عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-26-5
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦٣

استثناء منقطع. أي : ولكن كون تجارة عن تراض غير منهيّ عنه. أو اقصدوا كون تجارة ، وعن تراض صفة تجارة. أي : تجارة صادرة عن تراضي المتعاقدين. وتخصيص التجارة من الوجوه التي يحلّ بها تناول مال الغير لأنّها أغلب وأوفق بذوي المروّات. ويجوز أن يراد بها الانتقال مطلقا. وقيل : المقصود بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله ، وبالتجارة صرفه فيما يرضاه. وقرأ الكوفيّون : (تِجارَةً) بالنصب ، على كان الناقصة وإضمار الاسم. أي : إلّا أن تكون التجارة أو الجهة تجارة. (١)

(بِالْباطِلِ) : الربا والقمار والبخس والظلم. وهو المرويّ عن الباقر عليه‌السلام. (تِجارَةً) ؛ أي : مبايعة. وقيل في معنى التراضي قولان : أحدهما أنّه إمضاء البيع بالتفرّق أو التخاير بعد العقد. وهو مذهب الإماميّة والشافعيّة. وثانيهما أنّه البيع بالعقد فقط. عن مالك وأبي حنيفة. (٢)

(وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : كان المسلمون يدخلون على عدوّهم في المغارات فيتمكّن منهم عدوّهم فيقتلهم كيف شاء. فنهاهم الله أن يدخلوا عليهم في المغارات. (٣)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : معناه : لا تخاطروا بنفوسكم في القتال فتقاتلوا من لا تطيقونه. (٤)

كان الرجل إذا خرج مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الغزو ، يحمل على العدوّ وحده من غير أن يأمره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فنهى الله أن يقتل نفسه من غير أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٥)

[٣٠] (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً)

(يَفْعَلْ ذلِكَ) ؛ أي : القتل ، أو جميع ما تقدّم من المحرّمات. (نُصْلِيهِ ناراً) : ندخله إيّاها.

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١١.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٥٩.

(٣) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢٣٧.

(٤) مجمع البيان ٣ / ٦٠.

(٥) تفسير القمّيّ ١ / ١٣٦.

٤٤١

(عَلَى اللهِ يَسِيراً) لا عسر فيه ولا صارف عنه. (١)

(عُدْواناً) : إفراطا في التجاوز عن الحقّ وإتيانا بما لا يستحقّ. وقيل : أراد بالعدوان التعدّي على الغير وبالظلم التعدّي على نفسه بتعريضها للعقاب. (٢)

[٣١] (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً)

(نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) ؛ أي : نغفر لكم صغائركم ونمحها عنكم. واختلف في الكبائر. والأقرب أنّ الكبيرة كلّ ذنب رتّب الشارع عليه حدّا أو صرّح بالوعيد فيه. وقيل : ما علم حرمته بقاطع. وعن ابن عبّاس : الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع. وقيل : أراد هاهنا أنواع الشرك ؛ لقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ). وقيل : صغر الذنوب وكبرها بالإضافة إلى ما فوقها وما تحتها. فأكبر الكبائر الشرك. وأصغر الصغائر حديث النفس. وما بينهما وسائط يصدق عليها الأمران. فمن عنّ له أمران منها ودعت نفسه إليهما بحيث لا يتمالك فكفّها عن أكبرهما ، كفّر عنه ما ارتكبه لما استحقّه من الثواب على اجتناب الأكبر. ولعلّ هذا ممّا يتفاوت باعتبار الأشخاص والأحوال. ألا ترى أنّه تعالى عاتب نبيّه عليه‌السلام في كثير من خطراته التي لم تعدّ على غيره خطيئة فضلا عن أن يؤاخذه عليها؟ (مُدْخَلاً كَرِيماً) : الجنّة وما وعده من الثواب. أو : إدخالا مع كرامة. وقرأ نافع بفتح الميم. وهو أيضا يحتمل المكان والمصدر. (٣)

قيل : الكبائر سبع ؛ وهو الشرك بالله ، وقتل النفس ، وقذف المحصنات ، وأكل مال اليتيم ، والزنى ، والفرار عن الزحف ، وعقوق الوالدين. وقيل : عشرون : السبع المذكور ، واللّواط ، والسحر ، والغيبة ، والحلف بالكذب ، والربا ، واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، و....

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١١ ـ ٢١٢.

(٢) مسالك الأفهام ٣ / ٣٧.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٢.

٤٤٢

(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ) ؛ أي : تتركوا جانبا كبائر ما تنهون عنه. وحكى الطبرسيّ عن علمائنا رحمهم‌الله أنّ الذنوب كلّها كبائر. (١) وردّ عليه جماعة من المتأخّرين باشتهار الخلاف فيما بين علمائنا كاشتهار الخلاف بين الجمهور. عن الصادق عليه‌السلام : الكبائر ما توعدّ الله عليه النار. (٢) أقول : سمعت ممّن أثق به من مشايخي أنّه تتبّع الذنوب التي توعّد عليها النار فوجدها ممّا يقرب من السبعين.

[٣٢] (وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)

(وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللهُ). النزول. قيل : جاءت وافدة النساء إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : يا رسول الله ، أليس الله ربّ الرجال والنساء وأنت رسول الله إليهم جميعا؟ فما بالنا يذكر الله الرجال ولا يذكرنا؟ نخشى أن لا يكون فينا خير ولا لله فينا حاجة. فنزلت هذه الآية. وقيل : إنّ أمّ سلمة قالت : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يغزو الرجال ولا تغزو النساء. وإنّما لنا نصف الميراث. فليتنا رجال فنغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال. فنزلت الآية. وقيل : لمّا نزلت آية المواريث قال الرجال : نرجو أن نفضّل على النساء بحسناتنا في الآخرة كما فضّلنا عليهنّ في الميراث فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء. وقالت النساء : نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة ، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم. فنزلت الآية. (وَلا تَتَمَنَّوْا) ؛ أي : لا يقل أحدكم : ليت لي من المال ما لفلان ونحو ذلك. فإنّه حسد. ولكن يقول : اللهمّ أعطني مثله. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام. وقيل : المعنى : لا يجوز للرجل أن يتمنّى أن لو كان المرأة أو العكس. لأنّ الله لا يفعل إلّا ما هو الأصلح. (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) ـ الآية ـ أي : لكلّ حظّ من الثواب على حسب ما كلّفه الله من الطاعات بحسن تدبيره. فلا تتمنّوا خلاف هذا التدبير. أو : انّ لكلّ فريق من الرجال [والنساء] نصيبا ممّا

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٦٣.

