عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-26-5
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦٣

وصلا. (١)

(وَلا تَشْتَرُوا) ؛ أي : لا تستبدلوا. (ثَمَناً قَلِيلاً). وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرّف اليهود كتاب الله رغبة في الدنيا. (الْكافِرُونَ) و (الظَّالِمُونَ) و (الْفاسِقُونَ). وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهانة وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها. وعن ابن عبّاس : انّ الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب. من جحد حكم الله ، كفر. ومن لم يحكم به وهو مقرّ ، فهو ظالم وفاسق. وقيل : هذه في الإسلام. والظالمون في اليهود. والفاسقون في النصارى. (٢)

[٤٥] (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥))

(وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ) ؛ أي : أوجبنا على اليهود في التوراة. (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ). أي يقتل بها إذا قتلها بغير حقّ. (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ). أي تفقأ بها. (وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ). أي يحذم (٣) به. (وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ). أي تقطع بها. (وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ). أي يقلع به. (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ). أي كلّ جرح يمكن القصاص به غير المذكورات كالشفتين واليدين والرجلين وكذا في الجراحات الواضحة بالواضحة والهاشمة بالهاشمة والمنقلة بالمنقلة إلّا المأمومة والجائفة ، لعدم إمكان القصاص فيهما ، لبلوغ الأولى أمّ الرأس والثانية الجوف واستلزام القصاص فيهما التعزير بالنفس ، فيجب فيهما الدية المقرّرة لهما ، وكذا ما لا يمكن القصاص فيه من رضّ اللّحم أو جراحة يخاف منها التلف. فهذا مخصوص من العموم. (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) ؛ أي : بالقصاص الذي وجب له. وتصدّقه به عبارة عن العفو عنه وإسقاطه من ذمّة الجاني. (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) ؛ أي : للمتصدّق الذي هو المجروح أو وليّ الدم يكفّر الله ذنوبه به. (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، حيث

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٣٠٥.

(٢) الكشّاف ١ / ٦٣٧ ـ ٦٣٨.

(٣) المصدر : «يجدع». وهو الأظهر.

٦٠١

ظلموا أنفسهم بارتكاب المعاصي الموجبة للعقاب. وهذا الحكم ، وإن كان مكتوبا في التوراة ، لكنّه ثابت في شرعنا بالأخبار والإجماع. (١)

(وَالْأُذُنَ). نافع بسكون الذال في جميع القرآن. (٢)

(وَالْجُرُوحَ). ابن كثير برفع الجروح ، على أنّه إجمال للحكم بعد التفصيل. (٣)

(كَفَّارَةٌ لَهُ). قيل : إنّ الضمير راجع إلى الجاني. يعني أنّ عفو المجنيّ عليه أو الوليّ عنه ، رافع لعقابه في الآخرة لإسقاط الحقّ الواجب عليه بالعفو. (٤)

[٤٦] (وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)

(وَقَفَّيْنا) ؛ أي : أتبعنا. (آثارِهِمْ) : آثار النبيّين الذين أسلموا. (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) ؛ أي : لما مضى. (وَآتَيْناهُ) ؛ أي : وأعطيناه الكتاب المسمّى بالإنجيل. (هُدىً) ؛ أي : بيان وحجّة ودلالة على الأحكام. (وَنُورٌ). لأنّه يهتدى به كما يهتدى بالنور. (مِنَ التَّوْراةِ). لأنّ فيه أنّ التوراة حقّ. (هُدىً) : دلالة وإرشادا. (مَوْعِظَةً) ؛ أي : واعظا. (لِلْمُتَّقِينَ) ، يزجرهم عن المعاصي. خصّ المتّقين لأنّهم المنتفعون به. (٥)

[٤٧] (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)

(وَلْيَحْكُمْ). قرأ حمزة : (وَلْيَحْكُمْ) بكسر اللّام ونصب الميم. وحجّته أنّه جعل اللّام متعلّقة بقوله : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) ـ فإنّ معناه : وأنزلنا عليه الإنجيل ـ فصار بمنزلة : وأنزلنا

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ / ٢٣١ ـ ٢٣٢.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٣٠٧.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٦٨.

(٤) مجمع البيان ٣ / ٣٠٩.

(٥) مجمع البيان ٣ / ٣١٠ ـ ٣١١.

٦٠٢

عليه الكتاب ليحكم. وحجّة من قرأ بالجزم أنّه بمنزلة قوله : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ). فكما أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، فكذلك أمروا به بالإنجيل. قيل : إنّ من هنا بمعنى الذي. وهو خبر عن قوم معروفين هم اليهود والذين تقدّم ذكرهم. وقيل : إنّ من للجزاء. أي : من لم يحكم من المكلّفين بما أنزل الله ، فهو فاسق. لأنّ هذا الإطلاق يدلّ على أنّ المراد : من ذهب إلى أنّ الحكم في خلاف ما أمر الله به. وكذا قال فيما قبل : (فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ). فيكون معنى الفاسقين : الخارجين عن الدين. وجعلوا الكفر والظلم والفسق صفة لموصوف واحد. وقيل : إنّ الأوّل في الجاحد والثاني والثالث في المقرّ التارك. (١)

[٤٨] (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)

(الْكِتابَ) ؛ أي : القرآن. واللّام للعهد. (مِنَ الْكِتابِ) : من جنس الكتب المنزلة. واللّام للجنس. (وَمُهَيْمِناً) : رقيبا على سائر الكتب يحفظها عن التغيير ويشهد له بالصحّة والثبات. (بِما أَنْزَلَ اللهُ) ؛ أي : بما أنزل الله إليك. (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه. فمن صلة لا تتّبع لتضمّنه معنى لا تنحرف ، أو حال من فاعله ، أي : لا تتبّع أهواءهم مائلا عمّا جاءك. (٢)

(مِنْكُمْ). الخطاب للأمم الثلاث ؛ أمّة موسى وأمّة عيسى وأمّة محمّد صلوات الله عليهم. (٣)

(شِرْعَةً) : شريعة ؛ وهي الطريق إلى الماء. شبّه بها الدين لأنّه طريق إلى ما هو سبب

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٣١٠ ـ ٣١١.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٦٩.

