عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-26-5
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦٣

يا ربّ رسوليك وأمينيك! فيقول : إنّي قد قضيت على كلّ نفس فيها الروح الموت. ثمّ يجيء ملك الموت. فيقال له : من بقي؟ وهو أعلم. فيقول : يا ربّ لم يبق إلّا ملك الموت وحملة العرش. فيقول : قل لحملة العرش ، فليموتوا. ثمّ يجيء كئيبا حزينا لا يرفع طرفه. فيقال : من بقي؟ وهو أعلم. فيقول : يا ربّ لم يبق إلّا ملك الموت. فيقال له : مت يا ملك الموت. فيموت.

ثمّ يأخذ الأرض والسموات بيمينه ويقول : أين الذين كانوا يدّعون معي شريكا؟ أين الذين كانوا يجعلون معي إلها آخر؟ (١)

[١٨٦] (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)

(لَتُبْلَوُنَّ) ؛ أي : والله لتختبرنّ. (فِي أَمْوالِكُمْ) بتكليف الإنفاق وبما يصيبها من الآفات. (وَأَنْفُسِكُمْ). أي بالجهاد والقتل والأسر والمخاوف والأمراض. (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) من هجاء الرسول والطعن في الدين وإغراء الكفرة على المسلمين. أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليواطنوا أنفسهم على الصبر والاحتمال ويستعدّوا للقائها حتّى لا يرهقهم نزولها. (٢)

(لَتُبْلَوُنَّ) ـ الآية. نزلت في كعب بن الأشرف. وكان يهجو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين ويحرّض المشركين عليهم ويشبّب بنساء المؤمنين. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من لي بابن الأشرف؟ فقال محمّد بن سلمة : أنا يا رسول الله. فخرج فقتله غيلة وأتى برأسه إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله آخر اللّيل. (٣)

(وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ذلك (وَتَتَّقُوا) مخالفة أمر الله. (فَإِنَّ ذلِكَ) ؛ أي : الصبر والتقوى. (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) : من معزومات الأمور التي يجب العزم عليها. أو : ممّا عزم الله عليه ؛ أي : أمر به وبالغ فيه. والعزم في الأصل : ثبات الرأي على الشيء نحو إمضائه. (٤)

__________________

(١) الكافي ٣ / ٢٥٦.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٤.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٩٠٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٤.

٤٠١

[١٨٧] (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ)

(الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ؛ أي : العلماء. (لَتُبَيِّنُنَّهُ). ابن كثير بالياء ، لأنّهم غيّب. واللّام جواب القسم الذي ناب عنه قوله : (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ). والضمير للكتاب. (فَنَبَذُوهُ) ؛ أي : الميثاق (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) فلم يراعوه ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر ، مثل في ترك الاعتداد وعدم الالتفات. ونقيضه جعله نصب عينيه وإلقاؤه بين عينيه. (١)

(وَراءَ ظُهُورِهِمْ). عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ وقد ذكر أعداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهما الأعرابيّان وأتباعهما ـ : ولقد أحضروا الكتاب مشتملا على التأويل والتنزيل والمحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ ولم يسقط منه حرف ألف ولا لام. فلمّا وقفوا على ما بيّنه الله من أسماء أهل الحقّ والباطل وأنّ ذلك إن ظهر نقض ما عقدوه ، قالوا : لا حاجة لنا فيه. نحن مستغنون عنه بما عندنا. ولذلك قال : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) ـ الآية. ثمّ دفعهم الاضطرار لما ورد من المسائل عليهم ممّا لا يعلمون تأويله إلى جمعه وتأليفه وتضمينه من تلقائهم ما يقيمون به دعائم كفرهم ، فصرخ مناديهم : من كان عنده شيء من القرآن ، فليأتنا به. ووكّلوا تأليفه ونظمه إلى بعض من وافقهم على معاداة أولياء الله ، فألّفه على اختيارهم. وتركوا منه ما قدّروا أنّه لهم وهو عليهم ، وزادوا فيه ما ظهر تناكره وتنافره وانكشف لأهل الاستبصار عوارهم وافتراؤهم. (٢)

(وَاشْتَرَوْا بِهِ) : أخذوا بدله (ثَمَناً قَلِيلاً) من حطام الدنيا وأعراضها. (يَشْتَرُونَ) : يختارون لأنفسهم. (٣)

[١٨٨](لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٤.

(٢) الاحتجاج ١ / ٣٨٣.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٤.

٤٠٢

روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سأل اليهود عن شيء ممّا في التوراة فأخبروه بخلاف ما كان فيها وأروه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّهم صدقوه وفرحوا بما فعلوا ، فنزلت : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ) ـ الآية. وقيل : نزلت في قوم تخلّفوا عن الغزو ثمّ اعتذروا بأنّهم رأوا المصلحة في التخلّف واستحمدوا به. وقيل : نزلت في المنافقين فإنّهم يفرحون بمنافقتهم ويستحمدون إلى المسلمين بالإيمان الذي لم يفعلوه على الحقيقة. (لا تَحْسَبَنَّ). الخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والمفعول الأوّل الذين يفرحون ، والثاني بمفازة. وقوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ). تأكيد والمعنى : لا تحسبنّ الذين يفرحون بما فعلوا من التدليس وكتمان الحقّ ويحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الوفاء بالميثاق وإظهار الحقّ والإخبار بالصدق. (بِمَفازَةٍ) : بمنجاة من العذاب. أي : فائزين بالنجاة منه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء وفتح الباء في الأوّل وضمّها في الثاني على «أن الذين» فاعل ومفعولا «لا يحسبن» محذوفان ـ وهما أنفسهم ومفازة ـ يدلّ عليهما مفعولا مؤكّدة أعني قوله : لا يحسبنهم وكأنّه قيل : ولا يحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا ، فلا يحسبنّ أنفسهم بمفازة من العذاب. أو المفعول الأوّل محذوف وقوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد للفعل وفاعله ومفعوله الأوّل. (أَلِيمٌ) بكفرهم وتدليسهم. (١)

