عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-26-5
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦٣

عَظِيمٌ).

عن أبي محمّد العسكريّ عليه‌السلام : أي : وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته إذا نظروا إليها بأنّهم الذين لا يؤمنون. (وَعَلى سَمْعِهِمْ) كذلك بسمات. (وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ). وذلك بأنّهم لمّا أعرضوا عن النظر فيما كلّفوه وجهلوا ما لزمهم من الإيمان ، فصاروا كمن على عينيه غشاوة لا يبصر. (١)

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) ؛ أي : شهد عليها بأنّها لا تقبل الحقّ. كقولك : قد ختمت عليك بأنّك لا تعلم ؛ أي : شهدت. وقال قوم : إنّ ذلك على وجه الدعاء عليهم لا الإخبار عنهم. وهو ممكن على نصب (غِشاوَةٌ). (٢)

(غِشاوَةٌ). بالرفع على الابتداء. وقرئ بالنصب. أي : وجعلنا. (٣)

عن الصادق عليه‌السلام : الكفر في كتاب الله على خمسة أوجه : فمنها كفر الجحود على وجهين ، والكفر بترك ما أمر الله ، وكفر البراءة ، وكفر النعم. فأمّا كفر الجحود ، فهو الجحود بالربوبيّة. وهو قول من يقول : لا ربّ ولا جنّة ولا نار. وهو قول صنفين من الزنادقة يقال لهم الدهريّة وهم الذين يقولون : (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ). (٤) وهو دين وضعوه لأنفسهم على غير تحقيق منهم لشيء ممّا يقولون. قال الله عزوجل : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ). (٥) وقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). يعني بتوحيد الله. فهذا أحد وجوه الكفر. (٦)

(خَتَمَ اللهُ). الختم : الطبع بالخاتم. وفيه وجوه من التأويل. الأوّل : انّ القوم لمّا أعرضوا عن الحقّ وتمكّن ذلك في قلوبهم حتّى صار كالطبيعة لهم ، شبّه بالوصف الخلقيّ المجبول عليه. الثاني : انّ المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم التي خلقها الله تعالى خالية عن الفطن. الثالث : انّ ذلك فعل الشيطان حقيقة أو الكافر ، لكن لمّا كان صدوره عنه بإقداره تعالى إيّاه ،

__________________

(١) الاحتجاج ٢ / ٢٦٠.

(٢) التبيان ١ / ٦٣ و ٦٥.

(٣) الكشّاف ١ / ٥٣.

(٤) الجاثية (٤٥) / ٢٤.

(٥) البقرة (٢) / ٧٨.

(٦) الكافي ٢ / ٣٩.

٤١

أسنده الله إليه إسناد الفعل إلى المسبّب. (١)

[٨] (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)

نزلت في المنافقين ؛ وهم عبد الله بن أبيّ [بن] سلول وأحزابه. (٢)

[٩] (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ)

قرأ الحرميّان وأبو عمرو : (وَما يَخْدَعُونَ) بالألف ، والباقون : (يَخْدَعُونَ). (٣)

(يُخادِعُونَ اللهَ) ؛ أي : يعملون عمل المخادع ؛ كالرياء في العبادة. وقيل : المعنى : يخادعون رسول الله. لأنّ معصيته معصية الله. والمفاعلة قد يكون من واحد. وخداعهم من جهة إظهارهم الإسلام وإبطانهم الكفر. وخداع الله لهم الإملاء في الدنيا والعذاب في الآخرة. (٤)

عن الرضا عليه‌السلام : خداع الله مجازاتهم. (٥)

[١٠] (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ)

(مَرَضٌ). المرض هنا المراد منه الحسد والشكّ والحقد والنفاق. وقيل : المراد منه الفتور. فهو فتور في القلب عن الإيمان. ومعنى («زادهم الله مرضا») أنّهم ازدادوا شكّا عند زيادة الآيات والحجج ، ولمّا حصل [ذلك] عند فعله تعالى ، نسب إليه ؛ كقوله تعالى : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً). (٦) أو إنّه حصل لهم غمّ بقوّة الإسلام فازدادوا غمّا بزيادة قوّة الإسلام. أو يكون دعاء عليهم من باب : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). (٧) فهو دعاء عليهم لمنع الإلطاف والتوفيق. (٨)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣.

(٢) مجمع البيان ١ / ١٣٢.

(٣) التيسير / ٦٢.

(٤) مجمع البيان ١ / ١٣٤.

(٥) عيون الأخبار ١ / ١٢٦.

(٦) نوح (٧١) / ٦.

(٧) التوبة (٩) / ١٢٧.

(٨) مجمع البيان ١ / ١٣٤ ، والتبيان ١ / ٧٢.

٤٢

(يَكْذِبُونَ). قرأ الكوفيّون بفتح الياء مخفّفا ، والباقون بضمّها مشدّدا. (١)

[١١ ـ ١٢] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)

(قِيلَ). الكسائيّ بإشمام الكسر حيث وقع. والباقون بالكسر. (٢)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ). نزلت في المنافقين الأوّلين. وعن سلمان رضى الله عنه أنّ أهل هذه الصفة لم يأتوا بعد. أي : إذا قيل لهم لا تفسدوا بالمعاصي أو الصدّ عن الإيمان أو تحريف الكتاب ، قالوا : إنّما نحن مصلحون في اعتقادنا لنسلم من الفريقين. أو إنّنا لا نفعل شيئا ممّا يقولون. وإنّما جاز تكليفهم وإن لم يشعروا أنّهم على ضلال ، لأنّ لهم طريقا إلى العلم بذلك. (٣)

(مُصْلِحُونَ) ؛ أي : نريد الإصلاح بين المؤمنين وأهل الكتاب. (٤)

(مُصْلِحُونَ). لأنّهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح ، لما في قلوبهم من المرض. كما قال الله تعالى : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً)(٥). (٦)

[١٣] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا) ؛ أي : إذا قيل للمنافقين : آمنوا بالقلب كإيمان الناس. وهم من آمن حقيقة من المؤمنين الذين يستحقّون إطلاق الإنسانيّة عليهم. أو المراد منهم من آمن حقيقة من اليهود كعبد الله بن سلام وأضرابه. (٧)

(أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ). السفه : خفّة العقل ونقصان الحلم. والهمزة فيه للإنكار. واللّام مشار بها إلى الناس أو الجنس بأسره. وإنّما سفّهوهم لاعتقادهم فساد رأيهم ولتحقير

__________________

(١) التيسر / ٦٢.

