عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ٢

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


المحقق: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: إحياء الكتب الإسلاميّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-27-2
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٥٣

عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى : (ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى)(١) قال : الأجل الذي غير المسمّى موقوف يقدّم منه ما يشاء ويؤخّر منه يشاء. وأمّا الأجل المسمّى ، فهو الذي ينزل في ليلة القدر إلى مثلها من قابل. فذلك قوله تعالى : (لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ). وفي خبر آخر عنه عليه‌السلام : المسمّى ما سمّي لملك الموت في تلك اللّيلة. وهو الذي قال الله : «فإذا جاء» ـ الآية. (٢)

[٣٥] (يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

(إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ). هي إن الشرطيّة ضمّت إليها ما مؤكّدة لمعنى الشرط ، وأمّا جزاء الشرط فهو الفاء وما بعده من الشرط والجزاء. والمعنى : فمن اتّقى وأصلح منكم. (٣)

(اتَّقى) التكذيب. (وَأَصْلَحَ) عمله. (٤)

[٣٦] (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) منكم. (٥)

[٣٧] (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ)

(مِنَ الْكِتابِ). قيل : الكتاب اللّوح. أي : ممّا أثبت لهم فيه. (٦)

(مِنَ الْكِتابِ) ؛ أي : من العذاب. كنّى عنه بالكتاب لأنّ الكتاب ورد [به]. كقوله :

__________________

(١) الأنعام (٦) / ٢.

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ / ٣٥٤ ، ح ٥ و ٦.

(٣) الكشّاف ٢ / ١٠٢.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٣٧.

(٥) الكشّاف ٢ / ١٠٢.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٣٨.

١٤١

(حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ). (١) وقيل : ينالهم جميع ما كتب لهم وعليهم حتّى إذا جاءتهم الملائكة لحشرهم يتوفّونهم إلى النار يوم القيامة. (أَيْنَ ما كُنْتُمْ). توبيخ لهم. أي : هلّا دفعوا عنكم ما نزل بكم من العذاب؟ (وَشَهِدُوا) ؛ أي : أقرّوا. (٢)

(أَظْلَمُ) ؛ أي : أشنع ظلما. (مِنَ الْكِتابِ) ؛ أي : ما كتب لهم من الأرزاق والأعمار. (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ). حتّى غاية لنيلهم نصيبهم واستيفائهم له. [أي :] إلى وقت وفاتهم. وهي حتّى التي يبتدأ بعدها الكلام ، والكلام هنا الجملة الشرطيّة. و (يَتَوَفَّوْنَهُمْ) حال من الرسل ؛ أي : متوفّيهم. والرسل ملك الموت وأعوانه. و (ما) وقعت موصولة بأين في خطّ المصحف وكان حقّها أن تفصل لأنّها موصولة بمعنى : أين الآلهة التي تدعون؟ (ضَلُّوا عَنَّا) ؛ أي : غابوا عنّا فلا نراهم ولا ننتفع بهم ، اعترافا منهم بأنّهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه وأنّهم لم يحمدوه في العاقبة. (٣)

[٣٨] (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ)

(قالَ ادْخُلُوا) ؛ أي : يقول الله تعالى يوم القيامة لأولئك الذين قال فيهم : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ) وهم كفّار العرب. (فِي أُمَمٍ). في موضع الحال. أي : كائنين في جملة أمم وفي غمارهم مصاحبين لهم. أي : ادخلوا في النار مع أمم (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) وتقدّم زمانهم زمانكم. (لَعَنَتْ أُخْتَها) التي ضلّت بالاقتداء بها. (ادَّارَكُوا) ؛ أي : تداركوا. بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار. (قالَتْ أُخْراهُمْ) منزلة. وهم الأتباع والسفلة. (لِأُولاهُمْ) منزلة. وهي القادة والرؤوس. ومعنى لأولاهم : لأجل أولاهم. لأنّ خطابهم مع الله لا معهم. (عَذاباً

__________________

(١) الزمر (٣٩) / ٧١.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٦٤٢ ـ ٦٤٣.

(٣) الكشّاف ٢ / ١٠٢.

١٤٢

ضِعْفاً) : مضاعفا. (لِكُلٍّ ضِعْفٌ). لأنّ كلّا من القادة والأتباع كانوا ضالّين مضلّين. (١)

(مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ). يعني كفّار الأمم الماضية من النوعين. (هؤُلاءِ أَضَلُّونا) : سوّلوا لنا الضلال فاقتدينا بهم. (ضِعْفاً) ؛ أي : مضاعفا ، لأنّهم ضلّوا وأضلّوا. (ضِعْفٌ). القادة بتضليلهم والأتباع بتقليدهم. (تَعْلَمُونَ). عاصم برواية أبي بكر بالياء على الانفصال. (٢)

(خَلَتْ) ؛ أي : مضت. لأنّه يخلو مكانها. (أُخْتَها). يعني التي سبقتها إلى النار وهي أختها في الدين لا في النسب. (أَضَلُّونا). عن الصادق عليه‌السلام : يعني أئمّة الضلالة. (ضِعْفاً). قيل : المراد من الضعف هنا الحيّات والأفاعيّ. (٣)

[٣٩] (وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ)

(وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ) : قال المتّبعون للتابعين. (مِنْ فَضْلٍ) ؛ أي : تفاوت في الكفر حتّى تطلبوا من الله أن يزيد في عذابنا وينقص من عذابكم. وقيل : معناه : قالت الأمّة السابقة للأمّة المتأخّرة : ما كان لكم علينا من فضل في الرأي والعقل. وقد بلغكم ما نزل بنا من العذاب. فلم اتّبعتمونا؟ وقيل : (مِنْ فَضْلٍ) ؛ أي : تخفيف في العذاب. (تَكْسِبُونَ) من الكفر باختياركم لا باختيارنا لكم. (٤)

(فَما كانَ). عطفوا هذا الكلام على قول الله للسفلة. (لِكُلٍّ ضِعْفٌ) ؛ أي : فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا وأنّا متساوون في استحقاق الضعف. (فَذُوقُوا الْعَذابَ). من قول القادة ، أو من قول الله لهم جميعا. (٥)

(فَذُوقُوا). من قول الفريقين. (٦)

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ١٠٢ ـ ١٠٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٣٨.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٦٤٣ ـ ٦٤٤.