(٣) مجمع البيان ٣ / ٣١٤.

٦٠٣

الحياة الأبديّة. (وَمِنْهاجاً) : طريقا واضحا في الدين. واستدلّ به على أنّا غير متعبّدين بالشرائع المتقدّمة. (أُمَّةً واحِدَةً) : جماعة متّفقة على دين واحد في جميع الأعصار من غير نسخ وتحويل. ومفعول (لَوْ شاءَ) محذوف دلّ عليه الجواب. وقيل : المعنى : لو شاء الله اجتماعكم لأجبركم عليه. (لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ) من الشرائع المختلفة المتناسبة لكلّ عصر وقرن هل تعملون بها مذعنين لها معتقدين أنّ اختلافها بمقتضى الحكمة الإلهيّة أم تزيغون عن الحقّ وتفرّطون في العمل. (١)

(لَجَعَلَكُمْ) ؛ أي : لجمعكم على الحقّ بالقدرة. (واحِدَةً). قيل : لو شاء الله لم يبعث إليكم نبيّا فتكونون متعبّدين بالعقل وتكونون أمّة واحدة ، ولكن ليختبركم [فيما كلّفكم] من العبادات وهو عالم بما يؤول إليه أمركم. (فَاسْتَبِقُوا) : سابقوا الأمم إلى الطاعات. (٢)

(فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) : فابتدروها انتهازا للفرصة وحيازة لفضل السبق والتقدّم. (إِلَى اللهِ). استئناف فيه تعليل الأمر بالاستباق ووعد ووعيد للمبادرين والمقصّرين. (٣)

[٤٩] (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ)

(وَأَنِ احْكُمْ). عطف على الكتاب ، أي : أنزلنا إليك الكتاب والحكم ، أو على الحقّ ، أي : أنزلناه بالحقّ وبأن احكم. ويجوز أن يكون جملة بتقدير : وأمرنا أن احكم. (٤)

(بِما أَنْزَلَ اللهُ). إنّما كرّر سبحانه الأمر بالحكم بينهم ، لأنّهم احتكموا إليه في زنى المحصن ثمّ احتكموا إليه في قتيل كان بينهم. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. (٥)

(أَنْ يَفْتِنُوكَ) ؛ أي : يصرفوك عنه. وأن بصلته بدل من «هم» بدل الاشتمال ، أي احذروا

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٦٩.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٣١٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٦٩.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٦٩.

(٥) مجمع البيان ٣ / ٣١٥ ـ ٣١٦.

٦٠٤

فتنتهم ، أو مفعول له ، أي : احذرهم مخافة أن يفتنوك. روي أنّ أحبار اليهود قالوا : اذهبوا بنا إلى محمّد لعلّنا نفتنه عن دينه. فقالوا : يا محمّد ، قد عرفت أنّا أحبار اليهود وأنّا [إن] اتّبعناك اتّبعنا اليهود كلّهم. وإنّ بيننا وبين قومنا خصومة ، فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدّقك. فأبى ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فنزلت. (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الحكم المنزل وأرادوا غيره. (١)

(أَنْ يُصِيبَهُمْ). قيل : المراد بذلك إجلاء بني النضير. لأنّ علماءهم [لمّا] كفروا وكتموا الحقّ ، عوقبوا بالجلاء. وقيل : المراد بنو قريظة لمّا نقضوا العهد يوم الأحزاب ، عوقبوا بالقتل. (٢)

(بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) ؛ يعني : ذنب التولّي عن حكم الله. فعبّر عنه بذلك تنبيها على أنّ لهم ذنوبا كثيرة. وهذا مع عظمته واحد منها معدود من جملتها. وفيه دلالة على التعظيم. (لَفاسِقُونَ) : لمتمرّدون في الكفر. (٣)

[٥٠] (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)

(أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ) الذي هو الميل والمداهنة في الحكم. والمراد بالجاهليّة التي هي متابعة الهوى. وقيل : نزلت في بني قريظة وبني النضير ، طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يحكم بما يحكم به أهل الجاهليّة من التفاضل بين القتلى. وقرأ ابن عامر : «تبغون» بالتاء ، على : قل لهم : أفحكم الجاهليّة تبغون؟ (٤)

(يَبْغُونَ). المراد بهم اليهود. لأنّهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إيّاه وإذا وجب على أقويائهم وأشرافهم لم يؤاخذوهم به. فقيل لهم : أفحكم الجاهليّة ـ أي عبدة الأوثان ـ تطلبون وأنتم أهل الكتاب؟ (٥)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٦٩.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٣١٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٠.

(٥) مجمع البيان ٣ / ٣١٦.

