عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-26-5
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦٣

أقول : أراد بهؤلاء جماعة الصوفيّة.

النزول : قال جعفر بن محمّد (١) : الآيتان نزلتا في وفد نجران من النصارى ، لمّا قالوا : إنّا نعظّم المسيح حبّا لله. [ثمّ بيّن سبحانه] أنّ الإيمان لا يجدي إلّا إذا قارنه الإيمان برسوله فقال : (قُلْ) : يا محمّد : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) كما تزعمون (فَاتَّبِعُونِي). (٢)

نزلت في قوم من اليهود قالوا : نحن أبناء الله وأحبّاؤه. فجعل الله مصداق ذلك اتّباع رسوله. (٣)

(فَاتَّبِعُونِي). عن الصادق عليه‌السلام : الحبّ أفضل من الخوف. من عرف حقّنا وأحبّنا ، فقد أحبّ الله. (٤)

[٣٢] (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ) ؛ أي : إن كنتم تحبّون الله كما تدّعون ، فأظهروا دلالة صدقكم بطاعة الله وطاعة رسوله. فذلك أمارة صدق الدعوى. (٥)

[٣٣] (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ)

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى). عن الرضا عليه‌السلام : لمّا أهبط الله آدم إلى الأرض وجعله حجّة وخليفة ، عصمه بقوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ). (٦)

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) لنبوّته. (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) على عالمي زمانهم ، بأن جعل الانبياء منهم. وقيل : اختار دينهم. وقيل : اختارهم بالتفضيل على غيرهم بالنبوّة وغيرها من الأمور الجليلة. وقيل : اختار آدم بأن خلقه من غير واسطة وأسكنه جنّته وأسجد له ملائكته. واختار نوحا بالنبوّة وطول العمر وإجابة الدعاء. واختار إبراهيم

__________________

(١) المصدر : قال محمّد بن جعفر بن الزبير.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٧٣٣.

(٣) جوامع الجامع ١ / ٢٠٢.

(٤) الكافي ٨ / ١١١.

(٥) مجمع البيان ٢ / ٧٣٣.

(٦) عيون الأخبار ١ / ١٩٣.

٣٠١

بالخلّة وتبريد النار وإهلاك نمرود. (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ). قيل : أراد نفس إبراهيم ونفس عمران. وقيل : آل إبراهيم أولاده إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط. وفيهم داوود وسليمان. وفيهم نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقيل : آل إبراهيم هم المتمسّكون بدينه المؤمنون ، وهو دين الإسلام. وأمّا آل عمران ، فقيل : هم من آل إبراهيم أيضا. وهم موسى وهارون ابنا عمران من آل يعقوب. عن الحسن ووهب. وفي قراءة أهل البيت عليهم‌السلام : وآل محمّد على العالمين. وقالوا أيضا : إنّ آل إبراهيم هم آل محمّد الذين هم أهله. ويجب أن يكون الذين اصطفاهم الله مطهّرين معصومين من القبائح. لأنّه سبحانه لا يصطفي إلّا من كان كذلك. (١)

(آلَ إِبْراهِيمَ) : إسماعيل وإسحاق وأولادهما. (وَآلَ عِمْرانَ) : موسى وهارون ابنا عمران بن يصهر. وقيل : عيسى ومريم بنت عمران بن ماثان. وبين العمرانين ثمانمائة سنة. (٢)

(وَآلَ عِمْرانَ). القائم (٣) عليه‌السلام : نزل : آل إبراهيم وآل عمران وآل محمد على العالمين». فأسقطوا آل محمّد. (٤)

[٣٤] (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

(وَذُرِّيَّةً). بدل من آل إبراهيم وآل عمران. (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ). يعني أنّ الآلين ذرّيّة واحدة متسلسلة بعضها متشعّب من بعض : موسى وهارون من عمران ، وعمران من يصهر ، ويصهر من أولاد يعقوب بن إسحاق. (٥)

(بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ). عن أبي عبد الله عليه‌السلام : في التوالد والتناسل. (٦)

[٣٥] (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٧٣٤ ـ ٧٣٥.

(٢) الكشّاف ١ / ٣٥٤.

(٣) المصدر : العالم.

(٤) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ / ١٠٠.

(٥) الكشّاف ١ / ٣٥٤.

(٦) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٧٠ ، ومجمع البيان ٢ / ٧٣٥.

٣٠٢

أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)

(إِذْ قالَتِ). إذ منصوب إمّا باذكر ، وإمّا باصطفى. أو متعلّق بسميع عليم. (١)

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ). هي امرأة عمران بن ماثان أمّ مريم البتول جدّة عيسى عليه‌السلام. وهي جنّة بنت فاقوذ. وقوله : (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) على أثر قوله : (وَآلَ عِمْرانَ) ممّا يرجّح أنّ عمران هو عمران جدّ عيسى. والقول الآخر يرجّحه أنّ موسى يقرن بإبراهيم كثيرا في الذكر. فإن قلت : كانت لعمران بن يصهر بنت اسمها مريم أكبر من موسى وهارون ولعمران بن ماثان مريم البتول. فما أدراك أنّ عمران هذا هو أبو مريم البتول دون عمران أبي مريم هي أخت موسى وهارون؟ قلت : كفى بكفالة زكريّا دليلا على أنّه عمران أبو البتول. لأنّ زكريّا بن آذن وعمران بن ماثان كانا في عصر واحد وقد تزوّج زكريّا بنته إيشاع أخت مريم فكان يحيى وعيسى ابني خالة. وروي أنّها كانت عاقرا لم تلد إلى أن عجزت ، فبينا هي في ظلّ شجرة بصرت بطائر يطعم فرخا له فتحرّكت نفسها للولد وتمنّته فقالت : اللهمّ إنّ لك عليّ نذرا شكرا إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدس فيكون من سدنته وخدمه. فحملت بمريم وهلك عمران وهي حامل. [وعن الشعبيّ :](مُحَرَّراً) : مخلصا للعبادة. وما كان التحرير إلّا للغلمان وإنّما بنت الأمر على التقدير أو طلبت أن ترزق ذكرا. (٢)