(٤) مجمع البيان ٤ / ٦٤٤.

(٥) الكشّاف ٢ / ١٠٣.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٣٨.

١٤٣

[٤٠] (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ)

(لا تُفَتَّحُ). عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : تفتح أبواب السماء في خمس مواقيت : عند نزول الغيث ، وعند الزحف ، وعند الأذان ، وعند قراءة القرآن ، ومع زوال الشمس ، وعند طلوع الفجر. (١)

وعنه عليه‌السلام : أقفال السموات الشرك بالله. ومفاتيحها قول لا إله إلّا الله. (٢)

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أمّا المؤمنون ، فترفع أفعالهم وأرواحهم إلى السماء فتفتح أبوابها. وأمّا الكافر ، فيصعد بعمله وروحه حتّى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد : اهبطوا به إلى السجّين. وهو واد بحضر موت يقال له برهوت. (٣)

(لا تُفَتَّحُ). قرأ أبو عمرو بالتخفيف ، وحمزة والكسائيّ به وبالياء ، لأنّ التأنيث غير حقيقيّ. (٤)

(لا تُفَتَّحُ) ؛ أي : لا يصعد لهم عمل صالح. (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ). (٥)

قيل : إنّ الجنّة في السماء. والمعنى : انّهم لا يؤذن لهم في صعود السماء ليدخلوا الجنّة. وقيل : لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا كما تصعد أرواح المؤمنين. وقيل : لا تنزل عليهم البركة ولا يغاثون. (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ). (٦) وقرئ : (الْجَمَلُ) بوزن القفل و (الْجَمَلُ) بوزن النصب و (الْجَمَلُ) بوزن الحبل. ومعناها : القلس الغليظ ، لأنّه حبال جمعت وجعلت جملة واحدة. وعن ابن عبّاس : انّ الله أحسن تشبيها من [أن] يشبّه بالجمل. يعني أنّ الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سمّ الإبرة والبعير لا يناسبه ؛ إلّا أنّ قراءة العامّة أوقع ، لأنّ سمّ الإبرة مثل في ضيق المسلك والجمل مثل في عظم الجرم ، فقيل : لا يدخلون الجنّة حتّى يكون ما

__________________

(١) الخصال / ٣٠٣.

(٢) الخصال / ٤٥٦ ، ح ١.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٦٤٦.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٣٨.

(٥) فاطر (٣٥) / ١٠.

(٦) القمر (٥٤) / ١١.

١٤٤

لا يكون أبدا. (١)

(حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : نزلت في طلحة والزبير وجملهم. والجمل جملهم. (٢)

[٤١] (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)

(مِهادٌ) ؛ أي : فراش. (غَواشٍ) : أغطية. (وَكَذلِكَ) ؛ أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع. (الظَّالِمِينَ). لأنّهم ظلموا أنفسهم. (٣)

[٤٢] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

(لا نُكَلِّفُ). خبر الذين. وحذف العائد ؛ أي : منهم. كقولهم : السمن منوان بدرهم. (٤)

(لا نُكَلِّفُ). جملة معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب في اكتساب ما لا يكتنهه وصف الواصف من النعيم الخالد مع التعظيم بما هو في الوسع وهو الإمكان الواسع من الإيمان والعمل الصالح. (٥)

[٤٣] (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : إذا كان يوم القيامة ، دعي بالنبيّ وبأمير المؤمنين وبالأئمّة من ولده عليهم‌السلام فينصبون للناس. فإذا رأتهم شيعتهم قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) ـ الآية.

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ١٠٣ ـ ١٠٤.

(٢) تفسير العيّاشيّ ٢ / ١٧ ، ح ٤٠.

(٣) الكشّاف ٢ / ١٠٤.

(٤) مجمع البيان ٤ / ٦٤٨.

(٥) الكشّاف ٢ / ١٠٤.

١٤٥

يعني هدانا الله بولاية أمير المؤمنين والأئمّة من ولده عليهم‌السلام. (١)

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه ذكر أهل الجنّة فقال : إذا دخلوا ورأوا بيوتهم فيها وفرشهم والزرابيّ قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا). (٢)

(مِنْ غِلٍّ). فسلمت قلوبهم وطهرت. (هَدانا لِهذا) ؛ أي : وفّقنا لموجب هذا الفوز العظيم وهو الإيمان والعمل الصالح. (لِنَهْتَدِيَ). اللّام لتوكيد النفي. (لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا) فكان لنا لطفا وتنبيها على الاهتداء ، فاهتدينا. يقولون ذلك سرورا وتلذّذا بالتكلّم به لا تقرّبا وتعبّدا ؛ كما ترى من رزق خيرا في الدنيا [يتكلّم بنحو ذلك]. (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ). أن مخفّفة من المثقّلة. أي : ونودوا بأنّه تلكم الجنّة. والضمير ضمير الشأن والحديث. أو يكون بمعنى أي ؛ لأنّ المناداة من القول. كأنّه قيل : وقيل لهم [أي] تلكم الجنّة أورثتموها. (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : بسبب أعمالكم لا بالتفضّل كما تقوله المبطلة. (٣)

