عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-27-2
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٥٣

[٣٦] (وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ)

(لَنْ يُؤْمِنَ). أقنطه الله سبحانه من إيمانهم ونهاه أن يغتمّ بما فعلوه من التكذيب والإيذاء. (١)

(لَنْ يُؤْمِنَ). لمّا أعلم الله نوحا أنّ أحدا منهم لا يؤمن ، دعا عليهم نوح فقال : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً* إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً)(٢). (٣)

[٣٧] (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)

(بِأَعْيُنِنا). في موضع الحال. أي : اصنعها محفوظا. حقيقته : متلبّسا بأعيننا. كأنّ لله معه أعينا تكلؤه أن يزيغ في صنعته عن الصواب وأن لا يحول بينه وبين عمله أحد من أعدائه. (وَوَحْيِنا) : وانّا نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع. عن ابن عبّاس : لم يعلم كيف صنعة الفلك ، فأوحى الله إليه [أن يصنعه] مثل جؤجؤ الطائر. (وَلا تُخاطِبْنِي) ؛ أي : لا تدعني في شأن قومك واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك. إنّهم محكوم عليهم بالإغراق ، قد وجب ذلك وقضي به القضاء وجفّ القلم فلا سبيل إلى كفّه. (٤)

[٣٨] (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ)

(وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : بقي نوح عليه‌السلام في قومه ثلاثمائة سنة يدعوهم إلى الله فلم يجيبوه. فهمّ أن يدعو عليهم ، فوافاه اثنا عشر ألف قبيل من قبائل ملائكة السماء الدنيا فقالوا : نسألك يا نوح [أن] لا تدعو على قومك. فأجّلهم ثلاثمائة سنة. فلمّا أتى عليهم

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٥٦.

(٢) نوح (٧١) / ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٢٤٠.

(٤) الكشّاف ٢ / ٣٩٢.

٤٤١

ستّمائة سنة ولم يؤمنوا ، همّ أن يدعو عليهم ، فوافاه اثنا عشر ألف قبيل من قبائل ملائكة السماء الثانية فقالوا : لا تدع على قومك. فأجّلهم ثلاثمائة سنة. فلمّا أتى عليهم تسعمائة سنة ولم يؤمنوا ، همّ أن يدعو عليهم. فأنزل الله : (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ). فقال نوح : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ) ـ الآية. فأمره الله أن يغرس النخل. فأقبل يغرسها. فكان قومه يمرّون به فيسخرون منه ويقولون : شيخ قد أتى له تسعمائة سنة يغرس النخل! فكانوا يرمونه بالحجارة. فلمّا أتى لذلك خمسون سنة وبلغ النخل ، أمر بقطعه. فأمره الله أن يتّخذ السفينة. فعلّمه جبرئيل كيف يصنعها. فقدّر طولها في الأرض ألفا ومائتي ذراع وعرضها ثمانمائة ذراع وطولها في السماء ثمانون ذراعا. فقال : يا ربّ من يعينني على اتّخاذها؟ فقال الله : ناد في قومك من نجر منها شيئا ، صار ما ينجره ذهبا وفضّة. فأعانوه وكانوا يسخرون منه. (١)

(وَيَصْنَعُ). حكاية حال ماضية. (سَخِرُوا مِنْهُ) لعمله السفينة. فإنّه كان يعملها في برّيّة بعيدة من الماء أوان عزّته فكانوا يضحكون منه ويقولون له : صرت نجّارا بعد ما كنت نبيّا! (فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) إذا أخذكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة (كَما تَسْخَرُونَ). [و] قيل : المراد من السخريّة هنا الاستجهال. (٢)

[٣٩] (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ)

(عَذابٌ يُخْزِيهِ) : الغرق (وَيَحِلُّ عَلَيْهِ) حلول الدين الذي لا انفكاك عنه. (مُقِيمٌ) ؛ أي : دائم. وهو عذاب النار. (٣)

[٤٠] (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ)

(حَتَّى إِذا جاءَ). غاية لقوله : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) أو للابتداء. (وَفارَ التَّنُّورُ) : نبع الماء و

__________________

(١) تفسير القمّيّ ١ / ٣٢٥ ـ ٣٢٦.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٥٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٥٦.

٤٤٢

ارتفع. (مِنْ كُلٍّ). حفص بالتنوين. أي : من كلّ نوع من الحيوانات المنتفع بها. (زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى. وعلى قراءة الإضافة معناه : احمل اثنين من كلّ زوجين ؛ أي من كلّ صنف ذكر وصنف أنثى. (وَأَهْلَكَ). عطف على زوجين. (عَلَيْهِ الْقَوْلُ) بأنّه من المغرقين. يريد ابنه كنعان وأمّه واعلة. فإنّهما كانا كافرين. (وَمَنْ آمَنَ) من غير أهلك. (١)

(وَفارَ التَّنُّورُ) ؛ أي : طلع الصبح فظهرت أمارات دخول النهار وتقضّي اللّيل. من قولهم : نوّر الصبح تنويرا. روي ذلك عن عليّ عليه‌السلام. وعن أبي جعفر عليه‌السلام : مسجد كوفان روضة من رياض الجنّة. فيه فار التنّور ونجرت السفينة. وهو سرّة بابل ومجمع الأنبياء. (٢)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : كان التنّور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة المسجد. فقيل له : فإنّ ذلك موضع زاوية باب الفيل اليوم. ثمّ قيل له : وكان بدو خروج الماء من ذلك التنّور؟ فقال : نعم. (٣)