(٢) التيسير / ٦٢.

(٣) مجمع البيان ١ / ١٣٨.

(٤) التبيان ١ / ٧٦.

(٥) فاطر (٣٥) / ٨.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧.

(٧) الكشّاف ١ / ٦٤.

٤٣

شأنهم ـ فإنّ أكثر المؤمنين كانوا فقراء ومنهم موالي ـ أو للتجلّد وعدم المبالاة بمن آمن منهم ، إن فسّر الناس بعبد الله بن سلام ونحوه. (١)

(وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ). فيها دلالة على من قال بأنّ الكفّار معاندون عالمون بخطاء ما هم عليه وأنّ المعرفة ضرورة. (٢)

(السُّفَهاءُ). لأنّ من أعرض عن الدليل ثمّ نسب المتمسّك به إلى السفه ، فهو السفيه. وكذا من باع آخرته بدنياه. وإنّما فصلت هذه الآية بلا يعلمون والتي قبلها بلا يشعرون ، لأنّ الوقوف على أنّ المؤمنين على الحقّ وهم على الباطل أمر عقليّ نظريّ وأمّا النفاق وما يؤول إليه من الفساد في الأرض أمر دنيويّ مبنيّ على العادات وخصوصا عند العرب في جاهليّتهم وما كان قائما بينهم من التجارب ، فهو كالمحسوس. ولأنّه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم أحسن طباقا. (٣)

[١٤] (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)

(شَياطِينِهِمْ) : رؤسائهم من الكفّار أو اليهود الذين أمروهم بالتكذيب. وعن الباقر عليه‌السلام أنّهم كهناؤهم. (٤)

(إِلى شَياطِينِهِمْ). بمعنى مع ، أو بمعنى الباء. أو من خلاك ذمّ ؛ أي : عداك ومضى عنك. (٥)

الشيطان ؛ جعل سيبويه نونه تارة أصليّة ، على أنّه من شطن إذا بعد ، فإنّه بعيد عن الصلاح ، وأخرى زائدة ، على أنّه من شاط إذا بطل. (٦)

[١٥] (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٧.

(٢) التبيان ١ / ٧٦.

(٣) تفسير النيسابوريّ ١ / ١٥٩.

(٤) مجمع البيان ١ / ١٤٠.

(٥) التبيان ١ / ٧٩ ، ومجمع البيان ١ / ١٤٠ ، وتفسير البيضاويّ ١ / ٢٨.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٨.

٤٤

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ). معناها من الله هو الجزاء عليها. وقيل : إنّ استهزاءهم لمّا يرجع إليهم ، لم يضرّ سواهم. وقيل : إنّ الاستهزاء من الله هو الإملاء الذي يظنّونه إغفالا. وقيل : إنّه أجرى عليهم في الدنيا حكم الإسلام وفي الآخرة حكم الكفّار. وروي في الأخبار أنّه يفتح لهم باب جهنّم فيظنّون أنّهم يخرجون منها فيزدحمون للخروج ، فإذا انتهوا إلى الباب ، ردّتهم الملائكة. فهذا نوع من الاستهزاء. (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها)(١). (٢)

(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) ؛ أي : يمدّلهم كأنّه يخلّيهم والامتداد في عمههم والجماح في غيّهم ، إيجابا للحجّة وانتظارا للمراجعة ، تشبيها بمن أرخى المطول للفرس ليتنفّس خناقها ويتّسع مجالها.

(يَعْمَهُونَ). جملة حاليّة. أي : يمدّهم في حال طغيانهم ليؤمنوا وهم مصرّون على الطغيان. أو : إنّه يتركهم من فوائده التي يؤتيها المؤمنين. (٣)

[١٦] (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ)

(اشْتَرَوُا) : استبدلوا واختاروا. (٤)

(وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) بطرق التجارة. لأنّهم أضاعوا الربح والرأس ما لهم الفطرة السليمة والعقل الصرف ، فلا ربح حينئذ. (٥)

[١٧] (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ)

أي : حال هؤلاء المنافقين لمّا أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ، مثل الذي أوقد نارا وانتفع

__________________

(١) الحجّ (٢٢) / ٢٢.

(٢) التبيان ١ / ٨٠.

(٣) مجمع البيان ١ / ١٤١ ـ ١٤٢.

(٤) مجمع البيان ١ / ١٤١.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠.

