عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-26-5
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦٣

المؤنّث. (إِسْرائِيلَ) ؛ أي : يعقوب. (عَلى نَفْسِهِ) كلحوم الإبل وألبانها. قيل : كان [به] عرق النسا. فنذر إن شفي ، لم يأكل أحبّ الطعام إليه [وكان] ذلك أحبّه إليه. وقيل : فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطبّاء. واحتجّ به من جوّز للنبيّ أن يجتهد. وللمانع أن يقول : ذلك بإذن من الله. فهو كتحريمه ابتداء. (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) ؛ أي : من قبل إنزالها مشتملة على تحريم ما حرّم عليهم لظلمهم وبغيهم عقوبة وتشديدا. وذلك ردّ على اليهود في دعوى البراءة ممّا نعى عليهم في قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ)(١) وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ)(٢) ـ الآيتان ـ بأن قالوا : لسنا بأوّل من حرّمت عليه. وإنّما كانت محرّمة على نوح وإبراهيم ومن بعده حتّى انتهى الأمر إلينا ، فحرّمت [علينا] كما حرّمت على من قبلنا. وفي منع النسخ والطعن في دعوى الرسول موافقة إبراهيم بتحليله لحوم الإبل وألبانها. (٣)

قال : كان يعقوب يصيبه عرق النسا ، فحرّم على نفسه لحم الجمل. وذلك قبل أنّ تنزّل التوراة. فقالت اليهود : إنّ الجمل محرّم في التوراة. فقال الله : فقل : فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين. إنّما حرّم هذا إسرائيل على نفسه ولم يحرّمه على الناس. (٤)

[٩٤] (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

(فَاتْلُوها). أمر بأن يحاجّهم بكتابهم ويبكّتهم بما هو ناطق به من أنّ تحريم ما حرّم عليهم تحريم حادث بسبب ظلمهم وبغيهم لا تحريم قديم كما يدّعونه. فروي أنّهم لم يجسروا على إخراج التوراة وبهتوا وانقلبوا صاغرين. وفي ذلك الحجّة البيّنة على صدق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعلى جواز النسخ الذي ينكرونه. (٥)

(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) : ابتدعه على الله بزعمه أنّه حرّم ذلك قبل نزول التوراة

__________________

(١) النساء (٤) / ١٦٠.

(٢) الأنعام (٦) / ١٤٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧٠.

(٤) تفسير القمّيّ ١ / ١٠٧ ـ ١٠٨.

(٥) الكشّاف ١ / ٣٨٦.

٣٤١

على بني إسرائيل ومن قبلهم. (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ؛ أي : من بعد ما ألزمهم الحجّة. (هُمُ الظَّالِمُونَ) الذين لا ينصفون من أنفسهم ويكابرون الحقّ بعد ما وضح. (١)

[٩٥] (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥))

(قُلْ صَدَقَ اللهُ). تعريض بتكذيبهم. أي : ثبت أنّ الله صادق فيما أنزل وأنتم الكاذبون. (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) ؛ أي : ملّة الإسلام التي هي في الأصل ملّة إبراهيم. أو : مثل ملّة إبراهيم ، حتّى تتخلّصوا من اليهوديّة التي اضطرّتكم إلى التحريف والمكابرة لتسوية الأغراض الدنيويّة وألزمتكم تحريم طيّبات أحلّها لإبراهيم ومن تبعه. (الْمُشْرِكِينَ). إشارة إلى وجوب اتّباعه في التوحيد الصرف لا كما يقولون عزير ابن الله والمسيح ابن الله والاستقامة في الدين والتجنّب عن الإفراط والتفريط ، وتعريض بشرك اليهود. (٢)

[٩٦] (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦))

(وُضِعَ لِلنَّاسِ) ؛ أي : وضع للعبادة. والواضع هو الله. (لَلَّذِي بِبَكَّةَ). وهي لغة في مكّة. وقيل : هي موضع المسجد. وبكّة البلد من بكّه إذا زحمه ، أو من بكّه إذا دقّه ، فإنّها تبكّ أعناق الجبابرة. روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله سئل عن أوّل بيت وضع للناس ، فقال : المسجد الحرام ، ثمّ بيت المقدس وبينهما أربعون سنة. وقيل : أوّل من بناه إبراهيم. ثمّ هدم فبناه قوم من جرهم ، ثمّ العمالقة ، ثمّ قريش. وقيل : هو أوّل بيت بناه آدم. فانطمس في الطوفان. ثمّ بناه إبراهيم. وقيل : كان في موضعه قبل آدم بيت يقال له الصراخ (٣) ويطوف به الملائكة. فلمّا أهبط [آدم] أمر بأن يحجّه ويطوف حوله. ورفع في الطوفان إلى السماء الرابعة ويطوف به ملائكة السموات. وهو لا يلائم ظاهر الآية. لأنّها تدلّ على أنّه وضع لعبادة الناس. وقيل : إنّه أوّل بيت بالشرف لا بالزمان. (٤)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧٠.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧١.

(٣) المصدر : الضراح.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧١.

