عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-26-5
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦٣

لاستطاعتهم. كقول الرجل لعدوّه : إن ظفرت بي فلا تبق عليّ ، وهو واثق بأنّه لا يظفر به. (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) لما يفوتهم بإحداث الردّة ممّا للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام وباستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة. وبها احتجّ الشافعيّ على أنّ الردّة لا تحبط الأعمال حتّى يموت عليها. وعند أبي حنيفة أنّها تحبط وإن رجع مسلما. (١)

[٢١٨] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا). إنّ ابن جحش وأصحابه حين قتلوا الحضرميّ ، ظنّ قوم أنّهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر ، فنزلت. (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ). عن قتادة : هؤلاء خيار هذه الأمّة. ثمّ جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون. وإنّه من رجا طلب ومن خاف هرب. (٢)

[٢١٩] (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)

(يَسْئَلُونَكَ) يا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله (عَنِ الْخَمْرِ). وهو كلّ شراب مسكر مخالط للعقل. هذا هو الظاهر في روايات أصحابنا. وقيل : الخمر عصير العنب إذا اشتدّ وغلى. وهو مذهب أبي حنيفة. (وَالْمَيْسِرِ). وهو القمار كلّه. عن ابن عبّاس. وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام حتّى قالوا إنّ لعب الصبيان بالجوز قمار. (إِثْمٌ كَبِيرٌ) ؛ أي : وزر عظيم. ومنفعة الخمر ما كانوا يأخذونه في أثمانها وما يحصل من اللّذّة والطرب والقوّة بشربها. ومنفعة القمار أخذ الرجل مال صاحبه من غير كدّ ولا مشقّة. وما فيهما من الإثم أكبر ، لأنّ نفعهما في الدنيا وإثمهما في الآخرة يوجب سخط الله فلا يظهر في جنبه إلّا نفع قليل. قال الحسن : في الآية تحريم الخمر

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٢٥٩.

(٢) الكشّاف ١ / ٢٥٩.

٢٠١

من وجهين. أحدهما : قوله : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ). فإنّه إذا زادت مضرّة الشيء على منفعته ، اقتضى العقل الامتناع عنه. والثاني : انّه بيّن فيهما الإثم. وقد حرّمه في آية أخرى فقال : (إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ). (١) وقال قتادة : هذه الآية لا تدلّ على تحريمهما. وإنّما تدلّ الآية التي في المائدة من قوله : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) ـ الآية (٢). (٣)

عن بعض أصحابنا مرسلا قال : إنّ أوّل ما نزل في تحريم الخمر هذه الآية. فأحسّ القوم بتحريم الخمر وعلموا أنّ الإثم ممّا ينبغي اجتنابه ولا يحمل الله عليهم من كلّ طريق ، لأنّه قال : (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ). ثمّ أنزل آية أخرى ـ الحديث. (٤)

وعن عليّ بن الحسين عليهما‌السلام : الخمر من ستّة أشياء : التمر والزبيب والحنطة والشعير والعسل والذرّة. (٥)

(الْخَمْرِ). خصّه أبو حنيفة بعصير العنب فأباح النبيذ المأخوذ من التمر لقوله تعالى : (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً)(٦) والمنّة لا تكون إلّا بالمباح. (٧)

(وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ). قال بقراط : في الخمر عشرة منافع : يجوّد الهضم ، ويدرّ البول ، ويحسّن البشرة ، ويطيّب النكهة ، ويزيد في الباه ـ هذا في البدن ـ ويسرّ النفس ويقرّب الأمل ويشجّع النفس ويحسّن الخلق ويزيل البخل. (٨) ولأنّهم كانوا يدفعون الأنصباء إلى الفقراء ويفتخرون بذلك ويذمّون من لم يدخل معهم فيه. (٩)

(كَبِيرٌ). حمزة والكسائيّ بالثاء. والباقون بالباء. (١٠)

نزلت في الخمر أربع آيات. نزلت بمكّة : (وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ

__________________

(١) الأعراف (٧) / ٣٣.

(٢) المائدة (٥) / ٩٠.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٥٥٧ ـ ٥٥٨.

(٤) الكافي ٦ / ٤٠٦.

(٥) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٠٦.

(٦) النحل (١٦) / ٦٧.

(٧) تفسير النيسابوريّ ٢ / ٣٢٣ و ٣٢٥.

(٨) تفسير النيسابوريّ ٢ / ٣٣١.

(٩) تفسير النيسابوريّ ٢ / ٣٢٨ ـ ٣٢٩.

(١٠) التيسير / ٦٨.

