عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-26-5
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦٣

عقابه وهو غائب منتظر لقوّة إيمانه ممّن لا يخافه لضعف قلبه وقلّة إيمانه. فذكر العلم وأراد وقوع المعلوم وظهوره أو تعلّق العلم. (بَعْدَ ذلِكَ) ؛ أي : الابتلاء بالصيد. (عَذابٌ أَلِيمٌ) لأنّه إذا لم يراع حكم الله فيه ، كيف يراعيه فيما تميل إليه النفس. (١)

[٩٥] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ)

(لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ). امتحن الله أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بصيد البرّ كما امتحن أمّة موسى بصيد البحر. (٢)

(لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ؛ أي : محرمون. أو : دخلتم في الحرم. أو هما معا. وفي الأخبار دلالة على تحريم ما هو أعمّ من القتل كالدلالة والإشارة والإمساك ونحوها. والصيد كلّ ما كان برّيّا وحشيّا أكل أو لم يؤكل. وهو المشهور عندنا وإن خرجت بعض الأفراد بالنصوص. (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً) : ذاكرا الإحرام عالما بأنّه يحرم عليه قتل ما يقتله. والأكثر من العلماء وافقونا على أنّ ذكر العمد ليس لتقييد وجوب الجزاء ، فإنّ إتلاف العامد والمخطئ واحد في إيجاب الجزاء ، فيكون التقييد تمهيدا لقوله : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) فنبّه على تغليظ الحرمة فيه. أو لأنّ الآية نزلت فيمن تعمّد. فقد روي أنّه عنّ لهم عام الحديبيّة حمار وحش فطعنه أحدهم برمحه فقتله ، فنزلت. وأخذ بعض العامّة بظاهر القيد فلم يوجب في الخطأ شيئا. وعن بعضهم : نزل الكتاب بالعمد ووردت السنّة بالخطأ.

(فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ). قرأ الكوفيّون ويعقوب برفع جزاء والمثل معا. أي : فعليه جزاء يماثل ما قتل من النعم. والجارّ والمجرور صفة ثانية للجزاء. وقرأ الباقون بإضافة

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٢ ـ ٢٨٣.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٣٧٧.

٦٤١

المصدر إلى المفعول أو إقحام مثل. أي : فعليه أن يجزى مثل ما قتل. وهذه المماثلة عندنا باعتبار الخلقة والهيئة. ووافقنا عليه الشافعيّة والمالكيّة حيث أوجبوا في النعامة بدنة وفي حمار الوحش بقرة وفي الظبي والأرنب شاة إلى غير ذلك. ويوضحه قوله : (مِنَ النَّعَمِ). لأنّه بيان للمثل. وقال أبو حنيفة : المراد المماثلة في القيمة ، فحكم بأنّ المثل الواجب هو القيمة قياسا على ما لا مثل له وأوجب تقويم الصيد وهو مخيّر بين أن يشتري به هديا أو طعاما يعطي كلّ مسكين نصف صاع.

(ذَوا عَدْلٍ). قراءة أهل البيت عليهم‌السلام : «ذو عدل» بغير ألف. وهو الإمام عليه‌السلام ؛ كما جاء في الروايات. (ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ). أي يحكم بالمماثلة. وذلك لأنّ الأنواع قد تشتبه وتتشابه كثيرا فيحتاج التمييز إلى حكم العدل. ولأنّه قد يقتل صيدا ولا يعلم مثله لعدم العلم به فيحتاج إلى حكم العدل ليحصل العلم به. وقوله : (ذَوا عَدْلٍ) المراد منه الشاهدان لا الحاكم ؛ إذ لا تعدّد فيه. وفي أخبارنا أنّ المراد بذوا عدل رسول الله والأئمّة عليهم‌السلام. لو اختار الطعام ، فضّ قيمة البدنة على البرّ وأطعم ستّين مسكينا بحيث لو نقص عن الستّين لا يجب الإكمال ولو زاد لم يطعم. وكذا الكلام في غير النعامة من أفراد الصيد على ما علم بيانه من الأخبار وإطلاق الآية منزل عليه. (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) ؛ أي : ما ساواه من الصوم. فيصوم عن كلّ مسكين يوما. ومقتضى الآية التخيير بين الأبدال الثلاثة. وهو قول أكثر الأصحاب لظهور أو في ذلك. وذهب الشيخ في النهاية وجماعة إلى الترتيب ؛ بمعنى أنّ الواجب أوّلا الجزاء المماثل من النعم ، ومع العجز عنه الإطعام بقدره ، ثمّ الصيام بقدر المساكين. وفي ظاهر بعض الأخبار دلالة عليه.

(هَدْياً). حال من الهاء في به أو من جزاء لتخصيصه بالصفة. أو بدل عن مثل باعتبار محلّه. (بالِغَ الْكَعْبَةِ). صفة هديا. لأنّ الإضافة لفظيّة. ومعنى بلوغ الكعبة ذبحه بالحرم. إن كان في إحرام العمرة ، ذبحه بمكّة قبالة الكعبة. وإن كان في إحرام الحجّ ، ذبحه بمنى. فالمراد بالكعبة الحرم. ويتصدّق به في الحرم. وأبو حنيفة ، وإن أوجب ذبحه في الحرم ، لكنّه يتصدّق

٦٤٢

به حيث يشاء. (أَوْ كَفَّارَةٌ). عطف على جزاء المرفوع. (طَعامُ مَساكِينَ). عطف بيان ، أو بدل منه. والمعنى : أو يكفّر بإطعام مساكين ما يساوي قيمة الهدي. وعلى هذا أصحابنا والشافعيّة. وحينئذ فيفضّ القيمة على غالب القوت كالبرّ ويعطي لكلّ مسكين مدّا. (١)

(لِيَذُوقَ). متعلّق بالمحذوف. أي : فعليه الجزاء ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام. أو : ليذوق الثقل الشديد على مخالفة أمر الله. لأنّ اثنين منها نقص في المال والثالث نقص في البدن. (فَيَنْتَقِمُ اللهُ). وقد استدلّ به جماعة من الأصحاب على عدم وجوب الكفّارة بالمعاودة إلى قتل الصيد عمدا ، والعلّامة وجماعة على الوجوب لعدم المنافاة بين وجوب الجزاء والانتقام.