(٢) الكافي ٢ / ٢٧٦.

٤٤٣

اكتسب من نعيم الدنيا بالتجارات والزراعات وأنواع المكاسب ، فينبغي أن يقنع كلّ منهم بما قسم الله له. أو انّ معناه : انّ لكلّ منهما نصيبا من الميراث على حسب ما قسمه الله. فالاكتساب حينئذ بمعنى الإصابة والإحراز. (وَسْئَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ) ؛ أي : إذا أعجبكم ما للغير ، فاطلبوا من الله أن يعطيكم من فضله. ابن كثير والكسائيّ : (وَسْئَلُوا اللهَ) بغير همز. (١)

(ما فَضَّلَ اللهُ) من الأمور الدنيويّة كالجاه والمال. فلعلّ عدمه خير والمقتضي للمنع كونه ذريعة إلى التحاسد والتعادي ، معربة عن عدم الرضا بما قسم الله له. وإنّه تشهّ لحصول الشيء له من غير طلب. وهو مذموم. لأنّ تمنّي ما لم يقدّر له معارضة لحكمة القدر ، وتمنّي ما قدّر بكسب ، بطالة وتضييع حظّ ، وتمنّي ما قدّر له بغير كسب ، ضائع ومحال. (عَلِيماً). فهو يعلم ما يستحقّه كلّ إنسان فيفضّل عن علم وتبيان. (٢)

(مِنْ فَضْلِهِ). عن الصادق عليه‌السلام : هو الرزق الحلال. وهو الفضل من الرزق الذي يقسمه الله من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وأمّا أصل الرزق فهو مقسوم. (٣)

[٣٣] (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)

(وَلِكُلٍّ جَعَلْنا) ؛ أي : لكلّ واحد من النساء والرجال جعلنا (مَوالِيَ) ؛ أي : ورثة هم أولى بميراثه (مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ) أي : يرثون أو يعطون ممّا ترك الولدان (وَالْأَقْرَبُونَ) الموروثون (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) ؛ أي : ويرثون ممّا ترك الذين عقدت أيمانكم لهم. فيكون قوله : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) عطفا على قوله : (الْوالِدانِ). (فَآتُوهُمْ) ؛ أي : فآتوا كلّا نصيبهم من الميراث. وقال أكثر المفسّرين : إنّ قوله : (الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) [مقطوع من الأوّل. فكأنّه قال : والذين عاقدت أيمانكم] أيضا فآتوهم نصيبهم. قرأ أهل الكوفة : (عَقَدَتْ) بغير ألف ، والباقون : (عَقَدَتْ) بالألف. قيل : المراد بهم الحلفاء ؛ كما قيل : إنّ

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٦٣ ـ ٦٤.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٢.

(٣) انظر : تفسير العيّاشيّ ١ / ٢٤٠ ، ح ١١٩.

٤٤٤

الرجل في الجاهليّة كان يعاقد الرجل فيقول : دمي دمك. وحربي حربك. وتعقل عنّي وأعقل عنك. فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف. ثمّ نسخ ذلك بقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ). (١) وقيل : (فَآتُوهُمْ) : فأعطوهم (نَصِيبَهُمْ) من النصر والعقل ولا ميراث. فلا نسخ. وقيل : إنّ المراد بهم قوم آخى بينهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المهاجرين والأنصار حين قدم المدينة وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة ، ثمّ نسخ الله ذلك بالفرائض. وقيل : إنّهم الذين يتبنّون أبناء غيرهم في الجاهليّة. ومنهم زيد مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فأمروا في الإسلام أن يوصوا لهم عند الموت بوصيّة. فذلك قوله : (فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ). (شَهِيداً) : مطّلعا على كلّ شيء. (٢)

(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ). عن أبى الحسن عليه‌السلام : إنّما عني بذلك الأئمّة عليهم‌السلام. بهم عقد الله أيمانكم. (٣)

(عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ) ؛ أي : عقدت عهودهم أيمانكم. فحذف العهود وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه [ثمّ حذف] كما حذف في القراءة الأخرى. (٤)

(مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ). (مِمَّا تَرَكَ) تبيين لكلّ. أي : ولكلّ شيء ممّا ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا موالي وورّاثا يلونه ويحوزونه. أو : ولكلّ قوم جعلناهم موالي نصيب ممّا ترك الوالدان والأقربون ، على أنّ (جَعَلْنا مَوالِيَ) صفة لكلّ والضمير الراجع إلى كلّ محذوف والكلام مبتدأ وخبر. أو : ولكلّ أحد جعلنا موالي ممّا ترك ؛ أي : ورّاثا ممّا ترك ، على أنّ من صلة موالي لأنّهم في معنى الورّاث وفي ترك ضمير كلّ. ثمّ فسّر الموالي بقوله : (الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ). كأنّه قيل : من هم؟ فقيل : الوالدان والأقربون. (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ) مبتدأ وضمن معنى الشرط فوقع خبره مع الفاء. (٥)

__________________

(١) الأنفال (٨) / ٧٠.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٦٦ ـ ٦٧.

(٣) الكافي ٧ / ٢١٦.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٣.