٦٠٥

(لِقَوْمٍ) ؛ أي : عندهم. واللّام للبيان. أي : هذا الاستفهام لقوم يوقنون. فإنّهم هم الذين يتدبّرون القرآن ويتحقّقون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكما من الله. (١)

[٥١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ـ الآية. النزول : روي أنّه لمّا كانت وقعة أحد ، اشتدّت على طائفة من الناس. فقال رجل من المسلمين : أنا ألحق بفلان اليهوديّ وآخذ منه أمانا. وقال آخر : أنا ألحق بفلان النصرانيّ ببعض أرض الشام وآخذ منه أمانا. فنزلت الآية. (٢)

(أَوْلِياءَ). فلا تعتمدوا عليهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب. (بَعْضُهُمْ). إيماء إلى علّة النهي. أي : فإنّهم متّفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضا لاتّحادهم في الدين وإجماعهم على مضادّتكم. (مِنْهُمْ) ؛ أي : من جملتهم. وهذا للتشديد في وجوب مجانبتهم ـ كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تتراءى ناراهما ـ أو لأنّ الموالي لهم كانوا منافقين. (الظَّالِمِينَ) ؛ أي : الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفّار أو المؤمنين بموالاة أعدائهم. (٣)

[٥٢] (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ)

(فَتَرَى الَّذِينَ) : ابن أبيّ وأضرابه. (يُسارِعُونَ فِيهِمْ) ؛ أي في موالاتهم. (يَقُولُونَ) ؛ أي : يتعذّرون بأنّهم يخافون أن يصيبهم دائرة من دوائر الزمان بأن ينقلب الأمر ويكون الدولة للكفّار. روي أنّ عبادة بن الصامت قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ لي موالي من اليهود كثيرا

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٠.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٣١٨.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٠.

٦٠٦

عددهم. وإنّي أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم وأوالي الله ورسوله. فقال ابن أبيّ : إنّي رجل أخاف الدوائر. لا أبرأ من ولاية مواليّ. فنزلت. (بِالْفَتْحِ) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على أعدائه وإظهار المسلمين. (١)

(مَرَضٌ) : شكّ ونفاق. (بِالْفَتْحِ) : فتح مكّة. (٢)

(بِالْفَتْحِ). عن الصادق عليه‌السلام قال : أذن في هلاك بني أميّة بعد قتل زيد بسبعة أيّام. (٣)

(أَوْ أَمْرٍ) يقطع به أصل اليهود من القتل والإجلاء. أو الأمر بإظهار أسرار المنافقين. (فِي أَنْفُسِهِمْ) ؛ أي : فيصبح هؤلاء المنافقون نادمين على ما استبطنوه من الكفر والشكّ في أمر الرسول فضلا عمّا أظهروه. (٤)

[٥٣] (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ)

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا). بالرفع قراءة عاصم وحمزة والكسائيّ ، على أنّه كلام مبتدأ. ويؤيّده قراءة ابن كثير : (يَقُولُ) بغير واو ، على أنّه جواب قائل يقول : فما ذا يقول المؤمنون حينئذ؟ وبالنصب قراءة أبي عمرو ويعقوب ، عطفا على (أَنْ يَأْتِيَ) باعتبار المعنى. كأنّه قال : عسى أن يأتي الله بالفتح ويقول الذين آمنوا. أو يجعله بدلا من اسم الله داخلا في اسم عسى مغنيا عن الخبر بما تضمّنه من الحدث. أو على الفتح بمعنى : عسى الله أن يأتي بالفتح وبقول المؤمنين. فإنّ الإتيان بما يوجبه كالإتيان به. (أَهؤُلاءِ). يقوله المؤمنون بعضهم لبعض ، تعجّبا من حال المنافقين وتبجّحا بما منّ الله عليهم من الإخلاص. أو يقولون لليهود. فإنّ المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة ؛ كما حكى الله عنهم : (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ). (٥) وجهد الأيمان : أغلظها. وهو في الأصل مصدر ونصب على الحال ، على تقدير : وأقسموا بالله

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٠.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٣١٩.

(٣) تفسير العيّاشيّ ١ / ٣٢٥ ، ح ١٣٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٠.

(٥) الحشر (٥٩) / ١١.

٦٠٧

يجهدون جهد أيمانهم. فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه. أو على المصدر لأنّه بمعنى أقسموا. (حَبِطَتْ). إمّا من جملة المقول ، أو من قول الله شهادة لهم بحبوط أعمالهم. وفيه معنى التعجّب. كأنّه قيل : ما أحبط أعمالهم وما أخسرهم. (١)

(حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ). لأنّهم أوقعوها على خلاف الوجه المأمور به. (خاسِرِينَ) في الدنيا والآخرة. (٢)

[٥٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٥٤))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). مخاطبة لأصحاب رسول الله الذين غصبوا آل محمّد حقّهم وارتدّوا عن دين الله. (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). في القائم وأصحابه. (٣)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ـ الآية. هو من الكائنات التي أخبر عنها في القرآن قبل كونها. وقيل : كان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة ؛ ثلاث في عهد رسول الله : بنو مدلج ، ورئيسهم ذو الخمار وهو الأسود العنسيّ. وكان كاهنا تنبّأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمّال رسول الله. فكتب رسول الله إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن ، فأهلكه الله على يدي فيروز الديلميّ. وبنو حنيفة قوم مسيلمة الكذّاب. وكتب إلى رسول الله : من مسيلمة رسول الله إلى محمّد رسول الله. أمّا بعد ؛ فإنّ الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب : من محمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى مسيلمة الكذّاب. أمّا بعد ؛ فإنّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده. والعاقبة للمتّقين. فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين ، وقتل على يدي وحشيّ قاتل حمزة ، وكان يقول : قتلت خير الناس في الجاهليّة وشرّ الناس في الإسلام. وبنو أسد. وسبع فرق في عهد أبي بكر. وفرقة واحدة في عهد عمر. (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ). قيل : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧١.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٣٢٠.

