عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-27-2
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٥٣

ناقة دكّاء ، للّتي لا سنام لها. (تُبْتُ إِلَيْكَ) من الجرأة والإقدام على السؤال بغير إذن. (١)

(الْمُؤْمِنِينَ) بأنّك لا ترى. (٢)

[١٤٤] (قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : أوحى الله تعالى إلى موسى : أتدري لما اصطفيتك بكلامي دون خلقي؟ قال : لا. قال : يا موسى ، إنّي قلبت عبادي ظهرا لبطن فلم أجد فيهم أحدا أذلّ لي نفسا منك. إنّك إذا صلّيت وضعت خدّك على التراب. أو قال : على الأرض. (٣)

(بِرِسالاتِي). أهل الحجاز : «برسالاتي» (٤)

(اصْطَفَيْتُكَ) : اخترتك. (عَلَى النَّاسِ) في زمانك. (بِرِسالاتِي). يعني التوراة. (وَبِكَلامِي) : بتكليمي إيّاك. (آتَيْتُكَ) : أعطيتك من الرسالة. (الشَّاكِرِينَ) على النعمة. (٥)

[١٤٥] (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ)

عن السمّان قال : قلل أبو عبد الله عليه‌السلام : ما يقول الناس في أولي العزم وصاحبكم أمير المؤمنين عليه‌السلام؟ قال : قلت : ما يقدّمون على أولي العزم أحدا. فقال عليه‌السلام : إنّ الله قال لموسى : (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً) ولم يقل : كلّ شيء. وقال لصاحبكم : (وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ). (٦) وقال : (وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ). (٧) وعلم هذا الكتاب عنده. وقال في عيسى : (وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ)(٨). (٩)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٥٩.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٧٣٢.

(٣) الكافي ٢ / ١٢٢.

(٤) مجمع البيان ٤ / ٧٣٣.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٥٩.

(٦) الرعد (١٣) / ٤٣.

(٧) الأنعام (٦) / ٥٩.

(٨) الزخرف (٤٣) / ٦٣.

(٩) الاحتجاج ٢ / ١٣٧ ـ ١٣٨.

٢٠١

(مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ممّا يحتاجون إليه من أمر الدين. (مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً). بدل من الجارّ والمجرور. أي : كتبنا له كلّ شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام. والألواح كانت عشرة أو سبعة عشر من زمرّد أو زبرجد أو ياقوت أحمر أو صخرة ليّنها الله لموسى فقطّعها بيده. (فَخُذْها). على إضمار القول ، عطفا على كتبنا. أي الألواح ، أو كلّ شيء. (بِقُوَّةٍ) ؛ أي : بجدّ وعزيمة. (بِأَحْسَنِها) ؛ أي : أحسن ما فيها كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتصار والاقتصاص على طريق الندب والحثّ على الأفضل. كقوله : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ). (١) أو بواجباته. فإنّ الواجب أحسن من غيره. (دارَ الْفاسِقِينَ) : دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها ـ أو منازل عاد وثمود وأضرابهم ـ لتعتبروا فلا تفسقوا. أو : دارهم في الآخرة وهي جهنّم. (٢)

(بِأَحْسَنِها) ؛ أي : الفرائض والنوافل. فإنّها أحسن من المباحات. (٣)

[١٤٦] (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ)

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) ؛ أي : سأصرف عن نيل الكرامة المتعلّقة بآياتي والاعتزاز بها ـ كما يناله المؤمنون في الدنيا والآخرة ـ المستكبرين في الأرض بغير الحقّ ، كما فعل بقوم موسى وفرعون. فإنّه أنجى قوم موسى وأهلك قوم فرعون. والآيات هي الأدلّة ومعجزات الأنبياء. وقيل : معناه : سأمنع الكاذبين والمتكبّرين آياتي ومعجزاتي وأصرفها عنهم وأخصّ بها الأنبياء عليهم‌السلام فلا أظهرها إلّا عليهم. (٤)

(سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ) المنصوبة في الآفاق والأنفس (الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ) بالطبع على

__________________

(١) الزمر (٣٩) / ٥٥.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٧٣٤.

(٤) مجمع البيان ٤ / ٧٣٥.

٢٠٢

قلوبهم فلا يتفكّرون فيها ولا يعتبرون بها. وقيل : سأصرفهم عن إبطالها وإن اجتهدوا. كما فعل فرعون فعاد [عليه] بإهلاكهم. (كُلَّ آيَةٍ) منزلة أو معجزة. (لا يُؤْمِنُوا بِها) لعنادهم ، أو لاختلال عقولهم بسبب انهماكهم في الهوى. (ذلِكَ) ؛ أي : الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبّرهم للآيات. (١)

(بِغَيْرِ الْحَقِّ). حال. أي : يتكبّرون غير محقّين. لأنّ التكبّر بالحقّ لله وحده. (٢)

[١٤٧] (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

(وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) ؛ أي : ولقائهم الدار الآخرة أو ما وعد الله في الآخرة. (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) فلا ينتفعون بها. (يَعْمَلُونَ). أي : إلّا جزاء أعمالهم. (٣)

[١٤٨] (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ)

(مِنْ بَعْدِهِ) ؛ أي : من بعد ذهابه للميقات. (مِنْ حُلِيِّهِمْ) التي استعاروها من القبط حين همّوا بالخروج من مصر. وإضافتها إليهم لأنّها كانت في أيديهم أو ملكوها بعد هلاكهم. وهو جمع حلي كثدي وثديّ. (عِجْلاً جَسَداً) : بدنا ذا لحم. أو : جسدا من الذهب خاليا من الروح. ونصبه على البدل. (لَهُ خُوارٌ) : صوت البقر. روي أنّ السامريّ لمّا صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبرئيل فصار حيّا. وقيل : صاغه بنوع من الحيل فيدخل الريح جوفه ويصوت. وإنّما نسب الاتّخاذ إليهم وهو فعله إمّا لأنّهم رضوا به ، أو لأنّ المراد اتّخاذهم إلها إيّاه. (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ). تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر. والمعنى : ألم يروا حين اتّخذوه إلها أنّه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل حتّى حسبوا أنّه

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٠.

