عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-27-2
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٥٣

الجسم ، وليس لي قائد. فهل لي رخصة في التخلّف عن الجهاد؟ فسكت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. فنزلت الآية. (١)

(الضُّعَفاءِ) : الهرمى والزمنى. (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ) : الفقراء. قيل : هم مزينة وجهينة وبنو عذرة. (إِذا نَصَحُوا) الإيمان بهما وطاعتهما في السرّ والعلن والحبّ والبغض فيهما.

(الْمُحْسِنِينَ) : المعذورين الناصحين ، لا طريق للعتاب عليهم. (٢)

[٩٢] (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ)

(وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ) ـ الآية. نزلت في سبعة نفر من قبائل شتّى أتوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالوا : احملنا على الخفاف والبغال. وكان الناس بتبوك مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ثلاثين ألفا منهم عشرة آلاف فارس. (حَزَناً) ؛ أي : لحزنهم على أن لم يجدوا ما ينفقونه في الطريق. (٣)

(قُلْتَ لا أَجِدُ). حال من الكاف في (أَتَوْكَ). وقد قبله مضمرة. أي : إذا ما أتوك قائلا لا أجد ، تولّوا وأعينهم تفيض. والبكّاؤون ستّة نفر من الأنصار. (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ). كقولك : تفيض دمعا. وهو أبلغ من تفيض دمعها. لأنّ العين جعلت كأنّ كلّها دمع فائض. ومن للبيان. ومحلّ الجارّ والمجرور النصب على التمييز. (٤)

(تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ). إنّما سأل هؤلاء البكّاؤون نعلا يلبسون. (٥)

(أَلَّا يَجِدُوا). متعلّق بحزنا أو بتفيض. (٦)

[٩٣] (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٩١.

(٢) الكشّاف ٢ / ٣٠١.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٩١ ـ ٩٢.

(٤) الكشّاف ٢ / ٣٠١.

(٥) تفسير القمّيّ ١ / ٢٩٣.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٤١٧.

٣٤١

(رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا). استئناف. كأنّه قيل : ما بالهم استأذنوا وهم أغنياء؟ فقيل : رضوا بالدناءة والضعة والانتظام في جملة الخوالف. (وَطَبَعَ اللهُ). يعني أنّ السبب في استئذانهم رضاهم بالدناءة وخذلان الله إيّاهم. (١)

[٩٤] (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

(يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ) ـ الآية. نزلت في جماعة من المنافقين كانوا ثمانين رجلا لمّا قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المدينة راجعا من تبوك ، قال : لا تجالسوهم ولا تكلّموهم. (سَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) ؛ أي : يرى الله في المستقبل هل تتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه. (تُرَدُّونَ). أي بعد الموت. (٢)

(لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) ؛ أي : لن نصدّقكم في الاعتذار. لأنّ الله أطلع نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله على سرائرهم وفساد نيّاتهم.

[٩٥] (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ)

(سَيَحْلِفُونَ) ؛ أي : يحلفون لكم أنّهم إنّما تأخّروا لعذر لأجل [أن] تصفحوا عن جرمهم ولا توبّخوهم. (فَأَعْرِضُوا) عنهم إعراض تكذيب ومقت لأنّهم رجس ؛ أي : كالشيء المنتن الذي يجب الاجتناب عنه كما تجتنب الأنجاس. (٣)

(فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ) ولا توبّخوهم. (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ). من تمام التعليل. فكأنّه قال : إنّهم أرجاس من أهل النار لا ينفع فيهم التوبيخ في الدنيا والآخرة. أو تعليل ثان [والمعنى : انّ

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٣٠١.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٩٢ ـ ٩٣.

(٣) مجمع البيان ٥ / ٩٣.

٣٤٢

النار كفتهم عتابا] فلا تتكلّفوا عتابهم. (١)

[٩٦] (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ)

(لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ) ولا ينفعهم رضاكم ـ أيّها المؤمنون ـ عنهم لجهلكم بأحوالهم والله ساخط عليهم. (٢)

[٩٧] (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : نحن بنو هاشم. وشيعتنا العرب. وسائر الناس الأعراب. (٣)

(الْأَعْرابُ). يريد الأعراب الذين كانوا حول المدينة. ومعناه : انّ سكّان البوادي إذا كانوا كفّارا أو منافقين ، فهم أشدّ كفرا من أهل الحضر ؛ لبعدهم عن مواضع العلم. (٤)

(الْأَعْرابُ) : أهل البدو (أَشَدُّ كُفْراً) من أهل الحضر ، لجفائهم وقسوتهم وتوحّشهم ونشئهم في بعد من مشاهدة العلماء ومعرفة الكتاب والسنّة. (وَأَجْدَرُ) : وأحقّ بجهل حدود الدين وما أنزل الله من الشرائع والأحكام. (عَلِيمٌ). أي بأهل الوبر والمدر. (٥)

[٩٨] (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

(مَغْرَماً) ؛ أي : غرامة وخسرانا. لأنّه لا ينفق إلّا تقيّة من المسلمين ورئاء لا لوجه الله. (وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ) : دوائر الزمان ، لتذهب غلبتكم فيتخلّص من إعطاء الصدقة. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ). [دعاء] معترض. دعا عليهم بنحو ما دعوا به ؛ كقوله عزّ وعلا : (وَ

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٤١٨.

(٢) مجمع البيان ٥ / ٩٣.

(٣) الكافي ٨ / ١٦٦ ، ح ١٨٣.

(٤) مجمع البيان ٥ / ٩٥ ـ ٩٦.

(٥) الكشّاف ٢ / ٣٠٣.