٣٤٢

(وُضِعَ لِلنَّاسِ) ؛ أي : بني لهم ولم يكن قبله بيت مبنيّ. (لَلَّذِي بِبَكَّةَ). كان قبل هذا البيت درّة بيضاء فرفعه الله إلى السماء وبقي أسّه فأمر الله إبراهيم وإسماعيل ببنيان البيت على القواعد. (١)

عن الصادق عليه‌السلام قيل له : لم سمّيت بكّة؟ قال : لبكاء الناس حولها. (٢) وفيها عن الباقر عليه‌السلام : لأنّه يبكّ بها الرجال والنساء والمرأة تصلّي بين يديك وعن يمينك وعن شمالك ـ الحديث. (٣)

وعن أبي جعفر عليه‌السلام : لمّا أراد الله أن يخلق الأرض ، أمر الرياح فضربت وجه الماء حتّى صار موجا ، ثمّ أزبد فصار زبدا واحدا ، فجمعه في موضع البيت ثمّ جعله جبلا من زبد ، ثمّ دحا الأرض من تحته. وهو قول الله تعالى : (أَوَّلَ بَيْتٍ.) ـ الآية. (٤)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : مكّة جملة القرية. وبكّة جملة موضع الحجر الذي يبكّ الناس بعضهم بعضا. (٥)

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ بكّة موضع البيت. وإنّ مكّة الحرم. (٦)

[٩٧] (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))

عن الصادق عليه‌السلام : الآيات مقام إبراهيم ـ حيث قام على الحجر فأثّرت فيه قدماه ـ والحجر الأسود ومنزل إسماعيل عليه‌السلام. (٧)

(مَقامُ إِبْراهِيمَ). عطف بيان لقوله : (آياتٌ). جعل وحده بمنزلة آيات لظهور شأنه وقوّة دلالته على قدرة الله ونبوّة إبراهيم ، من تأثير قدمه في حجر صلد. كقوله تعالى : (إِنَ

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٧٩٧.

(٢) علل الشرائع / ٣٩٧.

(٣) علل الشرائع / ٣٩٧.

(٤) الكافي ٤ / ١٨٩.

(٥) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٨٧.

(٦) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٨٧.

(٧) الكافي ٤ / ٢٢٣.

٣٤٣

إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً). (١) أو لأنّه مشتمل على آيات. لأنّ أثر القدم في الصخرة الصمّاء آية ، وغوصه فيها إلى الكعبين آية ، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية ، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء آية لإبراهيم ، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وغيرهم ألوف سنة آية. ويجوز أن يراد : فيه آيات بيّنات ؛ مقام إبراهيم ، وأمن من دخله. لأنّ الاثنين نوع من الجمع ويجوز أن تذكرهاتان الآيتان ويطوى ذكر غيرهما دلالة على تكاثر الآيات. (٢)

عن الصادق عليه‌السلام : (وَمَنْ دَخَلَهُ) ؛ أي : من دخل مع القائم عليه‌السلام ومسح على يده ودخل في عقد أصحابه ، كان آمنا. (٣)

وعن الباقر عليه‌السلام : من دخله وهو عارف بحقّنا ، خرج من ذنوبه وكفي همّ الدنيا والآخرة. (٤)

وعن الصادق عليه‌السلام : إذا أحدث العبد في غير الحرم جناية ، ثمّ دخل الحرم ، لم يسغ لأحد أن يأخذه في الحرم ، ولكن لا يبايع ولا يطعم ولا يسقى ولا يكلّم. فإنّه إذا فعل ذلك [به] يوشك أن يخرج فيؤخذ. وإذا جنى في الحرم ، أقيم عليه الحدّ. (٥)

(وَمَنْ دَخَلَهُ) ؛ أي : الحرم. قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر : «حج» بكسر الحاء. (٦)

(حِجُّ). مصدر على القراءتين. (ع)

(مَنِ اسْتَطاعَ). بدل من الناس مخصّص له. (٧)

عن الصادق عليه‌السلام : الزاد والراحلة مع صحّة البدن وأن يكون للإنسان ما يخلّفه على عياله وما يرجع إليه من بعد حجّه. (٨)

(وَمَنْ كَفَرَ) ؛ أي : من جحد فرض الحجّ ولم يره واجبا. أو المراد به اليهود. فإنّهم قالوا : نحن مسلمون ، فأمروا بالحجّ ، فلم يحجّوا. فعلى هذا معناه : من كفر من هؤلاء اليهود ، فهو

__________________

(١) النحل (١٦) / ١٢٠.

(٢) الكشّاف ١ / ٣٨٧ ـ ٣٨٨.

(٣) علل الشرائع / ٨٩١.

(٤) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٨٨ ، ح ١٠٠.

(٥) الكافي ٤ / ٢٢٦.

(٦) مجمع البيان ٢ / ٧٩٦ ـ ٧٩٩.

(٧) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧١.

(٨) الخصال / ٦٠٦.

٣٤٤

كافر. لأنّهم قالوا لمّا أمروا بالحجّ : الحجّ غير واجب. (١)

(مَنْ كَفَرَ). قيل للكاظم عليه‌السلام : من لم يحجّ منّا ، فقد كفر؟ قال : لا ، ولكن من قال ليس هذا هكذا ، فقد كفر. (٢)

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قيل له : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ) أهو في الحجّ؟ قال : نعم ؛ هو كفر النعم.