(٣) تفسير القمّيّ ١ / ١٧٠.

٦٠٨

عنهم ، فضرب على عاتق سلمان وقال : هذا وذووه. ثمّ قال : لو كان الإيمان بالثريّا ، لناله رجال من أبناء فارس. (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ). محبّة العباد لربّهم طاعته وابتغاء مرضاته وأن لا يفعلوا ما يوجب سخطه. ومحبّة الله لعباده أن يثيبهم أحسن الثواب على طاعتهم ويعظّمهم ويثني عليهم. (١)

(يَرْتَدَّ). قرأ على الأصل نافع وابن عامر ، والباقون بالإدغام. (بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ). قيل : هم أهل اليمن ؛ لما روي أنّه أشار إلى أبي موسى [وقال : هم قوم هذا]. وقيل : الذين جاهدوا يوم القادسيّة من النخع وكندة وبجيلة وثلاثة آلاف من أعراض الناس. والراجع إلى (مَنْ) محذوف. تقديره : فسوف يأتي الله بقوم مكانهم. (٢)

(بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ). هم أمير المؤمنين وأصحابه حين قاتل من قاتل من الناكثين والقاسطين والمارقين. وروي ذلك عن عمّار وحذيفة وابن عبّاس. وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. ويؤيّده أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وصفه بهذه الصفات المذكورة في الآية. قال فيه ـ وقد ندبه لفتح خيبر بعد أن ردّ عنها حامل الراية مرّة بعد أخرى وهو يجبّن الناس ـ : لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله ، كرّارا غير فرّار. ثمّ أعطاها إيّاه. (٣)

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : انّ الله أمرني بحبّ أربعة من أصحابي وأخبرني أنّه يحبّهم : عليّ وسلمان وأبو ذرّ والمقداد. (٤)

(أَذِلَّةٍ) ؛ أي : عاطفين عليهم متذلّلين لهم. جمع ذليل. واستعماله مع على إمّا لتضمين معنى العطف والحنوّ ، أو للتنبيه على أنّهم مع علوّ طبقتهم وفضلهم على المؤمنين خاضعون لهم ، أو للمقابلة. (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) : شداد متغلّبين عليهم. من عزّه ، إذا غلبه. (يُجاهِدُونَ). صفة أخرى لقوم. (وَلا يَخافُونَ). عطف على يجاهدون ، بمعنى أنّهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل الله والتصلّب في دينه. أو حال بمعنى أنّهم يجاهدون وحالهم خلاف حال المنافقين ،

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٦٤٤ ـ ٦٤٦.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧١.

(٣) مجمع البيان ٣ / ٣٢١.

(٤) الخصال ١ / ٢٥٣ ، ح ١٢٦.

٦٠٩

فإنّهم يخرجون في جيش المسلمين خائفين ملامة أوليائهم من اليهود فلا يعملون شيئا يلحقهم فيه لوم من جهتهم. واللّومة : المرّة من اللّوم. وفيها وفي تنكير لائم مبالغتان. (يُؤْتِيهِ) : يوفّق له. (١)

[٥٥] (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ)

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) ـ الآية. لمّا نهى عن موالاة الكفرة ، ذكر عقيبه من هو حقيق بها. وإنّما قال : (وَلِيُّكُمُ اللهُ) ولم يقل أولياؤكم ، للتنبيه على أنّ الولاية لله على الأصالة ولرسوله وللمؤمنين على التبع. (٢)

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ). عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : لو ذكر اسمه في الكتاب ، لأسقط مع ما أسقط. (٣)

(إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ). عن الصادق عليه‌السلام قال : إنّما يعني أولى بكم ؛ أي : أحقّ بكم وبأموركم من أنفسكم وأموالكم الله ورسوله والذين آمنوا. يعني عليّا وأولاده الأئمّة عليهم‌السلام إلى يوم القيامة. [ثمّ] وصفهم الله فقال : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ). وكان أمير المؤمنين عليه‌السلام في صلاة الظهر وقد صلّى ركعتين وهو راكع وعليه حلّة قيمتها ألف دينار وكان النبيّ أعطاها إيّاه وكان النجاشيّ أهداها له. فجاءه سائل فقال : السّلام عليك يا وليّ الله وأولى بالمؤمنين من أنفسهم. فطرح الحلّة إليه. فأنزل الله فيه هذه الآية. وكلّ من بلغ من أولاده مبلغ الإمامة ، يكون بهذه النعمة مثله فيتصدّقون وهم راكعون. والسائل الذي سأل أمير المؤمنين ، كان من الملائكة. وكذلك من الأئمّة عليهم‌السلام. (٤)

عن الباقر عليه‌السلام : إنّ رهطا من اليهود أسلموا فقالوا : يا نبيّ الله ، من وصيّك ومن وليّنا بعدك؟ فنزلت : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ) ـ الآية. فقال رسول الله : قوموا فأتوا إلى المسجد. فإذا سائل خارج المسجد. فقال : يا سائل ، أما أعطاك أحد شيئا؟ قال : نعم ؛ هذا الخاتم أعطانيه ذلك

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٢.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٢.