(قُلْنَا احْمِلْ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : حمل نوح في السفينة الأزواج الثمانية التي قال الله تعالى : (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ) (وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ). (٤) فكان من الضأن اثنين ؛ زوج داجنة يربّيها الناس ، والزوج الآخر الضأن التي في الجبال الوحشيّة أحلّ لهم صيدها. ومن المعز اثنين ؛ زوج داجنة يربّيها الناس ، والزوج الآخر الظباء التي تكون في المفاوز. ومن الإبل اثنين ؛ البخاتيّ والعراب. ومن البقر اثنين ؛ زوج داجنة للناس ، والزوج الآخر البقر الوحشيّة. وكلّ طير طيّب وحشيّ وإنسيّ ثمّ غرقت الأرض. (٥)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ينبغي لولد الزنى أن لا تجوز شهادته ولا يؤمّ الناس. ولم يحمله نوح في السفينة وقد حمل فيها الكلب والخنزير. (٦)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٥٦.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٢٤٧.

(٣) الكافي ٨ / ٢٨١.

(٤) الأنعام (٦) / ١٤٣ ـ ١٤٤.

(٥) الكافي ٨ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ، ح ٤٢٧.

(٦) تفسير العيّاشيّ ٢ / ١٤٨ ، ح ٢٨.

٤٤٣

(إِلَّا قَلِيلٌ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : كان الذين آمنوا ثمانين رجلا. (١)

عن أبي جعفر عليه‌السلام : كانوا ثمانمائة. (٢)

[٤١] (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

(بِسْمِ اللهِ مَجْراها). متّصل باركبوا ، حال من الواو. أي : اركبوا فيها مسمّين الله أو قائلين : بسم الله ، وقت إجرائها وإرسائها ـ أي إقامتها ـ أو مكانهما. حمزة والكسائيّ وعاصم : (مَجْراها) بالفتح. (٣)

[٤٢] (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ)

(وَهِيَ تَجْرِي) ؛ أي : فركبوا مسمّين وهي تجري. (ابْنَهُ). اسمه كنعان. (ارْكَبْ مَعَنا). أدغم الباء في الميم أبو عمرو وحفص لتقاربهما. (٤)

(نُوحٌ ابْنَهُ). عن أبي جعفر عليه‌السلام. ليس بابنه. إنّما هو ابن امرأته. وهو لغة طيّ يقولون لابن امرأته ابنه. (٥)

(يا بُنَيَّ). عاصم بفتح الياء ، والباقون بالكسر. وقوله : (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) روي عن عليّ وأبي جعفر محمّد بن عليّ وجعفر بن محمّد عليهم‌السلام وعروة [بن] الزبير : (ابْنَهُ) بفتح الهاء. وهي قراءة عكرمة (ابْنَها) بالألف ، لكن حذف الهاء في القراءة الأولى لدلالة الفتحة عليها. أي : ابن زوجته. (٦)

[٤٣] (قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)

__________________

(١) تفسير القمّيّ ١ / ٣٢٦.

(٢) معاني الأخبار / ١٥١. وفيه : كانوا ثمانية.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٥٧.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٥٧.

(٥) تفسير العيّاشيّ ٢ / ١٤٨ ، ح ٣١.

(٦) مجمع البيان ٥ / ٢٤٣.

٤٤٤

(إِلى جَبَلٍ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إنّ النجف كان جبلا. وهو الذي قال ابن نوح : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ). ولم يكن على وجه الأرض جبل أعظم منه. فأوحى الله إليه : يا جبل ، أيعتصم بك منّي؟ فتقطّع قطعا إلى بلاد الشام وصار رملا دقيقا وصار بعد ذلك بحرا عظيما. وكان يسمّى ذلك البحر بحرني ، ثمّ جفّ بعد ذلك فقيل : ني جفّ ، [فسمّي بنيجف]. ثمّ صار الناس بعد ذلك يسمّونه نجف ، لأنّه كان أخفّ على ألسنتهم. (١)

(إِلَّا مَنْ رَحِمَ) ؛ أي : إلّا الراحم وهو الله. أو : إلّا مكان من رحمهم‌الله وهم المؤمنون. ردّ بذلك أن يكون اليوم معتصم من جبل ونحوه يعصم اللّائذ به إلّا معتصم المؤمنين وهو السفينة. وقيل : (لا عاصِمَ) بمعنى : لا ذا عصمة. كقوله : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ). (٢) وقيل : الاستثناء منقطع. أي : لكن من رحمه يعصمه. (وَحالَ بَيْنَهُمَا) ؛ أي : نوح وابنه ، أو ابنه والجبل. (٣)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ الماء علا حتّى مسحت السفينة السماء. (٤)

[٤٤] (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

(وَقِيلَ يا أَرْضُ) ـ الآية. بيّن سبحانه الحال بعد انتهاء الطوفان. فقال الله للأرض : (ابْلَعِي ماءَكِ) ؛ أي : انشفّي الماء الذي نبعت به العيون واشربيه. وهذا إخبار عن ذهاب الماء عن وجه الأرض [بأوجز مدّة] فجرى مجرى أن قيل لها : ابلعي ، فبلعت. (أَقْلِعِي) ؛ أي : أمسكي عن المطر. (وَغِيضَ الْماءُ) ؛ أي : ذهب به عن وجه الأرض إلى باطنه. والأرض ابتلعت ماءها ولم تبلع ماء السماء ؛ لقوله : (ابْلَعِي ماءَكِ) وإنّ ماء السماء صار بحارا وأنهارا. وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام. وفي هذه الآية من بدائع الفصاحة وعجائب البلاغة ما لا يقدر

__________________

(١) علل الشرائع / ٣١ ، ح ١.