وقال : من ترك ، في خبر آخر. (٣)

[٩٨] (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ)

(شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) ؛ أي : حفيظ على أعمالكم. (٤)

[٩٩] (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)

«لم تصدون الناس» عن الدخول في دين الإسلام بقولكم انّ صفة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ليست في كتبكم. (٥)

(عِوَجاً). حال من الواو. أي : باغين طالبين لها اعوجاجا ، بأن تلبسوا على الناس وتوهّموا أنّ فيه عوجا عن الحقّ يمنع النسخ وتغيير صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بأن تحرّشوا بين المؤمنين لتختلف كلمتهم. (٦)

(عِوَجاً) ؛ أي : تطلبون بسبيل الله عوجا عن سمت الحقّ وهو الضلال. (شُهَداءُ). أي بتقديم البشارة بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في كتبكم. فكيف تصدّون عنه من يطلبه؟ والمراد : وأنتم عقلاء. (٧)

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٧٩٩.

(٢) الكافي ٤ / ٢٦٥.

(٣) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٩٣.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٨٠١.

(٥) مجمع البيان ٢ / ٨٠١.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧٢.

(٧) مجمع البيان ٢ / ٨٠١.

٣٤٥

[١٠٠] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). نزلت في الأوس والخزرج لمّا أغرى قوم من اليهود بينهم [بذكر] حروبهم في الجاهليّة ليفتنوهم عن دينهم. وقد حذّر سبحانه المؤمنين عن قبول قولهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). خطاب للأوس والخزرج ويدخل غيرهم من المؤمنين في عموم اللّفظ. (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ؛ أي : اليهود ، في قبول قولهم وإحياء الضغائن التي كانت بينكم في الجاهليّة. (١)

[١٠١] (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

وقيل : نزل قوله : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) في مشركي العرب. (٢)

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ). استبعاد أن يقع منهم الكفر مع معرفتهم بآيات الله. (رَسُولُهُ). يعني محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ترون معجزاته. فيكون خطابا للّذين يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أظهرهم. ويجوز أن يكون المراد جميع أمّته. لأنّ آثاره وعلاماته من القرآن وغيره فينا قائمة باقية وذلك بمنزلة وجوده فينا حيّا. (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) ؛ أي : يتمسّك بآياته وكتابه ودينه. (صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : طريق واضح. (٣)

[١٠٢] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

(اتَّقُوا اللهَ) : احترسوا وامتنعوا بالطاعة من عذاب الله. (حَقَّ تُقاتِهِ). أي يطاع فلا يعصى ويشكر فلا يكفر ويذكر فلا ينسى. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام. وقيل : إنّه المجاهدة في الله وأن لا تأخذه فيه لومة لائم وأن يقام له بالقسط في الخوف والأمن. ثمّ قيل :

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٨٠٢.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٨٠٢.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٨٠٤.

٣٤٦

إنّه على هذا منسوخ بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ). (١) وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ؛ أي : لا تتركوا الإسلام وكونوا عليه حتّى إذا ورد عليكم الموت صادفكم عليه. (٢)

(وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). عن أبي الحسن عليه‌السلام : سبحان الله! يوقع عليهم الإيمان فيسمّيهم مؤمنين ، ثمّ يسألهم الإسلام؟ والإيمان فوق الإسلام. قلت : هكذا في قراءة زيد. قال : إنّما هي في قراءة عليّ عليه‌السلام : «مسلمون» ـ بالتشديد ـ لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ الإمام من بعده. (٣)

[١٠٣] (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)

(بِحَبْلِ اللهِ) : القرآن والإمام ، يهدي كلّ منهما الخلق إلى الآخر. (نِعْمَتَ اللهِ) : الإسلام والائتلاف. (شَفا حُفْرَةٍ) ؛ أي : على طرف حفرة من جهنّم ولم يكن بينكم وبينها إلّا الموت. (فَأَنْقَذَكُمْ) بأن أرسل رسولا هداكم للإيمان ودعاكم إليه فنجوتم من النار. (كَذلِكَ) ؛ أي : مثل البيان الذي تلا عليكم. (٤)

[١٠٤] (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ). من هنا للتبعيض ، على قول أكثر المفسّرين. لأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات. ومن قال هما من فروض الأعيان ، قال : إنّ من هنا للتبيين ولتخصيص المخاطبين من بين سائر الأجناس. (٥)

__________________

(١) التغابن (٦٤) / ١٦.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٨٠٤ ـ ٨٠٥.

(٣) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٨٠٥ ـ ٨٠٦.

(٥) مجمع البيان ٢ / ٨٠٦.

٣٤٧

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ) ـ الآية. المراد بالمنكر القبيح ، أعني الحرام. والمراد بالمعروف الذي يذكر في مقابله الفعل الحسن المشتمل على رجحان. فيختصّ بالواجب والمندوب ويخرج المباح والمكروه وإن كانا داخلين في الحسن. ويطلق المعروف على الواجب فقطّ. وقد اختلف أصحابنا في أنّ وجوبهما هل هو عينيّ أو كفائيّ. الشيخ والمحقّق وجماعة على الأوّل. والمرتضى وأبو الصلاح وطائفة على الثاني ، وقد استدلّوا عليه بهذه الآية. ويخطر بالبال أنّها تدلّ على عدم وجوبهما على واحد من آحاد الأمّة. وهو كذلك. لأنّه ليس كلّ منهم مستجمعا لشرائط الوجوب. ولا تدلّ على أنّهما يسقطان عن المستجمعين لشرائط الوجوب بقيام البعض منهم قبل ترتّب الأثر والنزاع ليس إلّا في هذا. وسقوطهما عن غير مستجمع الشرائط لا يقتضي الوجوب الكفائيّ كما في الحجّ. (١)

