عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-26-5
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦٣

(وَلا تَهِنُوا). نزلت في الذهاب إلى بدر الصغرى لموعد أبي سفيان يوم أحد. وقيل : نزلت يوم أحد في الذهاب خلف أبي سفيان وعسكره إلى حمراء الأسد. (إِنْ تَكُونُوا) أيّها المؤمنون (تَأْلَمُونَ) ممّا ينالكم من الجراح ، فهم يألمون أيضا من جراحكم لهم. (وأنتم ترجون) أيّها المؤمنون (مِنَ اللهِ) الظفر عاجلا والثواب آجلا. فأنتم أحرى بأن تصبروا. وذلك أنّ الله أمرهم على ما بهم من الجراح أن يتبعوهم وأراد بذلك إرهاب المشركين ، فخرجوا إلى حمراء الأسد وبلغ المشركين ذلك فأسرعوا حتّى دخلوا مكّة. (١)

[١٠٥] (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً)

(إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) ـ الآية. روي : انّ طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر سرق درعا من جار له اسمه قتادة في جراب دقيق ، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه ، وخبأها عند رجل من اليهود. فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد وحلف ما أخذها وما له بها علم. فتركوه واتّبعوا أثر الدقيق حتّى انتهى إلى منزل اليهوديّ فأخذوها. فقال : دفعها إليّ طعمة. وشهد له جماعة من اليهود. فقال بنو ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا : إن لم تفعل ، هلك وافتضح وبرئ اليهوديّ. فهمّ أن يفعل وأن يعاقب اليهوديّ وأن يقطع يده ، فنزلت الآية. وروي أنّ هذا السارق ـ وهو طعمة ـ هرب إلى مكّة وارتدّ ونقب حائطا بمكّة ليسرق أهله ، فوقع عليه الحائط فقتله. (٢)

(إِنَّا أَنْزَلْنا) ـ الآية. سبب نزولها أنّ إخوة ثلاثة كانوا منافقين ، بشير ومبشّر وبشر ، فنقبوا على عمّ قتادة بن نعمان ـ وكان قتادة بدريّا ـ وأخرجوا طعاما كان أعدّه لأهله وسيفا ودرعا. فشكا قتادة ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : إنّ الإخوة الثلاثة من بني أبيرق نقبوا على عمّي. فقال بنو أبيرق لقتادة : فعله لبيد بن سهل. وكان مؤمنا. فبلغ ذلك لبيدا

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ١٥٩ ـ ١٦٠.

(٢) الكشّاف ١ / ٥٦١ ـ ٥٦٢.

٥٠١

فأخذ سيفه وأتى إليهم وقال لهم : يا أعداء الله ، أتتّهموني بالسرق وأنتم أولى به؟ وأنتم تهجون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وتنسبونه إلى قريش! فقالوا له : ارجع ـ رحمك الله ـ فإنّك بريء. فمشى بنو أبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له أسيد بن عروة وكان منطيقا بليغا ، فمشى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : إنّ قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منّا أهل شرف وحسب ونسب فرماهم بالسرق واتّهمهم بما ليس فيهم. فاغتمّ رسول الله من ذلك. وجاء إليه قتادة. فقال له : عمدت إلى أهل بيت شرف فرميتهم بالسرقة؟ وعاتبة عتابا شديدا. فاغتمّ قتادة لذلك وقال : يا ليتني متّ ولم أكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فكلّمني بما كرهته. فقال عمّه : الله المستعان. وأنزل الله في ذلك على نبيّه : (إِنَّا أَنْزَلْنا) ـ الآية. (١)

(أَراكَ اللهُ) ؛ أي : علّمك وأوحى إليك. (٢)

(خَصِيماً) ؛ أي : تدافع من طالبه عنه. (٣)

[١٠٦] (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)

(وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) من المخاصمة عن الخائن. والخطاب وإن توجّه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إلّا أنّ المراد أمّته. (٤)

[١٠٧] (وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً)

(وَلا تُجادِلْ). نهى سبحانه عن الدفع عن أهل الخيانة. (يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ) ؛ أي : يخونونها ويظلمونها بالسرقة. لأنّ ضرر خيانتهم راجع إليهم لا حق بهم. (خَوَّاناً) ؛ أي : كثير الخيانة معتادها. وقد يطلق الخوّان على الخائن في شيء واحد إذا عظمت تلك الخيانة.

__________________

(١) تفسير القمّيّ ١ / ١٥٠ ـ ١٥١.

(٢) مجمع البيان ٣ / ١٦٢ ، وجوامع الجامع ١ / ٣٣٠.

(٣) مجمع البيان ٣ / ١٦٢. وفيه هكذا : نهاه أن يكون لمن خان مسلما ... خصيما يدافع من طالبه عنه بحقّه الذي خانه فيه.

(٤) مجمع البيان ٣ / ١٦٢.