(مُحَرَّراً) : معتقا لخدمة بيت المقدس لا استخدمه فيه ولا أشغله بشيء. وكان هذا النوع من النذر مشروعا عندهم. وروي أنّهم كانوا ينذرون هذا النوع من النذر ، فإذا بلغ الغلام ، خيّر بين أن يفعل وبين أن لا يفعل. (٣)

عن أبي جعفر عليه‌السلام : المحرّر للمسجد إذا وضعته وأدخل المسجد ، لم يخرج منه أبدا. والانثى لا تصلح لذلك لمكان الحيض. (٤)

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٧٣٦.

(٢) الكشّاف ١ / ٣٥٥.

(٣) الكشّاف ١ / ٣٥٥.

(٤) علل الشرائع / ٥٧٩.

٣٠٣

[٣٦] (فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ)

(فَلَمَّا وَضَعَتْها). الضمير لما في بطني. وأنّث على المعنى ، لأنّه كان أنثى في علم الله ، أو بمعنى تأويل الحبلة أو النفس أو النسمة. (أُنْثى). إنّما قالت هذا القول تحسّرا على ما رأت من خيبة رجائها فتحزّنت إلى ربّها. ومن ثمّ قال الله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها. ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علّق به من عظائم الأمور وأن يجعله وولده آية للعالمين. وهي جاهلة بذلك ولذلك تحسّرت. (١)

ابن عامر وأبو بكر : (بِما وَضَعَتْ) بضمّ التاء. (٢)

ومن ضمّ التاء من (وَضَعَتْ) يكون كلامها تسلية لنفسها. أي : ولعلّ لله فيه سرّا أو الأنثى كانت خيرا. (٣)

(وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى). لأنّ الأنثى لا تصلح لخدمة بيت المقدس لمكان الحيض والحجاب. (٤)

(وَلَيْسَ الذَّكَرُ). بيان لقوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ). أي : وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى وهبت. واللّام فيهما للعهد. ويجوز أن يكون من قولها. أي : ليس الذكر والأنثى سيّين فيما طلبت. فتكون اللّام للجنس. (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ). عطف على [ما] قبلها من مقالها وما بينهما اعتراض. وإنّما ذكرت ذلك لربّها طلبا لأن يصلحها حتّى يكون فعلها مطابقا لاسمها. فإنّ مريم في لغتهم بمنى العابدة. (وَإِنِّي أُعِيذُها) : أجيرها بحفظك من الشيطان الرجيم المطرود. وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما من مولود يولد إلّا والشيطان يمسّه حين يولد فيستهلّ صارخا إلّا مريم وابنها. ومعناه أنّ الشيطان يطمع في إغواء كلّ مولود بحيث يتأثّر منه إلّا مريم و

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٣٥٥ ـ ٣٥٦.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٧٣٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٥٧.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٧٣٧.

٣٠٤

ابنها. فإنّ الله عصمهما ببركة هذه الاستعاذة. (١)

(وَذُرِّيَّتَها). عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لقي إبليس عيسى بن مريم فقال : هل نالني من حبائلك شيء؟ فقال : جدّتك التي قالت : (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها). (٢)

[٣٧] (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)

(بِقَبُولٍ حَسَنٍ) ؛ أي : رضي بها لخدمة بيت المقدس ولم يرض لبنت غيرها. (عِنْدِ اللهِ). لأنّه من طعام الجنّة. (٣)

(بِقَبُولٍ) ؛ أي : بوجه. وهو أنّه تسلمها عقيب ولادتها قبل أن تكبر. (نَباتاً حَسَناً). مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها. وروي أنّ حنّة لمّا ولدتها ، لفّتها في خرقة وأتت بها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه. فتنافسوا فيها. لأنّها كانت بنت إمامهم وصاحب قربانهم. فقال زكريّا : أنا أحقّ بها. عندي خالتها. فأبوا إلّا القرعة. وكانوا سبعة وعشرين. فانطلقوا إلى نهر فألقوا فيه أقلامهم. وكانت من الحديد. فطفا قلم زكريّا ورسبت أقلامهم ، فتكفّلها. (الْمِحْرابَ) ؛ أي : الغرفة التي بنيت لها ، أو المسجد ، أو أشرف مواضعه. سمّي به لأنّه محلّ محاربة الشيطان. (رِزْقاً). كان يجد فاكهة الشتاء في الصيف وبالعكس. (بِغَيْرِ حِسابٍ) : بغير تقدير لكثرته. أو : بغير استحقاق تفضّلا به. ويحتمل أن يكون من كلام الله أو من كلامها. (٤)

[٣٨] (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٥٧.

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٧١ ، ح ٤٠.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٧٣٩ ـ ٧٤٠.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ١٥٧ ـ ١٥٨.