(وَبالَ) : المكروه والضرر. (عَمَّا سَلَفَ) : عمّا وقع في الإحرام قبل أن تراجعوا رسول الله. أو : عمّا سلف لكم في الجاهليّة. لأنّهم كانوا متعبّدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرّما. (٢)

[٩٦] (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ)

(أُحِلَّ لَكُمْ) أيّها المحرمون (صَيْدُ الْبَحْرِ). هو ما لا يعيش إلّا في الماء كالسمك لا البطّ. والمراد المأكول لا أنّ كلّ صيده حلال الأكل كما قاله بعضهم.

(وَطَعامُهُ) : السمك اليابس. لأنّه يدّخر ليطعم منه فصار كالمقتات من الأغذية. (مَتاعاً لَكُمْ) ؛ أي : لأجل تمتّع حاضريكم. (وَلِلسَّيَّارَةِ) : مسافريكم يتزوّدون بقديده كما يأكلون جديده. وقد تزوّد موسى عليه‌السلام الحوت في مسيره إلى الخضر. (صَيْدُ الْبَرِّ) ؛ أي : ما صيد فيه. والمعنى المصدريّ. (ما دُمْتُمْ) محرمين. (٣)

__________________

(١) مسالك الأفهام ٢ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

(٢) الكشّاف ١ / ٦٧٩.

(٣) مسالك الأفهام ٢ / ٢٧٧ ـ ٢٧٨.

٦٤٣

[٩٧] (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

(جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ) ؛ أي : صيّرها. وإنّما سمّي البيت الكعبة لتكعّبها. (الْبَيْتَ الْحَرامَ). عطف بيان على جهة المدح ، أو المفعول الثاني. (قِياماً لِلنَّاسِ) ؛ أي : انتعاشا لهم. أي : سبب انتعاشهم في أمر معاشهم ومعادهم ، يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف ويربح فيه التجّار ويتوجّه إليه الحجّاج والعمّار. أو : ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم. وقرأ ابن عامر : «قيما» على أنّه مصدر على فعل ـ كالشبع ـ أعلّ عينه كما أعلّت في فعله ، ونصبه على المصدر أو الحال. (١)

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله حين سأله نفر من اليهود : لأيّ شيء سمّيت الكعبة كعبة؟ قال : لأنّها مربّعة. فقيل له : ولم صارت مربّعة؟ قال : لأنّها بحذاء البيت المعمور وهو مربّع. وصار البيت المعمور مربّعا لأنّه بحذاء العرش وهو مربّع. وصار العرش مربّعا لأنّ الكلمات التي بني عليها أربع ؛ وهي : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر. وسمّي البيت الحرام لأنّه حرام على المشركين أن يدخلوه. (٢)

(وَالشَّهْرَ الْحَرامَ) : الذي يؤدّى فيه الحجّ. وهو ذو الحجّة لأنّه المناسب لقرنائه. وقيل : الجنس. (٣)

(قِياماً لِلنَّاسِ). لأنّهم كانوا يجتمعون فيه لتجاراتهم. (٤)

(الْقَلائِدَ) : المقلّد منه خصوصا ؛ وهو البدن. لأنّ الثواب فيه أكثر وبهاء الحجّ معه أظهر. (ذلِكَ). إشارة إلى جعل الكعبة قياما للناس ، أو إلى ما ذكر من حفظ حرمة الإحرام بترك الصيد وغيره. (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) كلّ شيء وهو عالم بما يصلحكم ممّا أمركم به وكلّفكم. (٥)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٤.

(٢) علل الشرائع / ٣٩٨ ، ح ١.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٤.

(٤) مجمع البيان ٣ / ٣٨٢.

(٥) الكشّاف ١ / ٦٨١ ـ ٦٨٢.

٦٤٤

[٩٨] (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

(شَدِيدُ الْعِقابِ) لمن انتهك محارمه. (غَفُورٌ) لمن حافظ على محارمه. (١)

[٩٩] (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)

(ما عَلَى الرَّسُولِ). تشديد في إيجاب القيام بما أمر به وأنّ الرسول قد فرغ ممّا وجب عليه من التبليغ وقامت عليكم الحجّة ولزمتكم الطاعة ، فلا عذر لكم في التفريط. (٢)

[١٠٠] (قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

(لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ) : البون بين الخبيث والطيّب بعيد عند الله وإن كان قريبا عندكم. فلا تعجبوا بكثرة الخبيث حتّى تؤثروه على الطيّب القليل. فإنّ ما تتوهّمونه في الكثرة من الفضل لا يوازي النقصان في الخبيث وفوات الطيّب. وهو عامّ في حلال المال وحرامه وصالح العمل وطالحه وصحيح المذاهب وفاسدها وجيّد الناس ورديّهم. (فَاتَّقُوا اللهَ) وآثروا الطيّب ، وإن قلّ ، على الخبيث ، وإن كثر. ومن حقّ هذه الآية أن يكفح بها وجوه المجبّرة إذا افتخروا بالكثرة. وقيل : نزلت في حجّاج اليمامة لمّا أراد المسلمون أن يواقعوا بهم فنهوا عن الإيقاع وإن كانوا مشركين. (٣)

[١٠١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْها وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ـ الآية. ذكر المفسّرون أنّهم ألحّوا عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله في المسائل من غير نفع ، فقام خطيبا مبغضا فقال : سلوني. فلا تسألوني عن شيء إلّا نبّأتكم به. فسألوه عن

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٦٨٢.

(٢) الكشّاف ١ / ٦٨٢.

(٣) الكشّاف ١ / ٦٨٢ ـ ٦٨٣.