٣٤٣

(قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ».)(١)(سَمِيعٌ) لما يقولون إذا توجّهت عليه الصدقة. (عَلِيمٌ) بما يضمرون. (٢)

[٩٩] (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

(قُرُباتٍ). مفعول ثان ليتّخذ. والمعنى أنّ ما ينفقه سبب لحصول القربات عند الله. (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ). لأنّه كان يدعو للمصّدّقين بالخير والبركة ؛ كقوله : اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى. وقال تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ). (٣) فلمّا كان ما ينفق سببا لذلك قيل : يتّخذ ما ينفق قربات وصلوات. (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ). شهادة من الله للمتصدّقين بصحّة ما اعتقدوه من كون نفقتهم قربات وصلوات ، وتصديق لرجائه على طريق الاستئناف [مع حرفي التنبيه] والتحقيق المؤذنين بثبات الأمر وتمكّنه. وكذلك (سَيُدْخِلُهُمُ) وما في السين من تحقيق الوعد. (٤)

[١٠٠] (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)

(وَالسَّابِقُونَ) ـ الآية. اختلف في أوّل من أسلم من المهاجرين والأنصار. فقيل : إنّ أوّل من أسلم من المهاجرين خديجة بنت خويلد ، ثمّ عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. وهو قول ابن عبّاس وجابر بن عبد الله وأنس وزيد بن أرقم وقتادة وغيرهم. قال أنس : بعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم الاثنين وصلّى عليّ عليه‌السلام وأسلم يوم الثلثاء. وقال مجاهد وابن اسحاق : إنّه أسلم وهو ابن عشر سنين وكان مع رسول الله عليهما‌السلام ضمّه إلى نفسه يربّيه في حجره وكان معه حتى بعث

__________________

(١) المائدة (٥) / ٦٤.

(٢) الكشّاف ٢ / ٣٠٣.

(٣) التوبه (٩) / ١٠٣.

(٤) الكشّاف ٢ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

٣٤٤

نبيّا. (بِإِحْسانٍ) : بأفعال الخير والدخول في الإسلام بعدهم وسلوك مناهجهم. وابن كثير : «من تحتها» بزيادة من. (١)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال لجماعة من الشيعة : أنتم السابقون الأوّلون ، والسابقون الآخرون ، والسابقون في الدنيا ، والسابقون في الآخرة. (٢)

(مِنَ الْمُهاجِرِينَ) : الذين شهدوا بدرا. وقيل : من بايع بالحديبيّة ـ وهي بيعة الرضوان ـ ما بين الهجرتين. ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى ، وكانوا سبعة نفر ، وأهل العقبة الثانية وكانوا سبعين. (٣)

(وَالسَّابِقُونَ) ـ الآية. هم النقباء : أبو ذرّ والمقداد وسلمان وعمّار ، ومن آمن وصدّق وثبت على ولاية عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. (٤)

[١٠١] (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ)

(وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ). يعني : حول المدينة. (مُنافِقُونَ). وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار ، كانوا نازلين حولها. (مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ) : تمهّروا فيه. من مرد فلان على عمله ، إذا درب فيه. ودلّ على مهارتهم فيه بقوله : (لا تَعْلَمُهُمْ) ؛ أي : يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك ، لفرط تنوّقهم في تحامي ما يشكّك في أمرهم. ثمّ قال : (نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ). أي لا يطّلع على سرّهم غيره ، لأنّهم يبطنون الكفر في سويدات قلوبهم ويبرزون ذلك ظاهرا كظاهر المخلصين لا تشكّ معه في إيمانهم ، لأنّ لهم درابة ومهارة في النفاق. (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ). قيل : هما القتل وعذاب القبر. وقيل : الفضيحة وعذاب القبر. وعن ابن عبّاس : انّهم اختلفوا في هاتين المرّتين ، فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خطيبا يوم الجمعة فقال : اخرج يا فلان ، فإنّك منافق. اخرج يا فلان ، فإنّك منافق. فأخرج ناسا وفضحهم. فهذا العذاب الأوّل ، والثاني عذاب

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٩٧ ـ ٩٨.

(٢) الكافي ٨ / ٢١٣.

(٣) الكشّاف ٢ / ٣٠٤.

(٤) تفسير القمّيّ ١ / ٣٠٣.

٣٤٥

القبر. وقيل : أخذ الزكاة من أموالهم ونهك أبدانهم. (١)

(مَرَّتَيْنِ). عذّبوا بالجوع مرّتين. وقيل : إنّ الأولى ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم ، والأخرى عذاب القبر. (عَذابٍ عَظِيمٍ) : عذاب يوم القيامة. (٢)

[١٠٢] (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

(وَآخَرُونَ). عن أبي جعفر عليه‌السلام : هم قوم اجترحوا ذنوبا مثل قتل حمزة وجعفر ثمّ تابوا. (٣)

(وَآخَرُونَ). يعني أهل المدينة وليس براجع إلى المنافقين. (٤)

(اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) ؛ أي : لم يعتذروا بالمعاذير الكاذبة كغيرهم ، ولكن اعترفوا على أنفسهم بأنّهم بئس ما فعلوا نادمين. وكانوا ثلاثة : أبو لبابة ، وأوس بن ثعلبة ، ووديعة بن حزام ، فأوثقوا أنفسهم على سواري المسجد. فقدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فرآهم موثقين ، فسأل عنهم. فذكر له أنّهم أقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يكون رسول الله هو الذي يحلّهم. فقال :

وأنا أقسم أن لا أحلّهم حتّى أومر فيهم. فنزلت ، فأطلقهم وأعذرهم. فقالوا : يا رسول الله ، هذه أموالنا التي خلّفتنا عنك فتصدّق بها وطهّرنا. فقال : ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا.