٣٠٥

(هُنالِكَ) ؛ أي : ذلك الوقت ، لمّا رأى كرامة مريم. (رَبِّ هَبْ لِي) كما وهبتها لحنّة العجوز العاقر. وقيل : لمّا رأى الفواكه في غير أوانها ، تنبّه على جواز ولادة العاقر من الشيخ ، فسأل الله وقال : (هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ). لأنّه لم يكن على الوجوه المعتادة وبأسباب المعهودة. (١)

عن الصادق عليه‌السلام : لمّا شبّت مريم ، كانت تخدم العبّاد في المسجد. فلمّا بلغت ، حجبها زكريّا دون العبّاد. وكان يدخل عليها فيرى عندها ثمرة الشتاء في الصيف وبالعكس. فهنالك سأل ربّه أن يهب له ذكرا ، فوهب له يحيى. (٢)

وعن أبي جعفر عليه‌السلام قال : دخل عليّ عليه‌السلام البيت ، فإذا فيه رسول الله وفاطمة صلوات الله عليهما وبينهما شيء مغطّى. فرفعت الغطاء ، فإذا هو جفنة فيها خبز ولحم. قال : يا فاطمة ، أنّى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : مثلك مثل مريم. وقرأ الآية. فأكلوا منها. وهي الجفنة التي يأكل منها القائم عليه‌السلام. وهي عندنا. (٣)

[٣٩] (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ). أي من جنسهم. لأنّ المنادي كان جبرئيل عليه‌السلام وحده. وقرأ حمزة والكسائيّ : «فناداه» بالإمالة والتذكير. (قائِمٌ) ؛ أي : قائما في الصلاة. و (يُصَلِّي) صفة قائم. (أَنَّ اللهَ) : بأنّ الله. وقرأ نافع وابن عامر بالكسر على إرادة القول ، أو لأنّ النداء نوع منه. وقرأ حمزة والكسائيّ : (يُبَشِّرُكَ). يعني بفتح الياء والتخفيف. ويحيى اسم أعجميّ. وإن جعل عربيّا ، فمنع صرفه للتعريف ووزن الفعل. (بِكَلِمَةٍ) ؛ أي : بعيسى عليه‌السلام. سمّي بذلك لأنّه وجد بأمره تعالى دون أب فشابه البدعيّات التي هي عالم الأمر. أو : بكتاب الله. سمّي كلمة كما قيل كلمة الجويدرة (٤) لقصيدته. (سَيِّداً) يسود قومه ويفوقهم. أو كان فائقا للناس كلّهم في أنّه ما همّ بمعصية. (وَحَصُوراً) ؛ أي : مبالغا في حبس النفس عن الشهوات و

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٥٨.

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٧٠ ـ ١٧١.

(٣) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٧٢.

(٤) المصدر : الحويدرة.

٣٠٦

الملاهي. روي أنّه مرّ في صباه بصبيان فدعوه إلى اللّعب ، فقال : ما لهذا خلقنا. (١)

(يُبَشِّرُكَ). قرأ حمزة والكسائيّ بفتح الياء والتخفيف. ومعنى قراءة التشديد ـ كما قال أبو عبيدة ـ معنى قراءة التخفيف. وقال الزجّاج : هو من بشر يبشر ، إذا فرح. (٢)

(بِكَلِمَةٍ). قيل : إنّه ـ أي يحيى عليه‌السلام ـ أوّل من صدّق بعيسى عليه‌السلام. وكان أكبر من عيسى بستّة أشهر. سمّي يحيى ، لأنّ الله أحيا قلبه بالإيمان. وقيل : أحيا قلبه بالنبوّة. ولم يسمّ بهذا الاسم أحد قبله. (وَحَصُوراً) : لا يقرب النساء. (٣)

[٤٠] (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠))

(أَنَّى يَكُونُ). إنّما قال ذلك على سبيل التعرّف عن كيفيّة حصول الولد أيعطيهما الله إيّاه وهما على ما كانا عليه من الشيب ، أم يصرفهما الله إلى حال الشباب ثمّ يرزقهما الولد. ويحتمل أن يكون اشتبه الأمر عليه أيعطيه الله الولد من امرأته العجوز أم من امرأة أخرى شابّة فقال الله : (كَذلِكَ). وتقديره. كذلك الأمر الذي أنتما عليه وعلى تلك الحالة. (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ). معناه يرزقك الولد منها. فإنّه هيّن عليه. (٤)

(قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ) استبعادا من حيث العادة واستعظاما أو تعجّبا أو استفهاما عن كيفيّة حدوثه. (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) : أدركني كبر السنّ وأثّر فيّ. وكان له تسع وتسعون سنة ، ولامرأته ثمان وتسعون سنة. (عاقِرٌ) : لا تلد. من العقر ، وهو القطع ، لأنّها ذات عقر من الأولاد. (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) ؛ أي : يفعل ما يشاء من العجائب مثل ذلك الفعل وهو إنشاء الولد من شيخ فان وعجوز عاقر. فيكون الكاف صفة مصدر محذوف. أو : كما أنت عليه وزوجك من الكبر والعقر ، يفعل ما يشاء من خلق الولد. أو (كَذلِكَ اللهُ) مبتدأ و

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٥٨.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٧٤٠ ـ ٧٤١.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٧٤٢.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٧٤٤.