٢٠٢

سَكَراً)(١). وكان المسلمون يشربونها وهي لهم حلال. ثمّ إنّ نفرا من جماعة الصحابة قالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أفتنا في الخمر. فإنّها مذهبة للعقل ومسلبة للمال. فنزلت : (فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ). فشربها قوم وتركها آخرون. ثمّ سكر بعضهم وقرأ في صلاته : أعبد ما تعبدون. فنزلت : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى). (٢) فقلّ من شربها. ثمّ سكر جماعة من المهاجرين والأنصار وتلاحوا وتضاربوا ، فنزلت : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) ـ الآية. (٣) والميسر : القمار. مصدر من يسر كالموعد. واشتقاقه من اليسر لأنّه أخذ مال الرجل بسهولة ويسر من غير تعب ، أو من اليسار لأنّه سلب يساره. وكان الرجل في الجاهليّة يخاطر في أهله وماله. وهي الأزلام ، أعني القداح العشرة. (٤)

(ما ذا). السائل عمرو بن الجموح. سأل عن النفقة في الجهاد. وقيل : في الصدقات. (قُلِ الْعَفْوَ). وهو ما فضل عن الأهل والعيال ، أو الفضل عن الغنى ، أو ما فضل عن قوت السنة ـ عن الباقر عليه‌السلام قال : ونسخ ذلك بآية الزكاة ـ أو أطيب المال وأفضله. (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) ؛ أي : لكي تتفكّروا في أمر الدنيا والآخرة فتعلمون أنّ الدنيا دار بلاء وأنّ الآخرة دار جزاء.

وقيل : إنّه من صلة (يُبَيِّنُ). أي : كما يبيّن لكم الآيات في الخمر والميسر ، يبيّن لكم الآيات في أمور الدنيا والآخرة لكي تتفكّروا في ذلك. (٥)

أبو عمرو برفع (الْعَفْوَ) ، والباقون بالنصب. (٦) أي : أنفقوا العفو. أو : الذي ينفقونه العفو. (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) في أمر النفقة والخمر والميسر أو الأعمّ. (٧)

عن الصادق عليه‌السلام : (الْعَفْوَ) الوسط ؛ لا إقتار ولا إسراف. (٨)

[٢٢٠] (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ

__________________

(١) النحل (١٦) / ٦٧.

(٢) النساء (٤) / ٤٣.

(٣) المائدة (٥) / ٩٠.

(٤) الكشّاف ١ / ٢٦١.

(٥) مجمع البيان ٢ / ٥٥٨.

(٦) التيسير / ٦٨.

(٧) مجمع البيان ٢ / ٥٥٥ و ٥٥٩.

(٨) تفسير العيّاشيّ ١ / ١٠٦ ، وتفسير القمّيّ ١ / ٧٢.

٢٠٣

تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)

(فِي الدُّنْيا). صلة تتفكّرون أو متعلّق بيبيّن. (١)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى). قال ابن عبّاس : لمّا نزل : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ)(٢) انطلق كلّ من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه فاشتدّ ذلك عليهم. فنزلت. (٣)

وروي عن السيّدين الباقر والصادق عليهما‌السلام أنّه لمّا نزل قوله : (وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ)(٤) كرهوا مخالفة اليتامى فشقّ ذلك عليهم ، فشكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأنزل الله هذه الآية. (٥)

يعني : (يَسْئَلُونَكَ) عن التصرّف في أموال اليتامى والقيام عليهم. (إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ). يعني : إصلاح لأموالهم من غير أجرة ولا أخذ عوض أعظم أجرا. وإن تخالطوا أموالهم بأموالكم ، فهم إخوانكم. والإخوان يعين بعضهم بعضا ويصيب بعضهم من مال بعض. وهذا إذن لهم فيما كانوا يتحرّجون منه من مخالطة الأيتام في الأموال من المأكل والمشرب والمسكن إذا تحرّوا الصلاح. وهو المرويّ في أخبارنا. (٦)

عن سماعة عن الصادق عليه‌السلام في قوله : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) قال : إذا كان الرجل يلي الأيتام في حجره ، فليخرج من ماله على قدر ما يخرج لكلّ انسان منهم فيخالطهم ويأكلون جميعا ، ولا يرزأنّ من أموالهم شيئا. إنّما هي النار. (٧)

وفي حديث آخر عنه ، قلت : أرأيت إن كانوا يتامى صغارا وكبارا وبعضهم أعلى كسوة من بعض وبعضهم آكل من بعض وما لهم جميعا؟ فقال : أمّا الكسوة ، فعلى كلّ إنسان ثمن كسوته. وأمّا الطعام ، فاجعلوه جميعا. فإنّ الصغير يوشك أن يأكل مثل الكبير. (٨)

وفي حديث ثالث عن الكاهليّ قال : قيل لأبي عبد الله عليه‌السلام : إنّا ندخل على أخ لنا في بيت

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٢٦٣.

(٢) الأنعام (٦) / ١٥٢.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٥٥٨.

(٤) النساء (٤) / ٢.

(٥) مجمع البيان ٣ / ٧.

(٦) مجمع البيان ٢ / ٥٥٨ ـ ٥٥٩.

(٧) الكافي ٥ / ١٢٩.

(٨) الكافي ٥ / ١٣٠.