[١٨٩] (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

(وَلِلَّهِ مُلْكُ). فهو يملك أمرهم. (قَدِيرٌ) فيقدر على عقابهم. وقيل : هو ردّ لقولهم : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ). (٢)

[١٩٠] (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ)

(لَآياتٍ) ؛ أي : دلائل واضحة على وجود الصانع ووحدته وكمال علمه وقدرته لذوي العقول المجلوّة الخالصة عن شوائب الحسّ والوهم. ولعلّ الاقتصار على هذه الثلاثة

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٥.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٥.

٤٠٣

في هذه الآية لأنّ مناط الاستدلال هو التغيّر وهذه متعرّضة لجملة أنواعه. فإنّه إمّا أن يكون في ذات الشيء كتغيّر اللّيل والنهار ، أو جزئه كتغيّر العناصر يتبدّل صورها ، أو الخارج عنه كتغيّر الأفلاك بتبدّل أوضاعها. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ويل لمن قرأها ولم يتفكّر فيها. (١)

[١٩١] (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ)

(يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) ؛ أي : يذكرونه دائما على الحالات كلّها. (قِياماً). قيل : معناه أنّهم يصلّون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم. (وَيَتَفَكَّرُونَ) استدلالا على وجود الصانع واعتبارا. وهو أفضل العبادات ؛ كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا عبادة كالتفكّر. لأنّه المخصوص بالقلب [والمقصود] من الخلق. (رَبَّنا). على إرادة القول. أي : يتفكّرون قائلين ذلك. و (هذا) إشارة إلى المتفكّر فيه ، أي الخلق ، على أنّه أريد به المخلوق من السموات والأرض ، أو إليهما ، لأنّهما في معنى المخلوق. والمعنى : ما خلقته عبثا ضائعا من غير حكمة بل خلقته لحكم عظيمة من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان وسببا لمعاشه ودليلا يدلّ على معرفتك ويحثّه على طاعتك لينال الحياة الأبديّة. (٢)

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً) ـ الآية. روى الشيخ بإسناده إلى أبي عبيدة وابن أبي رافع في كلام يحكيان فيه ذهاب عليّ عليه‌السلام من مكّة إلى المدينة ملتحقا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومعه الفواطم والمستضعفون من المسلمين ، وفيه : ثمّ نزل ضجنان فصلّى ليلته تلك هو والفواطم وأمّه بنت أسد وكانوا يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم فلم يزالوا كذلك حتّى طلع الفجر. وهكذا كانوا يصنعون في كلّ المنازل حتّى قدموا المدينة وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم. (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) إلى قوله : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى). الذكر عليّ عليه‌السلام. والأنثى فاطمة. (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ). يقول : عليّ عليه‌السلام من فاطمة ـ أو قال : الفواطم ـ وهنّ من عليّ

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٥.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٥.

٤٠٤

عليه‌السلام والصلاة. (١)

(سُبْحانَكَ) : تنزيها لك من البعث وخلق الباطل. وهو اعتراض. (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) للإخلال بالنظر فيه والقيام بما يقتضيه. وفائدة الفاء هي الدلالة على أنّ علمهم بما لأجله خلقت السموات والأرض حملهم على الاستعاذة. (٢)

[١٩٢] (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ)

(فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) ؛ أي : أهلكته. (٣)

(وَما لِلظَّالِمِينَ) ؛ أي : المدخلين ـ بفتح الخاء. ووضع المظهر على موضع المضمر ، للدلالة على أنّ ظلمهم سبب لإدخال النار وانقطاع النصرة عنهم في الخلاص منها. ولا يلزم من نفي النصرة ، نفي الشفاعة. لأنّ النصرة دفع بقهر. (٤)

(مِنْ أَنْصارٍ). عن الباقر عليه‌السلام : ما لهم من أئمّة يسمّونهم بأسمائهم. (٥)

(فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) غاية الإخزاء. وفيه إشعار بأنّ العذاب الروحانيّ أفظع. لأنّ الخزي ليس إلّا الهوان والخجل. ويترتّب عليه هنا شماتة الأعداء ، أعني أهل الجنّة ، لأنّهم مشرفون على النار وأهلها.

[١٩٣] (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ)

(سَمِعْنا مُنادِياً). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : هو أمير المؤمنين ؛ نودي من السماء أن آمن بالرسول ، فآمن به. (٦)

(رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً). عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : ربّنا إنّنا سمعنا بالنداء وصدّقنا

__________________

(١) أمالي الطوسيّ ٢ / ٨٤ ـ ٨٦.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٦.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٩١٠.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٦.

(٥) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢١١.

(٦) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢١١.