(٣) الاحتجاج ١ / ١٣٧.

(٤) الكافي ١ / ٢٨٩ ، ح ٣.

٦١٠

الرجل وهو راكع. فكبّر النبيّ وكبّر أهل المسجد. فقال النبيّ : عليّ بن أبي طالب وليّكم بعدي. قالوا : رضينا بالله ربّا وبالإسلام دينا وبمحمّد نبيّا وبعليّ بن أبي طالب وليّا. فأنزل الله : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ) ـ الآية. وروي عن عمر بن الخطّاب قال : والله لقد تصدّقت بأربعين خاتما وأنا راكع لينزل فيّ ما نزل في عليّ بن أبي طالب ، فلم ينزل. (١)

أقول : كذب. نزل فيه : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) ـ الآية. (٢) (حسن)

(الزَّكاةَ). يدلّ على أنّ صدقة التطوّع تسمّى زكاة. (راكِعُونَ) : يخشعون في صلاتهم وزكاتهم. وقيل : هو حال مخصوصة بيؤتون. أي : يؤتون الزكاة في حال ركوعهم في الصلاة. وإنّها نزلت في عليّ عليه‌السلام حين سأله سائل وهو راكع في صلاته فطرح له خاتمه. وبه استدلّ الشيعة على إمامته زاعمين أنّ المراد بالوليّ المتولّي للأمور المتصرّف فيها. (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ). صفة للّذين آمنوا. فإنّه جرى مجرى الاسم. أو بدل منه. (٣)

اتّفق المفسّرون من العامّة والخاصّة والمحدّثون وسائر فرق الإسلام على أنّ هذه الآية نزلت في أمير المؤمنين. حتّى أنّه قال ابن الجوزيّ ـ لمّا سئل : كيف شعر عليّ بالسائل وهو مستغرق في جوار ربّه منقطع عن هذا العالم الدنيّ ـ :

يسقى ويشرب لا تلهيه سكرته

عن النديم ولا يلهو عن الكاس

أطاعه سكره حتّى تمكّن من

فعل الصحاة فهذا أعظم الناس

والوليّ كما قاله اللّغويّون المتولّي للأمور. فالآية نصّ في إمامته بعده صلى‌الله‌عليه‌وآله.

[٥٦] (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ)

(هُمُ الْغالِبُونَ) ؛ أي : فإنّهم هم الغالبون. وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه. فكأنّه قال : ومن يتولّ هؤلاء ، فهم حزب الله الغالبون. وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم. (٤)

__________________

(١) أمالي الصدوق / ١٠٧ ـ ١٠٨ ، ح ٤.

(٢) القيامة (٧٥) / ٣٢.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٢.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٢.

٦١١

[٥٧] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ـ الآية. روي أنّ رفاعة وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثمّ نافقا وكان رجال من المسلمين يوادّونهما ، فنزلت. يعني أنّ اتّخاذهم دينكم هزوا ولعبا لا يصحّ أن يقابل باتّخاذكم إيّاهم أولياء بل يقابل ذلك بالبغضاء. وفصّل المستهزئين بأهل الكتاب والكفّار ، وإن كان أهل الكتاب من الكفّار ، إطلاقا للكفّار على المشركين خاصّة. (١)

(هُزُواً). لأنّهم أظهروا الإسلام واستبطنوا الكفر ، فهو الملاعبة بالدين. (أُوتُوا الْكِتابَ). فيكون الهزو من الكتابيّ والمشرك والمنافق. أمّا المشرك فقوله : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ* الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ). (٢) واستهزاء المنافق في قوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ».)(٣)(وَالْكُفَّارَ) قرأ أهل البصرة والكسائيّ :

(وَالْكُفَّارَ) بالجرّ. (٤)

(وَالْكُفَّارَ). عطف على الذين. (٥)

(وَاتَّقُوا اللهَ) في موالاة الكفّار وغيرها. (٦)

[٥٨] (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ)

(اتَّخَذُوها). الضمير للصلاة أو للمناداة. وقيل : كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المؤذّن يقول : أشهد أنّ محمّدا رسول الله ، قال : حرّق الكاذب. فدخلت خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم ، فتطايرت شرارة في البيت ، فاحترق البيت واحترق هو وأهله. وقيل : فيه دليل

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٢.

(٢) الحجر (١٥) / ٩٥ ـ ٩٦.

(٣) البقرة (٢) / ١٤.

(٤) مجمع البيان ٣ / ٣٢٨ و ٣٢٧.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٢.

(٦) الكشّاف ١ / ٦٥٠.

٦١٢

على ثبوت الأذان بنصّ الكتاب لا بالمنام وحده. (١)

[٥٩] (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ)

(هَلْ تَنْقِمُونَ) ؛ أي : هل تعيبون منّا وتنكرون إلّا الإيمان بالكتب المنزلة كلّها. (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ). في عطفه وجوه. منها أن يعطف على آمنّا بمعنى : وما تنقمون منّا إلّا الجمع بين إيماننا وتمرّدكم وخروجكم عن الإيمان. كأنّه قيل : وما تنكرون منّا إلّا مخالفتكم حيث دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه. ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف. أي : واعتقاد أنّكم فاسقون. ومنها أن يعطف على المجرور. أي : وما تنقمون منّا إلّا الإيمان بالله وما أنزل وبأنّ أكثركم فاسقون. ويجوز أن يكون الواو بمعنى مع. أي : وما تنقمون منّا إلّا الإيمان مع أنّكم فاسقون. وروي أنّه أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نفر من اليهود فسألوه عمّن يؤمن به من الرسل ، فقال : أو من (بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) ـ إلى قوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى عليه‌السلام : ما نعلم أهل [دين] أقلّ حظّا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرّا من دينكم. فنزلت. (٢)

[٦٠] (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ)

(قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ). أي : إن كان ذلك المنقوم عندكم شرّا ، فأنا أخبركم بشرّ منه عاقبة. وإنّما قال : (بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ) وإن لم يكن في المؤمنين شرّ ، على الإنصاف في المخاطبة والمظاهرة في الحجاج. كقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). (٣)(مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) ؛ أي : أبعده

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٦٥٠.