٢٠٤

أيتام ومعهم خادم لهم فنقعد على بساطهم ونشرب من مائهم ويخدمنا خادمهم ونطعم الطعام وفيه من طعامهم. فقال : إن كان في دخولكم عليهم منفعة لهم ، فلا بأس. وإن كان فيه ضرر ، فلا. (١)

(لَأَعْنَتَكُمْ) ؛ أي : لضيّق عليكم في أمر اليتامى ومخالطتهم وألزمكم ما كنتم تجتنبونه من مشاركتهم. (٢)

البزّيّ من رواية أبي ربيعة : (لَأَعْنَتَكُمْ) بتليين الهمزة ، والباقون بتحقيقها. (٣)

[٢٢١] (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

(وَلا تَنْكِحُوا). عن الباقر والرضا عليهما‌السلام أنّ هذه الآية وقوله : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ)(٤) ناسختان لقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(٥). (٦)

(وَلا تَنْكِحُوا) ؛ أي : لا تعقدوا عليهنّ. (الْمُشْرِكاتِ) ؛ أي : الحربيّات. والآية ثابتة. وقيل : المشركات الحربيّات والكتابيّات جميعا ؛ لقوله تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) إلى قوله : (عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٧) وهي منسوخة بقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ). (٨) وسورة المائدة كلّها ثابتة لم ينسخ منها شيء. وهو قول ابن عبّاس. وروي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث مرثد الغنويّ إلى مكّة ليخرج منها ناسا من المسلمين. وكان يهوى امرأة في الجاهليّة اسمها عناق. فأتته وقالت : ألا نخلو؟

__________________

(١) الكافي ٥ / ١٢٩.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٥٥٩.

(٣) التيسير / ٦٨.

(٤) الممتحنة (٦٠) / ١٠.

(٥) المائدة (٥) / ٥.

(٦) مجمع البيان ٣ / ٢٥١ ، والكافي ٥ / ٣٥٧ ، ح ٦.

(٧) التوبة (٩) / ٣٠.

(٨) المائدة (٥) / ٥.

٢٠٥

فقال : ويحك! إنّ الإسلام حال بيننا. فقالت : هل لك أن تتزوّج بي؟ قال : نعم. ولكن أرجع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأستأمره. فنزلت. (وَلَأَمَةٌ) ؛ أي : امرأة مؤمنة حرّة كانت أو مملوكة. وكذلك (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ). لأنّ الناس كلّهم عبيد الله وإماؤه. (وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) ؛ أي : ولو كان الحال أنّ المشركة تعجبكم وتحبّونها ، فإنّ المؤمنة خير منها مع ذلك. (أُولئِكَ). إشارة إلى المشركين والمشركات. أي : يدعون إلى الكفر ، فحقّهم أن لا يوالوا ولا يصاهروا. (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) يعني : وأولياء الله ـ وهم المؤمنون ـ يدعون إلى الجنّة (وَالْمَغْفِرَةِ) وما يوصل إليهما. فهم الذين تجب موالاتهم ومصاهرتهم. (بِإِذْنِهِ) ؛ أي : بتوفيقه للعمل يستحقّون به الجنّة. (١)

(وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ). معناه : مملوكة مصدّقة مسلمة خير من حرّة مشركة ولو أعجبكم مالها وحسنها وجمالها. (أُولئِكَ يَدْعُونَ). وهذا مثل التعليل. لأنّ الغالب أنّ الزوج يدعو زوجته إلى دينه. (إِلَى الْجَنَّةِ) ؛ أي : إلى فعل ما يوجب الجنّة (وَالْمَغْفِرَةِ) من الإيمان والطاعة. (بِإِذْنِهِ). أي : بأمره. يعني : بما يأمر ويأذن فيه من الشرائع والأحكام. وقيل : بإعلامه. (آياتِهِ) ؛ أي : حججه. وقيل : أوامره ونواهيه. (٢)

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ). هي عامّة عندنا في تحريم مناكحة جميع الكفّار ؛ أهل الكتاب وغيرهم. وليست بمنسوخة ولا مخصوصة. واختلفوا فيه. فقال بعضهم : لا يقع اسم المشركات على أهل الكتاب وقد فصّل الله بينهما فقال : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ). (٣) فلا نسخ في الآية ولا تخصيص. وقال بعضهم : الآية يتناول جميع الكفّار والمشركين. ثمّ اختلف هؤلاء. فمنهم من قال : الآية منسوخة في الكتابيّات بالآية في المائدة : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ). (٤) ومنهم من قال : إنّها مخصوصة بغير الكتابيّات. (٥)

__________________

(١) الكشّاف ١ / ٢٦٤.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٥٦١.

(٣) البيّنة (٩٨) / ١.

(٤) المائدة (٥) / ٥.

(٥) مجمع البيان ٢ / ٥٦٠.

٢٠٦

أقول : ومنهم من خصّ التحريم بالكتابيّات في الدائم دون المتعة كما حقّق في كتب الفقه. (حسن)

[٢٢٢] (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ). قيل : كانوا في الجاهليّة يتجنّبون مؤاكلة الحائض ومشاربتها ومجالستها. فسألوا عن ذلك ، فنزلت. والسائل أبو الدحداح.