(٢) القارعة (١٠١) / ٧.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٥٧ ـ ٤٥٨.

(٤) تفسير القمّيّ ١ / ٣٢٨.

٤٤٥

به كلام البشر ولا يدانيه. ويروى : انّ كفّار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن ، فعكفوا على لباب البرّ ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصفو أذهانهم. فلمّا أخذوا فيما أرادوا ، سمعوا هذه الآية ، فقال بعضهم لبعض : هذا كلام لا يشبه كلام المخلوقين. وتركوا ما أخذوا فيه وافترقوا. (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) ؛ أي : وقع هلاك الكفّار وفرغ من الأمر. وقيل : الأمر نجاة نوح ومن معه. (وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) ؛ أي : استقرّت السفينة على الجبل المعروف بالجوديّ ؛ وهو جبل الموصل. وروي عن موسى بن جعفر عليهما‌السلام قال : كان نوح لبث في السفينة ما شاء الله. فأوحى الله إلى الجبال أنّي واضع سفينة نوح على جبل منكم. فتطاولت الجبال وشمخت ، وتواضع الجوديّ ـ وهو جبل بالموصل ـ فضرب جؤجؤة السفينة الجبل. فقال نوح عند ذلك : يا مار (١) اتقن. وهو بالعربيّة : يا ربّ أصلح. (وَقِيلَ بُعْداً). أي قال الله ذلك. ومعناه : أبعد الله الظالمين من رحمته. وإنّما انتصب على المصدر وفيه معنى الدعاء. ويجوز أن يكون هذا من قول الملائكة أو قول نوح عليه‌السلام. (٢)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لمّا حسر الماء عن عظام الموتى فرأى ذلك نوح ، جزع جزعا شديدا واغتمّ لذلك. فأوحى الله عزوجل إليه : هذا عملك بنفسك. فأوحى الله إليه أن كل العنب الأسود ليذهب غمّك. (٣)

[٤٥] (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ)

(وَنادى نُوحٌ). نداء تعظيم ودعاء. (إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ). وعدتني أن تنجي أهلى. (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) في القول والفعل. (٤)

(وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) : أعلمهم وأعدلهم. (٥)

__________________

(١) المصدر : يا ماريا.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠.

(٣) الكافي ٦ / ٣٥٠.

(٤) مجمع البيان ٥ / ٢٥٣.

(٥) الكشّاف ٢ / ٣٩٨.

٤٤٦

[٤٦] (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ)

(إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ). فيه أقوال. أحدها : انّه كان ابنه لصلبه. أي : ليس من أهلك الذين وعدتك نجاتهم ، لأنّ الله قد استثنى من أهله الذين وعده أن ينجيهم من أراد إهلاكهم بالغرق فقال : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ). عن ابن عبّاس وجماعة. وثانيها : انّ المراد بقوله : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) : إنّه ليس على دينك. فكأنّ كفره أخرجه عن أن يكون له أحكام أهله. وقد روي هذا عن الرضا عليه‌السلام. (١) وثالثها : انّه لم يكن ابنه على الحقيقة وإنّما ولد على فراشه ، فقال إنّه ابني ، على الظاهر ، فأعلمه الله أنّ الأمر بخلاف الظاهر ونبّهه على خيانة امرأته. عن الحسن ومجاهد. وهذا الوجه بعيد. لأنّ الأنبياء يجب أن ينزّهوا عن مثل هذه الحالة المنفرة. وروي عن ابن عبّاس أنّه قال : ما زنت امرأة نبيّ قطّ. وكانت الخيانة من امرأة نوح أنّها كانت تنسبه إلى الجنون ، والخيانة من امرأة لوط أنّها [كانت] تدلّ على أضيافه. ورابعها : انّه كان ابن امرأته وكان ربيبه ويعضده قراءة من قرأ «ابنه» بفتح الهاء أو : (ابْنَها). والمعتمد المعوّل عليه في تأويل الآية القولان الأوّلان. (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ). قال المرتضى رحمه‌الله : تقديره : ذو عمل غير صالح. قرأ الكسائيّ ويعقوب : «عمل» بالفعل ونصب (غَيْرُ). (تَسْئَلْنِ). ابن كثير مشدّدة النون مكسورة بغير ياء. وأبو عمرو خفيفة النون مثبتة الياء. (أَعِظُكَ) ؛ أي : أحذّرك. (أَنْ تَكُونَ) : لئلّا تكون. (٢)

فإن قلت : قد وعده أن ينجي أهله وما كان عنده أنّ ابنه ليس منهم دينا. فلمّا أشفى على الغرق ، تشابه عليه الأمر. لأنّ العدة قد سبقت له وقد عرف الله حكيما لا يجوز [عليه] خلف الميعاد. فطلب إماطة الشبهة. وطلب إماطة الشبهة واجب. فلم زجر وسمّي سؤاله جهلا؟ قلت : إنّ الله عزوجل قدّم الوعد بإنجاء أهله مع استثناء من سبق عليه القول منهم. فكان عليه أن يعتقد أنّه في جملة [أهله] من هو مستوجب للعذاب لكونه غير صالح وأنّ

__________________

(١) بحار الأنوار ١١ / ٣٠٥.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤ و ٢٥١.

٤٤٧

كلّهم ليسوا بناجين وأن لا تخالجه شبهة حين شارف ولده الغرق في أنّه من المستثنين. فعوتب على أنّه اشتبه عليه ما يجب أن لا يشتبه. (١)

[٤٧] (قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ)

(أَعُوذُ بِكَ) ؛ أي : أعتصم بك. (٢)

(أَنْ أَسْئَلَكَ). من [أن] أطلب منك في المستقبل. (ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) : ما لا علم لي بصحّته. (وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي) ما فرط منّي من ذلك (وَتَرْحَمْنِي) بالتوبة [عليّ](أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) أعمالا. (٣)

[٤٨] (قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ)

(اهْبِطْ). حكى سبحانه ما أمر به نوحا حين استقرّت السفينة على الجبل بعد خراب الدنيا بالطوفان. (اهْبِطْ) ؛ أي : انزل من الجبل ومن السفينة. (بِسَلامٍ مِنَّا) ؛ أي : سلامة ونجاة منّا. (وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ) ؛ أي : خيرات نامية ثابتة حالا بعد حال عليك وعلى من معك من المؤمنين. وقيل : المراد من الأمم سائر الحيوان الذين كانوا معه. لأنّ الله جعل فيها البركة. (وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ) ـ الآية ؛ أي : يكون من نسلهم أمم سنمتّعهم في الدنيا بضروب من النعم فيكفرون فنهلكهم ثمّ يمسّهم بعد الهلاك عذاب أليم. (٤)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لمّا هبط نوح عليه‌السلام من السفينة ، أتاه إبليس فقال : ما في الأرض رجل أعظم منّة عليّ منك. دعوت على هؤلاء الفسّاق فأرحتني منهم. ألا أعلّمك خصلتين؟ إيّاك والحسد. فإنّه الذي عمل بي ما عمل. وإيّاك والحرص. فهو الذي عمل بآدم ما

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٤٠٠.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٢٥٤.

(٣) الكشّاف ٢ / ٤٠٤.

(٤) مجمع البيان ٥ / ٢٥٥.

٤٤٨

عمل. (١)

[٤٩] (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)

(تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) ؛ أي : تلك الأنباء من أخبار ما غاب عنك. (٢)

(مِنْ قَبْلِ هذا) ؛ أي : من قبل إخبارك بها. (فَاصْبِرْ) على تبليغ الرسالة وعلى أذى قومك ، كما صبر نوح. (٣)

(الْعاقِبَةَ) في الدنيا والآخرة. (ع)

[٥٠] (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ)

(أَخاهُمْ) ؛ أي : واحدا منهم. وانتصابه للعطف على (أَرْسَلْنا نُوحاً) و (هُوداً) عطف بيان. و (غَيْرُهُ) بالرفع صفة على محلّ الجارّ والمجرور. (إِلَّا مُفْتَرُونَ) تفترون على الله الكذب باتّخاذكم الأوثان له شركاء. (٤)

[٥١] (يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ)

(لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً). ما من رسول إلّا واجه قومه بهذا القول. لأنّ النصيحة لا يمحضها إلّا حسم المطامع. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) إذ تردّون نصيحة من لا يطلب عليها أجرا إلّا من الله ـ وهو ثواب الآخرة ـ ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك؟ (٥)

[٥٢] (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ

__________________

(١) الخصال / ٥٠ ـ ٥١ ، ح ٦١.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٢٥٥.

(٣) الكشّاف ٢ / ٤٠١.

(٤) الكشّاف ٢ / ٤٠٢.

(٥) الكشّاف ٢ / ٤٠٢.

٤٤٩

قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ)

(وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) : آمنوا به. (ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) من عبادة غيره. (مِدْراراً) ؛ أي : كثيرة الدرور. وإنّما قصد استمالتهم إلى الإيمان بكثرة المطر وزيادة القوّة ، لأنّ القوم كانوا أصحاب زروع وبساتين وعمارات وكانوا أحوج شيء إلى الماء وكانوا مدلّين بما أوتوا من شدّة القوّة والبطش مستحرزين بها من العدوّ مهيبين في كلّ ناحية. وقيل : القوّة في المال. وقيل : في النكاح. وقيل حبس عنهم القطر ثلاث سنين وعقمت أرحام نسائهم. وعن الحسن بن عليّ عليهما‌السلام أنّه وفد على معاوية ، لمّا خرج سأله بعض حجّابه فقال : إنّي رجل ذو مال ولا يولد لي. فقال عليه‌السلام : عليك بالاستغفار. فكان يكثره ، فولد له عشرة بنين. فقال له معاوية : هلّا سألته ممّ قال ذلك؟ فوفد مرّة أخرى ، فسأله الرجل ، فقال : ألم تسمع قول هود : (وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ) وقول نوح : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ)؟ (١)(وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ) ؛ أي لا تعرضوا عمّا أدعوكم إليه مصرّين على إجرامكم. (٢)

[٥٣] (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ)

(ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ). كذب وجحود لما أتى به من البيّنات. (ع)

(عَنْ قَوْلِكَ) ؛ أي : لأجل قولك. (٣)

(عَنْ قَوْلِكَ). حال من الضمير. أي : صادرين عن قولك. (٤)

[٥٤ ـ ٥٥] (إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٥٤) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ)

(اعْتَراكَ). مفعول (نَقُولُ) ، وإلّا لغو. أي : ما نقول إلّا قولنا : اعتراك بعض آلهتنا ؛ أي :

__________________

(١) نوح (٧١) / ١٢.

(٢) الكشّاف ٢ / ٤٠٢.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٢٥٨.

(٤) الكشّاف ٢ / ٤٠٣.