(وَما كُنَّا). ابن عامر بغير واو على أنّها مبيّنة للأولى. (أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ) إذا رأوها من بعيد أو بعد دخولها. والمنادى له بالذات. (٤)

(أُورِثْتُمُوها). أبو عمرو وحمزة بإدغام الثاء بالتاء لأنّهما مهموستان متقاربتا المخرج. عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : ما من أحد إلّا وله منزل في الجنّة ومنزل في النار. فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النار. والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنّة. فذلك (أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ). (٥)

[٤٤] (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)

(أَنْ قَدْ وَجَدْنا). يحتمل أن تكون مخفّفة من المثقّلة وأن تكون مفسّرة. وكذلك (أَنْ لَعْنَةُ

__________________

(١) الكافي ١ / ٤١٨ ، ح ٣٣.

(٢) كنز الدقائق ٥ / ٨٨ عن مجمع البيان.

(٣) الكشّاف ٢ / ١٠٥ ـ ١٠٦.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٣٩.

(٥) مجمع البيان ٤ / ٦٤٧ و ٦٤٩.

١٤٦

اللهِ). وإنّما قالوا لهم ذلك اغتباطا بحالهم وشماتة بأصحاب النار وزيادة في غمّهم ولتكون حكايته لطفا لمن سمعها. وكذلك قول المؤذّن بينهم : (لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). [وإن قلت : لم] لم يقل : ما وعدكم ، كما قال : ما وعدنا؟ قلت : حذف ذلك إمّا تخفيفا لدلالة ما وعدنا عليه ، أو انّه أطلق ليتناول كلّ ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة. لأنّهم كانوا مكذّبين بذلك أجمع ، ولأنّ الموعود كلّه ممّا ساءهم وما نعيم أهل الجنّة إلّا عذاب لهم فأطلق لذلك. (١)

(وَنادى) ؛ يعني : سينادي. (ما وعد ربنا) من الثواب في كتبه وعلى ألسنة رسله. (فَهَلْ وَجَدْتُمْ). سؤال توبيخ وشماتة. (ما وَعَدَ) من العذاب. (٢)

(نَعَمْ). الكسائيّ بكسر العين. وهما لغتان. (مُؤَذِّنٌ). قيل : هو صاحب الصور. (بَيْنَهُمْ) ؛ أي : الفريقين. (٣)

(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ). عن أبي الحسن عليه‌السلام : المؤذّن أمير المؤمنين عليه‌السلام. (٤)

(مُؤَذِّنٌ). قيل : إنّه مالك خازن النار. (لَعْنَةُ اللهِ) ؛ أي : عذاب الله وسخطه. (عَلَى الظَّالِمِينَ) : من أنكر الولاية. (٥)

(أَنْ). ابن كثير وابن عامر : (أَنْ) بالتشديد والنصب. (٦)

[٤٥] (الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥))

(الَّذِينَ). صفة للظالمين مقرّرة. (عِوَجاً) : زيغا وميلا عمّا هو عليه. (٧)

(وَيَبْغُونَها عِوَجاً) : يطلبون لها العوج بالشبهة التي يلتبسون بها. (٨)

[٤٦] (وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ١٠٦.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٦٥٠ ـ ٦٥١.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٣٩.

(٤) الكافي ١ / ٤٢٦ ، ح ٧٠.

(٥) مجمع البيان ٤ / ٦٥١.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٠.

(٧) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٠.

(٨) مجمع البيان ٤ / ٦٥١.

١٤٧

الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ)

(وَبَيْنَهُما حِجابٌ) ؛ أي : بين الفريقين ؛ لقوله : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ). (١) أو : بين الجنّة والنار ، ليمنع وصول [أثر] إحداهما إلى الأخرى. (وَعَلَى الْأَعْرافِ) ؛ أي : أعراف الحجاب. أي : أعاليه. وهو السور المضروب بينهما. جمع عرف. مستعار من عرف الفرس. (رِجالٌ) : طائفة من الموحّدين قصّروا في العمل فيحبسون بين الجنّة والنار حتّى يقضي الله فيهم ما يشاء. وقيل : قوم علت درجاتهم كالأنبياء والشهداء أو خيار المؤمنين وعلماؤهم أو الملائكة يرون في صورة الرجال. (بِسِيماهُمْ) : بعلاماتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجه وسواده. وإنّما يعرفون ذلك بالإلهام وتعليم الملائكة. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) ؛ أي : إذا نظروا إليهم سلّموا عليهم. (هُمْ يَطْمَعُونَ). حال من الواو على الوجه الأوّل. (٢)

(الْأَعْرافِ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : الأعراف كثبان بين الجنّة والنار. والرجال الأئمّة عليهم‌السلام يقفون على الأعراف مع شيعتهم وقد سبق المؤمنون إلى الجنّة. فيقول الأئمّة لشيعتهم من أصحاب الذنوب : انظروا إلى إخوانكم في الجنّة قد سبقوا إليها بلا حساب. وهو قوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ). ثمّ يقال لهم : انظروا إلى أعدائكم في النار. وهو قوله : (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ) ـ الآية. ثمّ تقول الأئمّة عليهم‌السلام لمن في النار من أعدائهم : هؤلاء شيعتنا وإخواننا الذين كنتم تحلفون لا ينالهم الله برحمته. ثمّ تقول الأئمّة لشيعتهم : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ). ـ الآية. (٣)

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : نحن أصحاب الأعراف ؛ أنا وعمّي وأخي وابن عمّي. والله فالق الحبّ والنوى ، لا يلج النار لنا محبّ ، ولا يدخل الجنّة لنا مبغض. يقول الله عزوجل : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) ـ الآية. (٤)

عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : أقبل عليّ فقال : ما تقول في أصحاب الأعراف؟

__________________

(١) الحديد (٥٧) / ١٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٠.