(أُمَّةٌ). عن الباقر عليه‌السلام : هذه الآية لآل محمّد عليهم‌السلام ومن تابعهم ، يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. (٢)

[١٠٥] (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)

(وَلا تَكُونُوا). الأظهر أنّ النهي فيه مخصوص بالتفرّق في الأصول دون الفروع. لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : اختلاف أمّتي رحمة. ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من اجتهد فأصاب ، فله أجران. ومن أخطأ ، فله أجر واحد. (٣)

لا يخفى ما في هذا الكتاب من التهافت. وذلك أنّ الاختلاف في الفروع بعد مجيء البيّنات مذموم كالاختلاف في الأصول. وأمّا المجتهدون واختلافهم ، فهو راجع إلى اختلاف الأفهام في مدارك الأحكام. نعم ؛ الاجتهاد الوارد في مذهب البيضاويّ ونحوه لا يحتاج إلى الدليل الشرعيّ بل إلى القياس ونحوه. أمّا هذا الحديث ، فعلى تقدير تسليمه ، معناه كما قال

__________________

(١) الأربعين للبهائيّ / ١٠٠ ـ ١٠٢.

(٢) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ / ١٠٩.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧٤.

٣٤٨

الصادق عليه‌السلام : اختلاف الأمّة وتحصيل العلوم شرقا وغربا والسعي لأجله في جميع الجهات ، إذ لو كان الاختلاف رحمة ، لكان الاجتماع عذابا. ويأباه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تجتمع أمّتي على خطأ.

(تَفَرَّقُوا). هم اليهود والنصارى ؛ تفرّقوا بالعداوة واختلفوا في الدين. (الْبَيِّناتُ) أي : الحجج والكتب وبيّن لهم الطريق. (١)

(الْبَيِّناتُ) الموجبة للاتّفاق على كلمة واحدة ؛ وهي كلمة الحقّ. (٢)

[١٠٦] (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦))

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ). أخبر سبحانه بوقت ذلك العذاب. أي : ثبت لهم العذاب في يوم هذه صفته. وإنّما تبيضّ فيه الوجوه للمؤمنين ثوابا لهم على الإيمان والطاعة ، وتسودّ وجوه الكفّار عقوبة على الكفر والسيّئات. (أَكَفَرْتُمْ) ؛ أي : يقال لهم : أكفرتم؟ واختلف فيمن عنوا به. فقيل : إنّهم الذين كفروا بعد إظهار الإيمان بالنفاق. وقيل : هم جميع الكفّار ، لإعراضهم عن التوحيد المأخوذ عليهم ب (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ)(٣) فيقال : أكفرتم بعد إيمانكم يوم الميثاق؟ وقيل : هم أهل الكتاب ؛ كفروا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد إيمانهم بنعته وصفته قبل مبعثه. وقيل : هم أهل البدع والأهواء من هذه الأمّة. عن عليّ عليه‌السلام. وقيل : هم الخوارج. (أَكَفَرْتُمْ). الاستفهام للتوبيخ ، أو للتقرير. أي : قد كفرتم. (٤)

البياض والسواد إمّا حقيقتان أو مجازان عن الفرح والسرور والكآبة والحزن. (٥)

عن أبي ذرّ رضى الله عنه : لمّا نزلت هذه الآية : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) ـ اه ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يرد علىّ أمّتي يوم القيامة على خمس رايات. فراية مع عجل هذه الأمّة. فأسألهم : ما فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون : أمّا الأكبر ، فحرّفناه ونبذناه. وأمّا الأصغر ، فظلمناه. فأقول :

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٨٠٧.

(٢) الكشّاف ١ / ٣٩٩.

(٣) الاعراف (٧) / ١٧٢.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٨٠٨ ـ ٨٠٩.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧٤ ، وتفسير النيسابوريّ ٤ / ٣٤ ـ ٣٥.

٣٤٩

ردّوا مسودّة وجوهكم. ثمّ ذكر الراية التي ترد مع فرعون هذه الأمّة والراية التي مع سامريّها وأنّ جوابهم قريب من هذا الجواب وأنّهم يرجعون مسودّة الوجوه. إلى أن قال : ثمّ ترد عليّ راية مع إمام المتّقين أمير المؤمنين عليه‌السلام. فأقول لهم : ماذا فعلتم بالثقلين من بعدي؟ فيقولون : أمّا الأكبر ، فاتّبعناه. وأمّا الأصغر ، فنصرناه حتّى أهريقت فيهم دماؤنا. فأقول : امضوا إلى الجنّة مبيضّة وجوهكم. (١)

(فَذُوقُوا). أمر إهانة. (٢)

[١٠٧] (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧))

(رَحْمَةِ اللهِ) ؛ أي : ثوابه ، أو جنّته. (٣)

[١٠٨] (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨))

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) ؛ أي : الآيات التي جرى ذكرها حجج الله وبيّناته وعلاماته ، نقرؤها عليك وعلى أمّتك ونقصّها عليك بالحكمة والصواب. وما الله يظلم عباده بأن يحملهم من العقاب ما لا يستحقّوه أو ينقصهم من الثواب عمّا استحقّوه. (٤)

[١٠٩] (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩))

ثمّ ذكر سبحانه وجه غناه عن الظلم فقال : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [ملكا و] ملكا وخلقا. (وَإِلَى اللهِ) بعد فناء الخلق أو يوم القيامة. لأنّه لا مالك حينئذ إلّا هو. (٥)

[١١٠] (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ

__________________

(١) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ / ١٠٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧٤.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٨٠٩.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٨١٠.