٤٥

بها في ليلة مظلمة ، فبينا هو كذلك ، إذ طفئت ناره فبقي متحيّرا. كذلك المنافقون لمّا أظهروا كلمة الإيمان واستناروا بنورها ، ناكحوا المسلمين ووارثوهم ، فلمّا ماتوا ، عادوا إلى الظلمة والخوف وبقوا في العذاب. فهذا معنى (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) يعني بسبب سماويّ كالريح والمطر. (١)

وقيل في معنى إذهاب نور المنافقين وجه آخر ؛ وهو إطلاع الله المؤمنين على كفرهم فقد ذهب منهم نور الإسلام. (٢)

وضمير الجمع في (بِنُورِهِمْ) حمل على معنى الذي لأنّه بمعنى الذين. (٣)

(تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ). وعن الرضا عليه‌السلام : انّ الله تبارك وتعالى لا يوصف بالترك ، ولكنّه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر ، منعهم اللّطف وخلّى بينهم وبين اختيارهم. (٤)

(مَثَلُهُمْ). عن الرضا عليه‌السلام يقول : أضاءت الأرض بنور محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كما تضيء الشمس ، فضرب الله مثل محمّد الشمس ومثل الوصيّ القمر. وهو قول الله عزوجل : (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً). (٥) وقوله عزوجل : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) يعني قبض محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وظهرت الظلمة فلم يبصروا فضل أهل بيته. (٦)

(ما حَوْلَهُ). لفظة ما إمّا فاعل أو مفعول. (فِي ظُلُماتٍ) : ظلمة الكفر وظلمة النفاق وظلمة يوم القيامة. أو : ظلمة شديدة كأنّها ظلمات. (٧)

[١٨] (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ)

(صُمٌّ بُكْمٌ) ؛ أي : هم صمّ. فإن كان عبارة عن المستوقد ، فحقيقة ، لحصول الداهشة لهم فأذهب حواسّهم. وإن كان المراد المنافقين ، فمجاز لأنّهم لم يسمعوا الحقّ ولم ينطقوا به

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ١٤٥ ، وتفسير البيضاويّ ١ / ٣١.

(٢) مجمع البيان ١ / ١٤٥.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٠.

(٤) عيون الأخبار ١ / ١٢٣.

(٥) يونس (١٠) / ٥.

(٦) الكافي ٨ / ٣٨٠ ، عن الباقر عليه‌السلام.

(٧) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٢.

٤٦

ألسنتهم ولم يتبصّروا الآيات بأبصارهم. (١)

(بُكْمٌ). يعني في الآخرة. (لا يَرْجِعُونَ). يعني : لا ينطقون ولا يعتذرون. عن الصادق عليه‌السلام. (٢)

أو : لا يرجعون عن شراء الضلالة بالهدى. (٣)

[١٩] (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ)

(أَوْ كَصَيِّبٍ). عطف على (الَّذِي اسْتَوْقَدَ). وأو هنا للمساواة. يعني : انّك مخيّر بأن تشبّههم بهما أو بأيّهما شئت. والصيّب فيعل من الصوب ؛ وهو النزول. يقال للمطر والسحاب. (فِيهِ ظُلُماتٌ) ؛ أي : في ذلك المطر. وهو ظلمة تكاثفه وظلمة غمامته مع ظلمة اللّيل. (يَجْعَلُونَ). أي أهل الصيّب. (مِنَ الصَّواعِقِ) ؛ أي : من أجلها. (حَذَرَ الْمَوْتِ) ؛ أي : لأجل حذر الموت. (مُحِيطٌ). لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط. (٤)

[٢٠] (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

(يَكادُ الْبَرْقُ) : يكاد ما في القرآن من الحجج تخطف قلوبهم من شدّة إزعاجها إلى النظر في أمور دينهم. (كُلَّما) ؛ أي : إذا آمنوا ، صار الإيمان لهم نورا ، وإذا ماتوا ، عادوا إلى ظلمة العقاب. (٥)

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ) ؛ أي : ولو شاء الله أن يذهب بسمعهم بقصيف الرعد وأبصارهم بوميض البرق ، لذهب بهما. فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه. (٦) وأمّا في جهة

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣١.

(٢) الكافي ٨ / ٤٠٦.

(٣) التبيان ١ / ٩٠.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٢ ـ ٣٣.

(٥) مجمع البيان ١ / ١٥٢.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٤.

٤٧

المنافقين فمعناه : انّه تعالى جعل لهم السمع والأبصار ليتوصّلوا بها إلى الهدى والفلاح ، ثمّ إنّهم صرفوها إلى الحظوظ العاجلة وسدّوها عن الفوائد الآجلة. ولو شاء الله لجعلهم على الحالة التي يجعلونها [لأنفسهم]. فإنّه على ما يشاء قدير. (١)

(لَذَهَبَ) بحواسّهم وأهلكهم. (٢)

(يَكادُ). استئناف ثان كأنّه جواب لمن يقول : ما حالهم مع تلك الصواعق؟ والبرق سوط الملك الذي يسوق السحاب كما أنّ الرعد صوته. (أَضاءَ). لازم ومتعدّ. أي : نوّر الممشى لهم. و (قامُوا) معناه وقفوا في جانب المشبّه. فقال الشيخ : جعل ضوء البرق وشدّة شعاع نوره كضوء إقرارهم بألسنتهم ....

[٢١] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)

خطاب عامّ. وعن ابن عبّاس أنّه ما في القرآن من (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فإنّه نزل بمكّة و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نزل بالمدينة. (٣)

وعن الرضا عليه‌السلام : ليس العبادة كثرة الصوم والصلاة. إنّما العبادة التفكّر في أمر الله. (٤)

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا). شاملة للأصول والفروع. (٥)

(الَّذِي خَلَقَكُمْ). صفة للتعليل. (وَالَّذِينَ) ؛ أي : خلق الذين. (لَعَلَّكُمْ). حال من الضمير في اعبدوا. أي : اعبدوه راجين أن تنخرطوا في سلك المتّقين. (وَالسَّماءَ بِناءً) : قبّة مضروبة عليكم. (٦)

[٢٢] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٥.

(٢) مجمع البيان ١ / ١٥٢.

(٣) مجمع البيان ١ / ١٥٣.