٥٠٢

وأثيم : فاعل الإثم ، أو من يرمي به على غيره مع أنّه فعله. (١)

[١٠٨] (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً)

(يَسْتَخْفُونَ) الذين يمشون في الدفع عن ابن أبيرق. أي : يستخفون من الناس بمعاصيهم في أخذ الأموال لئلّا يفتضحوا في الناس ولا يستترون من الله وهو مطّلع عليهم. وقيل : معناه : يخفون الخيانة من الناس ويطلبون إخفاءها حياء منهم ولا يتركونها حياء من الله. (إِذْ يُبَيِّتُونَ) ؛ أي : يدبّرون باللّيل قولا لا يرضاه الله. وقيل : إنّه قول ابن أبيرق في نفسه باللّيل : أرمي بهذا الدرع في دار اليهوديّ ، ثمّ أحلف أنّي بريء منه ، فيصدّقني المسلمون لأنّي على دينهم ولا يصدّقون اليهوديّ. (٢)

عن أمير المؤمنين والباقر والكاظم عليهم‌السلام : المراد بهم فلان وفلان وفلان وأبو عبيدة بن الجرّاح بعد فوت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا يدبّرون باطلهم. (٣)

(مُحِيطاً) ؛ أي : عالما بأعمالهم. (٤)

[١٠٩] (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً)

(ها أَنْتُمْ). الهاء للتنبيه في أنتم وأولاء. وهما مبتدأ وخبر. و (جادَلْتُمْ) جملة مبيّنة لوقوع أولاء خبرا. كما تقول لبعض الأسخياء : أنت حاتم تجود بمالك. ويجوز أن يكون أولاء اسما موصولا بمعنى الذين وجادلتم صلة ، والمعنى : هبوا أنّكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا ، فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ١٦٣ ـ ١٦٤.

(٢) مجمع البيان ٣ / ١٦٤.

(٣) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢٧٤ ـ ٢٧٥.

(٤) مجمع البيان ٣ / ١٦٤.

(٥) الكشّاف ١ / ٥٦٣.

٥٠٣

[١١٠] (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً)

(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً) : قبيحا متعدّيا يسوء به غيره ، كما فعل طعمة بقتادة واليهوديّ. (أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) بما يختصّ به كالحلف الكاذب. وقيل : من يعمل سوءا من ذنب دون الشرك أو يظلم نفسه بالشرك. وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة لتلزمه الحجّة مع العلم بما يكون منه ، أو لقومه لما فرط منهم من نصرته والذبّ عنه. (١)

[١١١] (وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً)

(فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ) ؛ أي : لا يتعدّاه ضرره إلى غيره. (٢)

[١١٢] (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً)

(خَطِيئَةً) صغيرة أو [ما] لا عمد فيه. (أَوْ إِثْماً) كبيرة أو ما كان عن عمد. (٣)

وقيل : الخطيئة الشرك. والإثم ما دونه. (٤)

(بَرِيئاً). كما رمى طعمة اليهوديّ. (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً). لأنّه بكسب الإثم آثم وبرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين. (٥)

(فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً) بسبب رمي البريء وتبرئه النفس الخاطئة. ولذلك سوّى بينهما وإن كان مقترف أحدهما دون مقترف الآخر. (٦)

[١١٣] (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)

(وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ) ؛ أي : عصمته وألطافه وما أوحى إليك من الاطّلاع على سرّهم.

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٥٦٣.

(٢) الكشّاف ١ / ٥٦٣.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٦.

(٤) مجمع البيان ٣ / ١٦٥.

(٥) الكشّاف ١ / ٥٦٤.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٦.

٥٠٤

(لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) : من بني ظفر. (أَنْ يُضِلُّوكَ) عن القضاء بالحقّ وتوخّي طريق العدل مع علمهم بأنّ الجاني هو صاحبهم. فقد روي أنّ أناسا منهم كانوا يعلمون كنه القصّة. (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ). لأنّ وباله عليهم. (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ). لأنّك إنّما عملت بظاهر الحال وما كان يخطر ببالك أنّ الحقيقة على خلاف ذلك. (١)

(لَهَمَّتْ طائِفَةٌ). هم بنو أبيرق. وقد تقدّم قصّتهم. (٢)

(وَما يَضُرُّونَكَ). فإنّ الله عصمك وما خطر ببالك كان اعتمادا منك على ظاهر الأمر لا ميلا في الحكم. و (مِنْ شَيْءٍ) في موضع النصب على المصدر. أي : شيئا من الضرر. (٣)

(وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) من خفيّات الأمور وضمائر القلوب أو من أمور الدين والشرائع. ويجوز أن يراد بالطائفة بنو ظفر ويرجع الضمير في (مِنْهُمْ) إلى الناس. وقيل : الآية في المنافقين. (٤)

(عَظِيماً). إذ لا فضل أعظم من النبوّة. (٥)

[١١٤] (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)

(مِنْ نَجْواهُمْ) ؛ أي : تناجي الناس. (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) ؛ أي : إلّا نجوى من أمر ، على أنّه مجرور بدل من (كَثِيرٍ). كما تقول : لا خير في قيامهم إلّا قيام زيد. ويجوز أن يكون منصوبا على الانقطاع بمعنى : ولكن من أمر بصدقة ، ففي نجواه الخير. وقيل : المعروف القرض. وقيل : إغاثة الملهوف. وقيل : هو عامّ في كلّ جميل. ويجوز أن يراد بالصدقة الواجب وبالمعروف ما يتصدّق على سبيل التطوّع. وقوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) إشارة إلى أنّ الأعمال بالنيّات. فإن قلت : كيف قال : (إِلَّا مَنْ أَمَرَ) ثم قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ)؟ قلت :

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٥٦٤.

(٢) مجمع البيان ٣ / ١٦٧.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٦.

(٤) الكشّاف ١ / ٥٦٤.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٦٣.