٤٠٥

المنادي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذ نادى بنداء عنك الذي أمرته به أن يبلّغ ما أنزلت إليه من ولاية وليّ أمرك. (١)

(مُنادِياً). في تنكير المنادي وإطلاقه ثمّ تقييده ، تعظيم لشأنه. والمراد به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل : القرآن. والنداء والدعاء ونحوهما يعدّى بإلى واللّام لتضمّنها معنى الانتهاء والاختصاص. (٢)

(أَنْ آمِنُوا). أن هنا إمّا للتفسير بمعنى أي ، أو مصدريّة أي : بأن آمنوا ، فامتثلنا. (٣)

(فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) ابتداء بلا توبة. (وَكَفِّرْ عَنَّا) إن تبنا. أو إنّ معناه : اغفر لنا ذنوبنا بالتوبة وكفّر عنّا سيّئاتنا باجتناب الكبائر [من] السيّئات. لأنّ الغفران قد يكون ابتداء من غير سبب والتكفير لا يكون إلّا عند فعل من العبد. والأوّل أليق بمذهبنا. (٤)

(ذُنُوبَنا) : كبائرنا. فإنّها ذات تبعة. (سَيِّئاتِنا) : صغائرنا. فإنّها مستقبحة ولكن مكفّرة عن مجتنب الكبائر. (٥)

[١٩٤] (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ)

(ما وَعَدْتَنا) ؛ أي : وعدتنا على تصديق رسلك من الثواب. سأل هذا لا مخافة من إخلاف الوعد بل مخافة أن لا يكون من الموعودين ، لسوء عاقبة أو قصور في الامتثال. ويجوز أن يكون هذا الدعاء تعبّدا واستكانة. ويجوز أن يتعلّق (عَلى) بمحذوف تقديره : منزلا على رسلك أو محمولا عليهم. وقيل : معناه : على ألسنة رسلك. (٦)

(وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) بأن تعصمنا عمّا يقتضيه. (لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) بإثابة المؤمن وإجابة الداعي. وعن ابن عبّاس : الميعاد ، البعث بعد الموت. وتكرير (رَبَّنا) للمبالغة في

__________________

(١) التهذيب ٣ / ١٤٤ ، ح ٣١٧.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٦ ، ومجمع البيان ٢ / ٩١٢.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٩١٢.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٦.

(٦) مجمع البيان ٢ / ٩١٢ ، والكشّاف ١ / ٤٥٥.

٤٠٦

الابتهال والدلالة على استقلال المطالب وعلوّ شأنها. وفي الأثر ـ وهو المرويّ عن الصادق عليه‌السلام ـ : من حزنه أمر فقال خمس مرّات : ربّنا ، أنجاه الله ممّا يخاف. (١)

[١٩٥] (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ)

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) ـ الآية. النزول : روي أنّ أمّ سلمة رضي الله عنها قالت : يا رسول الله ، ما بال الرجال يذكرون في الهجرة دون النساء؟ فأنزل الله هذه الآية. (٢)

(أَنِّي لا أُضِيعُ) ؛ أي : بأنّي. (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ). لأنّ الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر ، أو لأنّهما من أصل واحد ، أو لفرط الاتّصال والاتّحاد ، أو للاجتماع والاتّفاق في الدين. وهي جملة معترضة بيّن بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمّال. (هاجَرُوا) ؛ أي : هاجروا الشرك أو الأوطان والعشائر للدين. (وَأُوذُوا) بسبب إيمانهم بالله ومن أجله. (٣)

(فِي سَبِيلِي). يعني أمير المؤمنين عليه‌السلام وسلمان وأبا ذرّ ـ حين أخرج ـ وعمّار الذين أوذوا في الله. (٤) هكذا روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا) في الجهاد. وقرأ حمزة والكسائيّ : وقتلوا وقاتلوا». لأنّ الواو لا يوجب ترتيبا والثاني أفضل. أو لأنّ المراد لمّا قتل منهم قوم قاتل الباقون ولم يضعفوا. وقرأ ابن كثير وابن عامر : (وَقُتِلُوا) بالتشديد ، للتكثير. (لَأُكَفِّرَنَّ) : لأمحونّها. (٥)

(لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) ؛ يعني : لأمحونّها ولأتفضّلنّ عليهم بعفوي ومغفرتي. وهذا

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٦ ، وجوامع الجامع ١ / ٢٦٨.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٩١٤.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٦.

(٤) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ / ١٢٩.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٦ ـ ١٩٧.

٤٠٧

يدلّ على أنّ إسقاط العذاب تفضّل من الله تعالى. (١)

(ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) ؛ أي : أثيبهم بذلك إثابة من عند الله تفضّلا منه. فهو مصدر مؤكّدة.

(حُسْنُ الثَّوابِ) على الطاعات. (٢)

[١٩٦] (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ)

(لا يَغُرَّنَّكَ). الخطاب للنبيّ عليه‌السلام والمراد أمّته أو تثبيته على ما كان عليه ، أو لكلّ أحد. والمعنى : لا تنظر إلى ما الكفرة عليه من السعة والحظّ. ولا تغترر بظاهر ما ترى من تبسّطهم في مكاسبهم ومتاجرهم ومزارعهم. وروي أنّ بعض المؤمنين كانوا يرون المشركين في رخاء ولين عيش فيقولون : إنّ أعداء الله فيما نرى من الخير وهلكنا من الجوع والجهد! (٣)

[١٩٧] (مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ)

(مَتاعٌ قَلِيلٌ). خبر مبتدأ محذوف. أي : ذلك التقلّب متاع قليل لقصر مدّته أو في جنب ما أعدّ الله للمؤمنين. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليمّ فلينظر بما يرجع. (الْمِهادُ) : ما مهّدوا لأنفسهم. (٤)

[١٩٨] (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ)

(نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ). النزل ـ بالضمّ والسكون ـ : ما يعدّ للنازل من طعام وشراب وصلة. وانتصابه على الحال من (جَنَّاتٌ). والعامل فيها الظرف. وقيل : إنّه مصدر مؤكّد. والتقدير : انزلوها نزلا. (وَما عِنْدَ اللهِ) لكثرته ودوامه (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) ممّا يتقلّب فيه الفجّار ، لقلّته وسرعة زواله. (٥)

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٩١٤.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٧.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٧.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٧.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٧.