٦٤٥

أنسابهم ، فأجابهم بما يقتضي انتسابهم لغير آبائهم. وسألوه عن آبائهم أهم في الجنّة أم في النار ، فأجابهم بما يسوؤهم ويدخل الحزن عليهم. ثمّ قال : والذي نفسي بيده ، لقد صوّرت لي الجنّة والنار في عرض هذا الحائط ، فلم أر كاليوم في الخير والشرّ. (١)

وعن الباقر عليه‌السلام : أنّ عمر بن الخطّاب قال لصفيّة بنت عبد المطّلب : لا تنفعك قرابتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فلمّا أخبرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نادى بالصلاة جامعة ، فاجتمع الناس ، وقال : ما بال قوم يزعمون أنّ قرابتي لا تنفع؟ لو قمت المقام ، لشفعت في جاركم. (٢) لا يسألني اليوم أحد من أبوه إلّا أخبرته. فقام إليه ناس فسألوه ، فأخبرهم بما مرّ ذكره. ثمّ قال : ما بال الذي يزعم أنّ قرابتي لا تنفع لا يسألني عن أبيه؟ فقام إليه عمر فقال : أعوذ بالله ـ يا رسول الله ـ من غضب الله وغضب رسول الله. فأنزل الله الآية. (٣)

أقول : لو أنّ عمر بقي حتّى يبيّن له النسب الواضح المعروف بين المورّخين والمحدّثين ، لرأى ما يفضي إلى العجب العجاب. وقد ذكرنا نبذة منه في مطاوي شرحنا على تهذيب الحديث.

قيل : كان قوم يسألون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله استهزاء مرّة وامتحانا مرّة فيقول له بعضهم : من أبي؟ ويقول الآخر : أين أبي؟ وإذا ضلّت ناقة أحدهم : أين ناقتي؟ فنزلت. (٤)

وعن ابن عبّاس : انّه عليه‌السلام كان يخطب ذات يوم غضبان من كثرة ما يسألونه عنه ممّا لا يعنيهم فقال : لا أسأل عن شيء إلّا أجبت. فقال رجل : أين أبي؟ قال : في النار. وقال آخر : من أبي. قال : حذافة. وكان يدعى لغيره. فنزلت. (٥)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). متّصل بقوله : (وَما تَكْتُمُونَ) ومتّصل بقوله : (تُفْلِحُونَ). لأنّ من الفلاح ترك السؤال عمّا لا يحتاج إليه. (٦)

الجملة الشرطيّة والمعطوفة عليها ـ أعني (إِنْ تُبْدَ لَكُمْ) إلى قوله : (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها)

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٣٦٨.

(٢) المصدر : أحوجكم.

(٣) تفسير القمّيّ ١ / ١٨٨.

(٤) مجمع البيان ٣ / ٣٨٦.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٥.

(٦) مجمع البيان ٣ / ٣٨٧.

٦٤٦

إلى : (تُبْدَ لَكُمْ) ـ صفة للأشياء. والمعنى : لا تكثروا مسألة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين تسألوه عن تكاليف شاقّة عليكم إن أفتاكم بها وكلّفكم إيّاها تغمّكم وتشقّ عليكم وتندموا على السؤال. وذلك نحو ما روي أنّ سراقة بن مالك قال : يا رسول الله ، الحجّ علينا كلّ عام؟ فأعرض عنه رسول الله حتّى أعاد مسألته ثلاثا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ويحك! وما يؤمنك أن أقول نعم؟ والله لو قلت : نعم ، لوجبت. ولو وجبت ، ما استطعتم. ولو تركتم ، لكفرتم. فاتركونى ما تركتكم. فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم. وإذا أمرتكم بأمر ، فخذوا منه ما استطعتم. وإذا نهيتكم عن شيء ، فاجتنبوه. (وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ) ؛ أي : إن تسألوا عن هذه التكاليف الصعبة في زمان الوحي ـ وهو ما دام الرسول بين أظهركم يوحى إليه ـ (تُبْدَ لَكُمْ) تلك التكاليف التي تسوؤكم وتؤمروا بتحمّلها فتعرّضون أنفسكم لغضب الله بالتفريط فيها. (عَفَا اللهُ) عمّا سلف من مسألتكم ، فلا تعودوا إلى مثلها. (غَفُورٌ حَلِيمٌ) لا يعاجلكم فيما يفرط منكم بعقوبته. (١)

(عَفَا اللهُ). صفة أخرى. أي : عن أشياء عفا الله عنها ولم يكلّف بها. (٢)

[١٠٢] (قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ)

(قَدْ سَأَلَها). الضمير للمسألة التي دلّ عليها تسألوا. أي : سأل هذه المسألة قوم من الأوّلين ، ثمّ أصبحوا بسببها كافرين. وذلك أنّ بني إسرائيل كانوا يستفتون أنبياءهم عن أشياء فإذا أمروا بها تركوها. (٣)

(قَدْ سَأَلَها). الضمير للمسألة التي دلّ عليها تسألوا ـ ولذلك لم يعد بعن ـ أو لأشياء بحذف الجارّ. (٤)

(ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها). قيل : المراد بهم قوم عيسى سألوه إنزال مائدة ثمّ كفروا بها. وقيل : قوم صالح ، سألوه الناقة ثمّ عقروها. أو إنّهم سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من مثل هذه الأشياء ـ يعني من

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٦٨٣ ـ ٦٨٤.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٥.

(٣) الكشّاف ١ / ٦٨٤.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٥.