(٥) الكشّاف ١ / ٥٠٤.

٤٤٥

[٣٤] (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً)

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ). عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : بالرجال يحيى النساء. لو لا الرجال ، ما خلقوا النساء. يقول الله : (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ). وذلك أنّ الله خلق آدم من طين ومن فضلته وبقيّته خلقت حوّاء. (١)

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ) : يأمرونهنّ وينهونهنّ. (بِما فَضَّلَ اللهُ). فيه دلالة على أنّ الولاية إنّما تستحقّ بالفضل لا بالتغلّب والاستطالة والقهر. (٢)

(الرِّجالُ قَوَّامُونَ) : يقومون عليهنّ قيام الولاة على الرعيّة. وعلّل ذلك بأمرين موهبيّ وكسبيّ فقال : (بِما فَضَّلَ اللهُ). سبّب تفضيله الرجال على النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوّة في الأعمال والطاعات ونحو ذلك. (وَبِما أَنْفَقُوا) في نكاحهنّ كالمهر والنفقة. روي : انّ سعد بن الربيع نشزت عليه [امرأته] فلطمها. فانطلق [بها] أبوها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لتقتصّ منه. فنزلت. فقال : أردنا أمرا وأراد الله أمرا. والذي أراد الله خير. (بَعْضَهُمْ) : الرجال. (عَلى بَعْضٍ) : النساء. (قانِتاتٌ) : مطيعات لله ، قائمات بحقوق الأزواج. (بِما حَفِظَ اللهُ) ؛ أي : بأمر الله تعالى لهنّ بحفظ غيب الأزواج. أو : بالّذي حفظه الله لهنّ عليهم من المهر والنفقة ونحوهما. (الْمَضاجِعِ). كناية عن عدم الجماع. وقيل : لا يبايتوهنّ. (وَاضْرِبُوهُنَّ). يعني ضربا غير مبرح. (عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً) بالتوبيخ والإيذاء. والمعنى : فأزيلوا عنهنّ التعرّض واجعلوا ما كان منهنّ كأن لم يكن. فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له. (عَلِيًّا كَبِيراً). فاحذروه. فإنّه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم. أو : إنّه على علوّ شأنه يتجاوز عن سيّئاتكم ويتوب عليكم. فأنتم أحقّ بالعفو عن

__________________

(١) علل الشرائع / ٥١٢.

(٢) الكشّاف ١ / ٥٠٥.

٤٤٦

أزواجكم. أو : إنّه يتعالى ويتكبّر أن يظلم أحدا أو ينقص حقّه. (١)

(وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ). عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : يحوّل ظهره إليها. (وَاضْرِبُوهُنَّ). قال : بالسواك. (٢)

[٣٥] (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً)

(وَإِنْ خِفْتُمْ) ؛ أي : خشيتم. وقيل : علمتم. والأوّل أصحّ. (شِقاقَ). الشقاق : الخلاف والعداوة. واشتقاقه من الشقّ. كأنّ كلّا منهما في شقّ. (فَابْعَثُوا حَكَماً) ؛ أي : وجّهوا حكما من قوم الزوج وحكما من قوم المرأة لينظرا فيما بينهما. والمخاطب بإنفاذ الحكمين هو السلطان. وقيل : إنّه الزوجان أو أهل الزوجين. وليس لهما أن يفرّقا إلّا إذا استأمراهما. وقيل : إنّ لهما ذلك وإن لم يستأمرا. وعن الصادق عليه‌السلام : المخاطب بإنفاذ الحكمين هو السلطان الذي يترافع الزوجان إليه. (إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً) يعني الحكمين (يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما). يعني يحكما بما فيه الإصلاح. والضمير في بينهما عائد إلى الحكمين. وقيل : إن يرد الحكمان إصلاحا بين الزوجين ، يوفّق الله بين الزوجين ؛ أي : يؤلّف بينهما ويرفع ما بينهما من العداوة والشقاق. (خَبِيراً) بما فيه مصالحكم ومنافعكم. (٣)

(إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً). عن الصادق عليه‌السلام : ليس للحكمين أن يفرّقا حتّى يستأمرا الرجل والمرأة ويشترطا عليهما إن شئنا جمعنا وإن شئنا فرّقنا. فإن جمعا فجائز وإن فرّقا فجائز. (٤)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : لا يكون تفريق إلّا إذا اشترطاه الحكمان. ولا يكون إلّا على طهر من المرأة من غير جماع من الرجل. وليس لهما أن يفرّقا إلّا إذا اجتمعا على التفريق. (٥)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٣ ـ ٢١٤.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٦٩.

(٣) مجمع البيان ٣ / ٧٠.

(٤) الكافي ٦ / ١٤٦ ، ح ٢.

(٥) الكافي ١ / ١٤٦ ، ح ٤.

٤٤٧

[٣٦] (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً)

(وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ؛ أي : أحسنوا إحسانا. (وَبِذِي الْقُرْبى) : صاحب القربى. (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى) : الذي قرب جواره. وقيل : الذي له مع الجوار قرب واتّصال بنسب أو دين. وقرئ بالنصب على الاختصاص تعظيما لحفظه. (١)

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحد الوالدين وعليّ الآخر. وذكر أنّها الآية التي في النساء. (٢)

عن الصادق عليه‌السلام : حدّ الجوار أربعون ذراعا من كلّ جانب. (٣) وفي حديث آخر عنه عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : كلّ أربعين دارا جيران من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله. (٤)

(وَالْجارِ الْجُنُبِ) : البعيد ، أو الذي لا قرابة له. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : الجيران ثلاثة. فجار له ثلاثة حقوق ؛ حقّ الجوار وحقّ القرابة وحق الإسلام. وجار له حقّان ؛ حقّ الجوار وحقّ الإسلام. وجار له حقّ واحد ، حقّ الجوار. وهو المشرك من أهل الكتاب. (٥)

(وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) : الرفيق في أمر حسن كتعلّم وتصرّف وصناعة وسفر. فإنّه صحبك وحصل بجنبك. وقيل : المرأة. (وَابْنِ السَّبِيلِ) : المسافر ، أو الضيف. (وَما مَلَكَتْ) : العبيد والإماء. (مُخْتالاً) : متكبّرا يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم. (فَخُوراً) يتفاخر عليهم. (٦)

عن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : وأمّا حقّ جوارك ، فحفظه غائبا ، وإكرامه شاهدا ، ونصرته

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٤.