(٢) الكشّاف ٢ / ١٥٩.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٠.

٢٠٣

خالق الأجسام؟ (اتَّخَذُوهُ). تكرير للذمّ. أي : اتّخذوه إلها. (وَكانُوا ظالِمِينَ) ؛ أي : واضعين الأشياء في غير مواضعها فلم يكن اتّخاذ العجل بدعا منهم. (١)

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : أكرموا البقرة. فإنّه سيّد البهائم ، ما رفعت طرفها إلى السماء حياء من الله منذ عبد العجل. (٢)

(حُلِيِّهِمْ). حمزة والكسائي بكسر الحاء واللّام. ويعقوب بسكون اللّام وفتح الحاء. (مِنْ حُلِيِّهِمْ) التي استعاروها من قوم فرعون. وكان بنو إسرائيل بمنزلة أهل الجزية في القبط. وكان لهم يوم عيد يتزيّنون فيه ويستعيرون من القبط الحليّ. فوافق ذلك عيدهم فاستعاروا حليّ القبط. فلمّا أخرجهم الله من مصر وغرق فرعون ، بقيت تلك الحليّ في أيديهم ، فاتّخذ السامريّ منها عجلا. وكان السامريّ مطاعا مهيبا فيما بينهم ، فأرجف أنّ موسى قد مات لمّا لم يرجع على رأس الثلاثين ، فدعاهم إلى عبادة العجل فأطاعوه. (٣)

[١٤٩] (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) : وقع البلاء في أيديهم. أي وجدوه وجدان من يده فيه. يقال ذلك للنادم عند ما يجده ممّا خفي عليه. (٤)

(تَرْحَمْنا) بالتاء «ربنا» بالنصب «وتغفر» بالتاء كوفيّ غير عاصم. (٥)

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ فيما ناجى موسى أن قال : يا ربّ هذا السامريّ صنع العجل. فالخوار من صنعه؟ قال : فأوحى الله إليه : يا موسى ، إنّ تلك فتنتي. فلا تفصّحني عنها. (٦)

(وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ) ؛ أي : اشتدّ ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل. لأنّ من شأن من اشتدّ ندمه وحزنه أن يعضّ يده غمّا فتصير يده مسقوطا فيها لأنّ فاه قد وقع فيها. و

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٠.

(٢) علل الشرائع / ٤٩٤ ، ح ٢.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٧٣٧ ـ ٧٣٨.

(٤) مجمع البيان ٤ / ٧٣٨.

(٥) مجمع البيان ٤ / ٧٣٨.

(٦) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٢٩ ، ح ٨٠.

٢٠٤

سقط مسند إلى في أيديهم. وهو من باب الكناية. وقال الزجّاج : معناه : سقط الندم في أيديهم ؛ أي : في قلوبهم وأنفسهم. كما يقال : حصل في يده مكروه ـ وإن كان محالا أن يكون في اليد ـ تشبيها لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين. (وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا) ؛ أي : تبيّنوا ضلالهم تبيّنا كأنّهم أبصروه بعيونهم. (١)

(لَمْ يَرْحَمْنا) بإنزال التوراة. (٢)

[١٥٠] (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

(أَسِفاً). الأسف : الشديد الغضب. (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ). (٣) وقيل : هو الحزين. (خَلَفْتُمُونِي). وهذا الخطاب إمّا أن يكون لعبدة العجل من السامريّ وأشياعه ، أو لوجوه بني إسرائيل وهم هارون والمؤمنون معه ، ويدلّ عليه قوله : (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي). (٤) أي : بئس ما خلفتموني في قومي حيث عبدتم العجل ، أو حيث لم تكفّوا من عبد غير الله. وفاعل بئس مضمر يفسّره «ما خلفتموني» والمخصوص بالذمّ محذوف. أي : بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم. فإن قلت : أيّ معنى لقوله : (مِنْ بَعْدِي) بعد قوله : (خَلَفْتُمُونِي)؟ قلت : معناه : من بعد ما رأيتم منّي من توحيد الله ونفي الشركاء عنه. أو : من بعد ما كنت أحمل بني إسرائيل على التوحيد وأكفّهم عمّا طمحت نحوه أبصارهم من عبادة البقر حين قالوا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ). ومن حقّ الخلفاء أن يسيروا بسيرة المستخلف ولا يخالفوه. (أَعَجِلْتُمْ). ضمن معنى سبق فعدّي تعديته. والمعنى : أعجلتم من أمر ربّكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصّاكم به فبنيتم الأمر على أنّ الميعاد قد بلغ آخره و

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ١٦٠.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٠.

(٣) الزخرف (٤٣) / ٥٥.

(٤) الأعراف (٧) / ١٤٢.