فنزلت : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) ـ الآية. (عَمَلاً صالِحاً) : خروجا إلى الجهاد. (وَآخَرَ سَيِّئاً) : تخلّفا عن الجهاد. (٥)

(وَآخَرُونَ). نزلت في أبي لبابة. كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حاصر بني قريظة وقالوا : ابعث لنا أبا لبابة نستشيره في أمرنا. فبعثه إليهم. فقالوا له : يا أبا لبابة ، أننزل على حكم محمّد؟ فقال : انزلوا. واعلموا أنّ حكمه فيكم هو الذبح. ثمّ ندم على ذلك فقال : خنت الله ورسوله. ونزل من حصنهم ، وأتى إلى المسجد وشدّ في عنقه حبلا إلى الأسطوانة وقال : لا أحلّه حتّى أموت

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

(٢) مجمع البيان ٥ / ١٠٠.

(٣) تفسير العيّاشيّ ٢ / ١٠٥.

(٤) مجمع البيان ٥ / ١٠٠.

(٥) الكشّاف ٢ / ٣٠٦ ـ ٣٠٧.

٣٤٦

أو يتوب الله عليّ. فنزلت توبته ، وتصدّق بثلث ماله. (١)

[١٠٣] (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

(خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ) ؛ أي : من أموال هؤلاء التائبين ، تشديدا للتكليف وليست بالصدقة المفروضة ، بل هي على سبيل الكفّارة للذنوب التي أصابوها. وقيل : أراد بها الزكاة المفروضة. عن أكثر أهل التفسير. (تُطَهِّرُهُمْ) تلك الصدقة عن دنس الذنوب. (وَتُزَكِّيهِمْ) أنت (بِها) ؛ أي : تنسبهم إلى الزكاة وتدعو لهم بما يصيرون به أزكياء. (صَلاتَكَ). غير أهل الكوفة بالجمع. (٢)

(تُطَهِّرُهُمْ). صفة لصدقة. (وَتُزَكِّيهِمْ). [التزكية :] مبالغة في التطهير. أو بمعنى الإنماء والبركة في المال. (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ) : اعطف عليهم بالدعاء وترحّم. (سَكَنٌ لَهُمْ) : يسكنون إليه وتطئمنّ قلوبهم بأنّ الله قد تاب عليهم. (وَاللهُ سَمِيعٌ) يسمع اعترافهم بذنوبهم ودعاءهم (عَلِيمٌ) بما في ضمائرهم من الندم والغمّ لما فرط منهم. (٣)

[١٠٤ ـ ١٠٥] (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

(هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) لا أنت. لأنّهم قالوا : خذ من أموالنا ما يكون كفّارة لذنوبنا ، فأبى. (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ). مجاز عن قبولها. روي أنّ الصدقة تقع في يد السائل ، ومن ثمّ كان الكاظم عليه‌السلام يضع الدرهم في يد السائل ثمّ يرفعه ويقبّله ويمرّه على عينيه ، ثمّ يدفعه إليه ثانيا ويقول : إنّه وقع في يد الله سبحانه. (٤)

__________________

(١) تفسير القمّيّ ١ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤.

(٢) مجمع البيان ٥ / ١٠٣ و ١٠١.

(٣) الكشّاف ٢ / ٣٠٧ ـ ٣٠٨.

(٤) انظر : التهذيب ٤ / ١٠٥ ، ح ٣٠٠.

٣٤٧

(أَلَمْ يَعْلَمُوا). قرئ بالياء والتاء. وفيه وجهان : أحدهما أن يراد المتوب عليهم. يعني : ألم يعلموا قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ) إذا صحّت ويقبل الصدقات إذا صدرت عن خلوص النيّة؟ ومعنى التخصيص في (هُوَ) أنّ ذلك ليس إلى رسول الله إنّما الله هو الذي يقبل التوبة ويردّها ، فاقصدوه بها. (قُلِ) لهؤلاء التائبين : (اعْمَلُوا). فإنّ عملكم لا يخفى ـ خيرا كان أو شرّا ـ على الله وعباده ، كما رأيتم وتبيّن لكم. والثاني أن يراد غير التائبين ترغيبا لهم في التوبة. فقد روي أنّه لمّا تيب عليهم ، قال الذين لم يتوبوا : هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلّمون ولا يجالسون. فما لهم؟ فنزلت. (١)

(فَسَيَرَى اللهُ) ؛ أي : يعلمها موجودة بعد أن يعلمها معدومة. (وَالْمُؤْمِنُونَ) ؛ أي : الشهداء والملائكة الذين هم الحفظة للأعمال. وروى أصحابنا أنّ أعمال الأمّة تعرض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ اثنين وخميس. وكذلك تعرض على أئمّة الهدى عليهم‌السلام فيعرفونها. وهم المعنيّون بقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ). (٢)

[١٠٦] (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

(وَآخَرُونَ) ـ أي من المتخلّفين ـ موقوف أمرهم (إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ) إن بقوا على الإصرار ولم يتوبوا (وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ) إن تابوا. وهم ثلاثة : كعب بن مالك ، وهلال بن أميّة ، ومرارة بن الربيع. أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يسلّموا عليهم ولا يكلّموهم. ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شدّ أنفسهم وإظهار الجزع. فلمّا علموا أنّ أحدا لا ينظر إليهم ، فوّضوا أمرهم إلى الله ، فرحمهم‌الله. (٣)

عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ) ـ الآية ـ : انّ هؤلاء لهم منزلة بين الإيمان والكفر. وهم قوم كانوا مشركين فقتلوا مثل حمزة وجعفر وأشباههما ، ثمّ دخلوا بعد

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٣٠٨.