(عَنِ الْمَحِيضِ) ؛ أي : الحيض وأحواله. (قُلْ هُوَ أَذىً) ؛ أي : قذر ونجس. وقيل : هو أذى لهنّ وعليهنّ لما فيه من المشقّة. فاجتنبوا مجامعتهنّ في الفرج. عن ابن عبّاس ، ويوافق مذهبنا. لأنّه لا يحرم منها غير موضع الدم. وقيل : ما دون الإزار ويحلّ ما فوقه. وهو قول أبي حنيفة والشافعيّ. (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ) بالجماع أو ما دون الإزار على الخلاف فيه. (١)

(الْمَحِيضِ). مصدر (٢) أو إسم مكان أو زمان. (٣)

(أَذىً) ؛ أي : يؤذي من يقربه نفرة. كانوا في الجاهليّة لم يساكنوا الحائض كفعل اليهود والمجوس. وكان النصارى يجامعوهنّ وقت الحيض. فنهي المسلمون عن هذا الإفراط والتفريط. (٤)

لا خلاف في حرمة الجماع زمان الحيض. إنّما الخلاف فيما دون السرّة وفوق الركبة. فالشافعيّ وأبو حنيفة على أنّه يجب اعتزال ما اشتمل عليه الإزار. وقيل : ما سوى الفرج حلال. (٥)

(حَتَّى يَطْهُرْنَ). أبو بكر وحمزة والكسائيّ : (حَتَّى يَطْهُرْنَ) بفتح التاء والهاء مع

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٥٦٢ ـ ٥٦٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٢٠.

(٣) تفسير النيسابوريّ ٢ / ٣٤٤.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ١٢٠.

(٥) تفسير النيسابوريّ ٢ / ٣٤٤.

٢٠٧

تشديدها. والباقون بإسكان الطاء وضمّ الهاء مخفّفا. (١)

(فَإِذا تَطَهَّرْنَ). فإنّه يقتضي تأخير جواز الإتيان عن الغسل. (٢)

(التَّوَّابِينَ) من الذنوب. (الْمُتَطَهِّرِينَ) بالماء. رواه أصحابنا في سبب نزول الآية. وقيل : يحبّ المتطهّرين من الذنوب. وقيل : التوّابين من الكبائر والمتطهّرين من الصغائر. (حَتَّى يَطْهُرْنَ). بالتخفيف. أي : ينقطع الدم عنهنّ. وبالتشديد معناه : حتّى يغتسلن. عن طاووس. وهو مذهبنا. (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) ؛ أي : اغتسلن. وقيل : توضّأن. وقيل : غسلن الفرج.

[(فَأْتُوهُنَّ) :] فجامعوهنّ. والأمر للإباحة. (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) بتجنّبه في حال الحيض وهو الفرج. وقيل : من قبل النكاح دون الفجور. (٣)

أقول : قوله : (وهو مذهبنا) المشهور بيننا كراهة الجماع بعد انقضاء الدم قبل [غسل] الحيض. فافهم. (حسن)

[٢٢٣] (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)

(نِساؤُكُمْ). جار مجرى البيان لقوله : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) دلالة على أنّ الغرض الأصليّ في الإتيان هو طلب النسل فينبغي أن يؤتى مكان الحرث. (٤)

(حَرْثٌ لَكُمْ) ؛ أي : موضع حرث ، تشبيها لما يلقى في أرحامهنّ من النطف بالبذور. (٥)

(نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ). عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يأتي المرأة في دبرها ، قال : لا بأس إذا رضيت. قلت : فأين قول الله : (مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ)؟ قال : هذا في طلب الولد. فاطلبوا الولد من حيث أمركم الله. إنّ الله يقول : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) ـ الآية. (٦)

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٥٦١ ، وتفسير النيسابوريّ ٢ / ٣٤٣.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٢٠.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٥٦٣.

(٤) تفسير النيسابوريّ ٢ / ٣٤٦.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ١٢٠.

(٦) التهذيب ٧ / ٤١٤.

٢٠٨

عن الرضا عليه‌السلام : انّ اليهود كانت تقول : إذا أتى الرجل امرأته من خلفها ، خرج الولد أحول. فأنزل الله : (أَنَّى شِئْتُمْ). يعني من خلف وقدّام ، خلافا لقول اليهود. ولم يعن من أدبارهنّ. (١)

أقول : الأخبار متعارضة في تفسير هذه الآية وفي جواز الوطي في الدبر. والآية مجملة كما ترى. والتوفيق بين الأخبار يقتضي القول بجوازه وحمل النهي على التقيّة تارة وأخرى على شدّة الكراهة.

(مُلاقُوهُ) فتزوّدوا ما لا تفتضحون به. (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) : الكاملين في الإيمان بالكرامة والنعيم الدائم. (٢)

[٢٢٤] (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

نزلت الآية في عبد الله بن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه ولا يكلّمه ولا يصلح بينه وبين امرأته. فكان يقول : إنّي حلفت بهذا فلم يحلّ لي أن أفعله. فنزلت. (٣)

وفي الآية دلالة على أنّ من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه ، فله أن ينقض يمينه ويفعل الذي هو خير. ولا كفّارة عندنا عليه. وأكثر الفقهاء أوجبوا عليه الكفّارة. (٤)

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ) ـ الآية. في معناه ثلاثة أقول. أحدها : انّ معناه : لا تجعلوا اليمين بالله علّة مانعة لكم من البرّ والتقوى من حيث تعتمدونها لتعتلّوا بها وتقولوا : حلفنا بالله ، ولم تحلفوا به. وأصله في هذا الوجه الاعتراض الذي هو المانع بينكم وبين البرّ والتقوى. لأنّ المعترض بين الشيئين يكون مانعا من وصول أحدهما إلى الآخر فالعلّة مانعة لهذا المعترض. والثاني : إنّ عرضة معناه حجّة. فكأنّه قيل : لا تجعلوا اليمين بالله حجّة في المنع من البرّ والتقوى. فإن كان قد سلف منكم يمين ، ثمّ ظهر أنّ غيرها خير منها ، فافعلوا الذي هو خير و

__________________

(١) تفسير العيّاشيّ ١ / ١١١.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٢٠.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٥٦٦.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٥٦٨.