٢٠٥

لم أرجع إليكم فحدّثتم أنفسكم بموتي فغيّرتم كما غيّرت الأمم بعد أنبيائهم؟ روي أنّ السامريّ قال لهم حين أخرج لهم العجل : هذا إلهكم وإله موسى. إنّ موسى لن يرجع وقد مات. وروي أنّهم عدّوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ثمّ أحدثوا [ما] أحدثوا. (١)

(أَلْقَى الْأَلْواحَ) : طرحها لما لحقه من شدّة الضجر عند استماعه حديث العجل ، غضبا لله وحميّة لدينه. وكان في نفسه حديدا شديد الغضب. وكان هارون ألين منه جانبا ، ولذلك كان أحبّ إلى بني إسرائيل من موسى. وروي : انّ التوراة كانت سبعة أسباع. فلمّا ألقى الألواح ، تكسّرت ، فرفع منها ستّة أسباعها وبقي سبع واحد. وكان فيما رفع تفصيل كلّ شيء ، وفيما بقي الهدى والرحمة. (بِرَأْسِ أَخِيهِ) ؛ أي : بشعر رأسه. يجر إليه بذؤابته ، ظنّا بأخيه أنّه فرّط في الكفّ. (ابْنَ أُمَّ) بالفتح ، تشبيها بخمسة عشر. وكان أخاه لأبيه وأمّه ، لكنّه قصد العطف والرقّة ولأنّها كانت مؤمنة وقاست به المخاوف والشدائد فذكّره بحقّها. (اسْتَضْعَفُونِي). يعني أنّه لم يأل جهدا في كفّهم حتّى أنّهم أرادوا قتله. (فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ) ؛ أي : لا تفعل بي ما هو أمنيّتهم من الاستهانة بي ولا تجعلني في عقوبتك لي قرينا للظالمين ولا تعتقد أنّي واحد من الظالمين مع براءتي من ظلمهم. (٢)

عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه سأل رجلا من أهل اليمن : هل تعرف صخرة في موضع كذا وكذا؟ قال : نعم ورأيتها. فقال عليه‌السلام : تلك الصخرة التي حيث غضب موسى فألقى الألواح ، فما ذهب من الألواح التقمته الصخرة. فلمّا بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ردّته إليه. وهي عندنا. (٣)

(وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ). فيه وجوه. منها : انّه انّما فعل ذلك مستعظما لفعلهم متفكّرا فيما كان منهم ، كما يفعل الإنسان بنفسه عند الغضب وشدّة التفكّر فيقبض على لحيته ويعضّ على شفته. فأجرى موسى عليه‌السلام أخاه مجرى نفسه. ومنها : انّه عليه‌السلام أراد أن يظهر ما اعتراه من الغضب على قومه لإكباره منهم ما صاروا إليه من الكفر والارتداد ، فصدر ذلك منه للتألّم

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ١٦٠ ـ ١٦١.

(٢) الكشّاف ٢ / ١٦١.

(٣) بصائر الدرجات / ١٤٧ ، ح ٧.

٢٠٦

بضلالهم وإعلامهم عظم الحال عنده لينزجروا عنه في مستقبل الأحوال. قاله الشيخ المفيد. (١)

(وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : انّما فعل ذلك لأنّه لم يفارقهم حين عبدوا العجل ولم يلحق بموسى. وكان إذا فارقهم ينزل بهم العذاب. ألا ترى أنّه قال لهارون : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)(٢)؟ قال هارون : لو فعلت ذلك لتفرّقوا. و (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي). (٣)

(ابْنَ أُمَّ). حمزة والكسائي وابن عامر وأبو بكر عن عاصم : (أُمَّ) بالكسر. (٤)

[١٥١] (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)

[١٥٢] (إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ)

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : حجّ مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من أهل المدينة والأطراف سبعون ألف إنسان أو يزيدون ، على نحو عدد أصحاب موسى عليه‌السلام السبعين ألفا الذين أخذ عليهم بيعة هارون عليه‌السلام فنكثوا واتّبعوا العجل والسامريّ. وكذلك أخذ رسول الله البيعة لعليّ عليه‌السلام بالخلافة [على] عدد أصحاب موسى فنكثوا البيعة واتّبعوا العجل والسامريّ سنّة بسنّة ومثلا بمثل. (٥)

(وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ). لا فرية أعظم من قول السامريّ أنّ هذا إلهكم وإله موسى. (٦)

[١٥٣] (وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها

__________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٧٤١.

(٢) طه (٢٠) / ٩٢ ـ ٩٣.

(٣) علل الشرائع / ٦٨ ، ح ١.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦١.

(٥) الاحتجاج ١ / ٦٨.

(٦) الكشّاف ٢ / ١٦٢.

٢٠٧

لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

(ثُمَّ تابُوا). هذا حكم عامّ يدخل تحته متّخذو العجل ومن عداهم. (١)

[١٥٤] (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ)

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ). هذا مثل كأنّ الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له : قل لقومك كذا وألق الألواح وجرّ برأس أخيك ، فترك النطق بذلك وقطع الإقراء. ولم يستحسن هذه الكلمة ولم يستفصحها كلّ ذي طبع سليم إلّا لذلك ولأنّه من قبيل شعب البلاغة. (٢)

(وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) باعتذار هارون أو بتوبتهم. (وَفِي نُسْخَتِها). قيل : فيما نسخ من الألواح المنكسرة. (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ). حذف المفعول واللّام للتعليل. أي : يرهبون معاصي الله لربّهم. (٣)

(وَفِي نُسْخَتِها) أي : فيما نسخ منها ؛ أي : كتب. والنسخة فعلة بمعنى مفعول. (لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ). دخلت اللّام لتقدّم المفعول. لأنّ تأخّر الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفا. (٤)

[١٥٥] (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ)

(قَوْمَهُ) ؛ أي : من قومه. قيل : اختار من اثني عشر سبطا من كلّ سبط ستّة ، ثمّ خرج بهم إلى طور سيناء بعد أن خلف عنهم كالب ويوشع. فلمّا دنا موسى من الجبل ، وقع عليه عمود الغمام حتّى تغشّى الجبل كلّه. ودنا موسى ودخل فيه ، ثمّ دخل القوم فوقعوا سجّدا ، فسمعوه

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ١٦٢.