٦٤٧

أبي ونحوه ـ فلمّا أخبرهم قالوا : ليس الأمر كذلك ، فكفروا. ثمّ اعلم أنّ الذي يجوز أن يسأل عنه هو ما يجوز العمل عليه في الأمور الدينيّة والدنيويّة. (١)

[١٠٣] (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣))

(مِنْ بَحِيرَةٍ). كان أهل الجاهليّة إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر ، بحروا أذنها ـ أي : شقّوها ـ وحرّموا ركوبها ولا تطرد عن ماء ولا مرعى وإذا لقيها المعيي [لم يركبها] واسمها البحيرة. (٢)

(وَلا سائِبَةٍ). وهي ما كانوا يسيّبونه. فإنّ الرجل كان ينذر إذا قدم من سفر أو برئ من علّة وما أشبه ذلك ، قال : ناقتي سائبة. فكانت كالبحيرة لا ينتفع بها. وقيل : هي التي تسيّب للأصنام ؛ أي : تعتق لها. وكان الرجل يسيّب من ماله ما شاء فيجيء به إلى السدنة ـ وهم خدم آلهتهم ـ فيطعمون من لبنها أبناء السبيل. (وَلا وَصِيلَةٍ). هي في الغنم. كانت الشاة إذا ولدت أنثى ، فهي لهم ، وإن ولدت ذكرا ، جعلوه لآلهتهم. وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا : وصلت أخاها ، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. (وَلا حامٍ). هو الذكر من الإبل. كانت العرب إذا أنتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا : قد حمى ظهره ، فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا من مرعى. وقيل : إنّه الفحل إذا لقح ولد ولده قيل : حمى ظهره. عن الفرّاء. وقد أخبر الله أنّه لم يحرّم من هذه الأشياء شيئا. (يَفْتَرُونَ) بادّعائهم أنّ هذه الأشياء من فعل الله. (لا يَعْقِلُونَ) ما حرّم عليهم وحلّل. (٣)

[١٠٤] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ)

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٣٨٨ ـ ٣٨٩.

(٢) الكشّاف ١ / ٦٨٤ ـ ٦٨٥.

(٣) مجمع البيان ٣ / ٣٨٩ ـ ٣٩٠.

٦٤٨

(لَهُمْ) ؛ أي : للّذين حرّموا البحيرة وغيرها. (إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن وما فيه (وَإِلَى الرَّسُولِ) وتصديقه والاقتداء بأفعاله ، (قالُوا حَسْبُنا) : كفانا (ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) من المذاهب. فأنكر عليهم بقوله : (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ) ـ الآية. (١)

[١٠٥] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

(عَلَيْكُمْ) ؛ أي : احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي. (مَنْ ضَلَّ) من آبائكم وغيرهم. يقال : هذه الآية تدلّ على جواز ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وجوابه : انّ الآية إنّما تدلّ على أنّ المطيع لربّه لا يؤاخذ بذنوب العاصي. وإنّ الاقتصار على الاهتداء ، إنّما يجوز في حال التقيّة أو حال لا يجوّز تأثير إنكاره فيها أو يتعلّق بإنكاره مفسدة. أو يكون المراد : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) ؛ يعني : عليكم أهل دينكم. ففيها دلالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) ؛ أي : مصيركم ومصير من خالفكم. (٢)

[١٠٦] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). سبب نزولها : انّ ثلاثة نفر خرجوا تجّارا من المدينة إلى الشام : تميم الداريّ ، وأخوه عديّ وهما نصرانيّان وابن مارية وكان مسلما. حتّى إذا كانوا ببعض الطريق ، مرض ابن مارية. فكتب وصيّته ودسّها في متاعه وأوصى إليهما ودفع المال إليهما وقال : أبلغا هذا أهلي. فلمّا مات ، فتحا المتاع وأخذا ما أعجبهما منه. ثمّ رجعا بالمال إلى الورثة. فلمّا فتّشوا المال ، فقدوا بعض ما كان خرج به صاحبهم ونظروا إلى الوصيّة فوجدوا

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٣٩١.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٣٩٢ ـ ٣٩٣.

٦٤٩

المال فيها تامّا. فكلّموا تميما وصاحبه فقالا : لا علم لنا به. فرفعوا أمرهم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت الآية. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. (١)

(شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) ؛ أي : الإشهاد الذي يقام به الحقوق فيما بينكم عند الحكّام وأمرتم به. وإضافتها إلى الظرف على الاتّساع. (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) : إذا شارفه وظهرت أماراته عنده. وهو ظرف للشهادة. (حِينَ الْوَصِيَّةِ). بدل منه. وفي الآية تنبيه على أنّ الوصيّة ممّا ينبغي أن لا يتهاون بها المسلم عند ظهور أمارات الموت فكأنّ وقتيهما واحد. (اثْنانِ). خبر شهادة بينكم ، أو فاعل فعل محذوف. أي : شهادة بينكم أن يشهد اثنان. (ذَوا عَدْلٍ) : صاحبا عدالة يسكن إلى قولهما. (مِنْكُمْ) ؛ أي : من المسلمين. وهما صفتان لاثنان. (أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) ؛ أي : من أهل الذمّة ظاهري العدالة عند أهل ملّتهم. وحينئذ فتجوز شهادة الذمّيّ في الوصيّة مع حصول الشرائط المذكورة ؛ كما قاله أصحابنا وجماعة من العامّة. والأكثر منهم على أنّ المراد بقوله : (مِنْكُمْ) من أقاربكم و (مِنْ غَيْرِكُمْ) من الأجانب ، ومنعوا شهادة الذمّيّ مطلقا. (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) : سافرتم فيها. (فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ) : قاربتم الأجل. وهو شرط الانتقال من شهادة المسلمين إلى شهادة أهل الذمّة. فكأنّه قال : شهادة غيرهما تسمع إن سافرتم ولا شاهد من المسلمين معكم ؛ يعني عند الضرورة وفقد عدول المسلمين. (تَحْبِسُونَهُما) : تمنعونهما وتصبّرونهما. وهو صفة آخران. ويجوز أن يكون للاستئناف. كأنّه قيل : كيف نعمل إن ارتبنا؟ فقال : (تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ) ؛ أي : صلاة العصر ؛ للرواية ، ولأنّ الناس بالحجاز كانوا يحلفون بعدها ، ولأنّه وقت اجتماع الناس وتكاثرهم وتصادم ملائكة اللّيل وملائكة النهار ، ولأنّها هي صلاة أهل الذمّة وهم يعظّمونها. وقيل : مطلق الصلاة. (إِنِ ارْتَبْتُمْ) : إن ارتاب الوارث منكم في شأنهما. ويجوز كون الخطاب للحكّام. والشرط اعتراض بين القسم والمقسم عليه وهو (لا نَشْتَرِي بِهِ) ؛ أي : بالله. أو : بالقسم به. أو : بالشهادة. فإنّها في معنى