(٢) الكشّاف ١ / ٦٥٠ ـ ٦٥١.

(٣) سبأ (٣٤) / ٢٤.

٦١٣

من رحمته. (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) : أراد به العقوبة والاستخفاف به. وقيل : غضبه أن ضرب عليهم الذلّة والمسكنة والجزية أينما كانوا من الأرض. ولا تعلّق في هذه الآية للمجبرّة. لأنّ أكثر ما تضمّنته الأخبار بأنّه خلق من يعبد الطاغوت ـ على قراءة حمزة ـ ولا شبهة في أنّه خلق الكافر ولا يوجب أن يكون خلق كفره. وليس لهم أن يقيسوه على قوله : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ). لأنّ هذا الجعل لا يجور أن يكون إلّا من الله بخلاف جعل الكفر. فإنّ الدليل قائم على نفيه. (١)

(مِنْ ذلِكَ) ؛ أي : من ذلك المنقوم. (مَثُوبَةً) ؛ أي : جزاء كائنا عند الله. والمثوبة مختصّة بالخير كالعقوبة بالشرّ ، فوضعت هنا موضعها على طريقة التهكّم. ونصبها على التمييز عن بشرّ. (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ). بدل من بشرّ على حذف المضاف. أي : بشرّ من أهل ذلك من لعنه الله. وهم اليهود أبعدهم الله من رحمته وسخط عليهم بكفرهم وانهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات ومسخ بعضهم قردة وهم أصحاب السبت وبعضهم خنازير وهم كفّار أهل مائدة عيسى عليه‌السلام. وقيل : كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبّانهم قردة ومشايخهم خنازير. (٢)

فإن قلت : المعاقبون من الفريقين هم اليهود. فلم شورك بينهم في العقوبة؟ قلت : كان اليهود ـ لعنوا ـ يزعمون أنّ المسلمين ضالّون مستوجبون للعقاب. فقيل لهم : من لعنه [الله] شرّ عقوبة في الحقيقة واليقين من أهل الإسلام في زعمكم ودعواكم. (٣)

(وَعَبَدَ). عطف على صلة من. (الطَّاغُوتَ) ؛ أي : العجل. وقيل : الكهنة. وكلّ من أطاعوه في معصية الله. (أُولئِكَ) ؛ أي : الملعونون. (٤)

(وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ). حمزة بضمّ الباء ونصب الدال وجرّ الطاغوت. والوجه فيه أنّ العبد بمعنى العبد إلّا أنّه بناء مبالغة ؛ كقولهم : رجل حذر وفطن. وقيل : هما لغتان مثل سبع وسبع.

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٣.

(٣) الكشّاف ١ / ٦٥٢.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٣.

٦١٤

وقيل : إنّ العبد جمعه عباد. والعباد جمعه عبد ـ كثمار وثمر ـ إلّا أنّهم استثقلوا الضمّتين فأبدلت الأولى فتحة. وقيل : أرادوا أعبد الطاغوت ـ مثل فلس وأفلس ـ إلّا أنّه حذف الألف وضمّ الباء لئلّا يشبه الفعل. وبه احتجّت الأشاعرة على أنّ الكفر بجعل الله. وقالت المعتزلة : معنى الجعل الحكم عليهم بذلك ووصفهم به ـ كقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً)(١) ـ أو أنّه خذلهم حتّى عبدوها. (٢)

(شَرٌّ مَكاناً). جعل مكانهم شرّا ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم. وقيل : مكانا منصرفا. (وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) : قصد الطريق المتوسّط بين غلوّ النصارى في عيسى وقدح اليهود فيه. والمراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا لا بالإضافة إلى المؤمنين في الشرارة والضلال. (٣)

(وَأَضَلُّ). أي من المؤمنين بزعمهم أنّ المؤمنين ضالّون.

[٦١] (وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ)

(وَإِذا جاؤُكُمْ). نزلت في عامّة المنافقين. (٤)

(وَإِذا جاؤُكُمْ). نزلت في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يظهرون له الإيمان نفاقا فأخبره الله بشأنهم وأنّهم يخرجون من مجلسك كما دخلوا لم يتعلّق بهم شيء ممّا سمعوا من تذكيرك بآيات الله ومواعظك. وقوله : (بِالْكُفْرِ) و (بِهِ) حالان. أي : دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. وتقديره : متلبّسين بالكفر. وكذلك قوله : (وَقَدْ دَخَلُوا) و (هُمْ قَدْ خَرَجُوا). ولذلك دخلت قد تقريبا للماضي من الحال ولمعنى آخر وهو أنّ أمارات النفاق كانت لائحة عليهم فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متوقّعا لإظهار الله ما كتموه ، فدخل

__________________

(١) الزخرف (٤٣) / ١٩.