(٢) الكشّاف ٢ / ١٦٣.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦١ ـ ٣٦٢.

(٤) الكشّاف ٢ / ١٦٣.

٢٠٨

وهو يكلّم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل. فلمّا انكشف الغمام ، طلبوا منه الرؤية ، فأنكر عليهم. فقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً). (١)(لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً). (٢) قال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ). يريد أن يسمعوا الردّ من جهته ، فأجيب : (لَنْ تَرانِي) ورجف بهم الجبل فصعقوا. ولمّا كانت الرجفة ، قال موسى : (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ). وهذا تمنّ منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية. (٣)

(قالَ رَبِّ) ؛ يعني : انّك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرها فترحّمت عليهم بالإنقاذ منها. فإن ترحّمت مرّة أخرى ، لم يبعد من عميم إحسانك. (٤)

(أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا) ؛ يعني : أتهلكنا جميعا ـ يعني نفسه وإيّاهم ـ لأنّهم طلبوا الرؤية سفها وجهلا؟ (فِتْنَتُكَ) ؛ أي : محنتك وابتلاؤك حتّى كلّمتني وسمعوا كلامك فاستدلّوا بالكلام على الرؤية استدلالا فاسدا حتّى افتتنوا وضلّوا. (تُضِلُّ) بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك وتهدي العالمين بك الثابتين بالقول الثابت. وجعل ذلك إضلالا من الله ، لأنّ المحنة والابتلاء سببه. (وَلِيُّنا) : القائم بأمورنا. (٥)

(مِنَّا). فأحياهم الله. (٦)

(فِتْنَتُكَ) ، حيث أوجدت في العجل خوارا فزاغوا. (خَيْرُ الْغافِرِينَ) تغفر السيّئة وتبدّلها بالحسنة. (٧)

[١٥٦] (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ

__________________

(١) النساء (٤) / ١٥٣.

(٢) البقرة (٢) / ٥٥.

(٣) الكشّاف ٢ / ١٦٤.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٢.

(٥) الكشّاف ٢ / ١٦٤ ـ ١٦٥.

(٦) التوحيد / ٤٢٤.

(٧) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٢.

٢٠٩

وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ)

(وَاكْتُبْ) ؛ أي : أثبت واقسم. (حَسَنَةً) : حياة طيّبة. (وَفِي الْآخِرَةِ) الجنّة. (هُدْنا) ؛ أي : تبنا. (أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ) ؛ أي : من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة. (كُلَّ شَيْءٍ) : المسلم والكافر. (فَسَأَكْتُبُها) ؛ أي : اكتب هذه الرحمة كتبة خاصّة منكم يا بني إسرائيل للّذين يكونون في آخر الزمان من أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين هم بجميع كتبنا يؤمنون. (١)

عن ابن عبّاس قال : لمّا نزلت : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) قال إبليس : أنا من ذلك الشيء. فنزعها الله من إبليس بقوله : (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) ـ الآية. قالت اليهود : نحن نتّقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربّنا. فنزعها منهم وجعلها لهذه الأمّة بقوله : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ) ـ الآية. (٢)

(فَسَأَكْتُبُها) في الآخرة. (يُؤْمِنُونَ) فلا يكفرون بشيء منها. (٣)

[١٥٧] (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

(الَّذِينَ). مبتدأ خبره (يَأْمُرُهُمْ). أو بتقدير : هم الذين. (الْأُمِّيَّ) : الذي لا يكتب ولا يقرأ. وصفه به تنبيها على أنّ كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته. (٤)

(رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام يقول : علم الإمام وسع كلّ شيء من شيعتنا. (فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ). قال : ولاية غير الإمام وطاعته. (مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ١٦٥.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٧٤٧.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٢.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

٢١٠

التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ). يعني النبيّ والوصيّ والقائم. (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) إذا قام. (وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ). والمنكر من أنكر فضل الإمام وجحده. (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) : أخذ العلم من أهله. (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) : قول من خالف عنهم. (إِصْرَهُمْ) : الذنوب التي كانوا فيها قبل معرفة الإمام وفضله. (وَالْأَغْلالَ) : ما كانوا يقولون ممّا لم يكونوا أمروا به من ترك فضل الإمام. (آمَنُوا بِهِ) ؛ يعني : بالإمام. (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ؛ يعني : الذين اجتنبوا الجبت والطاغوت أن يعبدوها» (١) والجبت والطاغوت فلان وفلان وفلان. والعبادة طاعة الناس لهم. (٢)

عن الصوفيّ قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام : لم سمّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الأمّيّ؟ فقال : ما يقول الناس؟