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢٤١.

(٣) معاني الأخبار / ١٦٥.

(٤) الكافي ٢ / ٦٦٩.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٤ ، ومجمع البيان ٣ / ٧٢.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٤.

٤٤٨

إذا كان مظلوما. ولا تتبّع له عورة. وإن علمت عليه بسوء سترته. وإن علمت أنّه يقبل نصيحتك ، نصحته فيما بينك وبينه. ولا تسلّمه عند شديدة. وتقيل عثرته. وتغفر ذنوبه. وتعاشره معاشرة كريمة. وأمّا حقّ الصاحب ، فأن تصحبه بالمودّة والإنصاف ، وتكرمه كما يكرمك ، ولا تدعه يسبقك إلى مكرمة ، فإن سبق كافيته ، وتودّه كما يودّك ، وتزجره عما يهمّ به من معصية. وكن عليه رحمة ، ولا تكن عليه عذابا. (١)

[٣٧] (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً)

(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ). في محلّ النصب ، بدل من من في قوله : (مَنْ كانَ). أو في محلّ الرفع ، على الاستئناف بالذمّ على الابتداء. ومعناه : الذين يبخلون بإظهار ما علموه من صفة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. أو معناه : الذين يمنعون ما أوجب الله عليهم من الزكاة أو غيرها. (وَيَأْمُرُونَ) غيرهم بذلك. وقيل : يأمرون الأنصار بترك الإنفاق على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه. (وَيَكْتُمُونَ) ؛ أي : يجحدون ما آتاهم الله من اليسار والثروة ، اعتذارا لهم في البخل. وقيل : معناه : يكتمون ما عندهم من العلم ببعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومبعثه. والأولى أن تكون الآية عامّة. وفي الحديث : انّ الله إذا أنعم على عبده نعمة ، أحبّ أن يرى أثرها عليه. (بِالْبُخْلِ). أهل الكوفة غير عاصم بفتح الباء والخاء ، والباقون بالضمّ. وهما لغتان. (٢)

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : ليس البخيل من أدّى الزكاة المفروضة من ماله وأعطى النائبة في قومه. إنّما البخيل حقّ البخيل من لم يؤدّ الزكاة المفروضة من ماله ولم يؤدّ النائبة في قومه. (٣)

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : إذا لم يكن لله في العبد حاجة ، ابتلاه بالبخل. (٤)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : ما كان في شيعتنا فلا يكون فيهم ثلاثة أشياء : لا يكون فيهم من

__________________

(١) الفقيه ٢ / ٣٧٩.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٧٣ ـ ٧٤.

(٣) الفقيه ٢ / ٣٤.

(٤) الفقيه ٢ / ٣٥.

٤٤٩

يسأل بكفّه. ولا يكون فيهم من يبخل ـ الحديث. (١)

(وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللهُ). عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا أنعم الله على عبد نعمة ، أحبّ أن يرى نعمته عليه. وبنى عامل للرشيد قصرا حذاء قصره ، فنمّ به عنده. فقال الرجل : يا أمير المؤمنين ، إنّ الكريم يسرّه أن يرى أثر نعمته. فأحببت أن أسرّك بالنظر إلى آثار نعمتك. فأعجبه كلامه. (٢)

(لِلْكافِرِينَ) ؛ أي : الجاحدين ما أنزل الله عليهم. (مُهِيناً) ؛ أي : يهانون فيه. (٣)

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ). وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشعارا بأنّ من هذا شأنه فهو كافر لنعمة الله ومن كان كافرا لنعمة الله فله عذاب يهينه. (٤)

[٣٨] (وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً)

(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ). عطف على الكافرين. أي : أعتدنا للكافرين وللّذين ينفقون. (رِئاءَ). مصدر وضع موضع الحال. أي : ينفقون مرائين. (قَرِيناً). نصب على الحال. (٥)

(وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ). عطف على الذين يبخلون أو الكافرين. شاركهم في الذمّ والوعيد ، لأنّ البخل والسرف الذي هو الإنفاق لا على ما ينبغي ، من حيث إنّهما طرفا إفراط وتفريط ، سواء في القبح واستجلاب الذمّ. أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله : (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ). (وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) ليتحرّوا بالإنفاق مراضيه وثوابه. وهم مشركو مكّة. وقيل : المنافقون. (فَساءَ قَرِيناً). تنبيه على أنّ الشيطان قرنهم فحملهم على ذلك وزينّه لهم. كقوله : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ). (٦) والمراد إبليس وأعوانه الداخلة و

__________________

(١) الخصال / ١٣١.

(٢) الكشّاف ١ / ٥١٠.

(٣) مجمع البيان ٣ / ٧٤.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٤.

(٥) مجمع البيان ٣ / ٧٤.

(٦) الإسراء (١٧) / ٢٧.