٥٠٥

قد ذكر الأمر بالخير ليدلّ على فاعله. لأنّه إذا دخل الآمر به في زمرة الخيرين ، كان الفاعل فيهم أدخل. ثمّ قال : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) فذكر الفاعل وقرن به الوعد بالأجر العظيم. ويجوز أن يراد : ومن يأمر بذلك. فعبّر عن الأمر بالفعل كما يعبّر به عن سائر الأفعال. (١)

[١١٥] (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً)

(يُشاقِقِ الرَّسُولَ) : يخالفه. من الشقّ. كأنّ كلّا من المتخالفين في شقّ غير شقّ الآخر. (تَبَيَّنَ) : ظهر له الحقّ بالوقوف على المعجزات. (غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) : غير ما هم عليه من اعتقاد أو عمل. والآية تدلّ على حرمة مخالفة الإجماع. لأنّه تعالى رتّب الوعيد الشديد على المشاقّة واتّباع غير سبيل المؤمنين ، وإذا كان اتّباع غير سبيلهم محرّما ، كان اتّباع سيبيلهم واجبا. لأنّ ترك اتّباع سبيلهم ممّن عرف سبيلهم ، اتّباع غير سبيلهم. (٢) والصحيح أنّها لا تدلّ على ذلك. لأنّ ظاهر الآية يقتضي إيجاب متابعة من هو مؤمن على الحقيقة ظاهرا وباطنا ، وليس كلّ من أظهر الإيمان مؤمنا. ومتى حملوا الآية على بعض الأمّة ، حملها غيرهم على من هو مقطوع على عصمته عنده من المؤمنين وهم الأئمّة من آل محمّد عليهم‌السلام. (٣)

(نُوَلِّهِ) : نجعله واليا لما تولّى من الضلال ونخلّ بينه وبين ما اختاره. (٤)

[١١٦] (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً)

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ). كرّره للتأكيد أو لقصّة طعمة لمّا ارتدّ وخرج إلى مكّة ومات مشركا. وقيل : جاء شيخ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : إنّي شيخ منهمك في الذنوب إلّا أنّي

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٥٦٤ ـ ٥٦٥.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٧.

(٣) مجمع البيان ٣ / ١٦٩ ـ ١٧٠.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٧.

٥٠٦

لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به ، ولم أوقع المعاصي جرأة ، وما توهّمت طرفة عين أنّي أعجز الله هربا ، وانّي لنادم تائب. فما ترى حالي عند الله؟ فنزلت. (١)

(وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ). ذهب صاحب الكشّاف بناء على مذهب المعتزلة إلى أنّ المراد غفرانها بالتوبة (٢). ولا يخفى ما فيه.

[١١٧] (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً)

(إِنْ يَدْعُونَ) ؛ أي : ما يعبدون. (إِلَّا إِناثاً) ؛ يعني : اللّات والعزّى ومناة ونحوها. كان لكلّ حيّ صنم يعبدونه ويسمّونه أنثى بني فلان. وذلك إمّا لتأنيث أسمائها أو لأنّها كانت جمادات والجمادات تؤنّث من حيث إنّها ضاهت الإناث لانفعالها. ولعلّه تعالى ذكرها بهذا الاسم تنبيها على أنّهم يعبدون ما يسمّونه إناثا لأنّه ينفعل ولا يفعل ومن حقّ المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل ، ليكون دليلا على تناهي جهلهم. وقيل : المراد الملائكة ؛ لقولهم : الملائكة بنات الله. (وَإِنْ يَدْعُونَ) ؛ أي : ما يعبدون بعبادتها (إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً). لأنّه الذي أمرهم بعبادتها ، فكأنّ طاعته في ذلك عبادة له. والمريد والمارد : الذي لا يعلق الخير. (٣)

(إِلَّا إِناثاً). قال أبو حمزة الثماليّ : كان في كلّ واحدة من الأصنام شيطانة أنثى تتراءى للسدنة وتكلّمهم. وذلك من صنع إبليس الذي ذكره الله فقال : (لَعَنَهُ اللهُ). وقيل : العزّى تأنيث الأعزّ. واللّات تأنيث لفظ الله. وقال ابن عبّاس : كان في كلّ واحد من أصنامهم التي كانوا يعبدونها شيطان مريد يدعو المشركين إلى عبادتها. فلذلك حسن إضافة العبادة إلى الأصنام وإلى الشيطان. (٤)

دخل رجل إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : السّلام عليك يا أمير المؤمنين. فقام على قدميه فقال : مه! هذا اسم لا يصلح إلّا لأمير المؤمنين. به سمّاه الله ولم يسمّ أحدا به غيره. وما سمّي به أحد فرضي به إلّا كان منكوحا. وإن لم يكن به ، ابتلي به. وهو قول الله في كتابه : (إِنْ

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٧.

(٢) الكشّاف ١ / ٥٦٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٧.

(٤) مجمع البيان ٣ / ١٧٢ ـ ١٧٣.