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

٦٥٠

الإشهاد. ولعلّ فائدة الشرط التنبيه على أنّ القسم هو مع الارتياب لا مطلقا. (ثَمَناً) ؛ أي : عرضا قليلا من الدنيا. أي : لا نحلف بالله كاذبين لطمع الدنيا. (وَلَوْ كانَ) المشهود له (ذا قُرْبى). وجوابه محذوف. أي : لا نشتري. (وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ) ؛ أي : الشهادة التي أمرنا بإقامتها. وهو عطف على المحلوف عليه. (لَمِنَ الْآثِمِينَ) إن كتمناها. والظاهر أنّهم يذكرون في قسمهم جميع ما ذكر. والإحلاف بعد العصر للتغليظ في الوقت. (١)

[١٠٧] (فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ)

(فَإِنْ عُثِرَ). هذه الآية مع الآية التي قبلها من أعوص آيات القرآن إعرابا وحكما ومعنى. (٢)

(فَإِنْ عُثِرَ) ؛ أي : اطّلع لأمارة أوجبت الظنّ (عَلى أَنَّهُمَا) ؛ أي : الآخران من الغير اللّذين شهدا (اسْتَحَقَّا إِثْماً) : استوجباه بسبب تحريفهما في الشهادة أو حلفهما كذبا ، (فَآخَرانِ) : فشاهدان آخران (يَقُومانِ مَقامَهُما) بعد ردّ شهادتهما (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) ؛ أي : جني عليهم. وهم الورثة الذين استحقّ عليهم الوصيّة بسبب شهادة الذمّيّين الكاذبين. (الْأَوْلَيانِ) ؛ أي : الأحقّان بالشهادة ، لقرابتهما ومعرفتهما. وهو بدل من ضمير يقومان ، أو خبر مبتدأ محذوف. (أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما) : أصدق وأولى من شهادة الغير اللّذين اطّلع على كذبهما. (وَمَا اعْتَدَيْنا) ؛ أي : ما تجاوزنا الحقّ. (لَمِنَ الظَّالِمِينَ) لأنفسنا ، أو مطلقا ، لوضعنا الباطل موضع الحقّ. وقد بقى في الآية أمور. أوّلها : مقتضى الآية جواز إشهاد أهل الذمّة في الوصيّة عند الضرورة وفقد عدول المسلمين [؛ لظهور أنّ الخطاب في منكم عائد إلى المؤمنين فيلزم أن يكون غيرهم كافرين. وعلى هذا أصحابنا أجمع] وأخبارنا متظافرة

__________________

(١) مسالك الأفهام ٣ / ١١٧ ـ ١١٩.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٤٠١.

٦٥١

بذلك. وبأنّهما لو كانا مسلمين لم يكن الإشهاد بهما مشروطا بالسفر. وبأنّه تعالى أوجب الحلف عليهما والشاهد المسلم لا يجب تحليفه مطلقا. وبأنّ الشاهدين في سبب النزول كانا نصرانيّين. والعامّة لم تجوّزوا شهادة الذمّيّ مطلقا واختلفوا في حمل الآية. فقيل : المراد بها ذلك لكنّه نسخ بقوله : واستشهدوا شهيدين منكم» وقد عرفت أنّ النسخ لا يجري في سورة المائدة. وقيل : المراد بقوله : (مِنْكُمْ) من أقاربكم و (آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) من الأجانب وإن كان الجميع مسلمين. وهذا هو الراجح عند صاحب الكشّاف. (١) وهذا مع كونه خلاف الظاهر يأباه سبب النزول. وثانيها : اشتراط السفر في شهادة الذمّيّين. وبه قال ابن الجنيد وأبو الصلاح وجماعة ؛ للآية ورواية حمران. والأكثر منّا لم يشترط السفر وحملوا التقييد في الآية والأخبار على أنّه الغالب ورواية ضريس دالّة عليه أيضا. وثالثها : جواز إحلاف الشاهدين من أهل الذمّة لمكان التهمة. فقول الرازيّ : إن كان الاثنان شاهدين ، فالحكم منسوخ ، لأنّه لا يحلف الشاهد ، باطل. لأنّ إحلافهما للدليل جائز. وحكوا عن عليّ عليه‌السلام أنّه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتّهمهما. وقد اختلف أصحابنا في وجوب إحلافهما بعد العصر. فقال به العلّامة ، وغيره حمله على الإرشاد. (٢)

(اسْتَحَقَّ). قرأ حفص : (اسْتَحَقَّ) على البناء للفاعل وهو الأوليان. (٣)

(الْأَوْلَيانِ). قرأ حمزة ويعقوب وأبو بكر عن عاصم : الأوليين على أنّه صفة الذين أو مبدل منه. (٤)

وما معنى (اسْتَحَقَّ) على البناء للفاعل؟ قلت : معناه : من الورثة الذين استحقّ عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجرّدوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين. (٥)

[١٠٨] (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٦٨٧.

(٢) مسالك الأفهام ٣ / ١١٩ ـ ١٢٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٧.

(٤) مسالك الأفهام ٣ / ١١٩.

(٥) الكشّاف ١ / ٦٨٩.