قلت : يزعمون أنّه لم يكتب. فقال : كذبوا. عليهم لعنة [الله]. أنّى ذلك والله يقول في محكم تنزيله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ)؟ فكيف كان يعلّمهم ما لا يحسن؟ والله لقد كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقرأ ويكتب باثنين وسبعين لسانا. وإنّما سمّي الأمّيّ لأنّه كان من أهل مكّة ومكّة من أمّهات القرى. وذلك قول الله عزوجل : (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها)(٣). (٤)

(يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ) ممّا حرّم عليهم كالشحوم. (٥)

(وَيُحِلُّ) ؛ أي : يحلّ لهم ما حرّم عليهم أحبارهم ورهبانهم وما كان يحرّمه أهل الجاهليّة من البحائر والسوائب وغيرهما ويحرّم عليهم الميتة والدم ولحم الخنزير. (فَالَّذِينَ آمَنُوا). يروى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأصحابه : أيّ الخلق أعجب إيمانا؟ قالوا : الملائكة. فقال : الملائكة عند ربّهم. فما لهم لا يؤمنون؟ قالوا : فالنبيّون. قال : النبيّون يوحى إليهم. فما لهم لا يؤمنون؟ قالوا : فنحن يا نبيّ الله. قال : أنا فيكم. فما لكم لا تؤمنون؟ إنّما هم قوم يكونون بعدكم فيجدون كتابا في ورق فيؤمنون به. فهو معنى قوله : (وَاتَّبَعُوا النُّورَ) ـ الآية. (الْمُفْلِحُونَ) : الفائزون بالثواب. (٦)

(الْخَبائِثَ) كالدم ولحم الخنزير ، أو كالربا والرشوة. (إِصْرَهُمْ). ابن عامر :

__________________

(١) الزمر (٣٩) / ١٧.

(٢) الكافي ١ / ٤٢٩ ، ح ٨٣ ، عن أبي جعفر عليه‌السلام.

(٣) الأنعام (٦) / ٩٢.

(٤) علل الشرائع / ١٢٤ ـ ١٢٥ ، ح ١.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٣.

(٦) مجمع البيان ٤ / ٧٥٠.

٢١١

آصارهم» (١)

(إِصْرَهُمْ). الإصر : الثقل الذي يأصر صاحبه ؛ أي : يحبسه عن الحراك لثقله. وهو مثل لثقل تكاليفهم نحو اشتراط قتل الأنفس في صحّة توبتهم. وكذلك الأغلال مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقّة نحو بتّ القضاء بالقصاص عمدا كان أو خطأ من غير شرع الدية وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم وتحريم السبت. وعن عطاء : كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلّي ، لبسوا المسوح وغلّوا أيديهم إلى أعناقهم. وربّما نقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها إلى السارية يحبس نفسه على العبادة. (عَزَّرُوهُ) ؛ أي : منعوه حتّى لا يقدر عليه عدوّ. ومنه التعزير للضرب دون الحدّ لأنّه منع عن معاودة القبيح. (٢)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : النور في هذا الموضع أمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام. (٣)

(مَعَهُ) ؛ أي : مع نبوّته. يعني القرآن. وإنّما سمّاه نورا لأنّه بإعجازه ظاهر أمره مظهر غيره ، أو لأنّه كاشف الحقائق مظهر لها. ويجوز أن يكون معه متعلّقا باتّبعوا. أي : واتّبعوا النور المنزل مع اتّباع النبيّ ، فيكون إشارة إلى اتّباع الكتاب والسنّة. (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) : الفائزون بالرحمة الأبديّة. ومضمون الآية جواب [دعاء] موسى عليه‌السلام. (٤)

[١٥٨] (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ) ـ الآية. الخطاب عامّ وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مبعوثا إلى كافّة الثقلين وسائر الرسل إلى أقوامهم. (٥)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٣.

(٢) الكشّاف ٢ / ١٦٥ ـ ١٦٦.

(٣) الكافي ١ / ١٩٤ ، ح ٢.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٣.

(٥) الكشّاف ٢ / ١٦٦.

٢١٢

(جَمِيعاً). حال من إليكم. (الَّذِي لَهُ مُلْكُ). صفة لله وإن حيل بينهما بما هو متعلّق المضاف إليه لأنّه كالمتقدّم عليه. أو مدح منصوب أو مرفوع. أو مبتدأ خبره : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). وهو على الوجوه الأوّل بيان لما قبله. فإنّه من ملك العالم كان هو الإله لا غيره. (وَكَلِماتِهِ) : ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه. وإنّما عدل عن التكلّم إلى الغيبة لإجراء هذه الصفات الداعية إلى الإيمان به والاتّباع له. (١)

[١٥٩] (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)

(يَهْدُونَ). هم المؤمنون التائبون من بني إسرائيل. لمّا ذكر الذين تزلزلوا في الدين وأقدموا على عبادة العجل وسؤال الرؤية ، ذكر أنّ منهم أمّة ثابتين يهدون الناس وبالحقّ يعدلون بينهم في الحكم. أو أراد الذين وصفهم ممّن أدرك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وآمن به من أعقابهم. وقيل : إنّ بني إسرائيل لمّا قتلوا أنبياءهم وكفروا ـ وكانوا اثني عشر سبطا ـ تبرّأ سبط منهم وسألوا الله أن يفرّق بينهم وبين إخوانهم. ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتّى خرجوا من وراء الصين. وهم هنالك مسلمون يستقبلون قبلتنا وكلّمهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلة الإسراء وعلّمهم عشر سور من القرآن. (٢)

[١٦٠] (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

(وَقَطَّعْناهُمُ) : صيّرناهم قطعا متميّزا بعضهم عن بعض. (اثْنَتَيْ عَشْرَةَ). مفعول ثان لقطّع. فإنّه متضمّن معنى صيّر. أو حال وتأنيثه للحمل على الأمّة أو القطعة. (أَسْباطاً). [بدل منه ولذلك جمع. أو تمييز له على أنّ كلّ واحد من أثنتي عشرة أسباط.] وكأنّه قيل :

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٣.