٥٠٧

يَدْعُونَ) ـ الآية. قلت : فما يدعى به قائمكم؟ قال : يقال له : السّلام عليك يا بقيّة الله. السّلام عليك يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. (١)

[١١٨] (لَعَنَهُ اللهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً)

(نَصِيباً مَفْرُوضاً). روي أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في هذه الآية : من بني آدم تسعة وتسعون في النار وواحدة في الجنّة. وفي رواية أخرى : من كلّ ألف واحد لله وسائرهم للنار ولإبليس. (٢)

(مَفْرُوضاً) ؛ أي : فرضته لنفسي. (٣)

(وَقالَ). عطف على (لَعَنَهُ). أي : شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الدالّ على عداوته للناس. (نَصِيباً مَفْرُوضاً). المفروض : المقطوع. أي : نصيبا قدّر لي وفرض. من قولهم : فرض له في العطاء. (٤)

[١١٩] (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً)

(وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) عن الحقّ (وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ) الأمانيّ الباطلة كطول الحياة وأن لا بعث ولا عقاب. (٥)

عن الصادق عليه‌السلام : لمّا نزلت قوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) ـ الآية ـ (٦) صعد إبليس جبلا بمكّة يقال له ثور فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا : يا سيّدنا ، لم دعوتنا؟ قال : نزلت هذه الآية. فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال : أنا لها بكذا وكذا. قال : لست لها. فقال الوسواس الخنّاس : أنا لها. قال : بما ذا؟ قال : أعدهم وأمنّيهم حتّى

__________________

(١) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢٧٦.

(٢) مجمع البيان ٣ / ١٧٣.

(٣) الكشّاف ١ / ٥٦٦.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٨.

(٦) آل عمران (٣) / ١٣٥.

٥٠٨

يواقعوا الخطيئة. فإذا واقعوا الخطيئة ، أنسيتهم الاستغفار. فقال : أنت لها. فوكله بها إلى يوم القيامة. (١)

(فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ). وهو فعلهم بالبحائر ، كانوا يشقّون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا وحرّموا على أنفسهم الانتفاع بها. وتغييرهم خلق الله فقء عين الحامي ـ وهو فحل الضرب ـ وإعفاؤه عن الركوب. وقيل : الخصاء في بني آدم. وقيل : فطرة الله التي هي دين الإسلام. (٢) وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام. (٣) ويؤيّده قوله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ). (٤) وقيل : إنّه الوشم الذي تفعله النساء بالأمرد. (٥) روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله لعن الواشمات والمتوشّمات. (٦) وأدخل فيه بعضهم استعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ولا يوجب لها من الله زلفى. (٧) وهو غير بعيد.

(وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا) بإيثاره ما يدعو إليه على ما أمره الله تعالى ومجاوزته عن طاعة الله إلى طاعته. (خُسْراناً). إذ ضيّع رأس ماله وبدّل مكانه من الجنّة بمكان من النار. (٨)

[١٢٠] (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً)

(وَيُمَنِّيهِمْ) ما لا ينالون. (إِلَّا غُرُوراً). وهو إظهار النفع فيما فيه الضرر. وهذا الوعد إمّا بالخواطر الفاسدة أو بلسان أوليائه. (٩)

[١٢١] (أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً)

(مَحِيصاً) : معدلا ومهربا. من حاص يحيص ، إذا عدل. و (عَنْها) حال منه وليس صلة ،

__________________

(١) أمالي الصدوق / ٣٧٦ ، ح ٥.

(٢) الكشّاف ١ / ٥٦٦ ، وتفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٨.

(٣) مجمع البيان ٣ / ١٧٣.

(٤) الروم (٣٠) / ٣٠.

(٥) جامع الأخبار / ٤٠٥.

(٦) جامع الأخبار / ٤٠٥.

(٧) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٨.

(٨) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٨.

(٩) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٨.

٥٠٩

لأنّه اسم مكان ، وإن جعل مصدرا فلا يعمل أيضا فيما قبله. (١)

[١٢٢] (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً)

(وَعْدَ اللهِ حَقًّا). مصدران مؤكّدان. الأوّل موكّد لنفسه. والثاني مؤكّد لغيره. (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً). توكيد ثالث بليغ. فإن قلت : ما فائدة هذه التوكيدات؟ قلت : معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة وأمانيّة الباطلة لقرنائه بوعد الله الصادق لأوليائه ترغيبا للعباد في إيثار ما يستحقّون به تنجّز وعد الله على ما يتجرّعون في عاقبته غصص إخلاف مواعيد الشيطان. (٢)

(قِيلاً). منصوب على التمييز. (٣)

[١٢٣] (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً)

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ) ؛ أي : ليس ما وعد الله من الثواب ينال بأمانيّكم أيّها المسلمون (وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ) وإنّما ينال بالإيمان والعمل الصالح. وقيل : ليس الإيمان بالتمنّي ولكن ما وقر في القلب وصدّقه العمل. روي : انّ المسلمين وأهل الكتاب افتخروا. فقال أهل الكتاب : نبيّنا قبل نبيّكم. وكتابنا قبل كتابكم. ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون : نحن أولى منكم. نبيّنا خاتم النبيّين. وكتابنا يقضي على الكتب المتقدّمة. فنزلت. وقيل : الخطاب مع المشركين. ويدلّ عليه تقدّم ذكرهم. أي : ليس الأمر بأمانيّ المشركين ؛ وهو قولهم : لا جنّة ولا نار ، وقولهم : إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكوننّ خيرا منهم وأحسن حالا ، ولا أمانيّ أهل الكتاب ؛ وهو قولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى). (٤) وقالوا :

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٨.

(٢) الكشّاف ١ / ٥٦٧.

(٣) مجمع البيان ٣ / ١٧٤.

(٤) البقرة (٢) / ١١١.