(٢) مجمع البيان ٥ / ١٠٤.

(٣) الكشّاف ٢ / ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

٣٤٨

في الإسلام فوحّدوا الله وتركوا الشرك ، ولم يعرفوا الإيمان بقلوبهم فيكونوا من المؤمنين فتجب لهم الجنّة ، ولم يكونوا على جحودهم فتجب لهم النار. وهؤلاء يوقفهم الله حتّى يبيّن فيهم رأيه. (١)

(مُرْجَوْنَ). أبو بكر : (مُرْجَوْنَ) بالهمزة. (يَتُوبُ عَلَيْهِمْ). فنزلت توبتهم بقوله : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا)(٢). (٣)

[١٠٧] (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ)

(وَالَّذِينَ). ابن عامر وأهل المدينة : (الَّذِينَ) بغير واو. من أثبت الواو في (الَّذِينَ اتَّخَذُوا) عطفه على ما تقدّم. والتقدير : ومنهم الذين اتّخذوا. ومن حذف الواو ، ابتدأ الكلام وأضمر الخبر. أي : فهم ينتقم منهم أو يعذّبون أو نحو ذلك. والضرار : طلب الضرر ومحاولته. (٤)

(وَالَّذِينَ). ذكر جماعة أخرى من المنافقين بنوا مسجدا للتفريق بين المسلمين. (ضِراراً) ؛ أي : مضارّة بأهل مسجد قباء أو مسجد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ليقلّ الجمع فيه. (وَكُفْراً) ؛ أي : ليكفروا فيه بالطعن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى الإسلام. (وَتَفْرِيقاً) ؛ أي : تفريق الناس عن رسول الله. (وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ) ؛ أي : اتّخذوه عدّة لأبي عامر الراهب ؛ وهو الذي حارب الله ورسوله من قبل. لأنّه ترهّب في الجاهليّة ولبس المسوح. فلمّا قدم النبيّ المدينة ، حسده وحزّب عليه الأحزاب. ثمّ هرب بعد فتح مكّة إلى الطائف. فلمّا أسلم أهله ، لحق بالشام وخرج إلى الروم وتنصّر. وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة. وكان قد أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا وابنوا مسجدا ؛ فإنّي أذهب إلى قيصر وآتي من عنده بجنود وأخرج

__________________

(١) تفسير القمّيّ ١ / ٣٠٤.

(٢) التوبة (٩) / ١١٨.

(٣) مجمع البيان ٥ / ١٠٤ ـ ١٠٥.

(٤) مجمع البيان ٥ / ١٠٦ ـ ١٠٧.

٣٤٩

محمّدا من المدينة. فكان هؤلاء المنافقون يتوقّعون أن يجيئهم أبو عامر. فمات قبل أن يبلغ ملك الروم. (وَلَيَحْلِفُنَّ) ؛ أي : يحلفون كاذبين : ما أردنا ببناء هذا المسجد إلّا الفعلة الحسنى من التوسعة على الضعفاء. فأطلع الله نبيّه على خبث سريرتهم فقال : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ). فوجّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عند قدومه من تبوك جماعة فهدموا المسجد وأحرقوه وأمر بأن يتّخذ كناسة يلقى فيها الجيف. ثم نهى الله أن يقوم في هذا المسجد. (١)

النزول : قال المفسّرون : إنّ بني عمرو بن عوف اتّخذوا مسجد قباء وبعثوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأتاهم وصلّى فيه. فحسدهم جماعة من المنافقين من بني غنم بن عوف فقالوا : نبني مسجدا نصلّي فيه ولا نحضر جماعة محمّد. وكانوا اثني عشر رجلا منهم ثعلبة بن حاطب ، فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد قباء فأتوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو يتجهّز إلى تبوك فقالوا : إنّا بنينا مسجدا لذي العلّة والحاجة واللّيلة المطيرة. وإنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه وتدعو بالبركة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّى على جناح سفر. ولو قدمنا لأتيناكم إن شاء الله فنصلّي لكم. فلمّا انصرف من تبوك ، نزلت عليه الآيات في شأن المسجد. (٢)

(وَتَفْرِيقاً) حتّى لا يجتمعوا للصلاة في مسجد قباء. (ع)

(وَكُفْراً) : تقوية للنفاق. (مِنْ قَبْلُ) ؛ أي : اتّخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء في التخلّف. (٣)

[١٠٨] (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)

(لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) ؛ أي : لا تصلّ فيه أبدا. ثمّ أقسم فقال : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) ؛ أي : بني أصله على تقوى الله وطاعته (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) وضع أساسه أولى بأن تصلّي فيه. وهو مسجد قباء ، أو مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو كلّ مسجد بني للإسلام. ثمّ وصف المسجد وأهله

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ١١٠.

(٢) مجمع البيان ٥ / ١٠٩.

(٣) الكشّاف ٢ / ٣١٠.