(٢) الكشّاف ٢ / ١٦٧.

٢١٣

اثنتي عشرة قبيلة. (أُمَماً). على الأوّل بدل بعد بدل ، أو نعت أسباطا. وعلى الثاني بدل من أسباطا. (١)

الأسباط في ولد إسحاق بمنزلة القبائل في ولد إسماعيل. فولد كلّ ولد من أولاد يعقوب سبطا وولد كلّ ولد من أولاد إسماعيل قبيلة. (٢)

(فَانْبَجَسَتْ) ؛ أي : فضرب فانبجست ؛ أي : انفجرت. (٣)

(أُناسٍ) ؛ أي : كلّ أمّة من تلك الأمم اثنتي عشرة. (وَظَلَّلْنا) ؛ أي : جعلناه ظليلا عليهم في التيه. (وَكُلُوا). على إرادة القول. (وَما ظَلَمُونا) ؛ أي : ما رجع إلينا ضرر ظلمهم بكفرانهم النعم. (٤)

(وَما ظَلَمُونا). عن أبي الحسن الماضي عليه‌السلام في قول الله : (وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) قال : انّ الله أعزّ وأمنع من أن يظلم وأن ينسب نفسه إلى الظلم ، ولكنّ الله خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته ، ثمّ أنزل بذلك قرآنا على نبيّه فقال : (وَما ظَلَمُونا) يعني ببغضهم أولياءنا ومعونة أعدائهم عليهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ). (٥) إذ حرموها الجنّة وأوجبوا عليها خلود النار. (٦)

[١٦١] (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ)

(وَإِذْ قِيلَ) ؛ أي : واذكر إذ قيل. (٧)

(نَغْفِرْ). أهل المدينة وابن عامر : «تغفر» بالتاء وضمّها وفتح الفاء. (٨)

(خَطِيئاتِكُمْ). ابن عامر : خطيئتكم بالهمز ورفع التاء من غير ألف على التوحيد.

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٣.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٧٥٢.

(٣) مجمع البيان ١ / ٢٥٠.

(٤) الكشّاف ٢ / ١٦٩.

(٥) الكافي ١ / ٤٣٥.

(٦) الاحتجاج ١ / ٣٧٩ ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٧) الكشّاف ٢ / ١٧٠.

(٨) مجمع البيان ٤ / ٧٥٤.

٢١٤

(سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ). وعد بالغفران والزيادة عليه. وإنّما أخرج الثاني مخرج الاستئناف للدلالة على أنّه تفضّل محض ليس في مقابلة ما أمروا به. (١)

[١٦٢] (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ)

(فَأَرْسَلْنا) ؛ أي : أنزلنا. (٢)

[١٦٣] (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)

(وَسْئَلْهُمْ). معناه التقرير والتقريع بقديم كفرهم وتجاوزهم لحدود الله والإعلام بأنّ هذا من علومهم التي لا تعلم إلّا بكتاب أو وحي فإذا أعلمهم به من لم يقرأ كتابهم ، علم أنّه من جهة الوحي. والقرية أيلة. وقيل : مدين. (حاضِرَةَ الْبَحْرِ) : قريبة منه. (إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ) ؛ أي : يتجاوزون حدّ الله فيه. و [هو] اصطيادهم في يوم السبت وقد نهوا عنه. والسبت مصدر سبتت اليهود ، إذا عظّمت سبتها بترك الصيد والاشتغال بالتعبّد. فمعناه : يعدون في تعظيم هذا اليوم. وكذلك قوله : (يَوْمَ سَبْتِهِمْ) معناه : يوم تعظيمهم أمر السبت. وقوله : (إِذْ يَعْدُونَ) بدل من القرية. والمراد بالقرية أهلها. كأنّه قيل : واسألهم عن [أهل] القرية وقت عدوانهم في السبت وهو بدل الاشتمال. ويجوز أن يكون منصوبا بكانت أو بحاضرة. وقوله : (إِذْ تَأْتِيهِمْ) منصوب بيعدون. ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل. وقوله (شُرَّعاً) ؛ أي : ظاهرة على وجه الماء. وعن الحسن : تشرّع على أبوابهم كأنّها الكباش البيض. يقال : شرع علينا فلان ، إذا دنا منّا وأشرف علينا. (٣)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٤.

(٢) الكشّاف ٢ / ١٧٠.

(٣) الكشّاف ٢ / ١٧٠ ـ ١٧١.