٥١٠

(لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً). (١) ثمّ قرّر ذلك وقال : (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) عاجلا أو آجلا ، لما روي أنّها لمّا نزلت قيل له : فمن ينجو من هذا يا رسول الله؟ فقال عليه‌السلام : أما تحزن؟ أما تمرض؟ أما يصيبك اللّأواء؟ قال : بلى يا رسول الله. قال : هو ذاك. (وَلا يَجِدْ) لنفسه إذا جاوز موالاة الله ونصرته من يواليه وينصره في دفع العذاب. (٢)

(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ). لا تصيب منكم مصيبة إلّا كفّر الله بها خطيئة حتّى الشوكة يشاك بها أحدكم في قدمه. روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله. استدلّ بها من منع من جواز العفو عن المعاصي. وأجيب بأنّه على تسليم كون من للعموم ، يجوز أن يراد منه البعض ـ على ما قاله ابن عبّاس ـ فيكون مخصوصة بمن لم يعف الله عنه. وذلك لأنّهم اعترفوا بكونها مخصوصة بالتائب وأهل الصغائر. (٣)

[١٢٤] (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً)

(وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ) : بعضها أو شيئا منها. فإنّ كلّ أحد لا يتمكّن من كلّها. (وَهُوَ مُؤْمِنٌ). حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور ، تنبيها على أنّه لا اعتداد به دونه. (مِنْ ذَكَرٍ). في موضع الحال من المستكنّ في يعمل ومن للبيان ، أو من الصالحات ـ أي : كائنة من ذكر أو أنثى ـ ومن للابتداء. (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) بنقص شيء من الثواب. وإذا لم ينقص ثواب المطيع ، فبالحريّ أن لا يزاد عقاب العاصي. لأنّ المجازي أرحم الراحمين. ولذلك اقتصر على ذكره عقيب الثواب. (يَدْخُلُونَ). قرأ ابن كثير وأبو عمرو بضمّ الياء وفتح الخاء. (٤)

(وَلا يُظْلَمُونَ) : لا يظلم عمّال السوء وعمّال الصالحات. (٥)

__________________

(١) البقرة (٢) / ٨٠.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩.

(٣) مجمع البيان ٣ / ١٧٦.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٩.

(٥) الكشّاف ١ / ٥٦٨.

٥١١

[١٢٥] (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً)

(وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) : أخلص نفسه لله لا يعرف ربّا سواه. وقيل : يذلّ وجهه له في السجود. وفي هذا الاستفهام تنبيه على أنّ ذلك منتهى ما تبلغه القوّة البشريّة. (وَهُوَ مُحْسِنٌ) : آت بالحسنات ، تارك للسيّئات. (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) الموافقة لدين الإسلام المتّفق على صحّتها. (حَنِيفاً) ؛ أي : مائلا عن سائر الأديان. وهو حال [من] المتّبع أو الملّة أو إبراهيم. (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) : اصطفاه وخصّصه بالكرامة التي تشبه كرامة الخليل عند خليله. (وَاتَّخَذَ) جملة استئناف جيء بها للترغيب في اتّباع ملّته والإيذان بأنّ اتّباعه نهاية في الحسن وغاية كمال البشر. (١)

(خَلِيلاً). عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : مشتقّ من الخلّة ، ومعناها الفقر ، لأنّه فقير إلى الله. (٢)

الخليل من الخلّة ـ بضمّ الخاء ـ التي هي المحبّة ، أو من الخلّة ـ بفتح الخاء ـ [التي هي] الحاجة. وإنّما استعمل بمعنى الصداقة ، لأنّ كلّ واحد من المتصادقين يسدّ خلل صاحبه. وقيل : كأنّ كلّ واحد منهما يطلع صاحبه على أسراره فكأنّه في خلل قلبه. وقيل : إنّما سمّي به لأنّه أرسل في عام قحط إلى صديق له بمصر يلتمس منه دقيقا ، فلم يصب عنده. ولمّا رجع ملأ الجواليق من الرمل حياء من أهله. فلمّا قدم غلبت عيناه وأخرجت امرأته من الجواليق دقيقا وخبزت منه. فلمّا انتبه ، قدّمته إليه. فقال : من أين لكم؟ فقالت : من خليلك المصريّ. فقال : من خليلي الله. فسمّاه خليل الله. (٣)

[١٢٦] (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً)

ثمّ بيّن سبحانه انّما اتّخذ الله إبراهيم خليلا لطاعته ومسارعته إلى رضاه لا لحاجة منه إلى خلّته فقال : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ملكا وملكا فهو مستغن عن جميع

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٩.

(٢) الاحتجاج ١ / ١٩.

(٣) مجمع البيان ٣ / ١٧٧ ـ ١٧٩ ، وتفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٩ ، والكشّاف ١ / ٥٦٩.

٥١٢

خلقه وجميع خلقه محتاجون إليه. (١)

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ) ـ الآية ـ خلقا وملكا يختار منها من يشاء وما يشاء. وقيل : هو متّصل بذكر العمّال مقرّر لوجوب طاعته على أهل السماوات والأرض وكمال قدرته على مجازاتهم على الأعمال. (مُحِيطاً) إحاطة علم وقدرة وكان عالما بأعمالهم فيجازيهم على خيرها وشرّها. (٢)

[١٢٧] (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً)

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) ؛ أي : في ميراثهنّ. إذ سبب نزوله أنّ عيينة بن حصين أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : أخبرنا أنّك تعطي الابنة النصف والأخت النصف. وإنّما كنّا نورث من يشهد القتال ويحوز الغنيمة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : كذلك أمرت. (يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) : يبيّن لكم حكمه فيهنّ. (٣)

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) ـ الآية. (٤) قال : نزلت مع قوله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ). (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ). فنصف الآية في أوّل السورة ونصفها على رأس المائة وعشرين آية. وذلك أنّهم كانوا لا يستحلّون أن يتزوّجوا بيتيمة قد ربّوها فسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنزل الله : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ) إلى قوله : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ). (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ١٧٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٣٩.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤٠.