٣٥٠

فقال : (فِيهِ رِجالٌ) ؛ أي : في المسجد الذي بني على التقوى رجال يحبّون أن يصلّوا متطهّرين بأبلغ الطهارة ، أو من الذنوب ، أو بالماء عن الغائط والبول وهو المرويّ عن السيدين الباقر والصادق عليهما‌السلام. (١)

(يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) ؛ أي : يرضى عنهم ويحسن إليهم. (٢)

[١٠٩] (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

ثمّ قرّر سبحانه الفرق بين المسجدين فقال : (أَفَمَنْ أَسَّسَ). المراد أنّ الله شبّه بنيانهم على نار جهنّم بالبناء في جانب نهر هذا صفته. فكما أنّ من بنى على جانب هذا النهر فإنّه ينهار بناؤه في الماء ولا يثبت ، فكذلك بناء هؤلاء ينهار ويسقط في نار جهنّم. وعمل المؤمن ثابت مستقيم مبنيّ على أصل صحيح. (فَانْهارَ بِهِ) ؛ أي : يوقعه ذلك البناء في نار جهنّم. (٣)

(أَسَّسَ) نافع وابن عامر بضمّ الألف (بُنْيانَهُ) بالرفع في الموضعين. (جُرُفٍ). ابن عامر : (جُرُفٍ) بالتخفيف. (٤)

(عَلى تَقْوى) ؛ أي : على أصل محكم. (أَسَّسَ). على قراءة المجهول معناه أنّه أمر غيره بتأسيسه فكأنّه هو الذي أسّسه. (شَفا جُرُفٍ). الشفا : الحرف. (ع)

(هارٍ) ؛ أي : هائر ؛ وهو المشرف على السقوط. (فَانْهارَ بِهِ). لأنّ الجرف الهائر كناية عن الباطل. (٥)

[١١٠] (لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ١١٠ ـ ١١١.

(٢) الكشّاف ٢ / ٣١١.

(٣) مجمع البيان ٥ / ١١١.

(٤) مجمع البيان ٥ / ١٠٦.

(٥) الكشّاف ٢ / ٣١٢.

٣٥١

(رِيبَةً) ؛ أي : شكّا في الدين ونفاقا. لأنّه لمّا هدمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ازدادوا نفاقا. والمعنى : لا يزال هدمه سبب شكّ ونفاق زائد ولا يزول أثره إلى أن تقطّع قلوبهم أجزاء فحينئذ يسلون عنه. (١)

(إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ). يعقوب : إلى أن تقطع». وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام. قيل : معناه : إلّا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندما على تفريطهم. (٢)

(تَقَطَّعَ). جماعة من القرّاء بضمّ التاء مشدّدا. (ع)

[١١١ ـ ١١٢] (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

(إِنَّ اللهَ) ـ الآيات. روى أصحابنا أنّ هذه صفات الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام. لأنّه لا يكاد يجمع هذه الأوصاف على تمامها غيرهم. ولقي الزهريّ عليّ بن الحسين عليهما‌السلام في طريق الحجّ فقال له : تركت الجهاد وأقبلت إلى الحجّ. والله يقول : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى) ـ الآية. فقال عليه‌السلام : أتمّ الآية الأخرى : (التَّائِبُونَ) ـ إلى آخرها. ثمّ قال : إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم ، فالجهاد معهم أفضل من الحجّ. (٣)

عن أبي جعفر عليه‌السلام : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى). يعنى في الميثاق. (٤) وعنه أنّها نزلت في الأئمّة عليهم‌السلام. (٥)

(إِنَّ اللهَ اشْتَرى). ذكر الاشتراء من المؤمنين أنفسهم مجاز من باب : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ٣١٢ ـ ٣١٣.

(٢) مجمع البيان ٥ / ١٠٦ و ١١١.

(٣) مجمع البيان ٥ / ١١٤.

(٤) تفسير العيّاشيّ ٢ / ١١٢ ، ح ١٤٠.

(٥) تفسير القمّيّ ١ / ٣٠٦.

٣٥٢

حَسَناً)(١) تلطيفا لتأكيد الجزاء. والمراد أنّه اشترى من المؤمنين أنفسهم يبذلونها في الجهاد وأموالهم ينفقونها في سبيل الله ، على أن يكون في مقابلة ذلك الجنّة. (٢)

(يُقاتِلُونَ). استئناف لبيان ما لأجله الشراء. وقيل : يقاتلون في معنى الأمر. (فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ). حمزة والكسائيّ بتقديم المبنيّ للمفعول. لأنّ الواو لا توجب الترتيب ، ولأنّ فعل البعض قد يسند إلى الكلّ. (حَقًّا). مصدر مؤكّد لما دلّ عليه الشراء. فإنّه في معنى الوعد. (فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ؛ أي : مثبوت فيهما كما ثبت في القرآن. (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ). مبالغة في الإنجاز وتقرير لكونه حقّا. (فَاسْتَبْشِرُوا) ؛ أي : فافرحوا غاية الفرح ؛ فإنّه أوجب لكم عظائم المطالب. (٣)

عن أبي بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : تلوت : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ) فقال : لا. اقرأ : التائبين العابدين ـ إلى آخرها. فسئل عن العلّة في ذلك فقال : اشترى من المؤمنين التائبين. (٤)

(التَّائِبُونَ). رفع على المدح. أي : هم تائبون. والمراد بهم المؤمنون المذكورون. أو مبتدأ خبره محذوف. أي : التائبون من أهل الجنّة وإن لم يجاهدوا ؛ لقوله : (وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى). (٥)(الْعابِدُونَ). يعني بالإخلاص عبدوه. (الْحامِدُونَ) لنعمائه ، أو لما نابهم من السرّاء والضرّاء. (السَّائِحُونَ) : الصائمون ؛ لقوله عليه‌السلام : سياحة أمّتي الصيام. شبّه بها من حيث إنّه يعوق عن الشهوات ، أو لأنّه رياضة نفسانيّة يتوصّل بها إلى الاطّلاع على خفايا الملك والملكوت أو السائحون للجهاد أو لطلب العلم. (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) في الصلاة. (بِالْمَعْرُوفِ) : بالإيمان والطاعة. (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) : الشرك والمعاصي. والعاطف فيه للدلالة على أنّه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة ؛ كأنّه قال : الجامعون بين الوصفين. (لِحُدُودِ اللهِ) ؛ أي : فيما بيّنه وعيّنه من الحقائق والشرائع ، للتنبيه على أنّ ما قبله مفصّل

__________________

(١) المزّمّل (٧٣) / ٢٠.