(٣) تفسير القمّيّ ١ / ٢٣١ ـ ٢٣٢.

(٤) معاني الأخبار / ٥٩.

١٤٨

فقلت : ما هم إلّا مؤمنون أو كافرون. فقال : والله ما هم بمؤمنين ولا كافرين. ولو كانوا مؤمنين ، لدخلوا الجنّة. ولو كانوا كافرين ، لدخلوا النار. ولكنّهم قد استوت حسناتهم سيّئاتهم فقصرت بهم الأعمال. فإن شاء الله أدخلهم الجنّة فبرحمته. وإن شاء أدخلهم النار بذنوبهم ولم يظلمهم. (١)

عن هشام عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ). قال : ألستم تعرفون عرفاء على قبائلكم لتعرفون من فيها من صالح أو طالح؟ قلت : بلى. قال : فنحن أولئك الرجال الذين يعرفون كلّا بسيماهم. وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لعليّ عليه‌السلام : يا عليّ ، إنّك والأوصياء من بعدك أعراف بين الجنّة والنار. لا يدخل الجنّة إلّا من عرفكم وعرفتموه. ولا يدخل النار إلّا من أنكركم وأنكرتموه. (٢)

(وَنادَوْا). أي المؤمنون المذنبون لمن سبقهم إلى الجنّة بالسلام عليهم. (لَمْ يَدْخُلُوها). يعني من تأخّر من المؤمنين في الأعراف عن دخول الجنّة. (٣)

روى الثقة عليّ بن إبراهيم في التفسير عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : كلّ أمّة يحاسبها إمام زمانهم ويعرف الأئمّة أولياءهم وأعداءهم بسيماهم. وهو قوله : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ). فيعطون أولياءهم كتابهم بيمينهم فيمرّون إلى الجنّة بلا حساب. ويعطون أعداءهم كتابهم بشمالهم فيمرّون إلى النار بلا حساب. (٤)

أقول : فعلى هذا الخبر وكثير من الأخبار ممّا نقلناه هنا ولم نذكره يدلّ على أنّ المراد بالأعراف المعرفة وتوسّم الناس وتمييز المؤمن عن غيره. ولعلّه من بطون الآية ، فلا منافاة بين الأخبار ولا بينها وبين ما حكيناه من المفسّرين.

(لَمْ يَدْخُلُوها) لا محلّ له لأنّه استئناف. كأنّ سائلا سأل من حال أصحاب الأعراف فقيل له : (لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ). يعني حالهم أنّ دخولهم الجنّة استأخر عن دخول

__________________

(١) الكافي ٢ / ٣٨١ ، ح ١.

(٢) تفسير العيّاشيّ ٢ / ١٧ ـ ١٨ ، ح ٤٢ و ٤٣.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٦٥٣.

(٤) تفسير القمّيّ ٢ / ٣٨٤.

١٤٩

أهل الجنّة فلم يدخلوها وهم محبوسون لكنّهم لم ييأسوا. ويجوز أن يكون له محلّ بأن يقع صفة لرجال. (١)

[٤٧] (وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)

(وَإِذا صُرِفَتْ). يعني الذين على الأعراف. وإنّما قال : (صُرِفَتْ) لأنّ نظرهم نظر عداوة فلا ينظرون إليهم إلّا إذا صرفت وجوههم إليهم. (٢)

(قالُوا) تعوّذا بالله. (لا تَجْعَلْنا) في النار. (٣)

[٤٨] (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ)

(رِجالاً) من رؤساء الكفّار. (جَمْعُكُمْ) : كثرتكم. أو : جمعكم المال. (تَسْتَكْبِرُونَ) عن الحقّ ، أو على الخلق. (٤)

[٤٩] (أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)

(أَهؤُلاءِ). من تتمّة قولهم للرجال. والإشارة إلى ضعفاء أهل الجنّة كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أنّ الله لا يدخلهم الجنّة. (٥)

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ). يقال لأصحاب الأعراف ـ وهم من قصرت أعمالهم فلم يسبقوا إلى دخول الجنّة ـ بعد أن يحبسوا على الأعراف وينظروا إلى [الفريقين] ويعرفوا كلّا بسيماهم ويقولوا ما يقولون. وفائدة ذلك بيان أنّ الجزاء على قدر الأعمال وأنّ التقدّم والتأخّر على

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٦٥٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٠.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٠.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٠.