٣٠٧

خبر. ـ أي : الله على هذه الصفة ـ و (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) بيانه. (١)

[٤١] (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ)

(اجْعَلْ لِي آيَةً) ؛ أي : علامة أعرف بها الحبل لأستقبله بالبشارة والشكر وتزيح مشقّة الانتظار. (أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) ؛ أي : لا تقدر على تكليم الناس ثلاثا. وإنّما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصّة ليخلص المدّة لذكر الله وشكره قضاء لحقّ النعمة. وكأنّه قال : آيتك أن تحبس لسانك إلّا عن الشكر. وأحسن الجواب ما اشتقّ من السؤال. (٢)

أقول : وذلك أنّه طلب الآية لأجل الشكر فأجيب بأنّ الآية أن تحبس لسانك إلّا عن الشكر.

(إِلَّا رَمْزاً) : إشارة بنحو يد أو رأس. والاستثناء منقطع. وقيل : متّصل. والمراد بالكلام ما دلّ على الضمير. (كَثِيراً). أي في أيّام الحبسة. وهو مؤكّد لما قبله. (بِالْعَشِيِّ) : من الزوال إلى الغروب. وقيل : من العصر أو المغرب إلى ذهاب صدر اللّيل. (وَالْإِبْكارِ) : من طلوع الفجر إلى الضحى. وقرئ بفتح الهمزة ، جمع بكر ، كسحر وأسحار. (٣)

(اجْعَلْ لِي آيَةً) ؛ أي : علامة لوقت الحمل والولد. (٤)

[٤٢] (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ)

(وَإِذْ قالَتِ). عطف على (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ). (٥)

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ). كلّموها شفاها ، كرامة لها. وقيل : ألهموها.

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٥٨.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٥٩.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٥٩.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٧٤٥.

(٥) مجمع البيان ٢ / ٧٤٥.

٣٠٨

الاصطفاء الأوّل تقبّلها من أمّها ولم يقبل قبلها أنثى ، وتفريغها للعبادة وإغناؤها برزق الجنّة عن الكسب ، وتطهيرها عمّا يستقذر من النساء. والاصطفاء الثاني هدايتها ، وإرسال الملائكة إليها ، وتخصيصها بالكرامات كالولد من غير أب ، وتبرئتها ممّا قذفته اليهود بإنطاق الطفل ، وجعلها وابنها آية للعالمين. (١)

[٤٣] (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ)

(مَعَ الرَّاكِعِينَ). ويحتمل أن يكون في زمانها من كان يقوم ويسجد في صلاته ولا يركع وفيه من يركع ، فأمرت بأن تركع مع الراكعين ولا تكون مع من لا يركع. (٢)

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي). أمرت بالصلاة في الجماعة بذكر أركانها مبالغة في المحافظة عليها. وقدّم السجود على الركوع إمّا لكونه كذلك في شريعتهم ، أو للتنبيه على أنّ الواو لا توجب الترتيب. وقيل : المراد بالقنوت إدامة الطاعة ، كقوله : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ) ـ الآية ـ (٣) وبالسجود الصلاة ، كقوله : (وَأَدْبارَ السُّجُودِ)(٤) وبالركوع الخشوع. (٥)

[٤٤] (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ)

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) ؛ أي : ما ذكرناه من القصص من الغيوب التي لم تعرفها إلّا بالوحي. (أَقْلامَهُمْ) : أقداحهم للاقتراع. وقيل : اقترعوا بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة تبرّكا. والمراد تقرير كونه وحيا على سبيل التهكّم بمنكريه. فإنّ طريق معرفة الوقائع المشاهدة والسماع وعدم السماع معلوم لا شبهة فيه عندهم ، فبقي أن يكون الاتّهام باحتمال العيان ولا يظنّ به عاقل. (أَيُّهُمْ). متعلّق بمحذوف. أي : يلقونها ليعلموا. أو : يقولوا

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٥٩.

(٢) الكشّاف ١ / ٣٦٢.

(٣) الزمر (٣٩) / ٩.

(٤) ق (٥٠) / ٤٠.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ١٥٩.

٣٠٩

أيّهم يكفل مريم. (إِذْ يَخْتَصِمُونَ). أي في كفالتها. (١)

[٤٥] (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)

و (إِذْ قالَتِ) بدل من (إِذْ قالَتِ) الأولى وما بينهما اعتراض ، أو من (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) على أنّ وقوع الاختصام والبشارة في زمان متّسع. كقولك : لقيته سنة كذا. (٢)

(بِكَلِمَةٍ). سمّي المسيح كلمة الله لأنّ الله خلقه بكلمة منه من غير أب وهي قوله : كن فيكون. يدلّ عليه قوله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). (٣) و [يؤيّده] قوله : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها)(٤) [و] سمّى بالمسيح لأنّه ما كان يمسح بيده ذا عاهة إلّا برئ. وقيل : لأنّ جبرئيل مسحه بجناحيه وقت الولادة ليكون عوذة من الشيطان. (٥)

(الْمَسِيحُ). لقبه. وهو من الألقاب المشرّفة كالصدّيق. وأصله بالعبريّة مشيحا ومعناه المبارك. وعيسى معرّب ايشوع. واشتقاقهما من المسح ـ لأنّه مسح بالبركة أو بما طهّره من الذنوب ، أو مسح الأرض ولم يقم في موضع ، أو مسحه جبرئيل ـ ومن العيس ـ وهو بياض تعلوه حمرة ـ تكلّف لا طائل تحته. وإنّما قال : (ابْنُ مَرْيَمَ) والخطاب لها ، تنبيها على أنّه يتولّد من غير أب ، إذ الأولاد تنسب إلى الآباء ولا تنسب إلى الأمّ إلّا إذا فقد الأب. (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا) حال مقدّرة من «كلمة» لكونها موصوفة. والوجاهة في الدنيا النبوّة ، وفي الآخرة الشفاعة. (وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) من الله. وقيل : إشارة إلى علوّ درجته في الجنّة أو رفعه إلى السماء وصحبته الملائكة. (٦)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٥٩.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٥٩.