٤٥٠

الخارجة. ويجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يقرن بهم الشيطان في النار. (١)

[٣٩] (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللهُ وَكانَ اللهُ بِهِمْ عَلِيماً)

(وَما ذا عَلَيْهِمْ) ؛ أي : أيّ شيء عليهم (لَوْ آمَنُوا بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)؟ قطع الله سبحانه بها عذر الكفّار في العدول عن الإيمان وأبطل قول من قال إنّهم لا يقدرون على الإيمان. لأنّه لا يحسن أن يقال للعاجز عن الشيء : ماذا عليك لو فعلت كذا؟ وقيل : معناه : ماذا عليهم لو جمعوا إلى إنفاقهم الإيمان بالله لينفعهم الإنفاق؟ (عَلِيماً). فلا ينفعهم ما ينفقونه على جهة الرئاء. (٢)

(وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا). وإنّما قدّم الإيمان هنا وأخّره في الآية الأخرى ، لأنّ القصد بذكره إلى التخصيص هنا والتعليل ثمّ. (٣)

[٤٠] (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً)

(مِثْقالَ ذَرَّةٍ) ؛ أي : زنة ذرّة ؛ وهي النملة الحمراء الصغيرة التي لا تكاد ترى وهي أصغر النمل. وقيل : جزء من أجزاء الهباء في الكوّة من أثر الشمس. وإنّما لا يجوز عليه الظلم لأنّه عالم بقبحه مستغن عنه وعالم بغناه ، ومن يختار القبيح يختاره إمّا بجهله به أو لحاجته إليه لدفع [ضرر] أو لجرّ نفع ، وهو تعالى منزّه عن [جميع] ذلك. ولم يذكر سبحانه الذرّة لقصر الحكم عليها ، بل لأنّها أقلّ شيء ممّا يدخل وهم البشر. (يُضاعِفْها) ؛ أي : وإن تك زنة الذرّة حسنة يقبلها ويجعلها أضعافا كثيرة. وقيل : يجعلها ضعفين. وقيل : معناه : يديمها و

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٥.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٧٥.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٥.

٤٥١

لا يقطعها. (حَسَنَةً). قرأ ابن كثير بالرفع ، على معنى : إن تحدث حسنة. فيكون كان تامّة. وقرأ ابن كثير وابن عامر : (يُضاعِفْها) بالتشديد. وهما لغتان. (١)

[٤١] (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)

(فَكَيْفَ إِذا جِئْنا). لمّا وصف حال المتكبّرين قال : كيف يصنع الأمم إذا جئنا من كلّ أمّة بشهيد؟ يعني أنّ الله يستشهد يوم القيامة كلّ نبيّ على أمّته يشهد عليها ويأتي بك ـ يا محمّد ـ شاهدا على أمّتك. والمراد تحذير الناس عن هول ذلك اليوم. لأنّ الشهادة لا تكون إلّا على رؤوس الأشهاد. هذا ما قاله المفسّرون. (٢) وأمّا الوارد في الأخبار عن الإمام أبي عبد الله عليه‌السلام فهو : انّ الآية نزلت في أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله خاصّة ، في كلّ قرن منهم إمام شاهد عليهم. ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله شاهد علينا. (٣)

وورد أيضا معنى ثالث رواه شيخنا الطبرسيّ في كتاب الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه‌السلام وحاصله : انّ الله يسأل الرسل عن تأدية الرسالات إلى قومهم ، فيخبرون أنّهم قد أدّوا إلى أممهم. وتسأل الأمم فيجحدون فيقولون : (ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ). (٤) فتستشهد الرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيشهد بصدق الرسل. فهو معنى قوله : (عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً). (٥)

والتي لا تحمل ، يكتب قوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا) إلى : (حَدِيثاً) على قطعة من حلواء في ليلة الجمعة ويأكلها الزوجان فيجامعا ، تحمل إن شاء الله.

[٤٢] (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً)

(لَوْ تُسَوَّى). أهل الكوفة غير عاصم مفتوحة التاء خفيفة السين. وقرأ نافع وابن عامر

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٧٦.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٧٧.

(٣) الكافي ١ / ١٩٠.

(٤) المائدة (٥) / ١٩.

(٥) الاحتجاج ١ / ٣٦٠ ـ ٣٦١.

٤٥٢

بفتح التاء وتشديد السين على أنّ معناه : تتسوّى ، فأدغم التاء في السين لقربها منها. وأمّا الأولى فحذف [التاء] فالتاء اعتلّت بالحذف كما اعتلّت بالإدغام. ومعناه على قراءة الباقين بضمّ التاء وتخفيف السين : لو يجعلون والأرض سواء. كقول الكافر : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً). (١) وعن ابن عبّاس : معناه أنّهم يودّون أن يمشي عليهم أهل الجمع يطؤونهم بأقدامهم كما يطؤون الأرض. (وَلا يَكْتُمُونَ اللهَ حَدِيثاً). عطف على قوله : (لَوْ تُسَوَّى). أي : يودّون أنّهم لم يكتموا الله حديثا. لأنّهم إذا سئلوا قالوا : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ)(٢) فتشهد عليهم جوارحهم بما عملوا ، فيقولون : يا ليتنا كنّا ترابا! ويا ليتنا لم نكتم الله شيئا! ويجوز أن يكون كلاما مستأنفا والمراد أنّهم لا يكتمون الله شيئا من أمور كفرهم. (٣)

(لَوْ تُسَوَّى) قال : يتمنّى الذين غصبوا أمير المؤمنين عليه‌السلام أن يكون الأرض ابتلعهم في اليوم الذي اجتمعوا فيه على غصبه ولم يكتموا ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه. (٤)

[٤٣] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ). أي : لا تصلّوا في تلك الحال. ومقتضى النهي بطلان الصلاة لو أتي بها فيجب عليه القضاء بعد شعوره. والنهي متوجّه إلى الثّمل الذي لم يزل عقله بعد وهو يعلم ما يقول. أو : لا تقربوا الصلاة في شيء من الحالات إذا علمتم زوال عقولكم بالسكر بعد الدخول فيها. (حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) في صلاتكم. وقيل : إنّ المراد بذلك سكر النعاس. فإنّ الناعس لا يعلم ما يقول. (وَلا جُنُباً). عطف على قوله :

__________________

(١) النبأ (٧٨) / ٤٠.

(٢) الأنعام (٦) / ٢٣.