٤٥٠

خبلك ومسّك بجنون لسبّك إيّاها وعداوتك لها ، مكافاة لك منها على سوء فعلك فمن ثمّ تتكلّم بكلام المجانين. فسمّوا التوبة والاستغفار جنونا. وهذا يدلّ على جهل مفرط حيث اعتقدوا في حجارة أنّها تنتصر وتنتقم ولعلّهم يجيزون عليها الثواب أيضا! (أُشْهِدُ اللهَ). من أعظم الآيات أن يواجه رجل واحد بهذا الكلام أمّة عطاشا إلى إراقة دمه. وذلك لثقته بعصمة ربّه. وقد أكّد براءته من آلهتهم وشركهم بما جرت به عادة الناس من توثيقهم الأمور بشهادة الله وشهادة العباد. فإن قلت : هلّا قيل : أشهد الله وأشهدكم؟ قلت : لأنّ إشهاد الله على البراءة من الشرك إشهاد صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد ، وأمّا إشهادهم فما هو إلّا تهاون بدينهم [و] دلالة على قلّة المبالاة بهم. فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما وجيء به على لفظ الأمر حملا على المتعارف ؛ كما يقول الرجل لعدوّه : اشهد على أنّي لا أحبّك ، استهانة به. (مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ) ؛ أي : من جعلكم له شركاء من دونه. [أو : ممّا تشركونه من آلهة من دونه.] أي لم يجعلها هو شركاء ولم ينزل بذلك سلطانا. (فَكِيدُونِي جَمِيعاً) أنتم وآلهتكم. فإنّي لا أبالي بكم وأنتم الأقوياء ، فكيف تضرّني آلهتكم وما هي إلّا جماد؟ وكيف تنتقم منّي إذا نلت منها بأن تذهب بعقلي؟ (١)

(لا تُنْظِرُونِ) ؛ أي : اعجلوا ولا تمهلوني. (ع)

[٥٦] (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

(آخِذٌ بِناصِيَتِها). كناية عن القهر والقدرة. لأنّ من أخذ بناصية غيره ، فقد قهره. (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ؛ أي : مع كونه قاهرا على عدل فيما يعامل به عباده. (٢)

(عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) لا يفوته ظالم ولا يضيع عنده معتصم به. (٣)

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٤٠٣ ـ ٤٠٤.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٢٥٩.

(٣) الكشّاف ٢ / ٤٠٤.

٤٥١

[٥٧] (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) حكاية عمّا قاله لقومه. والمعنى : فإن تتولّوا. (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ) ؛ أي : ليس التقصير منّي في إبلاغكم وإنّما هو بسوء اختياركم. (وَيَسْتَخْلِفُ) ؛ أي : يجعلهم بدلا منكم. (حَفِيظٌ) يحفظه من الهلاك إن شاء ويهلكه إن شاء. أو إنّه يحفظني منكم ومن أذاكم. أو إنّه حفيظ على أعمال العباد يجازيهم عليها. (١)

(يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ) يخلفونكم في دياركم وأموالكم. (٢)

[٥٨] (وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ)

(أَمْرُنا) بهلاك عاد. (آمَنُوا مَعَهُ). كانوا أربعة آلاف. (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) ؛ أي : بما أريناهم من الهدى والبيان. أو : أنجيناهم برحمتنا. (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) ؛ أي : كما نجّيناهم من عذاب الدنيا ، نجّيناهم من عذاب الآخرة. والغليظ : الثقيل العظيم. ويحتمل أن يكون صفة للعذاب الذي عذّب به قوم هود. (٣)

(وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ). فإن قلت : ما معنى تكرير التنجية؟ قلت : ذكر أوّلا [أنّه] حين أهلك عدوّهم نجّاهم ، ثمّ قال : (وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ) على معنى : وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ. وذلك أنّ الله بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم تقطّعهم عضوا عضوا. (٤)

إنّ عادا كانت بلادهم في البادية من المشرق (٥) إلى الأجفر أربعة منازل. وكان لهم زرع ونخيل ، ولهم أجسام طويلة. فعبدوا الأصنام. وبعث الله إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام.

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٢٥٩.

(٢) الكشّاف ٢ / ٤٠٤.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٤) الكشّاف ٢ / ٤٠٥.

(٥) المصدر : الشقيق». والشقيق والأجفر منزلان بطريق مكّة.

٤٥٢

فأبوا فآذوه. فكفّت السماء عنهم سبع سنين حتّى قحطوا. وكان هود زرّاعا. وكان يسقي الزرع ، فجاء قوم إلى بابه يريدونه. فخرجت إليهم امرأة شمطاء عوراء. فقالوا : نحن من بلاد كذا. أجدبت بلادنا ، فجئنا إلى هود نسأله أن يدعو الله حتّى يمطرنا. فقالت : لو استجيب لهود ، لدعا لنفسه! قد احترق زرعه لقلّة الماء. قالوا : أين هو؟ قالت : في موضع كذا. فجاؤوا إليه ، فصلّى فدعا لهم فقال : ارجعوا ، فقد أمطرتم. فقالوا : يا نبيّ الله ، إنّا رأينا عجبا. وحكوا له عن المرأة الشمطاء العوراء. فقال هود : هو ذاك أهلي. وأنا أدعو الله بطول بقائها. فقالوا : وكيف ذلك؟ قال : إنّه ما خلق الله مؤمنا إلّا وله عدوّ يؤذيه. وهي عدوّتي. فلئن يكون عدوّي ممّن أملكه خير من أن يكون عدوّي ممّن يملكني. فبقي هود في قومه يدعوهم إلى الله وينهاهم عن عبادة الأصنام حتّى تخصب بلادهم فأنزل الله عليهم المطر. فلمّا لم يؤمنوا ، أرسل عليهم الريح الصرصر ؛ يعني : الباردة. (١)