(٣) آل عمران (٣) / ٥٩.

(٤) النساء (٤) / ١٧١.

(٥) مجمع البيان ٢ / ٧٤٩.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ١٥٩ ـ ١٦٠.

٣١٠

[٤٦] (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ)

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ). وهو قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ). (١) أي : يكلّمهم حال كونه طفلا وكهلا كلام الأنبياء من غير تفاوت. وذكر أحواله المختلفة المتنافية ، إرشادا إلى أنّه بمعزل عن الألوهيّة. (٢)

(وَيُكَلِّمُ النَّاسَ). وهو قوله : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) تبرئة لأمّه ممّا قذفت به وجلالة له بالمعجزة. (وَكَهْلاً). قيل : المراد به بعد نزوله من السماء لقتل الدجّال. وذلك لأنّه رفع إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة وذلك قبل الكهولة. وإنّما جحدت النصارى كلام المسيح في المهد مع كونه آية معجزة ، لأنّ في ذلك إبطال مذهبهم. لأنّه قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) وهو ينافي قولهم إنّه ابن الله. (٣)

(وَمِنَ الصَّالِحِينَ) لكلّ ما يرضى الله سبحانه. وهذه الدرجة فوق النبوّة. ومن ثمّ ختم بها الصفات كما لا يخفى.

[٤٧] (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى). تعجّب أو استبعاد عاديّ أو استفهام من أنّه بتزوّج أو غيره. (٤) ويحتمل أنّه من أيّ شخص يكون. (عصام)

(قالَ كَذلِكِ اللهُ). القائل جبرئيل ، أو الله وجبرئيل حكى لها قوله : (فَإِنَّما يَقُولُ) إشارة إلى أنّه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرّجا بأسباب وموادّ ، يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك. (٥)

(كُنْ فَيَكُونُ). كناية عن سرعة الإيجاد. أو كلمة جعلها الله علامة للملائكة فيما يريد

__________________

(١) مريم (١٩) / ٣٠.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦٠.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٧٤٩.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦٠.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦٠.

٣١١

إيجاده. (١)

[٤٨] (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ)

(وَيُعَلِّمُهُ). قرأ أهل المدينة وعاصم بالياء ، والباقون بالنون. و (يُعَلِّمُهُ). بالياء ، عطف على (يُبَشِّرُكِ). (٢)

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ). كلام مبتدأ ذكر تطييبا لقلبها وإزاحة لما همّها من خوف اللّوم لما علمت من أنّها تلد من غير زواج. أو عطف على (يُبَشِّرُكِ) أو (وَجِيهاً). والكتاب : الكتبة ، أو جنس الكتب المنزلة. وخصّ الكتابان لفضلهما. (٣)

[٤٩] (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

(وَرَسُولاً). عطف على (وَجِيهاً). وقال الزجّاج : يكلّمهم رسولا بأنّي قد جئتكم. (٤)

(وَرَسُولاً). منصوب بمضمر على إرادة القول. وتقديره : أرسلت رسولا بسبب أنّي قد جئتكم. أو بالعطف على الأحوال المتقدّمة مضمّنا معنى النطق. وكأنّه قال : وناطقا بأنّي قد جئتكم. وتخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثته ، أو للردّ على من زعم أنّه مبعوث إلى غيرهم. (٥)

عن الباقر عليه‌السلام : انّ الله أرسل عيسى عليه‌السلام إلى بني إسرائيل خاصّة. وكانت نبوّته ببيت المقدس. (٦)

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٧٥٠.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٧٥١.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦٠.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٧٥٢.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦٠.

(٦) كمال الدين / ٢٢٠.

٣١٢

(أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ). قرأ نافع : «إني» بالكسر. كسر الهمزة على الاستئناف وقطع الكلام عمّا قبله. (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ). أبو جعفر : كهيئة الطائر». ورد في التفسير أنّه صنع من الطين كهيئة الخفّاش ونفخ فيه فصار طائرا. (١)

(أَنِّي). نصب بدل (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) ، أو جرّ بدل «آية» ، أو رفع على : هي أنّي أخلق. والمعنى : أقدّر لكم وأصوّر شيئا [مثل] صورة الطير. (فَأَنْفُخُ فِيهِ). الضمير للكاف. أي : في ذلك الشيء المماثل. (فَيَكُونُ طَيْراً) ؛ أي : يصير حيّا طيّارا بأمر الله. قرأ نافع : «طائرا» بالألف والهمزة. (بِإِذْنِ اللهِ) : بأمر الله. نبّه به على أنّ إحياءه من الله لا منه. (الْأَكْمَهَ) : الذي ولد أعمى أو الممسوح العين. وروي أنّه كان يجتمع عليه ألوف من المرضى ، من أطاق منهم أتاه ومن لم يطق أتاه عيسى عليه‌السلام وما يداوي إلّا بالدعاء. (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ). كرّر بإذن الله دفعا لتوهّم الألوهيّة. فإنّ الإحياء ليس من جنس أفعال البشر. (٢)

روي : انّه أحيا سام بن نوح عليه‌السلام وهم ينظرون. فقالوا : هذا سحر. فأرنا آية. فقال : يا فلان ، أنت أكلت كذا. ويا فلان ، خبئ لك كذا. (٣)