٢٠٩

لا تحتجّوا بما سلف من اليمين. وأصله في هذا القول والأوّل واحد ، لأنّه منع من جهة الاعتراض لحجّة أو علّة. والثالث : انّ معناه : لا تجعلوا اليمين بالله عرضة مبتذلة في كلّ حقّ وباطل لأن تبرّوا بالحلف بها وتتّقوا المآثم فيها. لقوله : لا تحلف بالله وإن بررت. وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام. وتقديره على الوجه الأوّل والثاني : لا تجعلوا لله مانعا من البرّ والتقوى باعتراضك به حالفا. وعلى الوجه الثالث : لا تجعلوا الله ممّا تحلف به دائما باعتراضك بالحلف في كلّ حقّ وباطل. (أَنْ تَبَرُّوا). في معناه أقوال. الأوّل : لأن تبرّوا في اليمين. الثاني : انّ المعنى : لدفع أن تبرّوا ، أو لترك أن تبرّوا عن المبرّد. والثالث : انّ معناه : أن لا تبرّوا ، فحذف لا. عن أبي عبيدة. والمعنى في قول أبي عبيدة وابن عبّاس واحد وإن اختلف التقدير. (وَتَتَّقُوا) ؛ أي : تتّقوا الإثم والمعاصي في الأيمان. (وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ). عطف على ما سبق. ومعناه : لا تجعلوا الحلف بالله علّة أو حجّة في أن لا تبرّوا ولا تتّقوا ولا تصلحوا بين الناس ، أو لدفع أن تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا وعلى الوجه الثالث : ولا تجعلوا اليمين بالله مبتذلة لأن تبرّوا وتتّقوا وتصلحوا ؛ أي : لكي تكونوا من البررة والأتقياء والمصلحين بين الناس. فإنّ من كثرت يمينه لا يوثق بحلفه ومن قلّت يمينه فإنّه أقرب إلى التقوى والإصلاح بين الناس. (١)

(أَنْ تَبَرُّوا). عطف بيان لأيمانكم. أي : للأمور المحلوف عليها التي هي البرّ والتقوى والإصلاح بين الناس. واللّام في لأيمانكم متعلّقة بالفعل. أي : لا تجعلوا الله لأيمانكم برزخا وحاجزا. ويجوز أن يتعلّق بعرضة لما فيها من معنى الاعتراض. أي : لا تجعلوه شيئا يعترض البرّ. ويجوز أن يكون اللّام للتعليل ويتعلّق (أَنْ تَبَرُّوا) بالفعل أو بالعرضة. أي : ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبرّوا. (٢)

[٢٢٥] (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ)

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٥٦٧ ـ ٥٦٨.

(٢) الكشّاف ١ / ٢٦٧ ـ ٢٦٨.

٢١٠

اللّغو : الكلام الذي لا فائدة فيه. ويمين اللّغو : ما يجري عادة على اللّسان من قول : لا والله ، وبلى والله ، من غير عقد على يمين لا يظلم بها أحدا. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام. وقيل : هو أن يحلف وهو يرى أنّه صادق ثمّ تبيّن أنّه كاذب ، فلا إثم عليه ولا كفّارة. وقيل : هو يمين الغضبان ، لا يؤاخذ بالحنث فيها. (بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) ؛ أي : بما عزمتم وقصدتم. لأنّ كسب القلب العقد والنيّة. وفيه حذف. أي : [من] أيمانكم. (١)

[٢٢٦] (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) ؛ أي : يحلفون بالله على عدم وطيهنّ. والإيلاء في اللّغة اليمين ، وفي الشرع عندنا الحلف على الامتناع من وطي الزوجة زائدا على أربعة أشهر. وعلى هذا فإطلاق الآية مقيّد بما زاد على الأربعة أشهر. فلو حلف أن لا يجامع أقلّ منها ، لم يكن موليا عندنا. ويعتبر أيضا كونه بقصد الإضرار بالزوجة. فلو قصد دفع ضرر الوطي عنه أو عنها أو عن الولد ، لم يكن إيلاء يترتّب عليه أحكامه عندنا. نعم يقع يمينا. والإيلاء يتعدّى بعلى ؛ لكن لمّا ضمن معنى البعد ، عدّي بمن. (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ). مبتدأ وخبره ما تقدّم. والتربّص : الانتظار. أي : للمولي حقّ المهلة في هذه المدّة فلا يطالب فيها بفيء ولا يحبس. ومن ثمّ اعتبر أصحابنا في الإيلاء زيادة المدّة على أربعة أشهر ليجبره الحاكم بعدها على الفيئة أو الطلاق. واكتفى الحنفيّة بأربعة فما دون. وابتداء هذه المدّة من حين الترافع إلى الحاكم والحكم عند بعض الأصحاب ، وعند آخرين احتسابها من حين الإيلاء. وظاهر الآية يدلّ على هذا حيث رتّب التربّص عليه من غير تعرّض للمرافعة. ويدلّ عليه حسنة بريد. ومقتضى العموم كون الدخول غير شرط إلّا أنّ الأصحاب شرطوه في تحقّق الإيلاء. فإن رجعوا في اليمين بالحنث وعادوا إلى أزواجهم ، (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فيغفر

__________________

(١) مجمع البيان ٢ / ٥٦٨ ـ ٥٦٩.