(٤) الكافي ٢ / ٥٥ ، ح ٤.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٥ ، والتبيان ١ / ٩٨.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٦.

٤٨

(فِراشاً). عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : أي : جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم ، ولم يجعلها شديدة الحرارة فتحرقكم ، ولا شديدة البرودة فتجمدكم ، ولا شديدة اللّين فتغرقكم ، ولا شديدة الصلابة فتمنع عليكم. (وَالسَّماءَ بِناءً) ؛ أي : سقفا من فوقكم محفوظا يدير فيها شمسها وقمرها لمنافعكم. (١)

(مِنَ السَّماءِ ماءً). عن الباقر عليه‌السلام قال : كان عليّ عليه‌السلام يقوم في أوّل مطر يمطر حتّى يبتلّ ثيابه. فيقال له : يا أمير المؤمنين ، الكنّ. الكنّ. فيقول : إنّ هذا الماء قريب عهد بالعرش. لأنّ تحت العرش بحرا ينبت به أرزاق الحيوان. فإذا أراد الله عزوجل أن ينبت ما يشاء لهم رحمة منه ، مطر ما شاء من سماء إلى سماء حتّى يصير إلى سماء الدنيا فيلقيه إلى السحاب. والسحاب بمنزلة الغربال. ثمّ يوحي إلى السحاب : اطحنيه وأذيبيه ثمّ انطلقي به إلى موضع كذا. فليس من قطرة يقطر إلّا ومعها ملك يضعها موضعها. (٢)

(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ). من للابتداء. (مِنَ الثَّمَراتِ). من للتبعيض. (فَلا تَجْعَلُوا) متعلّق باعبدوا على أنّه نهي معطوف عليه. (٣)

(وَأَنْتُمْ). حال من ضمير (فَلا تَجْعَلُوا). أي : وحالكم أنّكم من أهل العلم والنظر. (٤)

[٢٣] (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

(عَلى عَبْدِنا). في أصول الكافي بإسناده إلى جابر قال : نزل جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا : وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا في علي عليه‌السلام فأتوا بسورة من مثله». (٥)

وروى الشيخ رحمه‌الله في المصباح قال : قال الصادق عليه‌السلام : حروف العبد ثلاثة : العين والباء و

__________________

(١) عيون الأخبار ١ / ١٣٧ ، والتوحيد / ٤٠٤.

(٢) علل الشرائع / ٤٦٣ ، ح ٨.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٧.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٨.

(٥) الكافي ١ / ٤١٧.

٤٩

الدال. فالعين علمه بالله تعالى. والباء بونه عمّا سواه. والدال دنوّه من الله بلا كيف ولا حجاب. (١)

أقول : ذكر المحقّقون أنّ صفة العبوديّة فوق صفة الرسالة والنبوّة. وذلك أنّها حالة رابطة بينه وبين مولاه لا تعلّق لها بالخلق ، بخلاف الرسالة ؛ فإنّ لها نسبة إلى المرسل إليهم. ومن ثمّ قال في مقام الثناء عليه : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ). (٢)

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ). دخلت إن هاهنا لغير الشكّ. لأنّ الله تعالى علم أنّهم مرتابون ، ولكن هذا على عادة العرب في خطابهم. كقولهم : إن كنت ابني فأطعني. والريب : الشكّ مع تهمة. و (مِنْ مِثْلِهِ) صفة سورة. أى : كائنة من مثله. والضمير لما نزّلنا. ومن للتبعيض ـ أي : فأتوا ببعض ما هو مثل له وهو سورة ـ أو للتبيين. وزائدة عند الأخفش. أي : بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة وحسن النظم. أو لعبدنا. أي : ممّن هو على حاله من كونه بشرا عربيّا أو أمّيّا لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء ، ولا قصد إلى [مثل ونظير هنالك. وردّ الضمير إلى المنزّل أوجه ؛ لقوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ] مِثْلِهِ). (٣)(فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ). (٤)(عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ). (٥) ولأنّ الحديث في المنزّل لا في المنزّل [عليه]. (٦)

(مِنْ دُونِ اللهِ) ؛ أي : من غير الله. (٧)

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ). لمّا قرّر وحدانيّته تعالى وبيّن الطريق الموصل إليها ، ذكر عقيبه ما هو الحجّة على نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو القرآن المعجز فصاحته. (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) ؛ أي : من يشهدكم ويعينكم. (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنّه من كلام البشر. (٨)

[٢٤] (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ

__________________

(١) مصباح الشريعة / ٥٤١. وما ورد في المتن : «وروى الشيخ ...» خطأ.

(٢) الإسراء (١٧) / ١.

(٣) يونس (١٠) / ٣٨.

(٤) هود (١١) / ١٣.

(٥) الإسراء (١٧) / ٨٨.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٨ ـ ٣٩ ، والكشّاف ١ / ٩٨ ، ومجمع البيان ١ / ١٥٧.

(٧) مجمع البيان ١ / ١٥٧.

(٨) تفسير البيضاويّ ١ / ٣٨ ـ ٣٩.