(وَأُحْيِ الْمَوْتى). إنّما خصّ عيسى بمعجزة إحياء الموتى ، لأنّ الغالب في زمانه الطبّ فأراهم الله الآيات من جنس ما هم عليه ليكون المعجز أظهر. كما أنّ الغالب لمّا كان في زمن موسى السحر ، أتاهم من جنس ذلك بما عجّزهم عن الإتيان بمثله. ولمّا كان الغالب في زمان نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله البيان والبلاغة والفصاحة ، فأراهم الله المعجزة بالقرآن الذي بهرهم ما فيه من عجائب النظم وغرائب البيان ليكون أبلغ في باب الإعجاز. إذ لو أتاهم بما لا يعرفون ، لكان يجوز أن يخطر ببالهم أنّ ذلك مقدور للبشر غير أنّهم لا يهتدون إليه. (٤)

(بِما تَأْكُلُونَ) : بالمغيبات التي لا تشكّون فيها. (٥)

روي أنّه كان يلعب مع الصبيان وكان يخبرهم بأفعال آبائهم وأمّهاتهم. وكان يخبرهم

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٧٥١ و ٧٥٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦٠.

(٣) الكشّاف ١ / ٣٦٥.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٧٥٣.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦٠.

٣١٣

بأنّ أمّك خبت لك كذا ، فيرجع الصبيّ إلى أهله فيبكي إلى أن يأخذ ذلك الشيء. فقالوا لصبيانهم : لا تلعبوا مع الصبيّ الساحر. وجمعوهم في بيت. فجاء عيسى عليه‌السلام يطلبهم. فقالوا : ليسوا في البيت. فقال : فمن في هذا البيت؟ قالوا : خنازير. فقال عيسى : كذلك. فإذا هم خنازير. اعلم أنّ الإخبار عمّا غاب يكون معجزا لصدوره من الوحي بخلاف ما يقوله المنجّمون ونحوهم ، فإنّه يحتاج إلى الآلة كالكواكب والجنّ ونحو ذلك. فهذا هو الفرق بين الإخبارين. (١)

[٥٠] (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ)

(مُصَدِّقاً). عطف على (رَسُولاً). أو منصوب بإضمار فعل دلّ عليه. (قَدْ جِئْتُكُمْ) ؛ أي : وجئتكم مصدّقا. (٢)

(لِما بَيْنَ يَدَيَّ) ؛ أي : أنزل قبلي وما أنزل فيه من البشارة بي وبالأنبياء قبلي. (٣)

(وَلِأُحِلَّ). مصدر بإضماره. أو معطوف على معنى (مُصَدِّقاً) لأنّه بمعنى لأصدّق. كقولهم : جئتك معتذرا ولأطيب قلبك. (٤)

(وَلِأُحِلَّ). أحلّ لهم عيسى بعض ذلك. قيل : أحلّ لهم من السمك والطير ما لا صيصية له. واختلفوا في إحلاله لهم السبت. (٥)

(حُرِّمَ عَلَيْكُمْ). أي في شريعة موسى عليه‌السلام كالشحوم والثروب والسمك ولحوم الإبل والعمل في السبت. وهو يدلّ على أنّ شريعته كان ناسخا لشريعة موسى عليه‌السلام. (٦)

(وَجِئْتُكُمْ) ؛ أي : وجئتكم بآية أخرى ألهمنيها ربّي ؛ وهي قولي : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ). فإنّه دعوة الحقّ المجمع عليها فيما بين الرسل الفارقة بين النبيّ والساحر. أو : جئتكم بآية على

__________________

(١) تفسير النيسابوريّ ٣ / ٢٠١ ـ ٢٠٢.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦١.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٧٥٤.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦١.

(٥) الكشّاف ١ / ٣٦٥.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦١.

٣١٤

أنّ الله ربّي وربّكم. وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) اعتراض على التقديرين. ويجوز أن يكون تكريرا لقوله : (قَدْ جِئْتُكُمْ). أي : قد جئتكم بآية بعد أخرى ممّا ذكرت لكم من خلق الطير والإبراء وما بعده. وقوله في الأوّل : (قَدْ جِئْتُكُمْ) لتمهيد الحجّة قبل وقوعها ، وهذا القول بعد الإتيان بها. ومن ثمّ فرّع عليه قوله : (فَاتَّقُوا اللهَ) ثمّ شرع في الدعوة بقوله : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) وهو إشارة إلى علم الأصول ومجمل التوحيد. وقوله : (فَاعْبُدُوهُ) إشارة إلى علم الفروع والتكليف. وقوله : (هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) إشارة إلى ما يستلزم العلمين.

(بِآيَةٍ) ؛ أي : بحجّة تشهد بصدقي. (فَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفتي. (١)

[٥١] (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)

(إِنَّ اللهَ رَبِّي). قال ذلك ليكون حجّة على النصارى في قولهم : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ). (٢)

[٥٢] (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)

(أَحَسَّ) ؛ أي : تحقّق كفرهم عنده تحقّق ما يدرك بالحواسّ. (٣)

عن أبي عبد الله عليه‌السلام : أي : لمّا سمع ورأى أنّهم يكفرون. (٤)

(مَنْ أَنْصارِي) ؛ أي : من أعواني على هؤلاء الكفّار مع معونة الله؟ إنّما استنصرهم للجماعة من الكفّار الذين راموا قتله ، وإلّا فهو عليه‌السلام لم يبعث بالسيف ، إنّما أرسل بالموعظة والنصيحة. (٥)

قيل : إنّه دعاهم إلى القتال مع القوم. كما قال : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ)(٦). (٧)

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٧٥٥.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٧٥٥.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦١.