٢١١

للمولي إثم حنثه إذا كفّر وما قصد بالإيلاء من الإضرار بالزوجة بالفيئة التي هي بمثابة التوبة. (١)

(فاؤُ) ؛ أي : رجعوا ، إمّا بالجماع مع القدرة عليه ، أو بالقول عند العجز عنه. (٢)

[٢٢٧] (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ) ؛ أي يعزم عليه ويتلفّظ به ، عندنا. وقال أبو حنيفة : إذا مضت أربعة أشهر ولم يفئ ، بانت منه بغير تطليقة. (٣)

[٢٢٨] (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨))

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ). خبر بمعنى الأمر لفائدة التأكيد. (بِأَنْفُسِهِنَّ). تهييج وبعث لهنّ على التربّص فإنّ نفوس النساء طوامح إلى الرجال فأمرن بقمعها وحملها على التربّص. (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). نصب على الظرفيّة أو المفعول به. والأقراء هنا الأطهار بإجماع أصحابنا والشافعيّة وأخبارنا دالّة عليه. والحنفيّة على أنّ المراد بها الحيض. واستدلّ لهم في الكشّاف بما لا يدلّ عليه. (فِي أَرْحامِهِنَّ) من الولد أم من دم الحيض استعجالا في العدّة وإبطالا لحقّ الزوج في الرجعة. وبه استدلّ على قبول قولهنّ في ذلك وإلّا لما حرّم عليهنّ الكتمان. وفي أخبارنا ما يدلّ عليه. (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ). يعني أنّ الكتمان ينافي الإيمان. والتاء في (بُعُولَتُهُنَّ) لتأنيث الجمع. (أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ) إلى النكاح السابق من غير عقد مجدّد بل مجرّد الرجعة فعلا أو لفظا. والمراد أنّه لا يجوز لأحد أن يتزوّجهنّ ، لا أنّ الغير له حقّ والأزواج أحقّ منه. أو

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ / ١٠٧ ـ ١٠٩.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٥٧١.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٥٧١. وفيه : بانت منه بتطليقه.

٢١٢

المعنى : انّ الرجل إذا أراد الرجعة وأبتها المرأة ، وجب إيثار قوله على قولها ، وكان هو أحقّ منها ؛ بمعنى [أنّ] ذلك حقّه وحده. فأفعل هنا بمعنى أصل الفعل. (فِي ذلِكَ) أي : زمان التربّص. (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) بالرجعة لا إضرار الزوجة. والمراد الحثّ على قصد الإصلاح ، لا أنّه شرط لجواز الرجوع وإن قصد الإضرار. لأنّ التحريم لا ينافي ترتّب الأثر. (١)

أقول : لا يخفى ما في قوله : والأقراء هنا الأطهار بإجماع أصحابنا. لأنّ من أصحابنا من وافق الحنفيّة في أنّها الحيض. قال في المسالك : فذهب جماعة من الفقهاء وأكثر أصحابنا إلى أنّه الطهر. ثمّ قال : وقيل : إنّه الحيض. (٢) فافهم. (حسن)

(ثَلاثَةَ قُرُوءٍ). عن الباقر عليه‌السلام : انّما القرء الطهر تقرأ فيه الدم فتجمعه فإذا جاء الحيض قذفته. (بِرَدِّهِنَّ). الرجعيّات بين المطلّقات. (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً). كان عادتهم قصد الإضرار بالطلاق والمراجعة. (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ). قال عليه‌السلام : لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد ، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها. (٣)

(وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ) ؛ أي : للنساء حقوق واجبة على الرجال مثل حقوق الرجال عليهنّ. والمراد المماثلة في الوجوب واستحقاق المطالبة وإن اختلف الجنس. فمن حقّهنّ المهر والنفقة ونحوهما. (دَرَجَةٌ) ؛ أي : زيادة في الحقّ وفضل فيه. لأنّ حقوقهم في أنفسهنّ مثل أن يبذلن أنفسهنّ لهم ولا يخرجن من البيوت بغير إذنهم إلى غير ذلك بخلاف حقوق النساء كالنفقة والمسكن ونحوهما فإنّه من الأمور الخارجة. ويحتمل أن يراد بالدرجة الشرف والفضيلة من جهة أنّهم قوّامون عليهنّ. فإنّ المرأة تنال من اللّذّة ما يناله الرجل وله الفضل بالقيام عليها والإنفاق في مصالحها. (عَزِيزٌ) ؛ أي : قادر على الانتقام ممّن خالف. (حَكِيمٌ) يشرع الأحكام على وفق المصالح. وهذه الآية مخصوصة بالمطلّقة المدخول بها

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ / ٤٤ ـ ٥٢.