٥٠

لِلْكافِرِينَ)

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) [وعجزتم عن](١) الإتيان بسورة مثله. إنّما أتى بإن والموضع لإذا ، لعدم الشكّ منه ، إمّا تهكّما بهم ـ كما تقول لمن علمت أنّك تغلبه : إن غلبتك لم أبق عليك ـ وإمّا بناء على حال المخاطبين ، لأنّهم ربما شكّوا في الإتيان قبل التأمّل. (وَلَنْ تَفْعَلُوا). جملة اعتراضيّة لفائدة نفي الأبد. (فَاتَّقُوا). الجواب. فأقام الملزوم مقام اللّازم. (٢)

(وَقُودُهَا) ؛ أي : حطبها. و (الْحِجارَةُ) : حجارة الكبريت. أو : الأصنام التي كانت تنحت من الحجارة. قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : لقد مررنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بجبل وإذا الدموع تخرج من بعضه. فقال له : ما يبكيك يا جبل؟ فقال : يا رسول الله ، كان المسيح عليه‌السلام مرّ بي وهو يخوّف الناس بنار وقودها الناس والحجارة. وأنا أخاف أن أكون من تلك الحجارة. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تخف. تلك الحجارة الكبريت. فقرّ الجبل وسكن. (٣)

[٢٥] (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)

البشارة : الخبر السارّ ، لأنّ أثره يظهر على البشرة. (الْجَنَّاتِ). جمع جنّة ، مصدر جنّه ، إذا ستره. لأنّها مستورة عن أهل الدنيا. (رِزْقاً). مفعول به. (٤)

(أُعِدَّتْ). [فيها] دلالة على وجود النار بالفعل ، وكذلك الجنّة ؛ لعدم القائل بالفصل. والآيات والأخبار وإجماع المسلمين دالّ عليه. وذهب جماعة من المعتزلة ـ كأبي هاشم والقاضي عبد الجبّار ومن يجري مجراهما ـ إلى أنّهما سيخلقان ، وربما حكي عن سيّدنا الرضيّ ، حملا لقوله : (أُعِدَّتْ) وما في معناه على الاستقبال ، ونظرا إلى ظاهر قوله تعالى :

__________________

(١) في النسخة : «مِنْ» بدل ما بين المعقوفتين.

(٢) الكشّاف ١ / ١٠١.

(٣) الاحتجاج ١ / ٣٢٦.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٤١.

٥١

(وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ)(١) فلو كانت موجودة بالفعل أين كانت تكون؟ وأجاب عنه العلماء ـ وهو مرويّ عن الرضا عليه‌السلام ـ أنّ سقف الجنّة عرش الرحمن وقوله عزّ شأنه : (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى * عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى)(٢) وأمّا النار فهي تحت الأرضين السبع. (٣)

(وَبَشِّرِ). عطف على جملة وصف عقاب الكافرين أو على فاتّقوا. (٤)

(مِنْ تَحْتِهَا) ؛ أي : من تحت أشجارها ومساكنها. (مِنْها) : من أشجار الجنّة. (٥)

(مِنْ ثَمَرَةٍ). من الأولى والثانية للابتداء واقعتان موقع الحال. (٦)

(مِنْ ثَمَرَةٍ). من زائدة ، أو للتبعيض ، أو للتبيين. (٧)

(قالُوا هذَا). فيه وجوه. أحدها : انّ ثمارها إذا جنيت من أشجارها ، عاد مكانها مثلها فيشتبه عليهم فيقولون : (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ). وثانيها : انّ معناه : هذا الذي رزقناه [من قبل] في الدنيا. عن ابن عبّاس. وقيل : هذا الذي وعدناه في الدنيا. وثالثها : انّ هذا الذي رزقناه من قبل في الجنّة. أي كالّذي رزقناه ، وهم يعلمون أنّه غيره ، ولكنّهم شبّهوه به في طعمه ولونه وريحه وطيبه وجودته. (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ؛ أي : جيئوا به. وليس معناه : وأعطوه. وفيه وجوه. أحدها : انّه أراد متشابها في اللّون مختلفا في الطعم. وثانيها : انّها متشابهة في الجودة خيار لا رذل فيه. وثالثها : انّه يشبه ثمر الدنيا غير أنّ ثمر الجنّة أطيب. ورابعها : انّه يشبه بعضها بعضا في اللّذّة وفي جميع الصفات. (أَزْواجٌ). قيل : هنّ الحور العين. وقيل : هنّ نساء الدنيا. (مُطَهَّرَةٌ) من الحيض والبول والغائط والأخلاق الذميمة والآثام. (٨)

__________________

(١) الحديد (٥٧) / ٢١.

(٢) النجم (٥٣) / ١٤ ـ ١٥.

(٣) بحار الأنوار ٨ / ٢٠٦ : قال شارح المقاصد : ... والأكثرون على أنّ الجنّة فوق السموات السبع وتحت العرش تشبّثا بقوله تعالى : «عِنْدَ سِدْرَةِ ...» وقوله عليه‌السلام : (سقف الجنة ... الأرضين السبع».)

(٤) الكشّاف ١ / ١٠٤.

(٥) مجمع البيان ١ / ١٦٢.

(٦) الكشّاف ١ / ١٠٧.

(٧) التبيان ١ / ١٠٨.

(٨) مجمع البيان ١ / ١٦٢.

٥٢

(خالِدُونَ). في الكافي مسندا إلى الصادق عليه‌السلام : إنّما خلّد أهل النار في النار ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يعصوا الله أبدا. وإنّما خلّد أهل الجنّة في الجنّة ، لأنّ نيّاتهم كانت في الدنيا أن لو خلّدوا فيها أن يطيعوا الله أبدا. فبالنيّات خلّد هؤلاء وهؤلاء. ثمّ تلا قوله : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ). (١) قال : على نيّته. (٢)

أقول : هذا الحديث إشارة إلى معنى آخر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : نيّة المؤمن خير من عمله. ونيّة الكافر شرّ من عمله. (٣)

[٢٦] (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ)

(يَسْتَحْيِي) بياءين. وعن ابن كثير بواحدة. (مَثَلاً ما بَعُوضَةً). روي عن الصادق عليه‌السلام : انّما ضرب الله المثل بالبعوضة ، لأنّ البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق الله في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين. فأراد الله أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعته. وقال الربيع : إنّ البعوضة تحيى ما جاعت ؛ فإذا سمنت ، ماتت.