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : الريح العقيم تخرج من تحت الأرضين السبع. وما خرج منها شيء قطّ إلّا على قوم عاد حين غضب الله عليهم فأمر الخزّان أن يخرجوا منها مثل سعة الخاتم ، فعصت على الخزنة فخرج منها مثل منخر الثور تغيّظا منها على قوم عاد. فضجّ الخزنة إلى الله من ذلك فقالوا : يا ربّنا ، إنّها قد عصت علينا. ونحن نخاف أن يهلك من لم يعصك من خلقك وعمّار بلادك. فبعث الله جبرئيل عليه‌السلام فردّها بجناحه وقال لها : اخرجي على ما أمرتي به. فأهلكت قوم عاد ومن كان بحضرتهم. (٢)

[٥٩] (وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)

(وَتِلْكَ عادٌ). إشارة إلى قبورهم وآثارهم. كأنّه قيل : سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا. ثمّ استأنف أحوالهم فقال : (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ). (٣)

(وَتِلْكَ) : أي : هذه القبيلة (جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) ؛ أي : بمعجزات هود. (رُسُلَهُ). إنّما

__________________

(١) تفسير القمّيّ ١ / ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

(٢) تفسير القمّيّ ١ / ٣٣٠.

(٣) الكشّاف ٢ / ٤٠٥.

٤٥٣

جمع الرسل لأنّ من كذّب رسولا واحدا ، فقد كذّب جميع الرسل ، ولأنّ هودا كان يدعوهم إلى الإيمان به وبمن تقدّمه من الرسل وبما أنزل عليهم من الكتب وكذّبوا بهم جميعا فلذلك عصوهم. (وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ) ؛ أي : اتّبع السفلة والسقّاط الرؤساء. (١)

[٦٠] (وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ)

(وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) ؛ أي : أتبع عاد بعد إهلاكهم في الدنيا بالإبعاد عن الرحمة. فإنّ الله أبعدهم عن رحمته وتعبّد المؤمنين بالدعاء عليهم باللّعن. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ) ؛ أي : في يوم القيامة يبعدون عن رحمة الله كما بعدوا في الدنيا منها ويلعنون بأن يدخلوا النار. (رَبَّهُمْ) ؛ أي : بربّهم. فحذف الباء. (أَلا بُعْداً لِعادٍ) ؛ أي : أبعدهم الله من رحمته فبعدوا بعدا. (٢)

(قَوْمِ هُودٍ). عطف بيان لعاد. وفائدته أن يوسموا بهذه الدعوة وسما وتجعل فيهم أمرا محقّقا لا شبهة فيه ؛ ولأنّ عادا عادان ؛ الأولى القديمة التي هي قوم هود ـ والقصّة فيهم ـ والأخرى إرم. (٣)

[٦١] (وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ)

(وَإِلى ثَمُودَ). كان ثمود بوادي القرى بين المدينة والشام. وكان عاد باليمن. (هُوَ أَنْشَأَكُمْ) : ابتدأ خلقكم (مِنَ الْأَرْضِ). لأنّه خلق آدم من الأرض ومرجع نسلكم إليه. (وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها). كانت أعمارهم ألف سنة إلى ثلاثمائة سنة. (٤)

(وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) ؛ أي : عمركم فيها واستبقاكم. من العمر. أو : أقدركم على عمارتها وأمركم بها. وقيل : هو من العمرى ، بمعنى : أعمركم فيها دياركم ويرثها منكم بعد انصرام

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٢٦٠.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٢٦٠.

(٣) الكشّاف ٢ / ٤٠٦.

(٤) مجمع البيان ٥ / ٢٦٤.

٤٥٤

أعماركم. أو : جعلكم معمرين دياركم تسكنونها مدّة عمركم ثمّ تتركونها لغيركم. كان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار وعمّروا الأعمار الطوال ، مع ما كان فيهم من عسف الرعايا. فسأل نبيّ من أنبياء زمانهم ربّه عن سبب تعميرهم ، فأوحى الله إليه أنّهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي. (١)

(إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ) : [قريب] الرحمة (مُجِيبٌ) لمن دعاه. (٢)

[٦٢] (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ)

(مَرْجُوًّا) ، لما نرى فيك من مخايل الرشد والسداد ، أن تكون لنا سيّدا ومستشارا في الأمور وأن توافقنا في الدين. فلمّا سمعنا هذا القول منك ، انقطع رجاؤنا عنك. (مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ) من التوحيد والتبرّي عن الأوثان. (مُرِيبٍ) : موقع في الريبة. من أرابه. أو : ذي ريبة على الإسناد المجازيّ. من أراب في الأمر. (٣)

[٦٣] (قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ)

(إِنْ كُنْتُ). أتى بحرف الشكّ باعتبار المخاطبين. (عَلى بَيِّنَةٍ) ؛ أي : بيان وبصيرة. (رَحْمَةً) : النبوّة. (يَنْصُرُنِي) : يمنعني من عذابه. (إِنْ عَصَيْتُهُ) في تبليغ الرسالة والمنع عن الإشراك به.

(فَما تَزِيدُونَنِي) إذا باستتباعكم إيّاي (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) : غير أن تخسروني بإبطال ما منحني الله به والتعريض لعذابه. أو : فما تزيدونني بما تقولون غير أن أنسبكم إلى الخسران. (٤)

[٦٤] (وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ)

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٤٠٧.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٦١.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٦١.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٦١.