(٣) مجمع البيان ٣ / ٧٦ ـ ٧٨.

(٤) تفسير القمّيّ ١ / ١٣٩.

٤٥٣

(وَأَنْتُمْ سُكارى) لأنّ محلّه النصب على الحال. أي : لا تقربوا الصلاة سكارى ولا جنبا. والجنب ممّا يستوى فيه الواحد والجمع والمذكّر والمؤنّث. لأنّه اسم جرى مجرى المصدر أعني الإجناب. (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ). استثناء من عامّة أحوال المخاطبين. وانتصابه على الحال. (حَتَّى تَغْتَسِلُوا). غاية النهي عن قربان الصلاة حال الجنابة. أي : لا تقربوا الصلاة جنبا في عامّة الأحوال حتّى تغتسلوا إلّا في السفر ، وذلك إذا لم تجدوا الماء وتيمّموا له. ويحتمل أن يكون (إِلَّا) صفة لقوله : (جُنُباً). أي : جنبا غير عابري سبيل. ويحتمل أن يكون المراد من الصلاة في الموضعين مواضعها ـ أعني المساجد ـ من باب تسمية المحلّ باسم الحالّ أو على حذف المضاف. والمعنى : لا تقربوا المساجد حال السكر ـ لأنّ قصدها غالبا إنّما يكون للصلاة ـ ولا تقربوها حال الجنابة إلّا إذا كنتم عابري سبيل ؛ أي : مجتازين في المسجد. وقوّى الطبرسيّ هذا القول. ويدلّ عليه رواية زرارة ومحمّد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام. وذكر بعض أصحابنا من فضلاء العربيّة أنّ الصلاة هنا على معناها الحقيقيّ وفي قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) على معناها المجازيّ أعني مواضعها. وعدّ ذلك باب الاستخدام وهو معنى آخر للاستخدام. (أَوْ عَلى سَفَرٍ) : مسافرين. لأنّ الغالب فيه عدم الماء. (١)

(وَإِنْ كُنْتُمْ) ؛ أي : إذا قمتم إلى الصلاة وكنتم مرضى بما يضرّه الماء. (ف) (٢)

(مِنَ الْغائِطِ) : الحدث الأصغر. (ج) (٣)

(أَوْ لامَسْتُمُ). قرأ أهل الكوفة غير عاصم : أو لمستم بغير ألف. (٤)

(أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ). كناية عن الجماع ؛ كما وردت به الأخبار. قال ابن عبّاس : إنّ الله حييّ كريم يعبّر عن مباشرة النساء بملاستهنّ. وإلى هذا يذهب أبو حنيفة. وقال الشافعيّ : المراد مطلق اللّمس لغير محرم. وخصّه مالك بما كان عن شهوة. وهما بعيدان. (فَلَمْ تَجِدُوا). عطف على (وَإِنْ كُنْتُمْ). وحينئذ فيتعلّق الجزاء الذي هو الأمر بالتيمّم عند عدم الماء

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ / ٧٥ ـ ٧٨.

(٢) لم نعثر عليه في الكشّاف.

(٣) لم نعثر عليه في المجمع.

(٤) مجمع البيان ٣ / ٧٩.

٤٥٤

بالأحوال الأربعة. ويحتمل كون أو في قوله : (أَوْ جاءَ) بمعنى الواو. والمعنى : إن كنتم مرضى أو مسافرين وجاء أحدكم من الحدث الأصغر أو الأكبر ، فتيمّموا ـ أي : اقصدوا ـ شيئا من الصعيد طاهرا. والصعيد هو التراب. قاله في الصحاح. وعن الزجّاج أنّه وجه الأرض ترابا كان أو غيره وإن كان صخرا لا تراب عليه. ومن ثمّ ورد الخلاف في جواز التيمّم في مثل هذا الحجر. (١)

(طَيِّباً) ؛ أي : حلالا ، أو طاهرا ، أو منبتا دون السبخة. (٢)

(صَعِيداً). عن الصادق عليه‌السلام : الصعيد هو الموضع المرتفع. والطيّب الموضع الذي ينحدر عنه الماء. (٣)

(وَأَيْدِيكُمْ). وفي سورة المائدة : (مِنْهُ). ومن هناك للتبعيض ؛ كما نصّ عليه المفسّرون (٤) ودلّت عليه صحيحة زرارة. (٥) وأمّا على هاهنا ، فيجوز أن يراد ذلك المقيّد فيكون المراد مسح الوجوه والأيدي من ذلك التراب المتيمّم به ، ويجوز أن يكون المراد هنا إطلاق الحكم وإجماله فيكون محمولا على ذلك المقيّد. ويجوز الحمل على الاكتفاء بهذا المطلق وما وقع في المائدة من المسح بالتراب يكون محمولا على الاستحباب. وظاهر الآيتين الاكتفاء بالضربة الواحدة مطلقا كما هو أحد الأقوال.

(عَفُوًّا) : كثير الصفح والتجاوز ، فلذلك يسّر الأمر عليكم. (٦)

[٤٤] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ)

(أَلَمْ تَرَ) ـ الآية. نزلت في رفاعة بن زيد ومالك بن دخشم من اليهود ، كان إذا تكلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لوّيا لسانهما وعاباه. أي : ألم ينته علمك إلى الذين أوتوا حظّا من الكتاب

__________________

(١) مسالك الأفهام ١ / ٦٣ ـ ٦٦.

(٢) مجمع البيان ٣ / ٨٢.

(٣) الصافي ١ / ٤٥٥ عن معاني الأخبار.

(٤) الكشّاف ١ / ٥١٥.

(٥) التهذيب ١ / ١٩ ، الرقم ١٦٨.

(٦) مسالك الأفهام ١ / ٨٠.