فكذلك القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل ، إذا امتلؤوا من الدنيا ، أخذهم الله عند ذلك. (٤)

«ما بَعُوضَةً». «ما» إمّا أن تكون مزيدة ومعناها التوكيد فيكون بعوضة مفعولا ثانيا ليضرب ، وإمّا أن تكون نكرة مفسّرة ببعوضة. أي : أن يضرب مثلا شيئا من الأشياء بعوضة ، [فتكون بعوضة] بدلا من شيئا. (٥)

وأمّا النزول ، روي عن ابن عبّاس : انّ الله تعالى لمّا ضرب المثلين السابقين وهو (الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) ، قال المنافقون : الله أجلّ من أن يضرب هذه

__________________

(١) الإسراء (١٧) / ٨٤.

(٢) الكافي ٢ / ٨٥.

(٣) الكافي ٢ / ٨٤.

(٤) مجمع البيان ١ / ١٦٣ و ١٦٥.

(٥) مجمع البيان ١ / ١٦٣ ـ ١٦٤.

٥٣

الأمثال ، فأنزلت. وعن الحسن : لمّا ضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، تكلّم فيه قوم من المشركين وعابوا ذكره ، فأنزلت. (١)

(فَما فَوْقَها). عن الصادق عليه‌السلام : البعوضة أمير المؤمنين. (فَما فَوْقَها) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٢)

(فَما فَوْقَها) ؛ أي : فما زاد عليها في الحجم كالذباب والعنكبوت ، أو ما زاد عليها في الحقارة كجناح البعوضة. فإنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ضربه مثلا للدنيا. (أَنَّهُ) ؛ أي : ذلك المثل. (ما ذا). استفهاميّة. وذا بمعنى الذي وما بعده صلته. والجملة خبر ما. (يُضِلُّ بِهِ). جواب ما ذا. أي : إضلال كثير وإهداء كثير. لأنّ العلم بكونه حقّا هدى وإنكاره ضلال. (٣)

(مَثَلاً). نصب على التمييز. (٤)

(وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) ؛ أي : الخارجين عن حدّ الإيمان. كقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ). (٥) والفاسق في الشرع : الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة. وله درجات ثلاث. الأولى : التغابي ؛ وهو أن يرتكبها أحيانا مستقبحا إيّاها. والثانية : الانهماك ؛ وهو أن لا يبالي بها. والثالثة : الجحود ؛ وهو أن يرتكبها مستصوبا إيّاها ، فيلابس الكفر حينئذ. والمعتزلة لمّا قالوا : الإيمان مجموع التصديق والإقرار والعمل والكفر تكذيب الحقّ ، جعلوا الفاسق قسما ثالثا نازلا بين منزلتي المؤمن والكافر. (٦)

[٢٧] (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

(مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) ؛ أي : من بعد أن أوثقه الله بالآيات والرسل. (٧)

(عَهْدَ اللهِ). قيل : عهد الله إلى خلقه ثلاثة : عهد أخذه على جميع ذرّيّة آدم ، الإقرار

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ١٦٥.

(٢) تفسير القمّيّ ١ / ٣٥.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٤ ـ ٤٥.

(٤) الكشّاف ١ / ١١٨.

(٥) التوبة (٩) / ٦٧.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٥.

(٧) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٦.

٥٤

بربوبيّته. وهو قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ). (١) وعهد خصّ به الأنبياء أن يبلّغوا رسالته. وهو قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ). (٢) وعهد خصّ به العلماء. وهو قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ)(٣). (٤)

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ). في موضع النصب صفة للفاسقين. و (عَهْدَ اللهِ) هو ما ركّبه في عقولهم من أدلّة التوحيد والعدل ، وما احتجّ به لرسله من المعجزات الدالّة على صدقهم. ونقضهم لذلك ، تركهم الإقرار به. أو : انّ العهد وصيّة الله إلى خلقه على لسان نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بما أمرهم به من طاعته ونهاهم عنه وتركوا العمل به. أو : انّ المراد به كفّار أهل الكتاب. وعهد الله هو ما أخذه عليهم في التوراة من اتّباع محمّد. ونقضهم لذلك جحودهم به وكتمانهم له. (وَيَقْطَعُونَ). أي صلة الأرحام ، أو كلّ ما أمر الله بصلته. (وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ؛ أي : يقطعون الطرق. أو كلّ معصية ؛ فإنّها فساد. (٥)

[٢٨] (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨))

استخبار فيه إنكار وتعجيب لكفرهم بإنكار الحال التي يقع الكفر عليها ، على الطريق البرهانيّ. لأنّ صدوره لا ينفكّ عن حال وصفة ، فإذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها ، استلزم ذلك إنكار وجوده. فهو أبلغ وأقوى في إنكار الكفر من «أتكفرون». والخطاب مع الذين كفروا. لمّا وصفهم بالكفر وسوء المقال ، خاطبهم على طريق الالتفات ووبّخهم على كفرهم. والمعنى : أخبروني على أيّ حال تكفرون؟ (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) ؛ أي : أجسادا لا حياة لها عناصر وأغذية وأخلاطا ومضغا فأحياكم بخلق الأرواح ونفخها فيكم. وإنّما عطفه بالفاء لأنّه متّصل بما عطف عليه غير متراخ عنه بخلاف البواقي. (ثُمَ

__________________

(١) الأعراف (٧) / ١٧٢.

(٢) الأحزاب (٣٣) / ٧.

(٣) آل عمران (٣) / ١٨٧.

(٤) الكشّاف ١ / ١٢٠.

(٥) مجمع البيان ١ / ١٦٩.

٥٥

يُمِيتُكُمْ) عند تقضّي آجالكم. (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالنشور يوم نفخ الصور ، أو للسؤال في القبور.

(ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بعد الحشر ، أو تنشرون إليه من قبوركم للحساب. فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه. فإن قيل : إن علموا أنّهم كانوا أمواتا فأحياهم ثمّ يميتهم ، لم يعلموا أنّه يحييهم ثمّ إليه يرجعون. قلت : تمكّنهم من العلم بهما بما نصب لهم من الدلائل [منزّل] منزلة علمهم في إزاحة العذر ، سيّما وفي الآية تنبيه على ما يدلّ على صحّتهما وأنّ من قدر أن يحييهم أوّلا ، قدر أن يحييهم ثانيا. (١)

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ). يجوز أن يكون الخطاب مع المؤمنين والكفّار. فإنّه لمّا بيّن دلائل التوحيد والنبوّة ووعدهم على الإيمان وأوعدهم على الكفر أكّد ذلك بأن عدّد عليهم النعم العامّة والخاصّة واستقبح صدور الكفر عنهم. فإن قيل : كيف يعدّ الإماتة من النعم المقتضية للشكر؟ قلت : لمّا كانت وصلة إلى الحياة الثانية التي هي الحياة الحقيقيّة ـ كما قال : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ)(٢) ـ كانت من النعم العظيمة مع أنّ المعدودة عليهم نعمة هو المعنى المنتزع من القصّة بأسرها ، كما أنّ الواقع حالا هو العلم بها لا كلّ واحدة من الجمل ، فإنّ بعضها ماض وبعضها مستقبل وكلاهما لا يصحّ أن يقع حالا. أو الخطاب مع المؤمنين خاصّة لتقرير المنّة عليهم وتبعيد الكفر عنهم على معنى : كيف يتصوّر الكفر منكم وكنتم أمواتا ـ أي : جهّالا ـ فأحياكم بما أفادكم من العلم والإيمان ، ثمّ يمييتكم الموت المعروف ، ثمّ يحييكم الحياة الحقيقيّة ، ثمّ إليه ترجعون فيثيبكم؟ (٣)

[٢٩] (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام. قال : (الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) لتعتبروا ولتتوصّلوا به إلى رضوانه وتتوقّوا به عذاب نيرانه. فخلق لكم كلّ ما في الأرض لمصالحكم. (٤)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٧.

(٢) العنكبوت (٢٩) / ٦٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٧.

(٤) عيون الأخبار ٢ / ١٢ ، ح ٢٩.

٥٦

كذا في عيون الأخبار. والمفسّرون أضافوا إلى هذا المعنى الانتفاع الدنيويّ للأبدان. واستدلّوا بها على أنّ الأصل في الأشياء الإباحة حتّى يظهر الدليل المخرج له. وأمّا المحدّثون من علمائنا ، حيث ذهبوا إلى أنّ ما ورد في الأخبار من أنّ لله تعالى في كلّ شىء من الأشياء حكما خاصّا فإن بلغ إلينا وإلّا فالتوقّف واجب ، خصّوا هذه الآية بالمعنى الأوّل المذكور في الخبر.

أقول : آخر الخبر فيه دلالة على قول المجتهدين أيضا. فلعلّه الأقوى والأظهر.

(اسْتَوى) ؛ أي : قصد وأقبل واستولى. لعلّ في ظاهره منافاة لقوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها)(١). وأجاب عنه المفسّرون بوجهين. الأوّل : إنّ (ثُمَّ) ليس لترتيب الزمان ، بل لتفاوت بين الخلقين وفضل خلق السماء على خلق الأرض. (٢) والثاني : انّه خلق مادّة الأرض ، أعني الزبد الذي كان على الماء قيل السماء ، لكنّه لم يدح الأرض ولم يبسطها على وجه الماء فدحاها بعد خلق السموات (٣) ، فلا منافاة حينئذ. وهذا المعنى وارد في الأخبار. فإنكار بعض المفسّرين له منكر.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ). إشارة إلى نعمة أخرى. (فَسَوَّاهُنَّ). ضمير الجمع لأنّ السماء اسم جنس. (سَبْعَ سَماواتٍ). بدل من الضمير. (٤)

[٣٠] (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠))

(وَإِذْ قالَ) ؛ أي : اذكر ـ يا محمّد ـ في ذلك الوقت هذه النعمة. أو منصوب بقالوا. (٥)

(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ). التسبيح : تبعيد الله عن السوء. وكذلك التقديس. و (بِحَمْدِكَ) في

__________________

(١) النازعات (٧٩) / ٣٠.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨.

(٣) مجمع البيان ١ / ١٧٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٨.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٤٩ ، ومجمع البيان ١ / ١٧٦.

٥٧

موضع الحال. أي متلبّسين بحمدك على ما وفّقتنا لتسبيحك. تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم من العجب والاستكبار. (١)

(وَنُقَدِّسُ لَكَ) كما نطهّر أنفسنا من الذنوب لأجلك. وقيل : عن الالتفات إلى غيرك. (٢)

(قالَ إِنِّي أَعْلَمُ) من الحكمة في استخلافهم وخلق الأنبياء والأولياء منهم ما لا تعلمون. لأنّكم تعلمون الظاهر لا غير. (٣)