٢١٥

(الْقَرْيَةِ). عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ قوما من أهل أيلة كانت الحيتان سيقت إليهم يوم السبت ليختبر الله طاعتهم. فشرعت إليهم يوم سبتهم في أنهارهم وسواقيهم ، فبادروا إليها يصطادونها. فانحازت طائفة منهم ذات اليمين وقالوا : ننهاكم عن عقوبة الله أن تتعرّضوا لخلاف أمره. واعتزلت طائفة منهم ذات اليسار فلم تعظهم فقالت للطائفة التي وعظتهم : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً)؟ فقالت الطائفة التي وعظتهم : (مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ). (١)

(وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ). واختلف في أنّهم كيف اصطادوا فقيل : إنّهم ألقوا الشبكة في الماء يوم السبت حتّى كان يقع فيها السمك ، ثمّ كانوا لا يخرجون الشبكة من الماء إلى يوم الأحد. وهذا تسبيت محظور. وقيل : اتّخذوا الحياض وكانوا يسوقون الحيتان إليها يمكنها الخروج عنها فيأخذونها يوم الأحد. وقيل : إنّهم اصطادوها وتناولوها باليد في يوم السبت. قيل : كانت هذه القصّة زمن داوود. (٢)

(كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) : مثل ذلك البلاء الشديد. وقيل : كذلك متعلّق بما قبله. أي : لا تأتيهم مثل إتيانهم يوم السبت. (بِما) : بسبب فسقهم. (٣)

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جاء قوم إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام بالكوفة فقالوا : إنّ هذه الجراري تباع في أسواقنا. فتبسّم عليه‌السلام ثمّ قال : قوموا. فأتى الفرات وتكلّم كلمات ، فإذا هي بجرّيّة رافعة رأسها. فقال عليه‌السلام : من أنت؟ فقال : نحن من أهل القرية التي كانت حاضرة البحر من أهل السبت ، فعرض الله علينا ولايتك فقعدنا عنها ، فمسخنا الله. فبعضنا في البرّ وبعضنا في البحر. فأمّا الذين في البحر ، فنحن الجراري. وأمّا الذين في البرّ ، فالضبّ واليربوع. فقال : سمعتم مقالتها؟ قلنا : اللهمّ نعم. وإنّها لتحيض كما تحيض نساؤكم. (٤)

[١٦٤] (وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً

__________________

(١) تفسير القمّيّ ١ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٧٥٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٤.

(٤) تفسير العيّاشيّ ٢ / ٣٥.

٢١٦

قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)

(وَإِذْ قالَتْ). معطوف على (إِذْ يَعْدُونَ). (أُمَّةٌ) ؛ أي : جماعة من القرية الذين ركبوا الصعب والذلول في موعظتهم حتّى أيسوا من قبولهم لآخرين كانوا لا يقلعون عن وعظهم. (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ) : مخترمهم ومطهّر الأرض منهم. (أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً). وإنّما قالوا ذلك لعلمهم أنّ الوعظ لا ينفع فيهم. (قالُوا مَعْذِرَةً) ؛ أي : موعظتنا إبلاء عذر إلى الله ولئلّا ننسب في النهي عن المنكر إلى بعض التفريط (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) : ولطمعنا في أن يتّقوا بعض الاتّقاء. [وقرئ : «معذرة» بالنصب.](١)

(مَعْذِرَةً). قرأ حفص بالنصب على المصدر أو العلّة. أي : اعتذرنا به معذرة. أو :

وعظناهم معذرة. (٢)

[١٦٥] (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ)

(فَلَمَّا نَسُوا). قال : فقال الله : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) ؛ يعني : لمّا تركوا ما وعظوا به ، مضوا على الخطيئة ، فقالت الطائفة التي وعظتهم لانبايتكم في هذه المدينة التي عصيتم الله فيها مخافة أن يعمّنا البلاء. فخرجوا إلى قريب من المدينة فباتوا. فلمّا أصبح أولياء الله غدوّا لينظروا ما حال أهل المعصية فأتوا باب المدينة ، فإذا هو لم ينفتح ، فوضعوا سلّما على رأس المدينة فأشرفوا على القوم ، فإذا هم قردة يتعاوون. فكسروا الباب ودخلوا. فعرفت القردة أنسابها من الإنس ولم تعرف الإنس أنسابها من القردة. فقالوا لهم : ألم ننهكم؟ (٣)

(فَلَمَّا نَسُوا). يعني أهل القرية. أي : تركوا ما ذكّرهم به الصالحون ترك الناسي لما ينساه. (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ) وأخذنا الراكبين المنكر. وقيل : الأمّة [الذين قالوا : (لِمَ تَعِظُونَ)] هم الموعوظون لمّا وعظوا قالوا للواعظين : لم تعظون منّا قوما تزعمون أنّ الله مهلكهم أو

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ١٧١.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٥.

(٣) تفسير القمّيّ ١ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

٢١٧

معذّبهم؟ (بَئِيسٍ) ؛ أي : شديد. (١)

(الَّذِينَ ظَلَمُوا). وأمّا الفرقة الثالثة وهم من لم ينهوا ولم يذهبوا ، فقد مسخوا ذرّا. عن الصادق عليه‌السلام. (٢)

(بَئِيسٍ). أبو بكر : (بَئِيسٍ) على فيعل كضيغم. وابن عامر : [«بئس»] بكسر الباء وسكون الهمزة. ونافع : [(بَئِيسٍ)] بقلب الهمزة ياء. (٣)

[١٦٦] (فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ)

(فَلَمَّا عَتَوْا) ؛ أي : تكبّروا عن ترك ما نهوا عنه. (قُلْنا). عبارة عن مسخهم. كقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (٤) والمعنى : انّ الله عذّبهم أوّلا بعذاب شديد ، فعتوا بعد ذلك فمسخهم. وقيل : إنّه تكرير لما قبله. والعذاب البئيس هو المسخ. (٥)

روي أنّ الممسوخ لم تبق أكثر من ثلاثة أيّام وأنّ هذه مثل لها فنهى الله عزوجل عن أكلها. (٦)

[١٦٧] (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)

(تَأَذَّنَ رَبُّكَ). من الإيذان وهو الإعلام. لأنّ العازم على الأمر يحدّث نفسه به ويؤذنها بفعله. وأجري مجرى فعل القسم كعلم الله وشهد الله. ولذلك أجيب بما يجاب به القسم وهو قوله : (لَيَبْعَثَنَّ). [والمعنى : وإذ حتم ربّك وكتب على نفسه ليبعثنّ] على اليهود (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ). فكانوا يؤدّون الجزية إلى المجوس إلى أن بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله فضربها عليهم إلى آخر الدهر. (لَيَبْعَثَنَّ) : ليسلّطنّ. (٧)

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ١٧١ ـ ١٧٢.