(٥) مجمع البيان ٢ / ٨١٠.

٣٥٠

تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠))

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ). قرأ الباقر عليه‌السلام : [أنتم] خير أئمة بالألف. (١)

عن الصادق عليه‌السلام : نزلت هذه الآية على محمّد وفي الأوصياء عليهم‌السلام خاصّة. (٢)

عن ابن سنان قال : قرأت على أبي عبد الله عليه‌السلام : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ). فقال : خير أمّة يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم‌السلام! فقال القارئ : جعلت فداك ؛ كيف نزلت؟ فقال : نزلت : «أنتم خير أئمة». ألا ترى مدح الله لهم : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ). (٣)

(كُنْتُمْ) ؛ أي : أنتم خير أمّة. وإنّما قال : (كُنْتُمْ) لتقدّم البشارة بهم في الكتب الماضية. وقيل : المراد : كنتم خير أمّة عند الله في اللّوح المحفوظ. وقيل : إنّ كان تامّة و (خَيْرَ أُمَّةٍ) نصب على الحال. أي : وجدتم وخلقتم خير أمّة. (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ). لأنّه يرفع عنهم القتل في الدنيا والعذاب في الآخرة. (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) ؛ أي : المعترفون بما دلّت عليه كتبهم من نعت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله والبشارة [به] كعبد الله بن سلام وأصحابه من اليهود والنجاشيّ وأصحابه من النصارى. (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) ؛ أي : الخارجون عن طاعة الله. وإنّما وصفهم بالفسق دون الكفر الذي هو أعظم ، لأنّ الغرض الإيذان بأنّهم خرجوا عمّا يوجبه كتابهم من الإقرار بالحقّ في نبوّة نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل : لأنّهم في الكفّار بمنزلة الفسّاق في العصاة لخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي أشنع وأفظع. (٤)

(لَكانَ خَيْراً لَهُمْ). [لأنّهم إنّما آثروا دينهم على دين الإسلام حبّا للرئاسة واستتباع العوامّ ، ولو آمنوا ، لكان لهم] من الرئاسة وحظوظ الدنيا ما هو خير ممّا آثروا دين الباطل لأجله مع الفوز بما وعدوه على الإيمان من إيتاء الأجر مرّتين. (٥)

__________________

(١) لم نعثر عليه في المناقب ولكن نقل عنه في البحار ٢٤ / ١٥٥ ، ح ١٢ ، وفيه : أنتم خير أمة».

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٩٥ ، ح ١٢٩.

(٣) تفسير القمّيّ ١ / ١١٠.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٨١١.

(٥) الكشّاف ١ / ٤٠٠.

٣٥١

(وَتُؤْمِنُونَ). إنّما أخّر قوله : (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) مع أنّ الأولى له التقديم على الأمر والنهي ، لأنّه بمنزلة التعليل لما تقدّمه. كأنّه قال : إنّكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر لأجل إيمانكم بالله.

[١١١] (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ)

(إِلَّا أَذىً) ؛ أي : إلّا ضرارا يسيرا ؛ وهو طعنهم في دينكم وإسماعكم الكلام المؤذي. (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ) منهزمين. وقد وقع كما أخبر لأنّ اليهود من بني قريظة وبني النضير وقينقاع ويهود خيبر الذين حاربوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قد انهزموا ولم ينالوا من المسلمين إلّا السبّ والطعن. (١)

(لا يُنْصَرُونَ). رفع على الاستئناف ولم يجزم على العطف. لأنّ سبب التولية القتال وليس كذلك منع النصر لأنّ سببه الكفر. (٢)

[١١٢] (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢))

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) ؛ أي : جعلت محيطة بهم إحاطة القبّة بمن تحتها. وقيل : معناه : فرضت عليهم الجزية والهوان فلا يكونون في موضع إلّا بالجزية وقد أدركهم الإسلام وهم يؤدّون الجزية إلى المجوس. (أَيْنَما ثُقِفُوا) ؛ أي : وجدوا ، أو أخذوا وظفر بهم. (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) ؛ أي : بعهد من الله وعهد من الناس على وجه الذمّة وغيرها من وجوه الأمان. سمّي العهد حبلا ، لأنّه يعقد به الأمان كما يعقد الشيء بالحبل. (٣)

(إِلَّا بِحَبْلٍ). في محلّ النصب على الحال بتقدير : إلّا معتصمين أو متمسّكين بحبل من الله.

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٨١٢ ـ ٨١٣.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٨١٢.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٨١٣ ـ ٨١٤.

٣٥٢

وهو استثناء من أعمّ عامّ الأحوال. أي : ضربت عليهم الذلّة في عامّة الأحوال ، إلّا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس ؛ يعني ذمّة الله وذمّة المسلمين. أي : لا عزّ لهم قطّ إلّا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمّة لما قبلوا [من] الجزية. (ذلِكَ بِما عَصَوْا) ؛ أي : قتل الأنبياء ونحوه. (يَعْتَدُونَ) حدود الله. (١)

عن الصادق عليه‌السلام : الحبل من الله كتاب الله. والحبل من الناس عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام. (٢)

(بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) : قبول الإسلام. و (حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) : قبول الجزية. (٣)

(وَباؤُ) ؛ أي : استوجبوا غضبا من الله. (الْمَسْكَنَةُ) ؛ أي : الذلّة. أو : الفقر. لأنّ اليهود أبدا يتفاقرون وإن كانوا أغنياء. (٤)

(وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم ، ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا ، فصارت [قتلا و] اعتداء ومعصية. (٥)

(إِلَّا بِحَبْلٍ). استثناء متّصل. وقيل : منقطع. لأنّ الذلّة لم ترتفع عنهم أبدا ولو بإعطاء الجزية.