(خَلِيفَةً). يعني آدم وأولاده خليفة الجانّ بن الجانّ. لأنّهم كانوا يفسدون في الأرض فأرسل إليهم الملائكة فقتلوهم. وقول الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها) على سبيل الاستخبار عن الحكمة في استخلافهم ، مع كون الملائكة أحقّ منهم بالاستخلاف لمكان التحميد والتقديس. وقولهم هذا إمّا بوحي من الله ، أو لأنّهم قاسوا أحد الثقلين على الآخر. وإمّا لأنّهم تحقّقوا الفساد فيهم من تركيبهم من العناصر المتضادّة. وآدم عليه‌السلام هو الخليفة الأوّل. والثاني هارون. يا (هارُونَ اخْلُفْنِي). (٤) والثالث داوود. (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ). (٥) والرابع عليّ عليه‌السلام حيث استخلفه النبيّ في تبليغ سورة البراءة. كذا جاء في الرواية عن عليّ عليه‌السلام حيث قال له الخضر : السّلام عليك يا رابع الخلفاء ورحمة الله ، ففسّره النبيّ بما قلناه. رواه الصدوق في عيون الأخبار. (٦)

(قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها). في علل الشرائع عن الصادق عليه‌السلام : لمّا قالت الملائكة : (أَتَجْعَلُ فِيها) كان لا يحجبهم عن نوره. فحجبهم عن نوره سبعة آلاف عام. فلاذوا بالعرش سبعة آلاف سنة ، فتاب عليهم وجعل لهم البيت المعمور في السماء الرابعه يطوفون حوله. وجعل البيت الحرام بحذائه أمنا للناس. فصار الطواف سبعة أشواط لكلّ ألف سنة شوطا واحدا. (٧)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٥٠.

(٢) تفسير النيسابوريّ ١ / ٢١٩.

(٣) التبيان ١ / ١٣٣ ، ومجمع البيان ١ / ١٧٧.

(٤) الأعراف (٧) / ١٤٢.

(٥) ص (٣٨) / ٢٦.

(٦) عيون الأخبار ٢ / ١٠ ، ح ٢٣.

(٧) علل الشرائع / ٤٠٦ ـ ٤٠٨ ، ح ١.

٥٨

والأخبار بهذا المعنى كثيرة. وحينئذ فما صدر في هذا السؤال من الملائكة ، هو من باب ترك الأولى.

[٣١] (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

عن الصادق عليه‌السلام قال : الأرضين والجبال والشعاب والأودية. ثمّ نظر إلى تحته فقال : وهذا البساط ممّا علّمه. (١)

وفي بصائر الدرجات قال : إنّ رسول الله قال : إنّ الله مثّل لي أمّتي في الطين وعلّمني أسماءهم كما علّم آدم الأسماء كلّها. (٢)

عن الصادق عليه‌السلام : علّم آدم أسماء الحجج كلّها ثمّ عرضهم وهم أرواح. (٣)

(عَرَضَهُمْ) ؛ أي : عرض المسمّيات وهى ذوات الأشياء المدلول عليها بالأسماء فقال : أنبئوني بأسمائها. (٤)

(صادِقِينَ) بأنّكم أحقّ بالخلافة من آدم لتسبيحكم. عن الصادق عليه‌السلام. (٥)

[٣٢] (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)

(سُبْحانَكَ) ؛ أي : أنزّهك عن أن يكون فعلك خاليا عن الحكمة. (٦)

[٣٣] (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)

(إِنِّي أَعْلَمُ). إشارة إلى قوله : (أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) على سبيل البسط. وقيل : دلالة على أنّ تفضيل آدم عليهم بالعلم ، إنّما كان على وفق الحكمة والاستحقاق فلا اعتراض للملائكة

__________________

(١) تفسير العيّاشيّ ١ / ٣٢.

(٢) بصائر الدرجات / ١٠٣.

(٣) كمال الدين / ١٤.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٥١.

(٥) كمال الدين / ١٤.

(٦) مجمع البيان ١ / ١٨٣ ، والتبيان ١ / ١٤٢.

٥٩

ولا لغيرهم بأن يقولوا : لو علّمتنا كما علّمت آدم ، لعلمنا الأسماء وقت العرض.

(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ؛ أي : بأسماء ما عرض عليهم ؛ وهي المسمّيات وخواصّ منافعها. (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) ؛ أي : أعلم سرّكم وجهركم. أو : أعلم ما تبدون من قولكم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) من إضمار إبليس المعصية ، لأنّه كان بينهم. وبه روايات. (١)

[٣٤] (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)

عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : سمّي آدم لأنّه خلق من طين الأرض وأديمها. (٢)

اختلف في إبليس هل كان من الملائكة أم لا. فذهب قوم إلى أنّه كان منهم. واختاره الشيخ الطوسي رحمه‌الله. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام والظاهر في تفاسيرنا. ثمّ اختلفوا فقيل : إنّه كان خازنا على الجنّة. وقيل : كان له سلطان سماء الدنيا وسلطان الأرض. وقال الشيخ المفيد : إنّه كان من الجنّ. قال : وقد جاءت الأخبار بذلك متواترة عن أئمّة الهدى عليهم‌السلام. وهو مذهب الإماميّة. وعليه جماعة من المفسّرين وغيرهم احتجاجا بقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ)(٣) وبقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ)(٤). (٥)

كذا قال شيخنا الطبرسيّ. والحقّ أنّ الأخبار الدالّة على أنّه من الجنّ متظافرة. وما عارضها سبيله إمّا الحمل على التقيّة أو على ضرب من التأويل.

وأمّا حقيقة السجود ، فقيل : إنّه شرعيّ ـ أعني وضع الجبهة ـ لكنّ آدم عليه‌السلام كان كالقبلة في السجود ، فهو حقيقة لله تعالى. وقيل : إنّه كوقت الزوال في السجود لله. وهو يرجع إلى الأوّل. وقيل : على أنّ المراد منه معناه اللّغويّ ، أعني التواضع ، كسجود أبوي يوسف و

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ١٨٥.

(٢) علل الشرائع ١ / ٢ ، ح ١.

(٣) الكهف (١٨) / ٥٠.

(٤) التحريم (٦٦) / ٦.

(٥) مجمع البيان ١ / ١٨٩.

٦٠