(٤) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ / ١٠٣.

(٥) مجمع البيان ٢ / ٧٥٦.

(٦) الصفّ (٦١) / ١٤.

(٧) تفسير النيسابوريّ ٣ / ٢٠٤.

٣١٥

(إِلَى اللهِ). إلى بمعنى مع أو في أو اللّام. (قالَ الْحَوارِيُّونَ). حواريّ الرجل خالصته. من الحور ؛ وهو البياض الخالص. سمّي به أصحاب عيسى لخلوص نيّتهم ونقاء سريرتهم. وقيل : كانوا ملوكا يلبسون البيض استنصر بهم عيسى من اليهود. وقيل : قصّارين يحوّرون الثياب ؛ أي : يبيّضونها. (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) أي دينه. (١)

[٥٣] (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ)

(مَعَ الشَّاهِدِينَ). أي بوحدانيّتك. أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم. أو مع أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. فإنّهم شهداء على الناس. (٢)

[٥٤] (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ)

(وَمَكَرُوا). أي الذين أحسّ عيسى منهم الكفر من اليهود بأن وكلوا به من يقتله غيلة. (وَمَكَرَ اللهُ) حين رفع عيسى عليه‌السلام وألقى شبهه على من قصد اغتياله من اليهود ودلّهم عليه حتّى قتل. والمكر من حيث إنّه في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرّة ، لا يسند إلى الله إلّا على سبيل المقابلة والازدواج. (خَيْرُ الْماكِرِينَ) : أقواهم مكرا وأقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب. (٣)

قال ابن عبّاس : لمّا أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه‌السلام دخل خوخة فيها كوّة ، فرفعه جبرئيل من الكوّة إلى السماء. فقال الملك لرجل منهم خبيث : ادخل عليه فاقتله. فدخل الخوخة ، فألقى الله عليه شبه عيسى. فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنّه ليس في البيت ، فقتلوه وصلبوه وظنّوا أنّه عيسى. (٤)

[٥٥] (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦١.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦٢.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦٢.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٧٥٧.

٣١٦

بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)

(إِذْ قالَ). ظرف لمكر الله أو خير الماكرين. (مُتَوَفِّيكَ) ؛ أي : مستوفي أجلك ومؤخّرك إلى أجلك المسمّى عاصما إيّاك من قتلهم. أو : قابضك من وجه الأرض. أو : متوفّيك نائما. إذ روي أنّه رفع نائما. أو : مميتك عن الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت. وقيل : أماته الله سبع ساعات ، ثمّ رفعه إلى السماء. وإليه ذهبت النصارى. (وَرافِعُكَ) إلى محلّ كرامتي. (١)

عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : إنّ عيسى عليه‌السلام وعد أصحابه ليلة رفعه الله إليه ، فاجتمعوا إليه عند المساء وهم اثنا عشر رجلا. فقال لهم : إنّ الله أوحى إليّ أنّه رافعي إليه الساعة ، ومطهّري من اليهود. فأيّكم يلقى عليه شبحى فيقتل ويصلب ويكون معي في درجتي؟ فقال شابّ منهم : أنا يا روح الله. فقال : فأنت هو ذا. فقال لهم عيسى : أما إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة. فقال له رجل منهم : أنا هو يا نبىّ الله؟ فقال عيسى : أتحسّ بذلك في نفسك؟ فلتكن هو. ثمّ قال لهم عيسى : إنّكم ستفترقون بعدي على ثلاثة فرق : فرقتين مفتريتين على الله في النار ، وفرقة تتّبع شمعون صادقة على الله في الجنّة. ثمّ رفع الله عيسى إليه من زاوية البيت وهم ينظرون إليه. ثمّ قال : إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى : إنّ منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح. (٢) لأنّه دلّهم على عيسى عليه‌السلام. (٣)

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : انّ الله رفع عيسى إليه بعد أن توفّاه. (٤)

(مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ). قيل : معناه : يميتك في وقتك بعد النزول من السماء ورافعك الآن. (٥)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦٢.

(٢) تفسير عليّ بن إبراهيم ١ / ١٠٣.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٧٥٨.

(٤) كمال الدين / ٢٢٥.

(٥) الكشّاف ١ / ٣٦٧.

٣١٧

(إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) ؛ أي : رافعك إليّ وافيا لم ينالوا منك شيئا. من قولهم : توفّيت كذا واستوفيته ؛ أي : أخذته تامّا. أو : إنّي متوفّيك وفاة نوم ورافعك إليّ في النوم. (فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) من أمر عيسى عليه‌السلام. (١)

(وَرافِعُكَ) ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان. عن الباقر عليه‌السلام. (٢)

(مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ؛ أي : من سوء جوارهم أو قصدهم. (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا). يعلونهم بالحجّة أو السيف في غالب الأمر. ومتّبعوه من آمن بنبوّته من المسلمين والنصارى. وإلى الآن لم يسمع غلبة اليهود عليهم ولم يتّفق لهم ملك ودولة. (٣)

(فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا). يعلونهم بالحجّة ، وفي أكثر الأحوال بالحجّة والسيف. ومتّبعوه هم المسلمون دون الذين كذّبوه وكذبوا عليه من اليهود والنصارى. (٤)

[٥٦] (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ)

(فِي الدُّنْيا) بالقتل والأسر والخسف والجزية. وفي الآخرة عقاب الأبد. (مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون عنهم العذاب. (٥)

[٥٧] (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)

(فَيُوَفِّيهِمْ). قرأ حفص بالياء ، والباقون بالنون. أي : يتمّم جزاء أعمالهم. وفيه حجّة على من قال بالإحباط. لأنّه عزوجل وعد بتوفية الأجر وهو الثواب ، والتوفية منافية للإحباط. (٦)

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٧٥٩.