٦٥٢

أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاسْمَعُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)

(ذلِكَ أَدْنى) ؛ أي : الحكم الذي تقدّم أو إحلاف الشاهدين أدنى ؛ أي : أقرب أن يأتوا بالشهادة على الوجه الذي حملوها من غير تحريف وخيانة. (أَوْ يَخافُوا) عطف على أن يأتوا. أي : أو أن يخافوا (أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ) إلى أولياء الميّت فيحلفوا ويفتضحوا بخيانتهم ويغرموا بمال يحلفون إذا كانوا كاذبين ويتحفّظون في الشهادة مخافة ردّ اليمين إلى المستحقّ عليهم. (وَاتَّقُوا اللهَ) أن تحلفوا أيمانا كاذبة أو تخونوا (وَاسْمَعُوا) ما توصون به سمع إجابة. (لا يَهْدِي) إلى طريق ثوابه وجنّته. بمعنى أنّه يتركهم وأنفسهم حتّى لا يختاروا تلك الهداية فيصير مأواهم النار. (١)

[١٠٩] (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)

(يَوْمَ يَجْمَعُ) ؛ أي : اتّقوا عقاب يوم يجمع الله فيه الرسل. (٢)

(ما ذا أُجِبْتُمْ). عن أبي جعفر عليه‌السلام : ماذا أجبتم [في] أوصيائكم الذين خلّفتموهم على أممكم؟ قال : فيقولون : لا علم لنا بما فعلوا من بعدنا. (٣)

(يَوْمَ يَجْمَعُ). ظرف لقوله : (لا يَهْدِي). وقيل : بدل من مفعول واتّقوا بدل الاشتمال. أو مفعول واسمعوا على حذف المضاف. أي : واسمعوا خبر يوم جمعه. أو منصوب بإضمار اذكر. (ما ذا أُجِبْتُمْ) : أيّ إجابة أجبتم؟ على أنّ [ماذا] في موضع المصدر. أو : بأيّ شيء أجبتم؟ فحذف الجارّ. وهذا السؤال لتوبيخ قومهم. (لا عِلْمَ لَنا) بما لست تعلمه. (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) ، فتعلم ما نعلمه ممّا أجابونا وأظهروا وما لا نعلم ممّا أضمروا في قلوبهم. وفيه التشكّي عنهم وردّ الأمور إلى علمه بما كابدوا منهم. وقيل : المعنى : لا علم لنا إلى جنب علمك. أو : لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا. وإنّما الحكم للخاتمة. (٤)

__________________

(١) مسالك الأفهام ٣ / ١٢٦.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٤٠٢.

(٣) الكافي ٨ / ٣٣٨ ، ح ٥٣٥.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨.

٦٥٣

[١١٠] (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ)

(إِذْ قالَ اللهُ) ؛ أي : إذ يقول الله في الآخرة. (١)

(إِذْ قالَ اللهُ). بدل من (يَوْمَ يَجْمَعُ). والمعنى أنّه يوبّخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وبتعديد ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام فكذّبوهم وسمّوهم سحرة أو جاوزوا حدّ التصديق إلى أن اتّخذوهم آلهة كما قال بعض بني إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى من الآيات : (هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) واتّخذه بعضهم وأمّه إلهين. (٢)

(اذْكُرْ) ؛ أي : اذكر ما أنعمت به عليك وعلى أمّك واشكره. أفرد النعمة في اللّفظ ويريد به الجمع. كما قال : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها)(٣) ثمّ فسّر نعمته بأن قال : (إِذْ أَيَّدْتُكَ). (٤)

(نِعْمَتِي عَلَيْكَ). كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدّخر لغد شيئا ، يقول : مع [كلّ] يوم رزقه. لم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت. أينما أمسي بات. (٥)

(إِذْ أَيَّدْتُكَ) : قوّيتك. وهو ظرف لنعمتي. (٦)

(بِرُوحِ الْقُدُسِ) : جبرئيل عليه‌السلام. (٧)

(تُكَلِّمُ النَّاسَ) ؛ أي : تكلّمهم في الطفوليّة والكهولة على سواء. والمعنى إلحاق حاله في الطفوليّة بحال الكهوليّة في كمال العقل والتكلّم. وبه استدلّ على أنّه سينزل. فإنّه رفع قبل أن

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٤٠٤.

(٢) الكشّاف ١ / ٦٩٠ ـ ٦٩١.

(٣) إبراهيم (١٤) / ٣٤.

(٤) مجمع البيان ٣ / ٤٠٤.

(٥) الكشّاف ١ / ٦٩١.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٨.

(٧) مجمع البيان ٣ / ٤٠٤.

٦٥٤

يكتهل. (١)

(فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً) ؛ أي : في حال ما كنت صبيّا في المهد وفي حال ما كنت كهلا. وقيل : مهده حجر أمّه. (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ). قيل : يعني الكتابة ؛ أي : الخطّ. (وَالْحِكْمَةَ). يعني العلم والشريعة. وقيل : أراد الكتب ، فيكون الكتاب اسم جنس ، ثمّ فصّله بذكر التوراة والإنجيل. (وَإِذْ تَخْلُقُ) ؛ أي : واذكر ذلك أيضا إذ تصوّر الطين كهيئة الطير الذي تريد ؛ أي : كخلقته وصورته. وسمّاه خلقا لأنّه كان يقدّره. وقوله : (بِإِذْنِي) ؛ أي : بأمري. (فَتَنْفُخُ فِيها) الروح بأمر الله ، (فَيَكُونُ طَيْراً) بأمر الله. لأنّ المسيح إذا نفخ فيها الروح ، قلّبها الله لحما ودما ويخلق فيها الحياة فصارت طيرا بإرادة الله لا بإرادة المسيح. (٢)

(بِإِذْنِي) : بتسهيلى. (٣)

(طَيْراً). نافع ويعقوب : «طائرا». (٤)

(الْأَكْمَهَ) : الذي ولد أعمى. أي : إنّك تدعوني حتّى أبرئ الأكمه والأبرص. (وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى) ؛ أي : تدعوني فأخرج بدعائك الموتى من القبور. (٥)

قيل : إنّه أخرج سام بن نوح ورجلين وامرأة وجارية. (بَنِي إِسْرائِيلَ). يعني اليهود حين همّوا بقتله. (٦)

(إِذْ جِئْتَهُمْ). ظرف لكففت. (٧)

(إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ؛ أي : حين جئتهم بالآيات والمعجزات. (٨)

(إِنْ هذا) ؛ أي : ما هذا. (إِلَّا سِحْرٌ). قرأ حمزة والكسائيّ : «إلا ساحر» فالإشارة إلى عيسى. (٩)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٨.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٤٠٤ ـ ٤٠٥.