[١١٣] (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣))

(لَيْسُوا سَواءً). قيل : سبب نزول الآية أنّه لمّا أسلم عبد الله بن سلام وجماعة ، قالت أحبار اليهود : ما آمن بمحمّد إلّا أشرارنا. فأنزل الله : (لَيْسُوا سَواءً) ـ الآية. وقيل : إنّها نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم ، كانوا على عهد عيسى عليه‌السلام صدّقوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقوله : (لَيْسُوا سَواءً) عليه وقف تامّ. وقوله : (مِنْ أَهْلِ

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٤٠١ ـ ٤٠٢.

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٩٦ ، ح ١٣١.

(٣) تفسير النيسابوريّ ٤ / ٤٦.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٨١٤.

(٥) الكافي ٢ / ٣٧١.

٣٥٣

الْكِتابِ) ابتداء كلام. أي : ليس الذين ذكرنا من أهل الكتاب سواء. أي : ليس الذين آمنوا من أهل الكتاب في الدرجة كمن لم يؤمن منهم. ثمّ استأنف وبيّن افتراقهم. (أُمَّةٌ) ؛ أي : جماعة ثابتة على أمر الله أو قائمة بطاعة الله. (آناءَ اللَّيْلِ) : ساعاته. وقيل : جوف اللّيل. وقيل : وقت صلاة العتمة. لأنّ أهل الكتاب لا يصلّونها. (وَهُمْ يَسْجُدُونَ). المراد السجود المعروف في الصلاة. فيكون معناه : وهم مع ذلك يسجدون. وقيل : معناه : يصلّون. فعبّر بالسجود عن الصلاة. (١)

[١١٤] (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)

(يُسارِعُونَ) ؛ أي : يبادرون إلى فعل الخيرات. (مِنَ الصَّالِحِينَ) ؛ أي : من جملتهم. وهذا نفي لقولهم : ما آمن به إلّا أشرارنا. (٢)

[١١٥] (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)

(فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) ؛ أي : لن يضيع ولن ينقص ثوابه البتّة. وتعديته إلى مفعولين لتضمّنه معنى الحرمان. وقرأ حمزة وحفص والكسائيّ : «وما يفعلوا من خير فلن يكفروه» بالياء ، والباقون بالتاء. (بِالْمُتَّقِينَ). أتى بالمظهر مقام المضمر للبشارة لهم والإشعار بأنّ التقوى مبدأ الخير وحسن العمل وأنّ الفائز عند الله هو أهل التقوى. (٣)

[١١٦] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦))

خصّ الأموال والأولاد لأنّهما أعزّ الأشياء على الخلق فإذا لم يغنيا ، كان غيرهما

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٨١٥ ـ ٨١٦.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٨١٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧٦.

٣٥٤

بالطريق الأولى. (١)

(شَيْئاً) ؛ أي : شيئا من العذاب أو من الغنى. فيكون مفعولا مطلقا. أي : لا ينفعهم بدل الله شيئا من النفع. فيكون (مِنَ) للبدل.

[١١٧] (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)

(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) ؛ أى : شبه ما يخرج الكفّار من أموالهم (فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا). قيل : هو ما ينفقون على الكفّار في عداوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل : هو ما أنفقه أبو سفيان وأصحابه يوم بدر وأحد لمّا تظاهروا على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل : هو ما أنفقه سفلة اليهود على علمائهم. وقيل : هو مثل لجميع صدقات الكفّار في الدنيا. وفي الآية حذف. وتقديره : مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح فيها صرّ. (٢)

(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) ؛ أي : ما ينفق الكفرة قربة إلى آلهتهم ، أو مفاخرة وسمعة ، أو المنافقون رئاء وخوفا. (فِيها صِرٌّ) ؛ أي : برد شديد. (ظَلَمُوا) بالكفر والمعاصي. (فَأَهْلَكَتْهُ) عقوبة لهم. والمراد تشبيه ما أنفقوا في ضياعه بحرث كفّار ضربته صرّ فاستأصلته ولم يبق لهم فيه منفعة ما في الدنيا والآخرة. وهو من التشبيه المركّب. ولذلك لم يبال بإيلاء كلمة التشبيه للريح دون الحرث. ويجوز أن يقدّر : كمثل مهلك ريح ـ على البناء للمفعول ـ وهو الحرث. (٣)

والحرث : الزرع. (ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالمعاصي. فظلمهم اقتضى هلاك حرثهم عقوبة لهم. وقيل : ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزراعة وفي غير وقتها فجاءت الريح (فَأَهْلَكَتْهُ) تأديبا من الله لهم في وضع الشيء غير موضعه الذي هو حقّه. (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) في إهلاك زرعهم. لأنّهم استحقّوا ذلك بظلمهم. (٤)

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٨١٨.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٨١٨.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧٦.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٨١٨ ـ ٨١٩.