٤٠٨

[١٩٩] (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)

(لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) ، لا خوفا من القتل كالمنافقين.

(وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ). نزلت في ابن سلام وأصحابه. وقيل : في أربعين من نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا نصارى فأسلموا. وقيل : في أصحمة ملك الحبشة لمّا نعاه جبرئيل عليه‌السلام إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج فصلّى عليه ، فقال المنافقون : انظروا إلى هذا يصلّي على علج نصرانيّ لم يره قطّ! (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من القرآن. (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من التوراة والإنجيل. (خاشِعِينَ). حال من فاعل يؤمن. وجمعه باعتبار المعنى. (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ) ، كما يفعله المحرّفون من أحبارهم. (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) : ما خصّ بهم من الأجر ووعده في قوله تعالى : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ)(١). (٢)

أقول : مرّة لأجل إيمانهم بكتابهم ، ومرّة لإيمانهم بالقرآن.

(سَرِيعُ الْحِسابِ) لعلمه بالأعمال وما يستوجبه من الجزاء واستغنائه عن التأمّل والاحتياط. والمراد أنّ الأجر الموعود سريع الوصول. فإنّ سرعة الحساب تستدعى سرعة الجزاء. (٣)

[٢٠٠] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)

(اصْبِرُوا) على مشاقّ الطاعات وما يصيبكم من الشدائد. (وَصابِرُوا) : وغالبوا أعداء الله في الصبر على شدائد الحرب ، أو أعدى عدوّكم ـ أي النفس ـ في الصبر على مخالفة

__________________

(١) القصص (٢٨) / ٥٤.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٧.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٧ ـ ١٩٨.

٤٠٩

الهوى. وتخصيصه بعد الأمر بالصبر مطلقا لشدّته. (وَرابِطُوا) أبدانكم وخيولكم في الثغور مترصّدين للغزو ، وأنفسكم على الطاعات. كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة. (١)

عن الباقر عليه‌السلام في قوله تعالى : (اصْبِرُوا) : يعني بذلك عن المعاصي. (وَصابِرُوا). يعني التقيّة. (وَرابِطُوا). يعني الإقامة مع الإمام. (٢)

وعن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : (اصْبِرُوا) يقول : عن المعاصي. (وَصابِرُوا) على الفرائض. (وَاتَّقُوا اللهَ). يقول : أمروا بالمعروف. وانهوا عن المنكر. ثمّ قال : وأيّ منكر أنكر من ظلم الأمّة لنا وقتلهم إيّانا؟ (وَرابِطُوا). يقول : في سبيل الله. ونحن السبيل فيما بين الله وخلقه. ونحن الرباط الأدنى. فمن جاهد عنّا [فقد] جاهد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ). يقول : لعلّ الجنّة توجب لكم إن فعلتم ذلك. [ونظيرها في قول الله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ). (٣)] ولو كانت هذه الآية في المؤذّنين ، كما فسّره المفسّرون ، لفاز القدريّة وأهل البدع معهم. (٤)

(اصْبِرُوا) على طاعة الله وعن معاصيه. وقاتلوا العدوّ. (وَصابِرُوا) على قتالهم في الحقّ ، كما يصبرون على قتالكم في الباطل. والرباط يكون بين اثنين أيضا. يعني [أعدوّا] لهم من الخيل ما يعدّونه لكم. (٥)

(وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) : واتّقوه بالتبرّي عمّا سواه لكي تفلحوا غاية الفلاح. أو : واتّقوا القبائح لعلّكم تفلحون بنيل المقامات الثلاثة المترتّبة التي هي الصبر على مشقّة الطاعات ومصابرة النفس في رفض العادات ومرابطة السرّ على جناب الحقّ لترصّد الواردات المعبّر عنها بالشريعة والطريقة والحقيقة. (٦)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٨.

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢١٣.

(٣) فصّلت (٤١)/ / ٣٣.

(٤) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢١٢.

(٥) مجمع البيان ١ / ٩١٨.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٩.

٤١٠

٤.

سورة النساء

النساء : عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : من قرأها ، فكأنّما تصدّق على كلّ مؤمن ورث ميراثا وأعطي من الأجر كمن اشترى محرّرا ، وبرئ من الشرك وكان في مشيّة الله من الذين [يتجاوز] عنهم. (١)

وعن عليّ عليه‌السلام : من قرأها في كلّ جمعة ، أمن من ضغطة القبر. (٢)

الخواصّ : من دفن شيئا أو ضاع عنه ، فليكتب منها : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ)(٣) ـ الآية ـ في إناء جديد ويمحاه بماء المطر ويرشّه في المكان الذي فيه المدفون ، يظفر به إن شاء الله. (٤)

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ * يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)

(وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها). عطف على (خَلَقَكُمْ). أي : خلقكم من شخص واحد وخلق منها أمّكم حوّاء من ضلع من أضلاعها. (٥)

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ حوّاء خلقت من الطينة التي فضلت من ضلعه الأيسر. (٦) وهو ممّا

__________________

(١) مصباح الكفعميّ / ٥٨١.