١٥٠

حسبها. ويعلم أنّ العصاة يوبّخهم كلّ أحد حتّى أقصر الناس عملا. (١)

(ادْخُلُوا الْجَنَّةَ). من قول أهل الأعراف لضعفاء المؤمنين. (٢)

[٥٠] (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠))

سأل نافع مولى عمر بن الخطّاب أبا جعفر الباقر عليه‌السلام فقال : أخبرني عن قول الله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ)(٣) أيّ أرض تبدّل؟ فقال عليه‌السلام : بخبز بيضاء يأكلون منها حتّى يفرغ الله من حساب الخلائق. فقال نافع : إنّهم عن الأكل لمشغولون! فقال أبو جعفر عليه‌السلام : هم في النار أشدّ شغلا ويقولون : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ). ما شغلهم إذ دعوا الطعام فأطعموا الزقّوم ودعوا الشراب فسقوا الحميم. فقال : صدقت يابن رسول الله. (٤)

(أَفِيضُوا). وإنّما يطلبون ذلك مع يأسهم من الإجابة حيرة في أمرهم كما يقول المضطرّ الممتحن. (٥)

(أَنْ أَفِيضُوا) ؛ أي : صبّوا علينا من الماء نسكّن به العطش أو ندفع به حرّ النار. (أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) من الطعام. (٦)

[٥١] (الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١))

(لَهْواً وَلَعِباً). حيث حرّموا ما شاؤوا بشهوتهم واغترّوا بطول البقاء في الدنيا. (نَنْساهُمْ) ؛ أي : نتركهم في العذاب كما تركوا التأهّب والعمل للقاء هذا اليوم. وقيل : معناه : نعاملهم معاملة المنسيّ في النار فلا نجيب لهم دعوة ولا نرحم لهم عبرة كما تركوا الاستدلال

__________________

(١) الكشّاف ٢ / ١٠٧.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٦٥٥.

(٣) إبراهيم (١٤) / ٤٨.

(٤) تفسير القمّيّ ١ / ٢٣٢ ـ ٢٣٥.

(٥) الكشّاف ٢ / ١٠٨.

(٦) مجمع البيان ٤ / ٦٥٦.

١٥١

حتّى نسوا العلم وتعرّضوا للنسيان. واختلف في هذه الآية فقيل : إنّ الجميع كلام الله على وجه الحكاية عن أهل الجنّة. وتمّ كلام أهل الجنّة عند قوله : (حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ). وقيل : إنّه من كلام [أهل] الجنّة إلى قوله : (الْحَياةُ الدُّنْيا) ، ثمّ استأنف سبحانه الكلام بقوله : (فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ). (١)

عن الرضا عليه‌السلام : يعني بالنسيان أنّه لم يثبهم كما يثيب أولياءه. وقد تقول العرب في باب النسيان : قد نسينا فلان فلا يذكرنا. أي إنّه لم يأمر لهم بخير ولا يذكرهم به. (٢)

(لَهْواً). وهو صرف الهمّ بما لا يحسن أن يصرف به. واللّعب : طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به. (يَجْحَدُونَ) ؛ أي : ينكرون أنّها من عند الله. (٣)

[٥٢] (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢))

(فَصَّلْناهُ) : بيّنّا معالمه مفصّلة. (عَلى عِلْمٍ) : عالمين بوجه تفصيله حتّى جاء حكيما. وفيه دليل على أنّه عالم بعلم. أو : مشتملا على علم. فيكون حالا من المفعول. (٤)

(هُدىً). يجوز أن يكون مفعولا. وقيل : مصدر وضع موضع الحال. (بِكِتابٍ). وهو القرآن. (فَصَّلْناهُ) : بيّنّاه. (عَلى عِلْمٍ) ؛ أي : ونحن عالمون به. (هُدىً) ؛ أي : دلالة ترشدهم إلى الحقّ. (وَرَحْمَةً) على جميع المؤمنين. لأنّهم المنتفعون به. (٥)

(هُدىً). حال من منصوب «فصلنا» كما أنّ (عَلى عِلْمٍ) حال من مرفوعه. (عَلى عِلْمٍ) ؛ أي : عالمين كيف نفصّل أحكامه ومواعظه. (٦)

[٥٣] (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ

__________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٦٥٦.

(٢) التوحيد / ٢٥٩ ـ ٢٦٠.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤١.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤١.

(٥) مجمع البيان ٤ / ٦٥٧.

(٦) الكشّاف ٢ / ١٠٩.

١٥٢

خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)

(إِلَّا تَأْوِيلَهُ) ؛ أي : هل ينظرون إلّا عاقبة الجزاء عليه وما يؤول مغبّة أمورهم إليه. وإنّما أضاف إليهم مجازا لأنّهم كانوا جاحدين لذلك غير متوقّعين له. وإنّما كان ينتظر بهم المؤمنون لاعترافهم به. وقيل : إنّ تأويله ما وعدوا به من البعث والنشور والحساب. (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) ؛ أي : عاقبة ما وعدوا به ، يقول الذين تركوا العمل به. (رُسُلُ رَبِّنا). اعترفوا بأنّ ما جاءت به الرسل كان حقّا. (فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ). تمنّوا أن يكون لهم من يشفع في إزالة العقاب. (فَيَشْفَعُوا). نصب لأنّه جواب التمنّي بالفاء. (أَوْ نُرَدُّ) إلى الدنيا. (١)

(أَوْ نُرَدُّ) ؛ أي : هل يكون لنا ردّ؟ (فَنَعْمَلَ) ؛ أي : فأن نعمل. أي : فعمل منّا. (٢)

(إِلَّا تَأْوِيلَهُ) ؛ أي : إلّا عاقبة أمره وما يؤول إليه من تبيّن صدقه وظهور صحّة ما نطق من الوعد والوعيد. (أَوْ نُرَدُّ). جملة معطوفة على الجملة التي قبلها داخلة معها في حكم الاستفهام. كأنّه قيل : هل لنا من شفعاء؟ أو هل نردّ؟ ورافعه وقوعه موقعا يصلح للاسم. كما تقول ابتداء : هل يضرب زيد؟ ولا تطلب له فعلا آخر يعطف عليه. فلا يقدّر : هل يشفع لنا شافع أو نردّ؟ وقرأ ابن اسحاق : (أَوْ نُرَدُّ) بالنصب ، عطفا على (فَيَشْفَعُوا). (٣)

(فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي). جواب الاستفهام الثاني. (ضَلَّ عَنْهُمْ) : بطل عنهم فلم ينفعهم. (٤)

[٥٤] (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤))

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) ؛ أي : في ستّة أوقات. كقوله : (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ). (٥) أو في مقدار ستّة أيّام. فإنّ المتعارف من اليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن حينئذ. وفي

__________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٦٥٧ ـ ٦٥٨.

(٢) مجمع البيان ٤ / ٦٥٧.