(٣) الكشّاف ١ / ٦٩١.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٨.

(٥) مجمع البيان ٣ / ٤٠٥.

(٦) الكشّاف ١ / ٦٩١.

(٧) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٨.

(٨) مجمع البيان ٣ / ٤٠٥.

(٩) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٨.

٦٥٥

[١١١] (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ)

(وَإِذْ أَوْحَيْتُ) : أمرتهم على ألسنة رسلي. (١)

(إِلَى الْحَوارِيِّينَ). عن أبي جعفر : ألهمتهم. (٢)

(أَنْ آمِنُوا). يجوز أن يكون مفسّرة وأن يكون مصدريّة. (٣)

[١١٢] (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢))

(إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ). مفعول أوحيت أو اذكر. (٤)

(يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ). في محلّ النصب على إتباع حركته حركة الابن. كقولك : يا زيد بن عمرو. وهي اللّغة الفاشية. ويجوز أن يكون مضموما. كقولك : يا زيد بن عمرو. (٥)

(هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ). فيه أقوال. أوّلها : هل يفعل ذلك ربّك بمسألتك إيّاه ليكون علما على صدقك؟ ولا يجوز أن يكونوا شكّوا في قدرة الله على ذلك. لأنّهم كانوا عارفين مؤمنين. وكأنّهم سألوه ذلك ليعرفوا صدقه وصحّة أمره من حيث لا يعترض عليهم فيه إشكال ولا شبهة ومن ثمّ قالوا : (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا). كما قال إبراهيم عليه‌السلام : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). (٦) وثانيها : انّ هذا كان في ابتداء أمرهم قبل أن يستحكم معرفتهم بالله تعالى. ولذلك أنكر عليهم عيسى فقال : (اتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). لأنّه لم يستكمل إيمانهم في ذلك الوقت. وثالثها : انّ معناه : هل يستجيب لك ربّك ؛ أي : هل يعطيك إن سألته؟ فيكون استطاع بمعنى أطاع ، كما يكون استجاب بمعنى أجاب. (٧)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٨.

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ / ٣٥٠ ، ح ٢٢١.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٨.

(٤) مجمع البيان ٣ / ٤٠٧.

(٥) الكشّاف ١ / ٦٩٢.

(٦) البقرة (٢) / ٢٦٠.

(٧) مجمع البيان ٣ / ٤٠٧.

٦٥٦

عن يحيى الحلبيّ في قوله : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) قال : قراءتها : هل تستطيع أن تدعو ربك». (١)

فإن قلت : كيف قالوا : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) بعد إيمانهم وإخلاصهم؟ قلت : ما وصفهم الله بالإيمان والإخلاص وإنّما حكى ادّعاءهم لهما ، ثمّ أتبعه قوله : (إِذْ قالَ). فإذن إنّ دعواهم كانت باطلة وإنّهم كانوا شاكّين. وقولهم : (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ) كلام لا يرد مثله عن مؤمنين معظّمين لربّهم. وكذلك قول عيسى عليه‌السلام معناه : اتّقوا الله ولا تشكّوا في اقتداره واستطاعته. ولا تتحكّموا ما تشتهون من الآيات فتهلكوا إذا عصيتموه بعدها. المائدة : الخوان إذا كان عليه الطعام. من ماده ، إذا أعطاه. كأنّها تميد من تقدّم إليها ويكون عليها. (٢)

وفي تفسير أهل البيت عليهم‌السلام : كانت المائدة تنزل عليهم فيجتمعون عليها ويأكلون منها ثمّ يرفع. فقال كبراؤهم : لا ندع سفلتنا يأكلون منها معنا. فرفع الله المائدة ببغيهم ومسخوا قردة وخنازير. (إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ). القصّة : اختلف العلماء في المائدة هل نزلت أم لا. فقيل : إنّها لم تنزل. فإنّ القوم لمّا سمعوا الشرط ، استعفوا عن نزولها. والصحيح أنّها نزلت للوعد بقوله : (إِنِّي مُنَزِّلُها) والأخبار مستفيضة بنزولها. روي عن عمّار عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : نزلت المائدة خبزا ولحما. لأنّهم سألوا عيسى طعاما لا ينفد. قال : فإنّها مقيمة لكم ما لم تخونوا وتخبؤوا وترفعوا. فإن فعلتم ذلك عذّبتكم. فما مضى يومهم حتّى فعلوا الثلاثة. وقال ابن عبّاس : إنّ عيسى قال لبني إسرائيل : صوموا ثلاثين يوما ، ثمّ اسألوا الله ما شئتم يعطكموه. فصاموا ثلاثين يوما. فلمّا فرغوا قالوا : يا عيسى ، لو عملنا لأحد فقضينا عمله ، لأطعمنا طعاما. وإنّا صمنا وجعنا. فادع الله أن ينزّل علينا مائدة من السماء. فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها عليها سبعة أرغفة وسبعة أحوات فوضعتها بين أيديهم. وأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. وروي عن سلمان الفارسيّ قال :

لمّا سأله الحواريّون المائدة ، لبس صوفا وبكى وقال : (اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ

__________________

(١) تفسير العيّاشيّ ١ / ٣٥٠ ، ح ٢٢٢.

(٢) الكشّاف ١ / ٦٩٣.