٤٥٥

(آيَةً). انتصب على الحال وعاملها معنى الإشارة. و (لَكُمْ) حال منها تقدّمت عليها لتنكّرها. (عَذابٌ قَرِيبٌ) : عاجل لا يتراخى عن مسّكم لها بالسوء إلّا يسيرا وهو ثلاثة أيّام. (١)

(هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) ؛ أي : إن شككتم في نبوّتي ، فهذه الناقة معجزة لي. (٢)

[٦٥] (فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ)

(فَعَقَرُوها). فعقرها بعضهم ورضي الآخرون. (٣)

(تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ) : عيشوا في منازلكم أو في داركم الدنيا (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ) : الأربعاء والخميس والجمعة ، ثمّ تهلكون. (مَكْذُوبٍ) ؛ أي : مكذوب فيه. فاتّسع فيه بإجرائه مجرى المفعول به. أو : غير مكذوب ، على المجاز. فكأنّ الواعد قال له : أفي بك ؛ فإن وفى به صدقه وإلّا كذبه. أو : وعد غير كذب ، على أنّه مصدر كالمجلود والمعقول. (٤)

[٦٦] (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ)

(وَمِنْ خِزْيِ) ؛ أي : ونجّيناهم من خزي يومئذ ، وهو هلاكهم بالصيحة أو ذلّهم وفضيحتهم يوم القيامة. وعن نافع : (يَوْمِئِذٍ) بالفتح ، على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه. (هُوَ الْقَوِيُّ) : القادر على كلّ شيء الغالب عليه. (٥)

(وَمِنْ خِزْيِ). معطوف على محذوف. أي : ونجّيناهم من العذاب ومن خزي. (٦)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال لهم صالح : إنّكم تصبحون غدا [ووجوهكم مصفرّة] ، واليوم الثاني وجوهكم محمرّة ، واليوم الثالث وجوهكم مسودّة. فلمّا أتاهم ما وعدهم ولم يؤمنوا ،

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٦١.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٢٦٥.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٢٦٥.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٦٢.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٦٢.

(٦) مجمع البيان ٥ / ٢٦٦.

٤٥٦

أتاهم جبرئيل فصرخ بهم صرخة خرقت تلك الصرخة أسماعهم وصدعت أكبادهم. وقد كانوا في تلك الثلاثة الأيّام قد تحنّطوا وتكفّنوا وعلموا أنّ العذاب نازل بهم. فماتوا أجمعين في طرفة عين. ثمّ أرسل عليهم مع الصيحة النار من السماء فأحرقهم أجمعين. (١)

[٦٧] (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ)

(فَأَصْبَحُوا) لأنّ العذاب أتاهم وقت الصباح. وقيل : أتتهم الصيحة ليلا فأصبحوا على هذه الصفة. (جاثِمِينَ) ؛ أي : ميّتين واقعين على وجوههم. (٢)

[٦٨] (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ)

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها) ؛ أي : كأن لم يكونوا في منازلهم لانقطاع آثارهم بالهلاك إلّا ما بقي من أجسادهم الدالّة على الخزي الذي نزل بهم. (ثَمُودَ). حمزة وحفص عن عاصم غير منوّن. والباقون بالتنوين. (لِثَمُودَ). الكسائيّ بالجرّ والتنوين. والباقون بفتح الدال. ووجه الصرف وعدمه أنّ منهم من يجعله اسما للقبيلة ومنهم من يجعله اسما للحيّ فمن ثمّ جاز فيه الصرف ومنعه. (٣)

(ثَمُودَ). من نوّنه ذهب إلى أنّه اسم للحيّ أو الأب الأكبر للقبيلة. (٤)

[٦٩] (وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ)

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا). كانوا أربعة : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وكرّوبيل عليهم‌السلام. عن أبي عبد الله عليه‌السلام. وكانوا على صورة الغلمان أتوا إبراهيم عليه‌السلام. (بِالْبُشْرى) ؛ أي : بالبشارة بإسحاق ونبوّته وأنّه يولد له يعقوب عليه‌السلام. وعن أبي جعفر عليه‌السلام أنّ هذه البشارة كانت

__________________

(١) الكافي ٨ / ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٢٦٦.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٢٦٦ و ٢٦١ و ٢٦٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٦٢.

٤٥٧

بإسماعيل من هاجر. وقيل : البشارة بهلاك قوم لوط. (قالُوا سَلاماً). أي سلّمت الملائكة سلاما ، بمعنى الدعاء له. وقيل : معناه : أعطاك الله سلامة. (قالَ سَلامٌ). حمزة والكسائيّ : قال سلم بكسر السين وسكون اللّام ، إمّا بمعنى سلام أو يكون المراد به خلاف العدوّ. كأنّهم لمّا كفّوا عن تناول طعامه وأوجس الخيفة عنهم قال : أنا سلم ولست بحرب ، فلا تمتنعوا من تناول طعامي. (فَما لَبِثَ) : فلم يتوقّف حتّى جاءهم (بِعِجْلٍ حَنِيذٍ) ؛ أي : مشويّ. لأنّه توهّم أنّهم أضياف. وصار ذلك من السنّة أن يعجّل الطعام للضيفان. (١)

(سَلاماً) : سلّمنا عليك سلاما. أو نصب بقالوا لأنّه بمعنى ذكروا. (سَلامٌ) ؛ أي : جوابي سلام. (حَنِيذٍ) مشويّ يقطر منه السمن. (٢)

[٧٠] (فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ)

(فَلَمَّا رَأى) أيدي الملائكة لا تصل إلى العجل ، أنكرهم. (وَأَوْجَسَ) ؛ أي : أضمر منهم خوفا. لأنّهم كانوا شبّانا أقوياء وكان ينزل طرفا من البلد وكانوا يمتنعون من طعامه فلم يأمن أن يكون ذلك لبلاء. وذلك أنّ أهل ذلك الزمان إذا أكل بعضهم طعام بعض ، أمنه صاحب الطعام على نفسه وماله. وقيل : إنّه ظنّهم لصوصا. وقيل : ظنّ أنّهم ليسوا من البشر وأنّهم جاؤوا لأمر عظيم. وقيل : علم أنّهم ملائكة فخاف أن يكون قومه المقصودين بالعذاب حتّى قالوا له : (لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) بالعذاب لا إلى قومك. (٣)

[٧١] (وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ)

(وَامْرَأَتُهُ) سارة بنت هارون (٤) بنت عمّ إبراهيم (قائِمَةٌ) من وراء الستر تسمع الكلام. وقيل : بنت خالته. وقيل : كانت قائمة تخدم الرسل وإبراهيم جالس معهم. وقيل : كانت

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٢٧٢ و ٢٦٧ ـ ٢٦٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٦٢.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣.