(٤) النساء (٤) / ٣.

(٥) تفسير القمّيّ ١ / ١٥٣ و ١٣٠.

٥١٣

(وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ). عطف على اسم الله أو ضميره المستكنّ في يفتيكم وساغ للفصل فيكون الإفتاء مستندا إلى الله وإلى ما في القرآن من قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ) ونحوه. والفعل الواحد ينسب إلى فاعلين باعتبارين مختلفين. ونظيره : أغناني زيد وعطاؤه. أو استئناف معترض لتعظيم المتلوّ عليهم ، على أنّ (ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) مبتدأ [و](فِي الْكِتابِ) خبره. والمراد به اللّوح المحفوظ. ويجوز أن ينصب على معنى : ويبيّن لكم ما يتلى عليكم ، أو يخفض على القسم ، كأنّه قيل : وأقسم بما يتلى عليكم في الكتاب. (فِي يَتامَى النِّساءِ). صلة يتلى إن عطف الموصول على ما قبله. أي : يتلى عليكم في شأنهنّ. وإلّا فبدل من فيهنّ أو صلة أخرى ليفتيكم على معنى : الله يفتيكم فيهنّ بسبب يتامى النساء. كما تقول : كلّمتك اليوم في زيد. والإضافة بمعنى من ، لأنّها إضافة الشيء إلى جنسه. (ما كُتِبَ لَهُنَّ) ؛ أي فرض لهنّ من الميراث. (تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ) : في أن تنكحوهنّ. أو : عن أن تنكحوهنّ. فإنّ أولياء اليتامى كانوا يرغبون فيهنّ إن كنّ جميلات ويأكلون ما لهنّ ، وإلّا كانوا يعضلونهنّ عن التزويج طمعا في ميراثهنّ. والواو يحتمل الحال والعطف. (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ). عطف على يتامى النساء. والعرب ما كانوا يورثونهم كما لا يورثون النساء. (وَأَنْ تَقُومُوا). أيضا عطف عليه. أي : ويفتيكم أو ما يتلى عليكم في أن تقوموا. وهو خطاب للأئمّة في أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم أو للقوّام بالنصفة في شأنهم. (١)

(وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ؛ أي : وكتابكم يفتيكم أيضا. (٢)

(ما كُتِبَ لَهُنَّ) ؛ أي : ميراثهنّ. لأنّهم ما كانوا يورثون المولود حتّى يكبر ولا يورثون المرأة ولا يورثون إلّا من قاتل ، فأنزل الله آية المواريث في أوّل السورة. وهو عن أبي جعفر عليه‌السلام. أو يكون المراد بما كتب لهنّ النكاح الذي كتب الله لهنّ في قوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ). (٣) وكان الوليّ يمنعهنّ عن التزويج. وكان جابر بن عبد الله الأنصاريّ له

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤٠.

(٢) مجمع البيان ٣ / ١٨٠.

(٣) النور (٢٤) / ٣٢.

٥١٤

بنت عمّ عمياء دميمة وقد ورثت من أبيها مالا. فكان جابر يرغب عن نكاحها ولا ينكحها مخافة أن يذهب الزوج بما لها. فسأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عن ذلك ، فنزلت الآية. (وَأَنْ تَقُومُوا) ؛ أي : يفتيكم في أن تقوموا لليتامى بالعدل في أنفسهم وفي مواريثهم وأموالهم. (١)

(فَإِنَّ اللهَ). وعد لمن آثر الخير في أمر اليتامى. (٢)

[١٢٨] (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)

(إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ). النزول : كانت بنت محمّد بن سلمة عند رافع بن خديج وكانت قد دخلت في السنّ. وكانت عنده امرأة شابّة سواها. فطلّقها تطليقة. حتّى إذا بقي من أجلها يسير قال : إن شئت راجعتك وصبرت على الإثرة. وإن شئت تركتك. قالت : بل راجعني وأصبر على الإثرة. فراجعها. فذلك الصلح الذي بلغنا أنّ الله أنزل فيه هذه الآية. عن أبي جعفر عليه‌السلام. وقيل : خشيت سودة بنت زمعة أن يطلّقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : لا تطلّقني وأجلسني مع نسائك ولا تقسم لي واجعل يومي لعائشة. فنزلت. عن ابن عبّاس : لمّا تقدّم حكم نشوز المرأة بيّن سبحانه حكم نشوز الرجل فقال : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ) ؛ أي : علمت ـ وقيل : ظنّت ـ (نُشُوزاً) ؛ أي : ارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها ، إمّا لبغضه أو لكراهته منها لعلوّ سنّها أو غير ذلك ، (أَوْ إِعْراضاً) ؛ أي : انصرافا بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه ، أو ميله إلى غيرها ، فلا إثم على كلّ واحد من الزوج والزوجة أن يوقعا بينهما صلحا بأن تترك المرأة له يومها وتضع عنه بعض ما يجب لها من نفقة وكسوة تستعطفه بذلك وتستديم المقام في حباله. (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) من الافتراق. وهذا إذا كان بطيبة من نفسها ، وإلّا فالواجب إمّا الإمساك بمعروف أو الطلاق. (٣)

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ١٨٠ ـ ١٨١.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤٠.