(٢) مجمع البيان ٥ / ١١٣.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٢٢.

(٤) الكافي ٨ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨ ، ح ٥٦٩.

(٥) النساء (٤) / ٩٥.

٣٥٣

الفضائل وهذا مجملها. وقيل : إنّه للإيذان بأنّ التعداد قدتمّ بالسابع من حيث إنّ السبعة هو العدد التامّ ـ لاشتماله على جميع أقسام العدد من الزائد والناقص والمساوي ـ [و] الثامن هو ابتداء تعداد آخر معطوف عليه. ولذلك سمّي واو الثمانية. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ). يعنى به هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل. ووضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أنّ إيمانهم دعاهم إلى ذلك وأنّ المؤمن الكامل من كان كذلك. وحذف المبشّر به للتعظيم ، كأنّه قال : وبشّرهم بما يجلّ عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام. (١)

(السَّائِحُونَ). سمّي الصائم سائحا لاستمراره على الطاعة في ترك المشتهى. (٢)

(وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ). يعني الأئمّة عليهم‌السلام. فإنّ الحدّ إذا انتهى إليهم وجب عليهم إقامته. كذا في الرواية. (٣)

[١١٣] (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)

(ما كانَ لِلنَّبِيِّ) صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ أي : لا يجوز للنبيّ والمؤمنين أن يطلبوا المغفرة للكفّار ولو كانوا أقرب الناس إليهم ، بعد ما تبيّن لهم أنّهم مستحقّون الخلود في النار. وفي تفسير الحسن : انّ المسلمين قالوا للنبيّ : ألا تستغفر لآبائنا الذين ماتوا في الجاهليّة؟ فأنزل الله هذه الآية. (٤)

[١١٤] (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)

ثمّ بيّن سبحانه الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه مع كونه كافرا ، سواء كان أباه الذي ولده ، أو جدّه لأمّه ، أو عمّه على ما رواه أصحابنا. ثمّ اختلف في صاحب هذه الوعدة هل هو إبراهيم أو أبوه. فقيل : إنّ الوعدة كانت من الأب ؛ وعد إبراهيم أنّه يؤمن إن استغفر له ،

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٢٢ ـ ٤٢٣.

(٢) مجمع البيان ٥ / ١١٣.

(٣) الكافي ٧ / ٢٥١.

(٤) مجمع البيان ٥ / ١١٥.

٣٥٤

فاستغفر له لذلك. (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ) ولا يفي بما وعد ، (تَبَرَّأَ مِنْهُ) وترك الدعاء له. وهو المرويّ عن ابن عبّاس وغيره. قالوا : إنّما تبيّن عداوته لمّا مات على كفره. وقيل : إنّ الموعدة كانت من إبراهيم ؛ قال لأبيه : إنّي أستغفر لك ما دمت حيّا وكان يستغفر له مقيّدا بشرط الإيمان. فلمّا أيس من إيمانه ، تبرّأ منه. «الأواه» ؛ أي : دعّاء كثير الدعاء. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام. وقيل : الأوّاه : الرحيم بعباد الله. وقيل : هو الذي إذا ذكر النار قال : أوه. وقيل : هو المؤمن بلغة الحبشة. وقيل : هو الحليم. وقد بلغ من حلمه أنّ رجلا آذاه وشتمه ، فقال له : هداك الله. (١)

(وَعَدَها إِيَّاهُ). قال له إبراهيم : إن لم تعبد الأصنام ، استغفرت لك. فلمّا لم يدع الأصنام ، تبرّأ منه. (٢)

قيل لأبي الحسن عليه‌السلام : أرأيت إن احتجت إلى الطبيب وهو نصرانيّ أسلّم عليه وأدعو له؟ قال : نعم ؛ لا ينفعه دعاؤك. (٣)

وقال عليه‌السلام : تقول في الدعاء لليهوديّ والنصرانيّ : بارك الله لك في دنياك. (٤)

(تَبَرَّأَ مِنْهُ) : قطع استغفاره. (٥)

[١١٥ ـ ١١٦] (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)

(وَما كانَ اللهُ). نزولها : مات قوم من المسلمين قبل أن تنزل الفرائض ، فقال المسلمون :

يا رسول الله ، إخواننا الذين ماتوا قبل الفرائض ، ما منزلتهم؟ فنزلت : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ) ؛ أي : ليعذّب قوما فيضلّهم عن طريق الجنّة بعد إذ دعاهم إلى الإيمان حتّى يتبيّن لهم ما

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ١١٦.

(٢) تفسير القمّيّ ١ / ٣٠٦.

(٣) مستطرفات السرائر / ٥٩٥.

(٤) الكافي ٢ / ٦٥٠.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٢٣.