(٢) الخصال ٢ / ١٠٠ ، ح ٥٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٥.

(٤) النحل (١٦) / ٤٠.

(٥) الكشّاف ٢ / ١٧٣.

(٦) الفقيه ٣ / ٢١٣ ، ح ٩٨٩.

(٧) الكشّاف ٢ / ١٧٣.

٢١٨

(مَنْ يَسُومُهُمْ). سلّط عليهم بعد سليمان بخت نصّر فخرّب ديارهم وقتل مقاتليهم. (١)

(وَإِذْ تَأَذَّنَ) ؛ أي : واذكر ـ يا محمّد ـ إذ آذن وأعلم ربّك. فإنّ تأذّن وآذن بمعنى. وقيل :

معناه : أقسم القسم الذي يسمع بالأذن. وعن ابن عبّاس : معناه : قال ربّك. (مَنْ يَسُومُهُمْ). عن المفسّرين والباقر عليه‌السلام : المراد بهم أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٢)

[١٦٨] (وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)

(وَقَطَّعْناهُمْ) ؛ أي : فرّقناهم فيها فلا يكاد يخلو بلد من فرقة منهم. (الصَّالِحُونَ) : الذين آمنوا منهم بالمدينة ، أو الذين وراء الصين. (٣)

(وَقَطَّعْناهُمْ) تتمّة لإدبارهم حتّى لا يكون لهم شوكة [قطّ]. (أُمَماً). مفعول ثان أو حال. (٤)

(وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) ؛ أي : دون الصالح في الدرجة والمنزلة. وهم الذين امتثلوا بعض الأوامر دون بعض. وكان ذلك قبل أن يبعث عيسى فيهم. (وَبَلَوْناهُمْ) ؛ أي : اختبرناهم. (بِالْحَسَناتِ) : بالرخاء. (وَالسَّيِّئاتِ) : والمصائب. (٥)

(وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ) ؛ أي : ناس دون ذلك الوصف منحطّون عنه. وهم الكفرة والفسقة. ومحلّ دون الرفع على أنّه صفة لموصوف محذوف. أي : ومنهم ناس منحطّون عن الصلاح. (بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) ؛ أي : النعم والنقم. (٦)

[١٦٩] (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٥.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٧٦٠.

(٣) الكشّاف ٢ / ١٧٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦٦.

(٥) مجمع البيان ٤ / ٧٦٠.

(٦) الكشّاف ٢ / ١٧٣.

٢١٩

أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)

(فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ) ؛ أي : من بعد المذكورين (خَلْفٌ) وهم الذين كانوا في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله (وَرِثُوا) التوراة ؛ أي : بقيت في أيديهم بعد أسلافهم يقرؤونها ويقفون على ما فيها من الأحكام ولا يعملون بها. (عَرَضَ هذَا الْأَدْنى) ؛ أي : حطام هذا الشيء الدني ، يعني الدنيا. والمراد ما كانوا يأخذون من الرشاء في الأحكام وعلى تحريف الكلم للتسهيل على العامّة. (سَيُغْفَرُ لَنا) ؛ أي : لا يؤاخذنا الله. وفاعل سيغفر [الجارّ والمجرور وهو] لنا أو هو مصدر يأخذون. (وَإِنْ يَأْتِهِمْ). الواو للحال. أي يرجون المغفرة وهم مصرّون عائدون إلى مثل فعلهم ، وغفران الذنوب إنّما يكون بالتوبة. (مِيثاقُ الْكِتابِ). يعني قوله في التوراة : من ارتكب ذنبا عظيما ، لا يغفر إلّا بالتوبة. (وَدَرَسُوا ما فِيهِ) : ما في الكتاب من اشتراط التوبة في [غفران الذنوب]. (خَيْرٌ) من ذلك العرض الخسيس. (لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الرشاء والمحارم. وقوله : (أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ) عطف بيان لميثاق الكتاب ، أي الميثاق المذكور في الكتاب وفيه أنّ إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب. وإن فسّر ميثاق الكتاب بما تقدّم كان (أَنْ لا يَقُولُوا) مفعولا له. (دَرَسُوا ما فِيهِ). عطف على لم يؤخذ لأنّه تقرير. فكأنّه قيل : أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا. (١)

[١٧٠] (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠))

(الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ). مرفوع بالابتداء وخبره (إِنَّا لا نُضِيعُ). أو مجرور عطفا على (الَّذِينَ يَتَّقُونَ). و (إِنَّا لا نُضِيعُ) اعتراض. (٢)

(يُمَسِّكُونَ). أبو بكر بتسكين الميم. أي : يتمسّكون بالتوراة ولا يحرّفونه. (٣)

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ١٧٤.

(٢) الكشّاف ٢ / ١٧٤ ـ ١٧٥.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٧٦٣.

٢٢٠