٤٥٥

ـ يعني التوراة ـ يستبدلون الضلالة بالهدى ويكذّبون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بدلا من التصديق؟ وقيل : كانت اليهود تعطي أحبارها كثيرا من أموالهم على ما كانوا يصفونه لهم ، فجعل ذلك اشتراء منهم. (وَيُرِيدُونَ) اليهود. (السَّبِيلَ) ؛ أي : عن طريق الحقّ وهو الدين والإسلام. (١)

(أَلَمْ تَرَ). من رؤية النظر أو القلب. وعدّي بإلى لتضمين معنى الانتهاء. (نَصِيباً) : حظّا يسيرا من علم التوراة. (يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ) : يختارونها على الهدى. (٢)

(يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ). يعني : ضلّوا في أمير المؤمنين عليه‌السلام. (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا). يعني : أخرجوا الناس من ولاية أمير المؤمنين وهو الصراط المستقيم. (٣)

[٤٥] (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً)

(أَعْلَمُ). أي منكم. (٤)

(بِأَعْدائِكُمْ) من اليهود. (٥) فاحذروهم. (٦)

(وَكَفى بِاللهِ). الباء تزاد في فاعل كفى لتوكيد الاتّصال الإسنادىّ بالاتّصال الإضافيّ. (٧)

(وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً). معناه : انّ ولاية الله لكم ونصرته إيّاكم يغنيكم عن نصرة هؤلاء اليهود ومن جرى مجراهم ممّن تطمعون في نصرته. (٨)

[٤٦] (مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً)

(مِنَ الَّذِينَ هادُوا). بيان للّذين أوتوا نصيبا من الكتاب. وقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ) (وَكَفى

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٨٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٧.

(٣) تفسير القمّيّ ١ / ١٣٩.

(٤) الكشّاف ١ / ٥١٦ ، وتفسير البيضاويّ ١ / ٢١٧.

(٥) مجمع البيان ٣ / ٨٣.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٧.

(٧) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٧.

(٨) مجمع البيان ٣ / ٨٤.

٤٥٦

بِاللهِ) [(وَكَفى بِاللهِ)] جمل اعترضت بين البيان والمبيّن. أو بيان لأعدائكم. أو صلة لنصيرا. أي : ينصركم من الذين هادوا. كقوله : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا). (١) ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ على أنّ (يُحَرِّفُونَ) صفة مبتدأ محذوف. تقديره : من الذين هادوا قوم يحرّفون. ومعنى قوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) : يميلون عنها ويزيلونها. لأنّهم إذا وضعوا مكانه كلما غيره ، فقد أمالوه عن مواضعه التي وضعه الله فيها. (غَيْرَ مُسْمَعٍ). حال من المخاطب. أي : اسمع وأنت غير مسمع. وهو قول ذو وجهين يحتمل الذمّ. أي : اسمع منّا مدعوّا عليك بلا سمعت. لأنّه لو أجيبت دعوتهم عليه ، لم يسمع فكأنّه أصمّ غير مسمع. قالوا ذلك اتّكالا على أنّ قولهم : لا سمعت ، دعوة مستجابة. أو : اسمع غير مجاب. أو : اسمع غير مسمع كلاما ترضاه فسمعك عنه ناب. ويجوز على هذا أن يكون غير مسمع مفعول اسمع. أي : اسمع كلاما غير مسمع إيّاك. لأنّ أذنك لا تعيه نبوّا عنه. ويحتمل المدح. أي : اسمع غير مسمع مكروها. من قولك : أسمع فلان فلانا ، إذا سبّه. وكذلك قولهم : (راعِنا) يحتمل : راعنا نكلّمك ؛ أي : ارقبنا وانتظرنا. ويحتمل شبه كلمة عبرانيّة أو سريانيّة كانوا يتسابّون بها ؛ وهي : راعينا. فكانوا ـ سخريّة بالدين وهزؤا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يكلّمونه بكلام محتمل ينوون به الشتيمة والإهانة ويظهرون به التوقير والإكرام. (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) : فتلا بها وتحريفا. أي : يفتلون بألسنتهم الحقّ إلى الباطل حيث يضعون راعنا موضع انظرنا وغير مسمع موضع لا سمعت مكروها. فإن قلت : كيف جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرّحوا وقالوا سمعنا وعصينا؟ قلت : جميع الكفّار كانوا يواجهونه بالكفر والعصيان ولا يواجهونه بالسبّ ودعاء السوء. ويجوز أن يقولوه فيما بينهم. (٢)

(يُحَرِّفُونَ) ؛ أي : يؤوّلونه على ما يشتهونه فيميلونه عمّا أنزل الله فيه. (سَمِعْنا) قولك. (وَ

__________________

(١) الأنبياء (٢١) / ٧٧.

(٢) الكشّاف ١ / ٥١٦ ـ ٥١٨.

٤٥٧

عَصَيْنا) أمرك. (غَيْرَ مُسْمَعٍ) ؛ أي : مدعوّا عليك بلا سمعت بصمم أو موت. (بِأَلْسِنَتِهِمْ) ، صرفا للكلام إلى ما يشبه السبّ. (وَطَعْناً) : سخريّة. (قَلِيلاً). وهو الإيمان ببعض الآيات والرسل. (١)

(وَأَقْوَمَ) ؛ أي : أعدل وأسدّ. (وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ) ؛ أي : خذلهم بسبب كفرهم وأبعدهم عن ألطافه. (قَلِيلاً) ؛ أي : إيمانا قليلا ضعيفا لا يعبأ به وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره. أو أراد بالقلّة العدم. (٢)

[٤٧] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧))

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ). عن أبي جعفر عليه‌السلام نزلت هذه الآية هكذا : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلت في علي عليه‌السلام مصدقا لما معكم» ـ الآية. فأمّا قوله : (مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) يعني : مصدّقا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. (٣)

وعن الباقر عليه‌السلام حديث طويل قال فيه : إذا استقرّ المهديّ عليه‌السلام في المدينة ، بعث السفيانيّ جيشا إليه. فيخرج إلى مكّة. فيبلغ أمير جيش السفيانيّ [أنّ المهديّ قد خرج من المدينة] فيبعث جيشا على أثره. فلا يدركه حتّى يدخل مكّة خائفا يترقّب على شبه (٤) موسى بن عمران. وينزل جيش أمير السفيانيّ البيداء. فينادي مناد من السماء : يا بيداء ، أبيدي القوم. فيخسف بهم البيداء. فلا يفلت منهم إلّا ثلاثة نفر يحوّل الله وجوههم في أقفيتهم وهم من كلب. وفيهم أنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ـ الآية. (عَلى عَبْدِنا). يعني القائم عليه‌السلام. (٥)

(أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) ؛ أي : نطمسها عن الهدى (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) في ضلالتها ، ذمّا

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٧ ـ ٢١٨.

