا شيئا قليلا ممّا تحرزون. (٣)

[٤٩] (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ)

(يُغاثُ النَّاسُ) ؛ أي : يأتي من بعد هذه السنين الشداد عام فيه يمطر الناس. من الغيث. [وقيل : من الغوث والغياث.] أي : ينجون وينقذون من القحط. (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) الثمار

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٣٦٤ و ٣٦٧.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٣٦٤ ـ ٣٦٥ و ٣٦١ و ٣٦٣.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٣٦٥.

٥١٨

التي تعصر في الخصب كالعنب والزيت والسمسم. وقيل : معناه : ينجون من الجدب. من الاعتصار بمعنى الالتجاء. وهذا القول من يوسف إخبار بما لم يسألوه عنه ولم يكن في رؤيا الملك ، بل هو ممّا أطلعه الله عليه من علم الغيب ليكون من آيات نبوّته. وقال البلخيّ : وهذا التأويل من يوسف يدلّ على بطلان قول من يقول : إنّ الرؤيا على ما عبّرت أوّلا. لأنّهم كانوا قالوا : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) ، فلو كان ما قالوه صحيحا ، لكان يوسف لا يتأوّلها. (١)

لا يخفى ما فيه. لأنّهم لم يعبروها حتّى يعرض يوسف عن تعبيرها. (ع)

«يعصرون» قرأ جعفر بن محمّد عليهما‌السلام بياء مضمومة وصاد مفتوحة. (٢)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قرأ رجل على أمير المؤمنين عليه‌السلام : (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ). فقال : ويحك! أيّ شيء يعصرون؟ الخمر؟ قال الرجل : يا أمير المؤمنين ، كيف أقرؤها؟ فقال : إنّما أنزلت : (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) ؛ أي : يمطرون بعد سنين المجاعة. كما قال : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً)(٣). (٤)

(يَعْصِرُونَ). حمزة والكسائيّ بالتاء ، على تغليب المستفتي. (٥)

[٥٠] (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ)

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ). لمّا رجع رسول الملك بجواب تعبير الرؤيا ، طلبه الملك. فأبى يوسف أن يخرج مع الرسول حتّى يتبيّن براءته ممّا قذف به ، فقال للرسول : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) ؛ أي : سيّدك ـ وهو الملك ـ فاسأله ما حال النسوة. سأل الملك أن يتعرّف حال النسوة اللّاتي قطّعن أيديهنّ ليعلم صحّة براءته. ولم يفرد زليخا بالذكر ، رعاية أدب منه ، لكونها زوجة الملك أو خليفته ، فخلطها بالنسوة. وقيل : أرادهنّ دونها ، لأنّهنّ الشاهدات له عليها ، و

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٣٦٥.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٣٦١.

(٣) النبأ (٧٨) / ١٤.

(٤) تفسير القمّيّ ١ / ٣٤٦.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٦.

٥١٩

لأنّهنّ ادّعين عليه نحو ما ادّعته زليخا. قال ابن عبّاس : لو خرج قبل أن يعلم الملك بشأنه ، ما زالت في نفس العزيز منه حالة يقول : هذا الذي راود امرأتي. وقيل : أشفق يوسف من أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره متّهم بفاحشة فأحبّ أن يراه بعد أن يزول عن قلبه ما كان فيه. وروي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : عجبت من يوسف وصبره وكرمه حين أتاه الرسول فقال : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ). ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث ، لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب وما ابتغيت العذر. إنّه كان لحليما ذا أناة. (بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ) ، قادر على إظهار براءتي. وقيل : إنّ سيّدي الذي هو العزيز لعليم بكيدهنّ. استشهده فيما علم من حاله. عن أبي مسلم. والأوّل هو الوجه. (١)

(فَسْئَلْهُ). فيه دليل على أنّه ينبغي أن يجتهد في نفي التهم ويتّقى مواقعها. (٢)

(النِّسْوَةِ). عاصم بضمّ النون. وكسرها الباقون. وهما لغتان. (٣)

(بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ). يجوز أن يكون أراد الوعيد لهنّ. أي : إنّ ربّي يعلم كيدهنّ ويجازيهنّ. (٤)

[٥١] (قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)

(حاشَ لِلَّهِ). تنزيه له وتعجّب من قدرته على خلق عفيف مثله. (٥)

(ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ)؟ هل وجدتنّ منه ميلا إليكنّ؟ (٦)

(ما خَطْبُكُنَّ). أي طلب الملك النسوة وقال : ما شأنكنّ إذ دعوتنّه إلى أنفسكنّ؟

(حاشَ لِلَّهِ). تنزيه له عن ذلك الأمر. (مِنْ سُوءٍ) ؛ أي : من خيانة ، وما فعل شيئا ممّا

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٣٦٧.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٧.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٣٦٦.

(٤) الكشّاف ٢ / ٤٧٨.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨٧.

(٦) الكشّاف ٢ / ٤٧٨.

٥٢٠