(٣) الكشّاف ٢ / ١٠٩.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤١.

(٥) الأنفال (٨) / ١٦.

١٥٣

خلق الأشياء مدرّجا مع القدرة على إيجادها دفعة حثّ على التأنّي في الأمور. (ثُمَّ اسْتَوى) ؛ أي : استوى أمره واستولى. والعرش : الجسم المحيط بسائر الأجسام. سمّي به لارتفاعه أو للتشبيه بسرير الملك. فإنّ الأمور والتدابير معه. وقيل : الملك. (يُغْشِي) : يغطّيه به. ولم يذكر عكسه للعلم به ، أو لأنّ اللّفظ يحتملها. قرأ حمزة والكسائيّ : «يغشي» بالتشديد ، للدلالة على التكرير. (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) ؛ أي : يعقبه سريعا كالطالب له لا يفصل بينهما شيء. (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) ؛ أي : بقضائه وتصريفه. ونصب الشمس والقمر والنجوم بالعطف على السموات ونصب مسخّرات على الحال. وقرأ ابن عامر كلّها بالرفع على الابتداء والخبر. (لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ). لأنّه الموجد والمتصرّف. (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) : تعالى بالوحدانيّة في الألوهيّة وتعظّم بالتفرّد بالربوبيّة. (١)

(فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ). عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : ولو شاء أن يخلقها في أقلّ من لمح البصر ، لخلق ؛ ولكنّه جعل الأناة والمداراة مثالا لأمنائه وإيجابا للحجّة على الخلق. (٢)

(بِأَمْرِهِ). متعلّق بمسخّرات. أي : خلقهنّ جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره وكما يريد أن يصرفها. سمّى ذلك أمرا على التشبيه كأنّهنّ مأمورات بذلك. (٣)

عن أبي جعفر عليه‌السلام : انّ الله خلق الشهور اثني عشر شهرا وهي ثلاثمائة وستّون يوما فحجر منها ستّة أيّام خلق فيها السموات والأرض. فمن ثمّ تقاصرت الشهور. (٤) وطرحت هذه الستّة من أصل السنة فصارت ثلاثمائة وأربعون وخمسون. (٥)

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : من بات بأرض قفر فقرأ : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) إلى : (الْعالَمِينَ) حرسته الملائكة وتباعدت عنه الشياطين إلى الصباح. فمضى الرجل فإذا هو بقرية خراب فبات فيها ولم يقرأ الآية ، فتغشّاه الشيطان فإذا هو آخذ بخطمه. (٦) فقال له صاحبه : أنظره. واستيقظ الرجل فقرأ الآية ، فقال الشيطان لصاحبه : أرغم الله أنفك. احرسه الآن حتّى يصبح.

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤١ ـ ٣٤٢.

(٢) الاحتجاج ١ / ٣٧٩.

(٣) الكشّاف ٢ / ١٠٩.

(٤) الخصال / ٤٨٦ ، ح ٦٢.

(٥) الخصال / ٦٠٢ ، ح ٧.

(٦) الخطم : مقدّم الأنف والفم. (هامش النسخة)

١٥٤

فلمّا أصبح ، رأى آثار شعورهم فأخبر به أمير المؤمنين عليه‌السلام. (١)

وسأل اليهود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن خلق السموات والأرض ، فقال : خلق الأرض يوم الأحد والاثنين. وخلق الجبال وما فيهنّ يوم الثلثاء. وخلق الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب يوم الأربعاء. وخلق يوم الخميس السماء. وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة. (٢)

(ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ؛ يعني : استوى تدبيره وعلا أمره. وعن الكاظم عليه‌السلام : استوى على ما دقّ وجلّ. (٣)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : خلق الجنّة يوم الخميس وسمّاه مونسا. (٤)

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : الأرض مسيرة خمسمائة سنة. الخراب مسيرة أربعمائة عام والعمران مائة عام. والشمس ستّون فرسخا في ستّين فرسخا. والقمر أربعون فرسخا في أربعين فرسخا. بطونهما يضيئان لأهل السماء وظهورهما لأهل الأرض. وخلق الشمس قبل القمر. (٥)

(ثُمَّ اسْتَوى). وفي الكافي عن الصادق عليه‌السلام : ثمّ استوى في كلّ شيء فليس شيء أقرب إليه من شيء ، ولم يبعد منه بعيد ولم يقرب منه قريب. استوى في كلّ شيء. (٦)

[٥٥] (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)

(وَخُفْيَةً). بكسر الخاء أبو بكر. (٧)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : التضرّع أن تحرّك إصبعك السبّابة ممّا يلي وجهك. وهو دعاء

__________________

(١) الكافي ٢ / ٦٢٥ ـ ٦٢٦ ، ح ٢١.

(٢) روضة الواعظين / ٣٩٤.

(٣) الاحتجاج ٢ / ١٥٧.

(٤) روضة الواعظين / ٣٩٤.

(٥) تفسير القمّيّ ٢ / ١٧.

(٦) الكافي ١ / ١٢٧ ـ ١٢٨ ، ح ٦ و ٧ ، وتفسير الصافي ٢ / ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

(٧) مجمع البيان ٤ / ٦٦٠.