(٤) المصدر : هاران.

٤٥٨

قائمة تصلّي. (فَضَحِكَتْ). قيل : هو الضحك المعروف ؛ ضحكت تعجّبا من غفلة قوم لوط مع قرب نزول العذاب بهم. وقيل : تعجّبا من امتناعهم عن الأكل وخدمتها بنفسها لهم وقالت : عجبا لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يناولون من طعامنا! وقيل : تعجّبا وسرورا من البشارة بإسحاق ، لأنّها كانت ابنة تسع وتسعون سنة وكان لزوجها مائة وعشرون سنة. وعلى هذا فيكون في الكلام تقديم وتأخير وتقديره : فبشّرناها بإسحاق ويعقوب فضحكت بعد البشارة. وروي ذلك عن الصادق عليه‌السلام. (١)

(فَضَحِكَتْ) بإصابة رأيها. فإنّها كانت تقول لإبراهيم : اضمم إليك لوطا. فإنّي أعلم أنّ العذاب ينزل بقومه. (يَعْقُوبَ). فتحته للجرّ لأنّه غير منصرف. وابن كثير ونافع : (يَعْقُوبَ) بالرفع. فهو مبتدأ خبره الظرف. أي : يعقوب مولود من بعده. (٢)

وفي المجمع والمعاني والعيّاشيّ عن الصادق عليه‌السلام : (فَضَحِكَتْ) : حاضت. (٣) والقمّيّ : «ضحكت» ؛ أي : حاضت ، وقد ارتفع حيضها منذ دهر طويل. (٤) (حسن)

[٧٢] (قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ)

(يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ). أي هذا شيء عجيب. وإنّما قالت ذلك لكونه خارجا عن العادة لا بالنظر إلى قدرة الله سبحانه. ولم ترد بقولها : (يا وَيْلَتى) الدعاء على نفسها بالويل ، ولكنّها كلمة تجري على أفواه النساء إذا طرأ عليهنّ ما يتعجّبن به. وقيل : إنّها لم تتعجّب من قدرة الله ولكنّها أرادت أن تعرف هل تتحوّل شابّة أم تلد على تلك الحال ، وكلّ ذلك عجيب. (٥)

(شَيْخاً). نصب على الحال. والعامل فيه معنى الإشارة. (٦)

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٢٧٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٦٢ ـ ٤٦٣ ، التيسير / ١٠٢.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٢٧٣ ، ومعاني الأخبار / ٢٢٤ ، ح ١ ، وتفسير العيّاشيّ ٢ / ١٥٢ ، ح ٤٥.

(٤) تفسير القمّيّ ١ / ٣٣٤.

(٥) مجمع البيان ٥ / ٢٧٤.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٦٣.

٤٥٩

عن الصادق عليه‌السلام : انّ الله أوحى إلى إبراهيم أنّه سيولد لك. فقال لسارة. فقالت : (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ)؟ فأوحى الله إليه أنّها ستلد ويعذّب أولادها أربعمائة سنة بردّها الكلام عليّ.

قال : فلمّا طال على بني إسرائيل العذاب ، ضجّوا وبكوا إلى الله أربعين صباحا. فأوحى الله إلى موسى وهارون فخلّصهم من فرعون ، فحطّ عنهم سبعين ومائة سنة. قال أبو عبد الله عليه‌السلام : هكذا أنتم لو فعلتم لفرّج الله عنّا. فأمّا إذا لم تكونوا ، فإنّ الأمر ينتهي إلى منتهاه. (١)

[٧٣] (قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ)

(قالُوا) ؛ أي : قالت لها الملائكة : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) بك وبزوجك؟ (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ) النامية (عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ). وهذا يحتمل أن يكون دعاء لهم بالرحمة والبركة من الملائكة ، ويحتمل أن يكون إخبارا عن ثبوت ذلك لهم وتذكيرا بنعمة الله وبركاته عليهم. (أَهْلَ الْبَيْتِ) ؛ أي : أهل بيت إبراهيم ، لأنّها كانت ابنة عمّه. فلا دلالة في الآية على أنّ زوجة الرجل من أهل بيته. (حَمِيدٌ) : محمود على أفعاله. أو الذي يحمد عباده على الطاعة. (مَجِيدٌ) ؛ أي : كريم. وهو المبتدئ بالعطيّة قبل الاستحقاق. (٢)

(أَهْلَ الْبَيْتِ). نصب على المدح. (٣)

[٧٤] (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ)

(الرَّوْعُ) ؛ أي : الخوف الذي دخله من الرسل. (يُجادِلُنا). وهي أنّه قال لهم : إن كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونهم؟ قالوا : لا. قال : فأربعون؟ قالوا : لا. فما زال ينقص ويقولون لا حتّى قال : فواحد؟ قالوا : لا. فقال : (إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ

__________________

(١) تفسير العيّاشيّ ٢ / ١٥٤ ، ح ٤٩.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٢٧٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٦٣.

٤٦٠