٣٥٥

(يَظْلِمُونَ) ؛ أي : ما ظلم المنفقين بضياع نفقاتهم ولكن ظلموا أنفسهم لمّا لم ينفقوها بحيث يعتدّ بها. أو : ما ظلم أصحاب الحرث بإهلاكه ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقّوا به العقوبة. (١)

[١١٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا). نزلت في رجال من المسلمين كانوا يواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من الصداقة والجوار والرضاع. وقيل : نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصادقون المنافقين ويخالطونهم. (٢)

(لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) : وليجة. وهو الذي يعرّفه الرجل أسراره ثقة به. شبّه ببطانة الثوب كما شبّه بالشعار. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله : الأنصار شعار. والناس دثار. (مِنْ دُونِكُمْ) ؛ أي : من دون المسلمين. وهو متعلّق بلا تتّخذوا. (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) : لا يقصرون لكم في الفساد. والألو : التقصير. (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) : تمنّوا عنتكم. وهو شدّة الضرر. وما مصدريّة. (مِنْ أَفْواهِهِمْ) ؛ أي : من كلامهم. لأنّهم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم. (أَكْبَرُ) ممّا أظهر. (٣)

(لا يَأْلُونَكُمْ). علّة للمنع عن مواصلتهم. (٤)

[١١٩] (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)

(ها أَنْتُمْ) ؛ أي : أنتم أولاء الخاطئون في موالاة الكفّار. (تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ). بيان

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧٦.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٨٢٠.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧٦ ـ ١٧٧.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٨٢٠.

٣٥٦

لخطائهم في موالاتهم. وهو خبر ثان أو خبر لأولاء. والجملة خبر لأنتم. (١)

قيل : أراد : انّكم تحبّونهم لأنّكم تريدون لهم الإسلام ، ولا يحبّونكم لأنّهم يريدون لكم الكفر والضلال. (تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) ؛ أي : جميع الكتب السماويّة وهم لا يصدّقون بكتابكم. (مِنَ الْغَيْظِ) ، لما يرون من إيلاف المؤمنين ونصرة الله إيّاكم. (قُلْ مُوتُوا). صيغته صيغة الأمر والمعنى الدعاء عليهم. فكأنّه قال : أماتكم الله بغيظكم. وقيل : معناه : دام لكم هذا الغيظ لما ترون من علوّ كلمة الإسلام إلى أن تموتوا. (٢)

[١٢٠] (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)

(إِنْ تَمْسَسْكُمْ) : تصبكم أيّها المؤمنون. (حَسَنَةٌ) ؛ أي : نعمة من اجتماع كلمة أو ظفر بالأعداء. (سَيِّئَةٌ) محنة بإصابة العدوّ منكم. (٣)

(وَإِنْ تَصْبِرُوا) على عداوتهم (وَتَتَّقُوا) ما نهيتهم عنه من موالاتهم. أو : وإن تصبروا على تكاليف الدين ومشاقّه وتتّقوا الله في اجتنابكم محارمه ، كنتم في كنف الله فلا يضرّكم كيدهم. وهذا تعليم من الله وإرشاد إلى أن يستعان على كيد العدوّ بالصبر والتقوى. وقد قال الحكماء : إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك. (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) : [عالم بما يعملون] في عداوتكم فمعاقبهم عليه. (٤)

(وَإِنْ تَصْبِرُوا) على أذاهم وعلى طاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله (وَتَتَّقُوا) بالامتناع من معاصيه. (كَيْدُهُمْ) [؛ أي :] المنافقين. (شَيْئاً) لا قليلا ولا كثيرا. (مُحِيطٌ) عالم بذلك من جميع جهاته مقتدر عليه. (٥)

(لا يَضُرُّكُمْ). قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : «لا يضركم» خفيفة مكسورة الضاد ، و

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧٧.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٨٢١.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٨٢٢ ـ ٨٢٣.

(٤) الكشّاف ١ / ٤٠٨.

(٥) مجمع البيان ٢ / ٨٢٣.

٣٥٧

الباقون مشدّدة مضمومة الضاد والراء. وهو على القراءة الأولى من ضاره يضيره ضيرا. والضير والضرّ بمعنى واحد. (١)

[١٢١] (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١))

(وَإِذْ غَدَوْتَ) : واذكر إذ خرجت من المدينة غدوة تهيّئ للمؤمنين مواطن القتال.

فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله خرج قبل الحرب ليهيّئ مواضع القتال في حرب أحد. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام. (وَاللهُ سَمِيعٌ) لما يقوله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله (عَلِيمٌ) بما يضمرونه. (٢)

(مَقاعِدَ) خارج المدينة. لأنّهم رأوا الصلاح في أن يخرج إلى قتال الكفّار خارج المدينة. (٣)

(تُبَوِّئُ) ؛ أي : تنزلهم منازلهم. (٤)

[١٢٢] (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)

(إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ) ؛ أي : قصدت وعزمت فرقتان من المسلمين. (أَنْ تَفْشَلا) ؛ أي : تجبنا. والطائفتان هما بنو سلمة وبنو حارثة حيّان من [الأنصار]. (٥)

(إِذْ هَمَّتْ). بدل من (إِذْ غَدَوْتَ) أو عمل فيه معنى (سَمِيعٌ عَلِيمٌ). (طائِفَتانِ). وهما حيّان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما الجناحان. خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في ألف ـ وقيل : في تسعمائة وخمسين ـ والمشركون في ثلاثة آلاف. فانخزل عبد الله بن أبيّ بثلث الناس وقال : يا قوم ، علام نقتل أنفسنا وأولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاريّ فقال : أنشدكم الله في نبيّكم وأنفسكم. فقال عبد الله : لو نعلم قتالا

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٨٢٢.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٨٢٣ ـ ٨٢٤.