١٥٥

الخفية. (١)

(تَضَرُّعاً) ؛ أي : ذوي تضرّع وخفية. فإنّ الإخفاء دليل الإخلاص. (لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) : المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره. نبّه به على أنّ الداعي ينبغي أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء والصعود إلى السماء. وقيل : هو الصياح في الدعاء والإسهاب فيه. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : سيكون قوم يعتدون في الدعاء. وحسب المرء أن يقول : اللهمّ إنّي أسألك الجنّة وما قرّب إليها من قول وعمل. وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول وعمل. ثمّ قرأ : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ). (٢)

[٥٦] (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)

(وَلا تُفْسِدُوا). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : كانت فاسدة فأصلحها الله بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله. فأفسدوها حين تركوا أمير المؤمنين عليه‌السلام. (٣)

(خَوْفاً وَطَمَعاً) : ذوي خوف من الردّ لقصور أعمالكم وعدم استحقاقكم وطمع في إجابته تفضّلا وإحسانا لفرط رحمته. (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ). ترجيح للطمع وتنبيه على ما يتوسّل به إلى الإجابة. وتذكير قريب لأنّ الرحمة بمعنى الرحم ، أو لأنّه صفة محذوف ، أي : أمر قريب. (٤)

(قَرِيبٌ). إنّما ذكّر لأنّ تأنيث الرحمة غير حقيقيّ. (٥)

[٥٧] (وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى

__________________

(١) الكافي ٢ / ٤٨١ ، ح ٥.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٢.

(٣) تفسير القمّيّ ١ / ٢٣٦.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٢.

(٥) الكشّاف ٢ / ١١١.

١٥٦

لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

(بُشْراً). عاصم : (بُشْراً) مخفّف بشر جمع بشير. ونافع : (نَشْراً) بالنون المضمومة والشين المعجمة ، جمع نشور بمعنى ناشر. وابن عامر : (نَشْراً) بالتخفيف. وحمزة بفتح النون على أنّه مصدر في موضع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق. فإنّ الإرسال والنشر متقاربان. (١)

(الرِّياحَ). ابن كثير وحمزة والكسائيّ : «الريح» على الوحدة. (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) : قدّام رحمته. يعني المطر. فإنّ الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدرّه والدبور تفرّقه. (إِذا أَقَلَّتْ) ؛ أي : حملت. واشتقاقه من القلّة. فإنّ المقلّ للشيء يستقلّه. (ثِقالاً) بالماء. جمعه لأنّ السحاب بمعنى السحائب. (سُقْناهُ) ؛ أي : السحاب. وأفرد الضمير باعتبار اللّفظ. (لِبَلَدٍ) ؛ أي : لأجله ، أو لإحيائه ، أو لسقيه. (فَأَنْزَلْنا بِهِ) ؛ أي : بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق أو بالريح. وكذلك (فَأَخْرَجْنا بِهِ). ويحتمل فيه عود الضمير إلى الماء. وإذا كان للبلد ، فالباء للإلصاق في الأوّل وللظرفيّة في الثاني. وإذا كان لغيره ، فهي للسببيّة فيهما. (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) : من كلّ أنواعها. (كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى). الإشارة إلى إخراج الثمرات أو إلى إحياء البلد الميّت. أي : كما نحييه بالنبات والثمرات ، نخرج الموتى من الأجداث بردّ النفوس إلى الأبدان. (تَذَكَّرُونَ) فتعلمون أنّ من قدر على ذلك ، قدر على هذا. (٢)

[٥٨] (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ)

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) ؛ أي : الأرض الكريمة التربة. (٣)

(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ). مثل للأئمّة عليهم‌السلام يخرج علمهم بإذن ربّهم. (وَالَّذِي خَبُثَ). مثل

__________________

(١) انظر : تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٣ ، ومجمع البيان ٤ / ٦٦٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٣.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٣.

١٥٧

لأعدائهم لا يخرج علمهم (إِلَّا نَكِداً) ؛ أي : كذبا فاسدا. (١)

وروى ابن شهر آشوب أنّه قال عمرو بن العاص للحسين عليه‌السلام : ما بال لحاكم أوفر من لحانا؟ فقال عليه‌السلام : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ) ـ الآية. (٢)

(يَخْرُجُ نَباتُهُ) ؛ أي : زرعه خروجا حسنا ناميا من غير كدّ ولا عناء. (بِإِذْنِ رَبِّهِ) ؛ أي : بأمره وإرادته. (وَالَّذِي خَبُثَ) ؛ أي : الأرض السبخة لا يخرج ريعها إلّا قليلا لا ينتفع به. وهذا باعث للإنسان على طلب الخير من مظانّه. (نُصَرِّفُ الْآياتِ) ؛ أي : الدلالات المختلفة. أي : كما بيّنّا هذا المثل ، نبيّن الدلالات للشاكرين. وروي عن ابن عبّاس وجماعة : انّ هذا مثل ضربه الله للمؤمنين والكافرين فأخبر بأنّ الأرض كلّها جنس واحد إلّا أنّ [منها طيّبة تلين بالمطر ويحسن نباتها ويكثر ريعها و] منها سبخة لا تنبت شيئا فإن أنبتت فما لا منفعة [فيه]. وكذلك القلوب كلّها لحم ودم ثمّ منها ليّن يقبل الوعظ ، ومنها قاس لا يقبله. فليشكر الله من لان قلبه لذكره. (٣)

(نَكِداً). نصب على الحال. (نُصَرِّفُ الْآياتِ) : نردّدها ونكرّرها. (يَشْكُرُونَ) فيتفكّرون فيها ويعتبرون بها. (٤)