(٣) مجمع البيان ٣ / ١٨٢ ـ ١٨٤.

٥١٥

غير أهل الكوفة : (يُصْلِحا) بتشديد الصاد وبالألف. (١)

(وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ). تمهيد للعذر في المماكسة. ومعنى إحضار الأنفس الشحّ جعلها حاضرة له مطبوعة عليه. فلا تكاد المرأة تسمح بالإعراض عنها والتقصير في حقّها ولا الرجل يسمح بأن يمسكها ويقوم بحقّها إذا كرهها. (٢)

[١٢٩] (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً)

(وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا) ـ الآية. قيل : معناه : لن تقدروا أن تعدلوا بالتسوية بين النساء في كلّ الأمور ومن جميع الوجوه من النفقة والكسوة والعطيّة والصحبة والبشر وغير ذلك. والمراد أنّ ذلك يشقّ عليكم لميلكم إلى بعضهنّ. (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) : فلا تعدلوا بأهوائكم عمّن لم تملكوا محبّتها منهنّ كلّ العدول حتّى يحملكم ذلكم على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب لهنّ عليكم من حقّ القسمة والنفقة والكسوة والعشرة بالمعروف. (فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) ؛ أي : تذروا التي لا تميلون إليها كالّتي لا زوج لها ولا أيّم. عن ابن عبّاس. وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام. وروي عن جعفر الصادق عليه‌السلام : انّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقسم بين نسائه في مرضه فيطاف به بينهنّ وإنّ عليّا عليه‌السلام كان له امرأتان فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضّأ في بيت الأخرى. (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا). لمّا تقدّم ذكر النشوز والصلح بين الزوجين ، عقّبه سبحانه بأنّه لا يكلّف من ذلك ما لا يستطاع. (٣)

(وَإِنْ تُصْلِحُوا) : وإن تحسنوا بالإقامة على نسائكم وإن كرهتموهنّ وأحببتم غيرهنّ وتصبروا على ذلك مراعاة لحقّ الصحبة (وَتَتَّقُوا) النشوز والإعراض ونقض حقوقهنّ. (٤)

(وَإِنْ تُصْلِحُوا) ما كنتم تفسدون من أمورهنّ. (وَتَتَّقُوا). أي فيما يستقبل. (فَإِنَّ اللهَ

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ١٨٢.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤١.

(٣) مجمع البيان ٣ / ١٨٥.

(٤) مسالك الأفهام ٣ / ٢٦٥.

٥١٦

كانَ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر لكم ما مضى من ميلكم. (١)

سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم فقال : أليس الله حكيما؟ قال : بلى وهو أحكم الحاكمين. قال : فأخبرني عن قوله عزوجل : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً). أليس هذا فرض؟ قال : بلى. قال : فأخبرني عن قوله عزوجل : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ) ، أيّ حكيم يتكلّم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب. فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فقال : يا هشام ، في غير وقت حجّ ولا عمرة؟ قال : نعم ـ جعلت فداك ـ لأمر أهمّني. إنّ ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء. فأخبره القصّة. فقال له أبو عبد الله عليه‌السلام : أمّا قوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً) يعني في النفقة. وأمّا قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) يعني في المودّة. فلمّا قدم هشام عليه بهذا الجواب ، قال : هذا ما حملته من الحجاز. (٢)

[١٣٠] (وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً)

(وَإِنْ يَتَفَرَّقا) : إذا لم يتصالحا. (ف) (٣)

(يُغْنِ اللهُ كُلًّا) ببدل أو سلوة. (٤)

(وَإِنْ يَتَفَرَّقا). عاصم بن حميد قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فأتاه رجل فشكا إليه الحاجة ، فأمره بالتزويج. قال : فاشتدّت به الحاجة ، فأتى أبا عبد الله عليه‌السلام فسأله عن حاله ، فقال : اشتدّت بي الحاجة. قال : ففارق. ثمّ أتاه ، فسأله عن حاله. قال : أثريت وحسن حالي. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إنّي أمرتك بأمرين أمر الله بهما. قال الله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى) إلى قوله : (واسِعٌ عَلِيمٌ). (٥) وقال : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) ـ الآية. (٦)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤١.

(٢) الكافي ٥ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣.

(٣) لم نعثر عليه في الكشّاف.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤١.

(٥) النور (٢٤) / ٣٢.

(٦) الكافي ٥ / ٣٣١ ، ح ٦.