٦٥٧

السَّماءِ) فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين وهم ينظرون إليها وهي تهوي منقضّة حتّى سقطت بين أيديهم. فبكى عيسى وقال : اللهمّ اجعلني من الشاكرين. اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها عقوبة. فكشف المنديل عنها ، فإذا هو سمكة مشويّة تسيل سيلا من الدسم ليس عليها قشرها ، وعند رأسها ملح ، وعند ذنبها خلّ ، وحولها ما عدا الكرّاث من أنواع البقول. وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون ، وعلى الثاني عسل ، وعلى الثالث سمن ، وعلى الرابع جبن ، وعلى الخامس قديد. وليست من طعام الجنّة بل كانت شيء افتعله الله بقدرته. فقال الحواريّون : لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى. فقال : يا سمكة ، احيي بإذن الله. فاضطربت السمكة وعاد عليها فلوسها وشوكها ، ففزعوا منها. فقال عيسى : يا سمكة ، عودي كما كنت بإذن الله. فعادت السمكة مشويّة. فقالوا : يا روح الله ، كن أوّل من يأكل منها ، ثمّ نأكل نحن. قال : يأكل منها من سألها. فخافوا أن يأكلوا منها. فدعا لها عيسى أهل الفاقة والزمنى والمرضى فقال : كلوا منها. ولكم المهنّا ولغيركم البلاء. فأكل منها ألف وثلاثمائة رجل وامرأة من فقير ومريض ومبتلى فكلّهم شبعوا والسمكة بحالها. ثمّ طارت المائدة صعدا وهم ينظرون إليها حتّى توارت عنهم. فلم يأكل منها يومئذ زمن إلّا صحّ ولا فقير إلّا استغنى. وندم الحواريّون ومن لم يأكل منها. وكانت إذا نزلت ، اجتمعت الأغنياء والفقراء والصغار والكبار يتزاحمون عليها. فلمّا رأى ذلك عيسى ، جعلها نوبة بينهم. فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتّى إذا فاء الفيء طارت. وكانت تنزل غبّا يوما ويوما لا. فأوحى الله إلى عيسى : اجعل مائدتي للفقراء دون الأغنياء. فعظم ذلك على الأغنياء فشكّكوا الناس فيها. فقال سبحانه : إنّي شرطت على من كفر بها بعد نزولها العذاب. فمسخ منهم ثلاثمائة وثلاثون رجلا خنازير فهلكوا بعد ثلاثة أيّام. (١)

(قالَ اتَّقُوا اللهَ) من أمثال هذا السؤال. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بكمال قدرته وصحّة نبوّتي ، أو صدقتم في ادّعاء الإيمان. (٢)

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٤١٠ ـ ٤١٢.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٨.

٦٥٨

[١١٣] (قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ)

(نُرِيدُ). تمهيد عذر وبيان لما دعاهم إلى السؤال وهو أن يتمتّعوا بالأكل منها. (وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته. (أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا) في ادّعاء النبوّة أو أنّ الله يجيب دعوتنا. (مِنَ الشَّاهِدِينَ) إذا استشهدتنا. أو : من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر. (١)

(وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا) ؛ أي : نزداد يقينا. لأنّ الدلائل كلّما كثرت ، تمكّنت المعرفة في النفس. (الشَّاهِدِينَ). أي بتوحيد الله ولك بالنبوّة. وقيل : من الشاهدين لك إذا رجعنا إلى بني إسرائيل. (٢)

[١١٤] (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)

(قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) لمّا رأى أنّ لهم غرضا صحيحا في ذلك أو أنّهم لا يقلعون عنه وأراد إلزامهم الحجّة بكمالها. (لَنا عِيداً) ؛ أي : يكون يوم نزولها عيدا نعظّمه. وقيل : العيد : السرور العائد. ولذلك سمّي العيد عيدا. (لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا). بدل من لنا بإعادة العامل. أي : عيدا لمتقدّمينا ومتأخّرينا. روي أنّها نزلت يوم الأحد فلذلك اتّخذه النصارى عيدا. وقيل : أن يأكل منها أوّلنا وآخرنا. و (آيَةً) عطف على عيدا و (مِنْكَ) صفة لها. أي : آية كائنة منك [دالّة] على كمال قدرتك وصحّة نبوّتي. (وَارْزُقْنا) المائدة والشكر عليها. (خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ؛ أي : خير من يرزق. لأنّه خالق الرزق ومعطيه بلا عوض. (٣)

(آخِرِنا) : من يجيء بعدنا. (٤)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٩.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٤٠٨.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٩.

(٤) مجمع البيان ٣ / ٤٠٩.

٦٥٩

[١١٥] (قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ)

(قالَ اللهُ إِنِّي مُنَزِّلُها). إجابة لسؤالك. (١)

(مُنَزِّلُها). نافع وعاصم وابن عامر بالتشديد. والباقون مخفّفا. (عَذاباً) ؛ أي : تعذيبا. ويجوز أن يجعل مفعولا به على السعة. (لا أُعَذِّبُهُ). الضمير للمصدر ، أو للعذاب إن أريد ما يعذّب به على حذف حرف الجرّ. (مِنَ الْعالَمِينَ) ؛ أي : من عالمي زمانهم مطلقا. فإنّهم مسخوا قردة وخنازير ولم يعذّب بمثل ذلك غيرهم. (٢)

(أُعَذِّبُهُ عَذاباً) : عذاب الاستئصال. (٣)

عن الرضا عليه‌السلام أنّ الجرّيث والضبّ قوم من بني إسرائيل كفروا بالمائدة التي نزلت على عيسى فتاهوا ، فوقعت فرقة في البحر وفرقة في البرّ. (٤)

[١١٦] (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)

(وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ). عطف على ما تقدّم من أمر المسيح. والمعنى : إذ يقول الله يوم القيامة لعيسى : (أَأَنْتَ قُلْتَ). وهذا ، وإن خرج مخرج الاستفهام ، لكنّه تهديد لمن ادّعى ذلك من النصارى. وقيل : أراد الله تعالى إخبار عيسى بأنّ قوما اعتقدوا فيه وفي أمّه أنّهما إلهان لأنّه يمكن أنّه لم يعرف ذلك. قيل : والأوّل هو الأصحّ. وحكى الشيخ أبو جعفر أنّ في النصارى المريميّة يعتقدون في مريم أنّها إلهة. وقوله : (سُبْحانَكَ) [معناه :] تنزيها لك من أن تبعث رسولا يدّعي الإلهيّة لنفسه ويكفر بنعمتك. (ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ) لأنّي عبد مثلهم.

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٤٠٩ ، وتفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨٩.

(٣) مجمع البيان ٣ / ٤١٠.

(٤) تهذيب الأحكام ٩ / ٣٩ ، ح ١٦٦.

٦٦٠