(٢) مسالك الأفهام ٩ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٥٧٤ ـ ٥٧٥.

٢١٣

غير الحامل من ذوات الأقراء. (١)

[٢٢٩] (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ؛ أي : الطلاق الشرعيّ مرّتان. يعني تطليقة بعد تطليقة على التفريق لا على الجمع والإرسال كأن يقول : هي طالق طلقتين أو ثلاثا أو طالق وطالق وطالق. فإنّه لا يقع عندنا. وبعضهم أوقع به الواحدة. وحينئذ فالمراد بالمرّتين مجرّد التكرير والوقوع مرّة بعد أخرى. نحو : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ)(٢) ؛ أي : كرّة بعد كرّة. ولفظ الكلام خبر ومعناه الأمر. أي : طلّقوا دفعتين. (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ). تخيير للأزواج بعد أن علّمهم كيف يطلّقون ، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بحقّهنّ الواجب عليهم وبين السراح الجميل الذي علّمهم إيّاه من كونه غير مشتمل على إضرار. وعلى هذا ، ففي الآية دلالة على اشتراط وقوع الطلاق مفصّلا بأن يطلّق ثمّ يراجع ثمّ يطلّق أخرى إن شاء وهكذا ، ولا يجوّز الجمع بين الطلقتين أو الثلاث في كلام واحد كما تقدّم وعليه إجماع أصحابنا والحنفيّة. فتكون الطلقة الثالثة مستفادة من قوله : (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ). ولا يستفاد من الآية على هذا الوجه اعتبار تفريق الطلقات على الأطهار بمعنى أن يوقع كلّ طلقة في طهر. ومن ثمّ جوّز أصحابنا وقوع الثلاث في مجلس واحد إذا راجع بينها. والشافعيّ جوّز الإرسال بلفظ واحد. ويحتمل أن يكون معنى الآية : الطلاق الرجعيّ مرّتان. يعني الذي ثبتت فيه الرجعة. وذلك أنّ الرجل في الجاهليّة كان يطلّق امرأته ثمّ يراجعها قبل أن تنقضي عدّتها ، ولو طلّقها ألف مرّة ، كانت القدرة على المراجعة ثابتة له. فجاءت امرأة وشكت أنّ زوجها

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ / ٥٢ ـ ٥٣.

(٢) الملك (٦٧) / ٤.

٢١٤

يطلّقها ويراجعها يضارّها بذلك ، فنزلت. فعلى هذا ، الآية متعلّقة بما قبلها والمعنى : انّ الطلاق يملك فيه الرجعة مرّتان. (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ). أي بالرجعة الثانية. (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) بأن لا يراجعها حتّى تبين بالعدّة. (١) روي هذا عن أبي جعفر عليه‌السلام. وقيل : معنى التسريح هو أن يطلّقها الثالثة حتّى تبين. (٢)

(وَلا يَحِلُّ لَكُمْ). الخطاب يحتمل أن يكون للحكّام نظرا إلى أنّ الأخذ والإعطاء بأمرهم. أى : لا يحلّ لكم أن تأمروا بأخذ شيء ممّا حكمتم على الأزواج بإعطائه أوّلا من المهر المدفوع إليهنّ (إِلَّا أَنْ يَخافا) الزوجان (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ). فلا يلزمهما من مواجب الزوجة وغيرها. قيل : نزلت في ثابت بن قيس كانت زوجته تبغضه وهو يحبّها ، فأتت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : لا أنا ولا ثابت ، فاختلعت بحديقة أصدقها إيّاها. ويحتمل أن يكون للأزواج وما بعد ذلك خطاب للحكّام. وفيه تشويش النظم على القراءة المشهورة. والمراد بخوفهما ظنّهما ذلك. ويؤيّده قراءة من قرأ : «يظنا» [وذلك] بأن يظنّ من المرأة النشوز والخروج عن الطاعة ، إذ تقول : لا أغسل لك رأسى من جنابة. ولا أبرّ لك قسما. ولا أطيع لك أمرا. ولأوطينّ فراشك. كما ورد في صحيحة الحلبيّ. (فَإِنْ خِفْتُمْ) أيّها الحكّام أن لا يقيما. (٣)

(إِلَّا أَنْ يَخافا). قرأ أبو جعفر وحمزة بضمّ الياء ، والباقون بفتحها. (٤)

(إِلَّا أَنْ يَخافا). قرأ حمزة على البناء للمفعول وإبدال (أَنْ) بصلته عن الضمير بدل الاشتمال. (٥)

(حُدُودَ اللهِ) : الأحكام المتعلّقة بالزوجيّة وغيرها. (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما). ويلزم منه نفي الجناح عن الحكّام أيضا. (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) المرأة نفسها ، لا على الرجل فيما أخذه ولا عليها في الإعطاء مشروطا بخوفها وظنّها أنّها ما تقدر على ضبط نفسها في الخروج عن الشرع. ولا بعد في الجواز بل الوجوب. فإسناد الخوف إليهما من باب (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ / ٧٤ ـ ٧٦.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٥٧٨.