[٥٩] (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩))

لمّا ذكر الله سبحانه الأدلّة على وحدانيّته ، ذكر بعده حال من كذّب الرسل ، تسلية لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله على احتمال الأذى من قومه وتحذيرا من الاقتداء بأولئك. فقال : (لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً) ؛ أي : حمّلناه الرسالة عليهم. وهو أوّل نبيّ بعد إدريس. وقيل : إنّه كان نجّارا وولد في العام الذي مات فيه آدم عليه‌السلام [قبل موت آدم في الألف الأولى]. وبعث في الألف الثانية وهو ابن أربعمائة. وقيل : ابن خمسين. فلبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما. وكان في تلك

__________________

(١) تفسير القمّيّ ١ / ٢٣٦.

(٢) المناقب ٤ / ٦٧.

(٣) مجمع البيان ٤ / ٦٦٦.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٣.

١٥٨

الألف ثلاثة قرون عايشهم وعمّر فيهم. وكان يدعوهم ليلا ونهارا فلا يزيدهم دعاؤه إلّا فرارا. وكان يضربه قومه حتّى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : اللهمّ اهد قومي فإنّهم لا يعلمون. (١)

(لَقَدْ). جواب قسم محذوف. (نُوحاً). نوح بن لمك بن متوشلخ بن إدريس. وهو أوّل نبيّ بعث بعده وهو ابن خمسين أو أربعين سنة. (يَوْمٍ) ؛ أي : يوم القيامة. أو : يوم الطوفان. (٢)

وقيل : اسم نوح عبد الغفّار. وإنّما سمّي نوحا لأنّه كان ينوح على نفسه. (٣) وبه واية. (٤) وفي أخرى اسمه عبد الأعلى. (٥) وفي أخرى عبد الملك. (٦) وفي رواية : سمّي نوحا لأنّه بكى خمسمائة عام. (٧) (حسن)

(مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ). أبو جعفر والكسائيّ : (غَيْرُهُ) بخفض الراء.

من جرّ (غَيْرُهُ) جعله صفة لإله على اللّفظ وجعل (لَكُمْ) مستقرّا أو غير مستقرّ ولكن بإضمار الخبر. أي : ما لكم في الوجود ، أو في العالم. ومن رفعه ، جعله بدلا من قوله : (مِنْ إِلهٍ) و (غَيْرُهُ) بمنزلة الاسم الذي بعد إلّا. (٨)

في العيّاشيّ : كانت شريعة نوح عبادة الله وحده بالتوحيد والإخلاص والصلاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحلال والحرام. ولم يفرض عليهم أحكام حدود ولا فرض مواريث. (٩) (حسن)

[٦٠] (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠))

(قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) ؛ أي : الأشراف والرؤساء الذين يملؤون الصدور هيبة وجمالا.

__________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٦٦٨.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٣.

(٣) تفسير القمّيّ ١ / ٣٢٨.

(٤) علل الشرائع / ٢٨ ، ح ١.

(٥) علل الشرائع / ٢٨ ، ح ٣.

(٦) علل الشرائع / ٢٨ ، ح ٢.

(٧) علل الشرائع / ٢٨ ، ح ٢.

(٨) مجمع البيان ٤ / ٦٦٧.

(٩) كنز الدقائق ٥ / ١١٣ عن تفسير العسكريّ عليه‌السلام.

١٥٩

(لَنَراكَ فِي ضَلالٍ) ؛ أي : نعلمك ، لدعائك إيّانا إلى ترك عبادة الأصنام. (١)

[٦١] (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)

(ضَلالَةٌ). لم يقل ضلال كما قالوا. وذلك أنّ الضلالة أخصّ من الضلال فكانت أبلغ في نفي الضلال عن نفسه. كأنّه قال : ليس فيّ شيء من الضلال. كما لو قيل [لك : ألك] تمر؟ فقلت : [ما لي] تمرة. (٢)

(وَلكِنِّي) ؛ يعني : لكنّي على هدى لأنّي رسول. (٣)

[٦٢] (أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ)

جمع الرسالات لاختلاف أوقاتها أو لتنوّع معانيها كالعقائد والمواعظ والأحكام ، أو لأنّ المراد بها ما أوحي إليه وإلى الأنبياء قبله كصحف شيث وإدريس. (٤)

(أَنْصَحُ لَكُمْ). يقال : نصحته ، ونصحت له. وفي زيادة اللّام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة وأنّها وقعت خالصة للمنصوح له مقصودا بها جانبه لا غير. فربّ نصيحة ينتفع بها الناصح فيقصد النفعين جميعا. ولا نصيحة أمحض من نصيحة الله ورسله. (٥)

(أُبَلِّغُكُمْ). أبو عمرو بتخفيف اللّام. (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) في تبليغ الرسالة على وجهها من غير زيادة ولا نقصان. (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ) ؛ أي : من توحيده وعدله ودينه. أو : من بطشه وشدّة عذابه. لأنّ قوم نوح لم يسمعوا قطّ أنّ [الله] عذّب قوما بخلاف من بعدهم. (٦)

[٦٣] (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣))

(أَوَعَجِبْتُمْ). الهمزة للإنكار. والواو للعطف على محذوف. أي : أكذبتم وعجبتم؟ (عَلى

__________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٦٦٩.

(٢) الكشّاف ٢ / ١١٣ ـ ١١٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤٤.

(٥) الكشّاف ٢ / ١١٥.

(٦) مجمع البيان ٤ / ٦٦٧ و ٦٦٩.

١٦٠