(٢) الكشّاف ١ / ٥١٨.

(٣) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢٤٥.

(٤) المصدر : سنّة.

(٥) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥.

٤٥٨

لها بأنّها لا تفلح أبدا. رواه أبو الجارود عن أبي جعفر عليه‌السلام. (١)

(أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) ؛ أي : نمحو تخطيط صورها من عين وحاجب وأنف وفم. (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) : فنجعلها على هيئة الأقفاء مطموسة مثلها. والفاء للتسبيب. وإن جعلتها للتعقيب على أنّهم توعّدوا بعقابين أحدهما عقيب الآخر ردّها على أدبارها بعد طمسها ، فالمعنى : أن نطمس وجوها فننكس الوجوه إلى خلف والأقفاء إلى قدّام. ووجه آخر ؛ وهو أن يراد بالطمس القلب والتغيير وبالوجوه رؤوسهم ووجهاؤهم. أي : من قبل أن نغيّر حال وجهائهم فنسلبهم وجاهتهم ونكسوها صغارهم وأدبارهم (٢) ، أو نردّهم إلى حيث جاؤوا منه وهي أذرعات الشام. يريد إجلاء بني النضير. [فإن قلت : لمن الراجع في قوله : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ)؟ قلت : للوجوه](٣) إن أريد الوجهاء. أو لأصحاب الوجوه. أو يرجع إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات. (أَوْ نَلْعَنَهُمْ) : نخزيهم بالمسخ كما مسخنا أصحاب السبت. فإن قلت : فأين وقوع الوعيد؟ قلت : هو مشروط بالإيمان وقد آمن منهم [ناس]. وقيل : هو منتظر. ولا بدّ من طمس ومسخ لليهود قبل يوم القيامة. ولأنّ الله أوعدهم بأحد الأمرين ؛ بطمس وجوه منهم أو بلعنهم. فإن كان الطمس تبديل أحوال رؤسائهم أو إجلاءهم إلى الشام ، فقد كان أحد الأمرين. وإن كان غيره ، فقد حصل اللّعن. فإنّهم ملعونون بكلّ لسان والظاهر اللّعن المتعارف دون المسخ. (٤)

(أَوْ نَلْعَنَهُمْ) على لسانك كما لعنّاهم على لسان داوود. والضمير لأصحاب الوجوه. (أَمْرُ اللهِ) بإيقاع شيء. (مَفْعُولاً) : نافذا وكائنا. (٥)

[٤٨] (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٨٦.

(٢) المصدر : (فنسلبهم إقبالهم وو جاهتهم ونكسوهم صغارهم وإدبارهم) بدل العبارة الأخيرة.

(٣) في النسخة : «أو نلعنهم أي نلعن الوجوه» بدل ما بين المعقوفتين.

(٤) الكشّاف ١ / ٥١٨ ـ ٥١٩.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٨.

٤٥٩

بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً)

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ). لأنّه بتّ الحكم على خلود عذابه. ولأنّ ذنبه لا ينمحي عنه أثره فلا يستعدّ للعفو بخلاف غيره. (ما دُونَ ذلِكَ) ؛ أي : ما دون الشرك ، صغيرا كان أو كبيرا. (لِمَنْ يَشاءُ) ، تفضّلا عليه وإحسانا. وأوّل المعتزلة الفعلين على معنى أنّ الله لا يغفر الشرك لمن يشاء وهو لمن لم يتب ويغفر ما دونه لمن يشاء وهو من تاب. وفيه تقييد بلا دليل. إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى منه. (١)

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ) ـ الآية. عن أبي جعفر عليه‌السلام : يعني أنّه لا يغفر لمن يكفر بولاية عليّ عليه‌السلام. (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) ؛ يعني : لمن والى عليّا عليه‌السلام. (٢)

(فَقَدِ افْتَرى). الافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل. أي : ارتكب ما يستحقر دونه الآثام. (٣)

[٤٩] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)

(يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ). اليهود والنصارى ؛ قالوا : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). (٤) وقالوا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى). (٥) وفي معناهم من زكّى نفسه وأثنى عليها. (يُزَكِّي). تنبيه على أنّ تزكيته هو المعتدّ به دون تزكية غيره. فإنّه العالم بما ينطوي عليه الإنسان. وقد ذمّهم وزكّى المرتضين من عباده المؤمنين. وأصل التزكية نفي ما يستقبح فعلا أو قولا. (وَلا يُظْلَمُونَ) بالذمّ والعقاب في تزكيتهم أنفسهم بغير حقّ. (فَتِيلاً) ؛ أي : أدنى ظلم وأصغره. والفتيل : الخيط الذي في شقّ النواة. يضرب به المثل في الحقارة. (٦)

(يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ). قال : هم الذين سمّوا أنفسهم بالصدّيق والفاروق وذي النورين

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٨.

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢٤٥ ـ ٢٤٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٨.

(٤) المائدة (٥) / ١٨.

(٥) البقرة (٢) / ١١١.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٢١٨ ـ ٢١٩.

٤٦٠