(٢) الخصال / ٥٠٨.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦٢.

(٤) جوامع الجامع ١ / ٢١٢.

(٥) مجمع البيان ٢ / ٧٦٠ ـ ٧٦١.

(٦) مجمع البيان ٢ / ٧٦٠ ـ ٧٦١.

٣١٨

أقول : الأخبار الواردة بالإحباط مستفيضة على ما لا يخفى على الممارس. نعم ؛ هي بمعنى الموازنة وإبقاء الزائد ؛ ـ كما ذهب إليه طائفة من المتكلّمين ـ لا بمعنى الإحباط المتأخّر للمتقدّم كيف كان ، لما يلزم من الظلم. وعلى ما من الموازنة يكون قد وفي جميع أموره لأنّ الزائد قد بقي له والساقط بموازنته قد وفاه أيضا. إذ لو لم ينتفع به إسقاط الذنوب ، لبقيت عليه تبعاتها ، فهو قد رأى خير ما عمل وشرّ ما عمل.

(لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ؛ أي : لا يريد إثابتهم ولا يثني عليهم. (١)

[٥٨] (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)

(ذلِكَ نَتْلُوهُ) ؛ أي : الإخبار من عيسى ويحيى وزكريّا وغيرهم ، من جملة الآيات الدالّة على صدق نبوّتك ، إذا علّمتهم بما لا يعلمه إلّا قارئ كتاب أو معلّم. (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) ؛ أي : القرآن المحكم. وصفه بأنّه حكيم لما فيه من الحكمة فكأنّه ينطق بالحكمة. (٢)

[٥٩] (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

(مَثَلَ عِيسى) ؛ أي : شأنه الغريب. (خَلَقَهُ). جملة مفسّرة للتمثيل. (٣)

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى). نزلت في وفد نجران العاقب والسيّد ومن معهما. قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : هل رأيت ولدا من غير ذكر؟ فنزل : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى). فقرأها عليهم. يعني : انّ مثل آدم أعجب من عيسى لأنّه من غير أب ولا أمّ. فكيف أقرّوا بذلك وأنكروا هذا؟ (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) ؛ أي : خلق آدم من التراب كما خلق عيسى من الريح. (ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ). أي لآدم ، أو لعيسى. (٤)

[٦٠] (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ)

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٧٦١.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٧٦١.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦٢.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٧٦٢ ـ ٧٦٣.

٣١٩

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) : هذا هو الحقّ من ربّك. (١)

(الْحَقُّ) ؛ أي : الحقّ المذكور (مِنْ رَبِّكَ). (فَلا تَكُنْ). خطاب للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله لزيادة الثبات ، أو لكلّ سامع. (٢)

[٦١] (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ)

(فَمَنْ حَاجَّكَ) ؛ أي : جادلك ـ يا محمّد ـ في أمر عيسى من بعد ما جاءك [من] البرهان الواضح على أنّه عبدي ورسولي. أو : من حاجّك في الحقّ في قوله : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ). (فَقُلْ تَعالَوْا) إلى حجّة أخرى تميز الصادق من الكاذب. (نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ). أجمع المفسّرون على أنّ المراد الحسن والحسين عليهما‌السلام. قال أبو بكر الرازيّ : هذا يدلّ على أنّ ولد الابنة ابن على الحقيقة. وأمّا صغر السنّ ، فهو عندنا لا ينافي كمال العقل وبلوغ الحلم ؛ إنّما يشترط للتكاليف الشرعيّة والأحكام. على أنّ أولاد الأنبياء لهم ما ليس لغيرهم. (وَنِساءَنا). اتّفقوا على أنّ المراد بها فاطمة عليهما‌السلام. لأنّه لم يحضر المباهلة غيرها. (وَأَنْفُسَنا). يعني عليّا عليه‌السلام خاصّة. ولا يجوز أن يكون المعنيّ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. لأنّه لا يجوز أن يدعو الإنسان نفسه. (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) ؛ أي : نتضرّع في الدعاء. وقيل : نلتعن فنقول : لعن الله الكاذبين منّا. ولمّا دعاهم إلى المباهلة ، استنظروه إلى صبيحة غد. فلمّا رجعوا إلى رحالهم ، قال لهم الأسقف : انظروا محمّدا في غد. فإن جاء بولده وأهله ، فاحذروا. وإن جاء بأصحابه ، فباهلوه. فلمّا كان الغد ، أتى بأهله وجثا على ركبتيه للمباهلة. فقال الأسقف : جثا ـ والله ـ كما جثا الأنبياء للمباهلة. فقال الأسقف : لا نباهلك ولكن نصالحك. فقبلوا الجزية. وروي أنّ الأسقف قال لهم : إنّي لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه ، لأزاله. فلا تبتهلوا فتهلكوا. وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : والذي نفسي بيده ، لو لا عنوني ، لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم الوادي عليهم نارا ، و

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٧٦٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٦٣.

٣٢٠