(٢) مصباح الكفعميّ / ٥٨١ ، ثواب الأعمال / ١٣٣.

(٣) النساء (٤) / ٥٨.

(٤) مصباح الكفعميّ / ٦٠٥.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٩.

(٦) علل الشرائع / ٤٧١.

٤١١

يجمع به بين الأخبار المتعارضة الدالّ بعضها على أنّها من ضلعه وبعضها على أنّها لم تخلق منه. فتأمّل.

(نَفْسٍ واحِدَةٍ). يعني آدم عليه‌السلام. (١)

(وَبَثَّ مِنْهُما). بيان لكيفيّة تولّدهم منهما. والمعنى : ونشر من تلك النفس والزوج المخلوقة منها بنين وبنات كثيرة. واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء بها ، إذ الحكمة تقتضي أن يكنّ أكثر. وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصّة ، لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقّها أن تخشى والنعمة الباهرة التي توجب طاعة مولاها. (الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ) ؛ أي : يسأل بعضكم بعضا فيقول : أسألك بالله. وأصله : تتساءلون ، فأدغمت التاء الثانية في السين. وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ بطرحها. (وَالْأَرْحامَ). بالنصب عطف على محلّ الجارّ والمجرور أو على الله. أي : اتّقوا الله واتّقوا الأرحام فصلوها ولا تقطعوها. وقرأ حمزة بالجرّ عطفا على ضمير المجرور. وهو ضعيف. لأنّه كبعض الكلمة. وقرئ بالرفع على أنّه مبتدأ محذوف الخبر تقديره : والأرحام كذلك ؛ أي : ممّا يتّقى أو يتساءل [به]. وقد نبّه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه على أنّ صلتها بمكان منه. (رَقِيباً) : حافظا مطّلعا. (٢)

[٢] (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً)

(الْيَتامى). أي إذا بلغوا. (لا تَتَبَدَّلُوا) : لا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم ، أو الأمر الخبيث ـ وهو اختزال أموالهم ـ بالأمر الطيّب الذي هو حفظها. وقيل : لا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتعطوا الخسيس مكانها. وهذا تبديل وليس بتبدّل. (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ) ؛ أي : ولا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم. أي : لا تنفقوهما معا ولا تسوّوا

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٩٩.

٤١٢

بينهما وهذا حلال وذاك حرام. وهو فيما زاد على قدر الأجرة ؛ لقوله تعالى : (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ)(١). (٢)

(الْيَتامى). سمّاهم يتامى عند دفع المال مجازا لقرب عهدهم باليتم.

[٣] (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا)

(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا) ؛ أي : إن خفتم ألّا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوّجتم بهنّ ، فتزوّجوا ما طاب من غيرهنّ. إذ كان الرجل يجد يتيمة ذات مال وجمال فيتزوّجها ضنّا بها فربّما يجتمع عنده منهنّ عدد ولا يقدر على القيام بحقوقهنّ. أو : إن خفتم [أن لا تعدلوا في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها ، فخافوا أيضا] أن لا تعدلوا بين النساء وانكحوا مقدارا يمكنكم الوفاء بحقّه. لأنّ المتحرّج من الذنب ينبغي أن يتحرّج من الذنوب كلّها ؛ على ما روي : انّه تعالى لمّا عظّم أمر اليتامى ، تحرّجوا من ولايتهم ، وما كانوا يتحرّجون من تكثير النساء وإضاعتهنّ ، فنزلت. وقيل : كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى ولا يتحرّجون من الزنى ، فقيل : إن خفتم أن لا تعدلوا في أمر اليتامى ، فخافوا الزنى فانكحوا ما حلّ لكم. وإنّما عبّر عنهنّ بما ذهابا إلى الصفة ، أو إجراء لهنّ مجرى غير العقلاء لنقصان عقلهنّ. (مَثْنى). معدولة عن أعداد مكرّرة منصوبة على الحال من فاعل طاب. ومعناها الإذن لكلّ ناكح يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور. (أَلَّا تَعْدِلُوا) بين هذه الأعداد أيضا ، (فَواحِدَةً) ؛ أي : فانكحوا واحدة. (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ). سوّى بين الواحدة من الأزواج والعدد من السراريّ لخفّة مؤونتهنّ وعدم وجوب القسم بينهنّ. (ذلِكَ) ؛ أي : التقليل منهنّ ، أو اختيار الواحدة ، أو التسرّي أدنى أن لا تعولوا» أقرب من أن لا تميلوا. وفسّر بأن

__________________

(١) النساء (٤) / ٦.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٠٠.