٣٥٥

يستحقّون به الثواب والعقاب من الطاعة والمعصية. (١)

(لِيُضِلَّ) ؛ أي : يخفي عليهم معرفة الإمام اللّاحق بعد ما عرفوا الأوّل. (٢)(إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ) يعني أنّ الأقارب والاستغفار لهم لا ينفع بل الذي بيده كلّ شيء هو مالك السموات والأرض. (ع (ره))

[١١٧] (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)

عن أبان بن تغلب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قرأ : لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين والأنصار» قال أبان : فقلت له : إنّ العامّة تقرؤها : (لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ). فقال : ويلهم! وأيّ ذنب كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى تاب الله عليه؟ إنّما تاب به على أمّته. (٣) وفي مجمع البيان أنّها قراءة عليّ بن الحسين والباقر والصادق عليهم‌السلام. (٤)

(تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ). [هو بعث على التوبة] ـ لأنّه ما من أحد إلّا وهو محتاج إلى التوبة ، لأنّ له مقاما يستنقص دونه ما هو فيه والترقّي إليه توبة من تلك النقيصة ـ وإظهار لفضلها بأنّها مقام الأنبياء والصالحين. «تزيغ» حفص وحمزة : (يَزِيغُ) بالياء ، لأنّ تأنيث القلوب غير حقيقيّ. (٥)

(لَقَدْ تابَ) ؛ أي : والله لقد تاب. (عَلَى النَّبِيِّ). إنّما ذكر اسم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مفتاحا للكلام وتحسينا له ، لأنّه سبب توبتهم ، وإلّا فلم يكن منه ما يوجب التوبة. (فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ) ؛ أي : وقتها. تزيغ قلوب فريق منهم إذ همّوا بالانصراف ، فعصمهم الله عن ذلك. (ثُمَّ تابَ

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ١١٧.

(٢) انظر : الكافي ١ / ٣٢٨ ، ح ١٢ ، وقرب الإسناد / ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٣) الاحتجاج ١ / ١٩٠.

(٤) لم نعثر عليه في المجمع ، بل فيه ٥ / ١٢٠ : وقد روي عن الرضا عليّ بن موسى عليه‌السلام أنّه قرأ : لقد تاب الله بالنبي ...».

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٢٤.

٣٥٦

عَلَيْهِمْ) من بعد الزيغ. نزلت في غزوة تبوك وما لحق المسلمين فيها من العسرة حتّى همّ قوم بالرجوع ، ثمّ تداركهم لطف الله. وكان العشرة من المسلمين لهم بعير واحد يتناوبون عليه.

وكان زادهم الشعير المسوس والتمر المدود. وكانت التمرة بينهم يمصّها الواحد بعد الواحد. وكان عبد الله بن خثيمة (١) تخلّف إلى أن مضى من مسير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عشرة أيّام ، ثمّ دخل على امرأتين له في عريشين لهما قد رشّتاهما وبرّدتا الماء وهيّأتا الطعام له. فقال : سبحان الله! رسول الله قد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر في الشمس والريح الحارّ يحمل سلاحه على عاتقه وأنا في الظلال مع المرأتين الحسناوين! ما هذا بالنصف. ثمّ قال : لا أكلّم واحدة منكما كلمة ولا أدخل عريشا حتّى ألحق بالنبيّ. فأناخ راحلته وتزوّد وارتحل ؛ حتّى إذا دنا من تبوك ، أتى النبيّ ، فدعا له بالخير. وهو الذي زاغ قلبه ثمّ أثبته الله. (٢)

[١١٨] (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)

(خُلِّفُوا). قراءة زين العابدين والصادق والباقر عليهم‌السلام : «خالفوا» (٣)

وفي تفسير العيّاشيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : لو كانوا خلّفوا ، ما كان عليهم من سبيل ، ولكنّهم خالفوا ؛ عثمان وصاحباه. أما والله ما سمعوا صوت كافر ولا قعقعة حجر إلّا قالوا : أتينا. فسلّط الله عليهم الخوف حتّى أصبحوا. (٤) ثمّ قال عليه‌السلام في قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) قال : أقالهم. فو الله ما تابوا. (٥)

وأمّا قوله : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) فإنّها نزلت في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أميّة ، تخلّفوا عن رسول الله لا عن نفاق ولكن عن توان ، ثمّ ندموا. فلمّا قدم

__________________

(١) المصدر : خيثمة.

(٢) مجمع البيان ٥ / ١١٩ ـ ١٢٠.

(٣) مجمع البيان ٥ / ١١٨.

(٤) تفسير العيّاشيّ ٢ / ١١٥ ، ح ١٥٢.

(٥) تفسير العيّاشيّ ٢ / ١١٦ ، ح ١٥٤.

٣٥٧

رسول الله المدينة ، أمر أن لا يكلّموا. فهجرهم الناس حتّى نساؤهم. فضاقت عليهم المدينة. وخرجوا إلى رؤوس الجبال فتهاجروهم أيضا وتفرّقوا. وبقوا على ذلك خمسين يوما يتوبون إلى الله ، فقبلت توبتهم وأنزل فيهم هذه الآية. (١)

(خُلِّفُوا) عن غزوة تبوك. (وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) من جهة الغمّ الذي حصل لهم. (٢)

(ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ) لإعراض الناس عنهم. (٣)

(ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ) ؛ أي : سهّل عليهم التوبة حتّى تابوا. وقيل : (لِيَتُوبُوا) ؛ أي : ليعودوا إلى حالتهم الأولى قبل المعصية. وقيل : معناه : ثمّ تاب على الثلاثة وأنزل توبتهم على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ليتوب المؤمنون من ذنوبهم. قال الحسن : أما والله ما سفكوا من دم ولا أخذوا من مال ولا قطعوا من رحم ولكنّ المسلمين تسارعوا في الشخوص مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتخلّف هؤلاء. وكان واحد منهم تخلّف بسبب ضيعة له ، والآخر لأهله ، والآخر طلبا للراحة. ثم ندموا وتابوا ، فقبل الله توبتهم. (٤)

[١١٩] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)

(اتَّقُوا اللهَ) ؛ أي : معاصيه. (مَعَ الصَّادِقِينَ). في مصحف عبد الله : «من الصادقين» وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه‌السلام. (مَعَ الصَّادِقِينَ) ؛ أي : على مذهب من يستعمل الصدق في أقواله وأفعاله. وقيل : المراد بالصادقين هم الذين ذكرهم بقوله : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) يعني حمزة وجعفرا (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ)(٥) يعني عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. وروى جابر عن أبي عبد الله عليه‌السلام : (مَعَ الصَّادِقِينَ) ؛ أي : مع آل محمّد عليهم‌السلام. (٦)

[١٢٠] (ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ١٢٠.