(٣) الكشّاف ١ / ٤٠٨ ، وتفسير البيضاويّ ١ / ١٧٨.

(٤) الكشّاف ١ / ٤٠٩.

(٥) مجمع البيان ٢ / ٨٢٤.

٣٥٨

لاتّبعناكم. فهمّ الحيّان باتّباع عبد الله فعصمهم الله فمضوا مع رسول الله عليه‌السلام. والظاهر أنّ ما صدر عنهم ما كانت إلّا همّة وحديث نفس. (١)

(وَاللهُ وَلِيُّهُما) ؛ أي : ناصرهما. وقال بعض المحقّقين : هذا همّ خطرة لا همّ عزيمة. لأنّه مدحهما وأخبر أنّه وليّهما. ولو كان همّ عزيمة وقصد ، لكان ذمّهم أولى من مدحهم. (٢)

[١٢٣] (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ) أيّها المؤمنون (بِبَدْرٍ) بتقوية قلوبكم وبالملائكة وبإلقاء الرعب على قلوب أعدائكم وأنتم ضعفاء عن المقاومة قليلو العدّة. فإنّهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وكان المشركون نحوا من ألف رجل. وبدر ما بين مكّة والمدينة. سمّي بدرا لأنّ هناك ماء لرجل يسمّى بدرا فسمّي الموضع باسم صاحبه. (فَاتَّقُوا اللهَ) ؛ أي : فاتّقوا المعاصي ، لعلّكم تقومون بشكر نعمته. (٣)

(أَذِلَّةٌ). عن الصادق عليه‌السلام : إنّما نزلت : وأنتم قليل» (٤)

عن الصادق عليه‌السلام : ما كانوا أذلّة وفيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وإنّما نزل : وأنتم ضعفاء» (٥)

[١٢٤] (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ)

(إِذْ تَقُولُ) ؛ أي : تقول يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله للمؤمنين من أصحابك : (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ). إخبار بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لقومه : ألن يكفيكم يوم بدر أن مدّكم بثلاثة آلاف؟ عن ابن عبّاس وجماعة أنّ الإمداد بالملائكة كان يوم بدر وأنّه لم يقاتل الملائكة إلّا يوم بدر وكانوا في غيره من الأيّام عدّة ومددا. ثمّ استأنف حكم يوم أحد فقال : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا) ـ الآية. (مِنَ

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٤٠٩.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٨٢٤.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٨٢٨.

(٤) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٦٩.

(٥) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ / ١٢٢.

٣٥٩

فَوْرِهِمْ) ؛ أي : رجعوا اليكم بعد إنصرافهم ، أمدّكم ـ الآية. وهذا قول عكرمة. قال : [لم] يمدّوا يوم أحد ولا بملك واحد. وعلى هذا لا تنافي بين الآيتين. (١)

(إِذْ تَقُولُ). اختلف المفسّرون في أنّ هذا القول حصل يوم بدر فيكون العامل فيه (نَصَرَكُمُ) ، أو حصل يوم أحد فيكون بدلا ثانيا من (إِذْ غَدَوْتَ). والأوّل قول أكثر المفسّرين. لأنّ الكلام متّصل بقصّة بدر. لأنّ العدد يوم بدر أقلّ فكان الاحتياج إلى المدد أكثر. والثاني مرويّ عن ابن عبّاس ، لأنّ المدد يوم بدر كان بألف من الملائكة ـ لقوله في الأنفال : (أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ)(٢) ـ دون ثلاثة آلاف وخمسة آلاف. وأجيب بأنّهم أمدّوا بألف ثمّ زيد ألفان فصار ثلاثة آلاف ، ثمّ زيد ألفان آخران فصار خمسة آلاف ، فكأنّه قيل لهم : ألن يكفيكم ربّكم أن يمدّكم بألفين من الملائكة؟ فقالوا : بلى. ثمّ [قيل :] ألم يكفكم أن يمدّكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا : بلى. ثمّ قيل لهم : إن تصبروا وتتّقوا ، يمددكم بخمسة آلاف. (٣)

(إِذْ تَقُولُ). ظرف لنصركم ، على أن يقول لهم ذلك [يوم بدر]. أو بدل ثان من (إِذْ غَدَوْتَ) على أن يقول لهم يوم أحد. فإن قلت : كيف يصحّ أن يقول لهم يوم أحد ولم تنزل فيه الملائكة؟ قلت : قال لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم فلم يصبروا ولم يتّقوا عن الغنائم حيث خالفوا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلذلك لم تنزل الملائكة. ولو تمّوا ما شرط عليهم ، لنزلت. (٤)

(مُنْزَلِينَ). قرأ ابن عامر بالتشديد للتكثير أو للتدريج. (٥)

[١٢٥] (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)

(بَلى). أي : بلى يكفيكم الإمداد بهم. ثمّ قال : (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) يمددكم بأكثر من

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٨٢٨ ـ ٨٢٩.

(٢) الأنفال (٨) / ٩.

(٣) تفسير النيسابوريّ ٤ / ٦٢.

(٤) الكشّاف ١ / ٤١١.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ١٧٩.

٣٦٠