٥١٧

(حَكِيماً) : مقتدرا متقنا في أفعاله وأحكامه. (١)

[١٣١] (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً)

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ). تنبيه على كمال سعته وقدرته. (٢)

(وَصَّيْنَا). يعني أنّها وصيّة قديمة ما زال يوصي الله بها عباده لستم بها مخصوصين. (٣)

(أُوتُوا الْكِتابَ). يعني اليهود والنصارى ومن قبلهم. والكتاب للجنس. و (مِنْ) متعلّق بوصّينا أو أوتوا. ومساق الآية لتأكيد الأمر بالإخلاص. (وَإِيَّاكُمْ). عطف على الذين. (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) : بأن اتّقوا الله. ويجوز [أن تكون] أن مفسّرة. لأنّ التوصية في معنى القول. (وَإِنْ تَكْفُرُوا). على معنى إرادة القول. أي : وقلنا لهم ولكم : إن تكفروا ، فإنّ الله مالك الملك لا يتضرّر بكفركم ومعاصيكم كما لا ينتفع بشكركم وتقواكم. وإنّما وصّاكم لرحمته لا لحاجته. ثمّ قرّر ذلك بقوله : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) عن الخلق وعبادتهم. (حَمِيداً). أي في ذاته حمد أو لم يحمد. (٤)

(وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ). المعنى : انّ لله الخلق كلّهم وهو مالكهم والمنعم عليهم ، فحقّه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصيّ تتّقون عقابه وترجون ثوابه. (٥)

[١٣٢] (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)

(وَلِلَّهِ). كرّره ثالثا للدلالة على كونه غنيّا حميدا. فإنّ جميع المخلوقات تدلّ على غناه بحاجتها وبما أفاض عليها من الوجود وأنواع الخصائص والكمالات على كونه حميدا. (وَ

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤١.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤١.

(٣) الكشّاف ١ / ٥٧٤.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤١.

(٥) الكشّاف ١ / ٥٧٤.

٥١٨

كَفى بِاللهِ وَكِيلاً). راجع إلى قوله : (يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ). فإنّه توكّل بكفايتهما. وما بينهما تقرير لذلك. (١)

[١٣٣] (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً)

(يُذْهِبْكُمْ) ؛ أي : يفنكم. ومفعول (يَشَأْ) محذوف دلّ عليه الجواب. (٢)

(يَأْتِ بِآخَرِينَ) ؛ أي : يوجد قوما آخرين مكانكم أو خلقا آخرين مكان الإنس. (٣)

(بِآخَرِينَ). يروى أنّه لمّا نزلت هذه الآية ، ضرب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله على ظهر سلمان وقال : هم قوم هذا. يعني قوم الفرس. (٤)

(عَلى ذلِكَ) من الإعدام والإيجاد. (قَدِيراً) : بليغ القدرة لا يعجزه مراد. وهذا أيضا تقرير لغناه وقدرته وتهديد لمن كفر به وخالف أمره. وقيل : هو خطاب لمن عادى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من العرب. ومعناه معنى قوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ)(٥) لما روي أنّهم قوم سلمان. (٦)

[١٣٤] (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً)

(ثَوابَ الدُّنْيا). أي كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة. (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ). فما له يطلب أحدهما دون الآخر والذي يطلب أخسّهما؟ لأنّ من جاهد لله خالصا ، لم تخطئه الغنيمة وله من ثواب الآخرة الحظّ الأوفر. (٧)

(فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ). فما له يطلب أخسّهما؟ فليطلبهما كمن يقول : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً)(٨) أو ليطلب الأشرف منهما. فإنّ من جاهد لله

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤١.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤١.

(٣) تفسير النيسابوريّ ١ / ٣٣٩.

(٤) مجمع البيان ٣ / ١٨٧.

(٥) محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (٤٧) / ٣٨.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤١ ـ ٢٤٢.

(٧) الكشّاف ١ / ٥٧٤.

(٨) البقرة (٢) / ٢٠١.

٥١٩

خالصا ، لم تخطئه الغنيمة وله في الآخرة ما هي في جنبه كلا شيء. أو فعند الله ثواب الدنيا والآخرة فيعطي كلّا ما يريده. كقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ)(١). (٢)

[١٣٥] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا) ـ الآية. فإن قلت : الشهادة على الوالدين والأقربين أن يقول : أشهد لفلان على والدي كذا ، أو على أقاربي. فما معنى الشهادة على نفسه؟ قلت : هي الإقرار على نفسه. لأنّه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحقّ لها. ويجوز أن يكون المعنى : وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم أو على آبائكم أو أقاربكم. وذلك أن يشهد على من يتوقّع ضرره من سلطان ظالم أو غيره. (إِنْ يَكُنْ) المشهود عليه (غَنِيًّا) فلا يمنع الشهادة عليه لغناه طلبا لرضاه (أَوْ فَقِيراً) فلا يمنعها ترحّما عليه. (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) : بالغنيّ والفقير ؛ أي : بالنظر لهما وإرادة مصلحتهما. ولو لا أنّ الشهادة عليهما مصلحة لهما ، لما شرعها. لأنّه أنظر لعباده من كلّ ناظر. (٣)

(كُونُوا قَوَّامِينَ) : مواظبين على العدل ، مجتهدين في إقامته. (شُهَداءَ) بالحقّ تقيمون شهاداتكم لوجه الله تعالى. وهو خبر ثان أو حال. (٤)

عن أبي الحسن عليه‌السلام : فأقم الشهادة لله ولو على نفسك أو الوالدين والأقربين فيما بينك وبينهم. فإن خفت على أخيك ضيما فلا. (٥)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام (إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) فقال : تلووا الأمر أو تعرضوا عمّا أمرتم به. (٦)

__________________

(١) الشورى (٤٢) / ٢٠.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤٢.

(٣) الكشّاف ١ / ٥٧٥.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٤٢.

(٥) الكافي ٧ / ٣٨١ ، ح ٣.

(٦) الكافي ١ / ٤٢١ ، ح ٤٥.

٥٢٠