٤١٣

لا تكثر عيالكم ، فعبّر عن كثرة العيال بكثرة المؤن على الكناية ولعلّ المراد بالعيال الأزواج. وإن أريد الأولاد ، فلأنّ التسرّي مظنّة قلّة الولد بالإضافة إلى التزوّج لجواز العزل فيه كتزوّج الواحدة بالنسبة إلى تزوّج الأربع. (١)

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام لبعض الزنادقة : وأمّا ظهورك على تناكر قوله : (وَإِنْ خِفْتُمْ) ـ الآية ـ وليس يشبه القسط في اليتامى نكاح النساء ولا كلّ النساء يتامى ، فهو ممّا قدّمت ذكره من إسقاط المنافقين من القرآن. وبين القول في اليتامى وبين نكاح النساء من الخطاب والقصص أكثر من ثلث القرآن. هذا وما أشبهه ممّا ظهرت حوادث المنافقين فيه لأهل النظر والتأمّل. (٢)

(فَواحِدَةً). قرأ أبو جعفر بالرفع. (٣)

[٤] (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً)

(صَدُقاتِهِنَّ) ؛ أي : مهورهنّ. (نِحْلَةً) ؛ أي : عطيّة. يقال : نحله كذا نحلة ، إذا أعطاه إيّاه عن طيب نفس بلا توقّع عوض. ونصبها على المصدر ، لأنّها في معنى الإيتاء ، أو الحال من الواو أو الصدقات. أي : آتوهنّ صدقاتهنّ ناحلين أو منحولة. وقيل : المعنى : نحلة من الله وتفضّلا منه عليهنّ. فيكون حالا من الصدقات. (٤)

(عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ). الضمير للصداق. والمعنى : فإن وهبن لكم من الصداق عن طيب نفس. وعدّاه بعن لتضمين معنى التجاوز. وقال : (مِنْهُ) بعثا لهنّ على تقليل الموهوب. (فَكُلُوهُ) ؛ أي : فأنفقوه حلالا بلا تبعة. وهو حال من الضمير. والهنيء : ما يلذّه الإنسان. والمريء : ما تحمد عاقبته. روي أنّ أناسا كانوا يتأثّمون أن يقبل أحدهم من زوجته [شيئا]

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٠٠.

(٢) الاحتجاج ١ / ٣٧٧ ـ ٣٧٨.

(٣) مجمع البيان ٣ / ٨.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٠١.

٤١٤

ممّا ساق إليها ، فنزلت. (١)

لوجع البطن ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أن تستوهب من امرأتك شيئا وتشتري به عسلا وتسكب عليه ماء السماء وتشربه. لقوله في العسل : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ). (٢) ويقول : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً). (٣) وقال هنا : (هَنِيئاً مَرِيئاً). (٤)

[٥] (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ). عن الباقر عليه‌السلام : اليتامى ؛ لا تعطوهم أموالهم حتّى تعرفوا منهم الرشد. قلت : فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ فقال : إذا كنت أنت الوارث لهم. (٥)

عن الصادق عليه‌السلام أنّ منهم النساء وشارب الخمر. (٦)

(وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ). نهي للأولياء أن يؤتوا الذين لا رشد لهم أموالهم فيضيعوها. وإنّما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنّها تحت ولايتهم. وهو الملائم للآيات المتقدّمة والمتأخّرة. وقيل : نهي لكلّ أحد أن يعمد إلى ما خوّله الله من المال فيعطي امرأته وأولاده ثمّ ينظر إلى أيديهم. وسمّاهم سفهاء لنقصان عقولهم. (٧)

(قِياماً) ؛ أي : تقومون بها وتتعيّشون. أو : بها قوام معاشكم. وعلى الأوّل يراد بها من جنس ما يقيم الناس به معايشهم ؛ كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ). (٨) وهذا هو الأرجح. وفي إطلاق القيام على ما به القيام مبالغة. لأنّهم لو ضيّعوها ضاعوا ، فكأنّها في نفسها قيامهم. (وَارْزُقُوهُمْ فِيها) أي : اجعلوها مكانا لرزقهم وكسوتهم. وذلك بأن يتجروا فيها ويحصلوا من نفعها ما يحتاجون إليه في أمر المعاش. ولعلّ الوجه في التعبير بفيها دون منها الإشارة إلى

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٠١.

(٢) النحل (١٦) / ٦٩.

(٣) ق (٥٠) / ٩.

(٤) مجمع البيان ٣ / ١٢.

(٥) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢٢٠.

(٦) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢٢٠ ، وقرب الإسناد / ١٣١.

(٧) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٠١.

(٨) النساء (٤) / ٢٩.

٤١٥

أنّه لا ينبغي أن يأكلها الإنفاق. (قَوْلاً مَعْرُوفاً) ؛ أي : عدة جميلة تطيب بها نفوسهم ؛ مثل : إن صلحتم ورشدتم ، سلّمنا إليكم أموالكم. (١)

(قِياماً). نافع وابن عامر : «قيما» بغير ألف بمعنى قياما. (٢)

[٦] (وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً)