(٢) مجمع البيان ٥ / ١٢١.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٢٤.

(٤) مجمع البيان ٥ / ١٢١.

(٥) الأحزاب (٣٣) / ٢٣.

(٦) مجمع البيان ٥ / ١٢٢.

٣٥٨

وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ)

(ما كانَ). معناه النهي. (أَنْ يَتَخَلَّفُوا) في غزوة تبوك ولا غيرها. وقيل : إنّهم مزينة وجهينة وأشجع وغفار وأسلم. (وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) بأن يكونوا في الخفض والدعة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحرّ والمشقّة ، بل عليهم أن يجعلوا أنفسهم وقاية لنفسه. (ذلِكَ) ؛ أي : ذلك النهي لهم والزجر عن التخلّف. (ظَمَأٌ) ؛ أي : عطش. (نَصَبٌ) ؛ أي : تعب في أبدانهم. (مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ) ؛ أي : مجاعة في طاعة الله والجهاد. وهي شدّة الجوع. (وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً) ؛ أي : لا يضعون أقدامهم موضعا (يَغِيظُ الْكُفَّارَ) وطؤهم إيّاه. يعني دار الحرب. (وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً) ؛ أي : لا يصيبون من المشركين أمرا من قتل أو جراحة أو أمر يغمّهم ويغيظهم. (إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ). لأنّ الله لا يضيع أجر الذين يفعلون الأفعال الحسنة. (١)

(أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم. وهو تعليل لكتب وتنبيه على أنّ الجهاد إحسان. أمّا في حقّ الكفّار ، فلأنّه سعي في تكميلهم بأقصى ما يمكن ، كضرب المداوي للمجنون. وأمّا في حقّ المؤمنين ، فلأنّه صيانة لهم عن سطوة الكفّار واستيلائهم. (٢)

[١٢١] (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

(نَفَقَةً) في الجهاد. (وَلا يَقْطَعُونَ) ؛ أي : لا يجاوزون. (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ؛ أي : كتب طاعاتهم ليجزيهم عليها بقدر استحقاقهم ويزيدهم من فضله حتّى يصير الثواب أحسن وأكثر من عملهم. وقيل : معناه : ليجزيهم الله بأحسن ما كانوا يعملون.

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ١٢٣ ـ ١٢٤.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٢٥.

٣٥٩

قال ابن عبّاس : يرضيهم بالثواب ويدخلهم الجنّة بغير حساب. (١)

[١٢٢] (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ) ـ الآية. قيل : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا خرج غازيا ، لم يتخلّف عنه إلّا المنافقون أو المعذورون. فلمّا أنزل الله عيوب المنافقين في غزوة تبوك ، قال المؤمنون : لا نتخلّف عن الغزو أبدا. فلمّا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالسرايا إلى الغزو ، نفر المسلمون جميعا وتركوا رسول الله وحده. فنزلت الآية. (وَما كانَ). نفي معناه النهي. أي : ليس للمؤمنين أن يخرجوا كلّهم إلى الجهاد ويتركوا النبيّ فريدا. وقيل : معناه : ليس عليهم أن ينفروا كلّهم من بلادهم إلى النبيّ ليتعلّوا الدين ويضيعوا من وراءهم ويخلّوا ديارهم. (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ). معناه : فهلّا خرج إلى الغزو من كلّ قبيلة جماعة ويبقى معه جماعة ليتفقّهوا؟ يعني الفرقة القاعدين يتعلّمون القرآن والأحكام ، فإذا راجعت السرايا وقد نزل من بعدهم قرآن وتعلّمه القاعدون علّموه السرايا. وقال الباقر عليه‌السلام : كان هذا حين كثر الناس فأمرهم الله أن ينفر منهم طائفة ويقيم أخرى للتفقّه وأن يكون الغزو نوبا. وقيل : إنّ التفقّه والإنذار يرجعان إلى الفرقة النافرة ؛ حثّها الله على التفقّه لترجع إلى المتخلّفة فتحذّرها. ومعنى (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) : ليتبصّروا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين ولينذروا قومهم من الكفّار إذا رجعوا من الجهاد لعلّهم يحذرون ويدخلون في دين الإسلام. فاجتمع للنافرة ثواب الجهاد والتفقّه في الدين وإنذار قومهم. وقيل : التفقّه راجع إلى النافرة. أي : ما كان لجميع المومنين أن ينفروا إلى النبيّ ويخلّوا ديارهم ، ولكن لينفر إليه من كلّ ناحية طائفة لتتعلّم أحكام الدين منه ثمّ تخرج إلى قومها فتبيّن لهم وتنذرهم. فالمراد بالنفر الخروج لطلب العلم. (٢)

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ١٢٤.

(٢) مجمع البيان ٥ / ١٢٥ ـ ١٢٦.

٣٦٠