(٢) تفسير النيسابوريّ ٦ / ١٨٠ ـ ١٨١.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٣ ـ ٢٧٤.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٤.

٦١٥

حرف التوقّع. وهو متعلّق بقوله : (قالُوا آمَنَّا) ؛ أي : قالوا ذلك وهذه حالهم. (١)

(يَكْتُمُونَ). أي من الكفر. وفيه وعيد لهم. (٢)

[٦٢] (وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)

(مِنْهُمْ) ؛ أي : من اليهود والمنافقين. (فِي الْإِثْمِ) ؛ أي : الحرام. وقيل : الكذب ؛ لقوله : «عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ». «وَالْعُدْوانِ» : الظلم. أو مجاوزة الحدّ في المعاصي. وقيل : الإثم ما يختصّ بهم. والعدوان ما يتعدّى إلى غيرهم. (السُّحْتَ) أي : الحرام. خصّه بالذكر للمبالغة. (لَبِئْسَ ما كانُوا) : لبئس شيئا عملوه. (٣)

[٦٣] (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ)

(لَوْ لا يَنْهاهُمُ). تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك. فإنّ لو لا إذا دخل الماضي أفاد التوبيخ ، وإذا دخل المستقبل أفاد التحضيض. (٤)

(الرَّبَّانِيُّونَ) : العلماء بالدين الذين من قبل الربّ على وجه تغيير الاسم. (٥)

(ما كانُوا يَصْنَعُونَ). كأنّهم جعلوا آثم ـ أي أشدّ إثما ـ من مرتكبي الكبائر. لأنّ كلّ عامل لا يسمّى صانعا ؛ ولا كلّ عمل يسمّى صناعة حتّى يتمكّن فيه ويتدرّب وينسب إليه. وكأنّ المعني في ذلك أنّ مواقع المعصية معه الشهوة التي تدعوه إليها وتحمله على إرتكابها وأمّا الذي ينهاه فلا شهوة معه في فعل غيره ، فإذا فرّط في الإنكار ، كان أشدّ حالا من المواقع. وهذه الآية ممّا ينعى على العلماء توانيهم. وعن ابن عبّاس : هي أشدّ آية في القرآن. (٦)

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٦٥٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٤.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٤.

(٥) مجمع البيان ٣ / ٣٣٥.

(٦) الكشّاف ١ / ٦٥٤.

٦١٦

[٦٤] (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤))

(يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ). غلّ اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود. ومنه قوله تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ)(١) ولا يقصد من يتكلّم به إثبات يد ولا غلّ ولا بسط. فإن قلت : قد صحّ أنّ قولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) عبارة عن البخل. فما تصنع بقوله : (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ)؟ ومن حقّه أن يطابق ما تقدّمه وألّا تنافر الكلام؟ قلت : يجوز أن يكون معناه الدعاء عليهم بالبخل ، ومن ثمّ كانوا أبخل خلق الله. ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة يغلّلون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذّبين بأغلال جهنّم ، والطباق من حيث اللّفظ وملاحظة أصل المجاز. فإن قلت : كيف جاز أن يدعو الله عليهم بما قبح وهو البخل والنكد؟ قلت : المراد به الدعاء بالخذلان الذي تقسو به قلوبهم فيزيدون بخلا إلى بخلهم ، أو بما هو مسبّب عن البخل من لصوق العار بهم. وإنّما ثنّيت اليد في (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) وهي مفردة في (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) ليكون ردّ قولهم وإنكاره أبلغ وأدلّ على إثبات غاية السخاء له ونفي البخل عنه. وذلك أنّ غاية ما يبذله السخيّ بماله من نفسه أن يعطيه بيديه جميعا ، فبنى المجاز على ذلك. (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ). تأكيد للوصف بالسخاء ودلالة على أنّه لا يتّفق إلّا على مقتضى الحكمة والمصلحة. روي : انّ الله كان قد بسط على اليهود حتّى كانوا من أكثر الناس مالا. فلمّا عصوا الله في محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وكذّبوه ، كفّ الله ما بسط عليهم من السعة. فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء : يد الله مغلولة. ورضي بقوله الآخرون. (٢)

(بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ؛ أي : نعم الدنيا ونعم الآخرة. أو : نعمه الظاهرة ونعمه الباطنة.

__________________

(١) الإسراء (١٧) / ٢٩.

(٢) الكشّاف ١ / ٦٥٤ ـ ٦٥٧.

٦١٧

أو : ما يعطي للإكرام. (١)

عن الصادق عليه‌السلام : انّ الله خلقنا فأحسن خلقنا. وجعلنا عينه في عباده ولسانه الناطق في خلقه ويده المبسوطة على عباده بالرأفة والرحمة. (٢)

عن الصادق عليه‌السلام (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) : لم يعنوا أنّه هكذا ، ولكنّهم قالوا : قد فرغ من الأمر فلا يزيد ولا ينقص. فكذّبهم الله بقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ). ألم تسمع الله يقول : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)(٣). (٤)

(ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ). أي يزدادون عند نزول القرآن لحسدهم تماديا في الجحود وكفرا بآيات الله. (٥)

(بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ). عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : تفرّقت أمّة موسى على إحدى وسبعين ملّة سبعون منها في النار. (٦)

(وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ) ، فكلمهم أبدا مختلف وقلوبهم شتّى لا يقع بينهم اتّفاق ولا تعاضد ، كلّما أرادوا محاربة أحد غلبوا وقهروا ولم يقم لهم من الله نصر على أحد قطّ ، وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس. وقيل : خالفوا حكم التوراة ، فبعث الله عليهم بخت نصّر. ثمّ أفسدوا ، فسلّط عليهم فطرس الروميّ. ثمّ أفسدوا ، فسلّط عليهم المجوس. ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين. وقيل : كلّما حاربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نصر عليهم. وعن قتادة : لا تلقى اليهود ببلدة إلّا وجدتهم من أذلّ الناس. (وَيَسْعَوْنَ) : ويحتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من كتبهم. (٧)

(ناراً لِلْحَرْبِ). عن الباقر عليه‌السلام : معناه : كلّما أراد جبّار من الجبابرة هلاك آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٣٤٠ ، وتفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٤.

(٢) التوحيد / ١٥١ ، ح ٨.

(٣) الرعد (١٣) / ٣٩.

(٤) التوحيد / ١٦٧ ، ح ١.

(٥) الكشّاف ١ / ٦٥٧.

(٦) تفسير العيّاشيّ ١ / ٣٣١ ، ح ١٥١.

(٧) الكشّاف ١ / ٦٥٧.

٦١٨

قصمه الله. (١)

(فَساداً) ؛ أي : للفساد. وهو اجتهادهم في الكيد وإثارة الحروب والفتن. (٢)

[٦٥] (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ)

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ). أي مع ما عددنا من سيّئاتهم. (آمَنُوا) برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقرنوا إيمانهم بالتقوى الذي هو شرط الإيمان ، لكفّرنا عنهم تلك السيّئات ولأدخلناهم الجنّة. وفيه إعلام بعظم معاصي اليهود والنصارى وسعة رحمة الله. (٣)

[٦٦] (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ)

(أَقامُوا التَّوْراةَ) ؛ أي : أقاموا أحكامها وما فيها من نعت رسول الله. (٤)

(وَما أُنْزِلَ). عن الباقر عليه‌السلام ما أنزل عليهم قال : الولاية. (٥)

(وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) : سائر كتب الله. لأنّهم مكلّفون بالإيمان بجميعها فكأنّها أنزلت إليهم. وقيل : هو القرآن. (لَأَكَلُوا) : لوسّع الله عليهم. وكانوا قد قحطوا. وقوله : (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) كناية عن التوسعة. وفيه ثلاثة أوجه ؛ أن يفيض عليهم بركات السماء وبركات الأرض ، وأن يكثر الأشجار المثمرة والزروع المغلّة ، وأن يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجتنون ما تهدل عنها من رؤوس الشجر ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم. (٦)

(مُقْتَصِدَةٌ) ؛ أي : عادلة غير غالية ولا مقصّرة. وهم الذين آمنوا بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل :

__________________

(١) تفسير العيّاشيّ ١ / ٣٣٠ ، ح ١٤٨.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٥.

(٣) الكشّاف ١ / ٦٥٧.

(٤) الكشّاف ١ / ٦٥٨.

(٥) تفسير العيّاشيّ ١ / ٣٣٠ ، ح ١٤٩.

(٦) الكشّاف ١ / ٦٥٨.

٦١٩

(مُقْتَصِدَةٌ) : متوسّطة في عداوته. (١)

(مُقْتَصِدَةٌ). قال : قوم من اليهود دخلوا في الإسلام فسمّاهم الله مقتصدة. (٢)

(ساءَ ما يَعْمَلُونَ) ؛ أي : بئس ما يعملونه. وفيه معنى التعجّب. أي : ما أسوأ عملهم وهو المعاندة وتحريف الحقّ والإعراض عنه أو الإفراط في العداوة. (٣)

[٦٧] (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ)

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ). روى الثعلبيّ في تفسيره أنّها نزلت في أمير المؤمنين عليه‌السلام. (٤)

(بَلِّغْ) غير خائف مكروها. (٥)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : لمّا رجع صلى‌الله‌عليه‌وآله من حجّة الوداع ، نزل جبرئيل عليه‌السلام فقال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) ـ الآية. فنادى الناس واجتمعوا. وأمر بسمرات فقمّ شوكهنّ. ثمّ قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا أيّها الناس ، من وليّكم وأولى بكم من أنفسكم؟ فقالوا : الله ورسوله. فقال : من كنت مولاه ، فعليّ مولاه. اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه. ثلاث مرّات. فوقعت حسكة النفاق في قلوب القوم وقالوا : ما أنزل الله جلّ ذكره هذا على محمّد. وما يريد إلّا أن يرفع بضبع ابن عمّه. (٦) كذا في الكافي.

وفي عيون الأخبار أنّه قال رجل للرضا عليه‌السلام : يا بن رسول الله ، إنّه يروى عن عمر بن الزبير أنّه قال : توفّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو في تقيّة. فقال : أمّا بعد قول الله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ) ـ الآية ـ فإنّه أزال كلّ تقيّة بضمان الله. ولكن قريش فعلت ما اشتهت بعد. وأمّا قبل نزول الآية ، فلعلّه. (٧)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٥.

(٢) تفسير القمّيّ ١ / ١٧١.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٥.

(٤) تفسير الثعلبيّ ٤ / ٩٢.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧٥.

(٦) الكافي ١ / ٢٩٥.

(٧) عيون الأخبار ٢ / ١٣٠ ، ح ٧١٠.

٦٢٠