(وَابْتَلُوا الْيَتامى) ـ الآية ـ أي : اختبروهم بتتبّع أحوالهم في التهدّي إلى ضبط المال والسلامة من صرفه في غير وجهه بأن يكل إليه ما ينصرف فيه بما يناسب حاله. ولا يكفي المرّة الواحدة ، بل لا بدّ من التكرار بحيث يحصل معها عليه الظنّ برشده. (حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ) ؛ أي : وصلوا حدّ البلوغ. وبلوغ النكاح كناية عنه. لأنّه يصلح للنكاح عنده. وله أسباب ؛ منها الإنبات والاحتلام. ولا خلاف عندنا في البلوغ بهما للذكر والأنثى. وأمّا السنّ ، فهو عندنا في الرجل خمسة عشر سنة وفي الأنثى تسع. وسوّى الشافعيّ بينهما في السنّ بأنّه بلوغ خمسة عشر. وبعض أصحابنا على ثبوت البلوغ بأربع عشرة سنة تعويلا على خبر ضعيف وقابل للتأويل. وفي الآية دلالة على أنّ الابتلاء قبل البلوغ لأنّه تعالى سمّاهم يتامى ، ولأنّه جعل نهاية اختبارهم البلوغ بلفظ (حَتَّى) فدلّ على أنّ الاختبار قبله ، ولأنّ تأخير الاختبار إلى ما بعد البلوغ يؤدّي إلى الحجر على البالغ الرشيد حتّى يختبر ، كما دلّ عليه قوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ) ؛ أي : أبصرتم (مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) من غير تأخير. وذهب بعضهم إلى أنّ الاختبار بعد البلوغ. وقد يستدلّ بالآية على أنّ تصرّفات الصبيّ العاقل المميّز بإذن الوليّ صحيحة ، لأنّ الابتلاء المأمور به قبل البلوغ وهو

__________________

(١) مسالك الأفهام ٣ / ١٤٢.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٠١ ، ومجمع البيان ٣ / ١٣.

٤١٦

إنّما يحصل إذا أذن له الوليّ في البيع والشراء ونحوهما ليحصل الغرض. واعتبر الشيخ في الرشد هنا العدالة ، نظرا إلى أنّ الفاسق موصوف بالغيّ لا بالرشد. قال الله تعالى : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)(١) ، مع أنّه كان يراعي المصلحة الدنيويّة. وفيه نظر. فإنّ الفاسق يوصف بالغىّ في دينه والرشد في ماله. (بَلَغُوا النِّكاحَ). ذهب أبو حنيفة إلى أنّ بلوغ الرجل بثمانية عشر سنة والمرأة سبعة عشر سنة. (وَلا تَأْكُلُوها). نهى عن أكل مال اليتيم. (إِسْرافاً وَبِداراً). مصدران في موضع الحال عن الفاعل. أي : لا تأكلوها لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون ننفق كما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينزعوها من أيدينا. ويحتمل أن يراد بالإسراف هنا زيادة على المعروف الذي يجوز أكله بالآية. (فَلْيَسْتَعْفِفْ) من أكل مال اليتيم. واختلف أصحابنا في كون الأمر للوجوب فلا يجوز له أكل ماله لوجوبه ، أو على الاستحباب ويدلّ عليه لفظ الاستضعاف. وعلى الأوّل فإنّما هو فيمن يكون المال بيده أو صار وصيّا باختياره ، أمّا غيره ـ كمنصوب الحاكم ـ فالظاهر أنّه يجوز له أخذ أجرة المثل وإن كان غنيّا ويجوز للحاكم أن يجعل له جعلا ، فيكون إطلاق الآية مقيّدا بالوصف المتبرّع دون من استأجره الحاكم. وهل [المراد] الغنيّ في العرف أو في الشرع وهو من كان عنده قوت سنته؟ كلّ محتمل. (فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) : قدر كفايته من غير زيادة ، أو على قدر عمله الذي هو حفظ الأموال والأولاد إن كان زائدا عمّا يحتاج إليه من قدر الكفاية وسدّ الخلّة ، أو أقلّ الأمرين من أجرة المثل وقدر الكفاية. وهو الأولى فيما لو كان عمله ممّا له أجرة. لأنّه عمل يستحقّ عليه الأجرة وكان لعامله المطالبة بها. والمأمور بالأكل هو الوصيّ عن الميّت أو من جعله الحاكم وصيّا وقيّما ، فليأكل من غير ردّ على اليتيم بعد الغنى ؛ كما هو المشهور. وقيل : يلزمه عوضه. لأنّه استباحه للحاجة فكان قرضا في ذمّته إن أيسر قضاه ، وإن مات ولم يقدر على قضائه ، فلا شيء في ذمّته ، كالمضطرّ إلى طعام غيره. وبه رواية ، لكنّها مؤوّلة. (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ). فإنّ ذلك أبعد من التهمة وأنفى

__________________

(١) هود (١١) / ٩٧.

٤١٧

للخصومة. ومقتضى الأمر الوجوب. وقيل : إنّه محمول على الاستحباب أو للإرشاد. (حَسِيباً) ؛ أي : محاسبا وشاهدا على دفع المال إلى اليتيم. (١)

(وَابْتَلُوا الْيَتامى) ـ الآية ـ وفي الآية دلالة على ثبوت الحجر بمجرّد حصول السفه من غير حاجة إلى حكم الحاكم ؛ كما قاله الأكثر من علمائنا. لكنّهم قيّدوه بما إذا كان السفه متّصلا بالبلوغ ، أمّا إذا بلغ رشيدا ثمّ صار سفيها ، كان الحجر عليه موقوفا على حكم الحاكم.

(فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ). عن الباقر عليه‌السلام أنّها منسوخة. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : المعروف هو القوت. وعن الباقر عليه‌السلام : ذلك إذا يحبس نفسه في أموالهم فلا يحترث لنفسه ، فليأكل من مالهم. (٢)

[٧] (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً)

(لِلرِّجالِ نَصِيبٌ) ـ الآية ـ يعني : لكلّ من الرجال والنساء حصّة من الميراث. والمراد أنّ ذلك ثابت مع الاستواء في القرابة والدرجة. (مِمَّا قَلَّ). بدل من قوله : (مِمَّا تَرَكَ) بإعادة العامل. (نَصِيباً مَفْرُوضاً). منصوب على أنّه مصدر مؤكّد لمضمون ما تقدّم أو على الاختصاص بتقدير أعني والمعنى أنّ الإرث بالنسب ثابت من الله فرضا مقطوعا من غير اختيار للوارث. نزلت لنفي ما كان الجاهليّة عليه من عدم تورّث النساء والأطفال. (٣)

[٨] (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً)

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) ـ الآية. عن الصادق عليه‌السلام : نسختها آية الفرائض. (٤)

(وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) ؛ أي : قسمة التركة قرابة الميّت ممّن لا يرث. (وَالْيَتامى وَ

__________________

(١) مسالك الأفهام ٣ / ١٢٨ ـ ١٣٦.

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢٢٢.

(٣) مسالك الأفهام ٤ / ١٦٦.

(٤) تفسير العيّاشيّ ١ / ٢٢٢.

٤١٨

الْمَساكِينُ). قيّدهم في مجمع البيان بالأقارب. (فَارْزُقُوهُمْ). أمروا بأن يرزقوا المذكورين شيئا من الإرث تطييبا لقلوبهم وتصدّقا عليهم. وقد اختلف في هذا الأمر هل هو للوجوب أو الندب. قيل بالأوّل ونسخ بآية المواريث. ونقل الطبرسيّ من أكثر المفسّرين والفقهاء أنّها غير منسوخة. قال : وهو المرويّ عن الباقر عليه‌السلام. ويمكن حملها على الندب ، فلا وجه لنسخها حينئذ ولأنّ الظاهر أنّه لا قائل بالوجوب. (قَوْلاً مَعْرُوفاً) بأن يدعو لهم بالرزق من الله. (١)

[٩] (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً)

(وَلْيَخْشَ الَّذِينَ) ـ الآية. أمر للأوصياء بأن يخشوا الله ويتّقوه في أمر اليتامى فيفعلوا بهم ما يحبّون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم ، أو للحاضرين المريض عند الإيصاء بأن يخشوا ربّهم أو يخشوا على أولاد المريض ويشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم فلا يتركوه أن يضرّ بهم بصرف المال عنهم ، أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب واليتامى والمساكين متصوّرين أنّهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم هل يجوز حرمانهم ، أو للموصين بأن ينظروا للورثة فلا يسرفوا في الوصيّة. ولو بما في حيّزه جعل صلة للّذين على معنى : وليخش الذين حالهم وصفتهم أنّهم لو شارفوا أن يخلّفوا ذرّيّة ضعافا خافوا عليهم الضياع. وفي ترتيب الأمر عليه إشارة إلى المقصود منه والعلّة فيه ، وبعث على الترحّم وأن يحبّ لأولاد غيره ما يحبّ لأولاده ، وتهديد للمخالف بحال أولاده. (فَلْيَتَّقُوا اللهَ). أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدأ والمنتهى ، إذ لا ينفع الأوّل دون الثاني ، ثمّ أمرهم أن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم بالشفقة وحسن الأدب ، أو للمريض ما يصدّه عن الإسراف في الوصيّة وتضييع

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ / ١٨٧ ـ ١٨٨.

٤١٩

الورثة ويذكّره التوبة وكلمة الشهادة ، أو أن يقولوا في الوصيّة ما لا يؤدّي إلى مجاوزة الثلث وتضييع الورثة ، أو أن يقولوا لحاضري القسمة عذرا جميلا ووعدا حسنا. (١)

[١٠] (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)

عن الصادق عليه‌السلام : لمّا نزلت (إِنَّ الَّذِينَ) ـ الآية ـ أخرج كلّ من كان عنده يتيم وسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في إخراجهم ، فأنزل الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) ـ الآية. (٢)

عن الصادق عليه‌السلام : انّ الله عزوجل أوعد في أكل مال اليتيم عقوبتين. أمّا أحدهما فعقوبة الآخرة بالنار. وأمّا عقوبة الدنيا فهو قوله : (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ) ـ الآية. يعني بذلك ليخش أن أخلفه في ذرّيّته كما صنع بهؤلاء اليتامى. (٣)

(ناراً). عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لمّا أسري بي إلى السماء ، رأيت قوما تقذف في أجوافهم النار وتخرج من أدبارهم. فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال : هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما. (٤)

(وَسَيَصْلَوْنَ). قرأ ابن عامر بضمّ الياء. (٥)

(وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) ؛ أي : يلزمون النار ويقاسون حرّها. وهاهنا نكتة ؛ وهي : انّه تعالى أوعد مانع الزكاة الكيّ وآكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار. وهذا الوعيد أشدّ. والسبب فيه أنّ الفقير غير مالك لجزء من النصاب حتّى يملّكه المالك [واليتيم مالك] لماله ، ولأنّ الفقير قادر على التكسّب من وجه آخر ولا هكذا اليتيم ؛ فإنّه عاجز وكان ضعفه أظهر. (٦)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٠٢ ـ ٢٠٣.

(٢) تفسير القمّيّ ١ / ٧٢.

(٣) ثواب الأعمال ١ / ٢٧٧.

(٤) تفسير القمّيّ ١ / ١٣٢.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٢٠٣.

(٦) مسالك الأفهام ٣ / ١٤٠.

٤٢٠