(٣) مسالك الأفهام ٤ / ٨٦ ـ ٨٧.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٥٧٦.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ١٢٣.

٢١٥

الْمَرْجانُ)(١) وإنّما هو من الملح دون العذب. وذلك أنّ خوف الرجل هنا غير شرط في الخلع. نعم ؛ هو شرط في المباراة. (تِلْكَ). إشارة إلى الأحكام السابقة. (تَعْتَدُوها) بأن تعملوا بخلافها. (الظَّالِمُونَ) لأنفسهم بتعريضها للعقاب. (٢)

(حُدُودَ اللهِ) ؛ أي : ما حدّه الله وبيّنه في أحكام الزوجين وحقوقهما. (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) وإن كان أزيد من المهر عندنا. (٣)

[٢٣٠] (فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)

(فَإِنْ طَلَّقَها). نزلت في امرأة رفاعة بن وهب جاءت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقالت : إنّ زوجي طلّقني فبتّ طلاقي. فتزوّجت بعده عبد الرحمن بن الزبير. وإنّه طلّقني قبل أن يمسّني. أفأرجع إلى ابن عمّي؟ فتبسّم رسول الله وقال : حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. وفي قصّة رفاعة وزوجته نزلت هذه الآية. (فَإِنْ طَلَّقَها). يعني الطليقة الثالثة ، على ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام. أي : لا تحلّ لزوجها الذي طلّقها حتّى تتزوّج غيره ويجامعها. لأنّ العقد مستفاد من قوله : (حَتَّى تَنْكِحَ) ؛ أي : يدخل بها. (فَإِنْ طَلَّقَها). أي الزوج الثاني. (أَنْ يَتَراجَعا) إلى النكاح السابق بعقد جديد. (إِنْ ظَنَّا) ؛ أي : علما واعتقدا. (٤)

(حُدُودَ اللهِ) : أوامره ونواهيه. (٥)

[٢٣١] (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ

__________________

(١) الرحمن (٥٥) / ٢٢.

(٢) مسالك الأفهام ٤ / ٨٧ ـ ٩١.

(٣) مجمع البيان ٢ / ٥٧٩ ، وتفسير البيضاويّ ١ / ١٢٣.

(٤) مجمع البيان ٢ / ٥٨٠.

(٥) مسالك الأفهام ٤ / ٩١.

٢١٦

لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

(فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) ؛ أي : شارفن على انقضاء عدّتهنّ. فإنّ البلوغ قد يطلق على الدنوّ من الشيء. فيترتّب عليه قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) لظهور أنّه بعد تقضّي الأجل بتمامه ومضيّ العدّة ، تملك نفسها فلا يصحّ التخيير بين الإمساك والتسريح بل تكون أجنبيّة لا سبيل له عليها. والمراد بالمعروف في الموضعين ما كان موافقا للشرع من القيام بمصالح الزوجيّة إن أمسكها وإلّا تركها حتّى تنقضي عدّتها فتكون أملك بنفسها. (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ) ؛ أي : لا تراجعوهنّ. (١)

(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ) ؛ أي : لا تراجعوهنّ إرادة الإضرار بهنّ. كأنّ المطلّق يترك المعتدّة حتّى تشارف الأجل ثمّ يراجعها لتطول العدّة عليها ، فنهى عنه بعد الأمر بضدّه مبالغة. ونصب (ضِراراً) على العلّة أو الحال بمعنى مضارّين. (لِتَعْتَدُوا) : لتظلموهنّ بالتطويل أو الإلجاء إلى الافتداء. واللّام متعلّقة بضرارا إذ المراد تقييده. (ظَلَمَ نَفْسَهُ) بتعريضها للعقاب. (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) بالإعراض عنها والتهاون عن العمل بما فيها. من قولهم لمن لم يجدّ في الأمر : إنّما أنت لاعب وهازئ. كأنّه نهى عن الهزء وأراد به الأمر بضدّه. وقيل : كان الرجل يتزوّج ويطلّق ويعتق ويقول : كنت ألعب ، فنزلت. وعنه عليه الصلاة والسّلام : ثلاث جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ : الطلاق والنكاح والعتاق. (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ) التي من جملتها الهداية وبعثة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشكر. (الْكِتابِ) : القرآن. (وَالْحِكْمَةِ) : السنّة. أفردهما بالذكر لشرفهما. (بِهِ) ؛ أي : بما أنزل عليكم. (أَنَّ اللهَ). تأكيد وتهديد. (٢)

[٢٣٢] (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ

__________________

(١) مسالك الأفهام ٤ / ٤١.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ١٢٤.

٢١٧

ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)

(فَبَلَغْنَ) ؛ أي : انقضت عدّتهنّ. وعن الشافعيّ : دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين. (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ). قيل : إنّه خطاب إلى الأولياء ؛ لما روي في أنّها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته جملاء أن ترجع إلى زوجها الأوّل بالاستئناف. وقيل : إلى الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد مضيّ العدّة ولا يتركونهنّ يتزوّجن عدوانا وقهرا. لأنّه جواب قوله : (إِذا طَلَّقْتُمُ). وقيل : إلى الأولياء والأزواج. وقيل : إلى الناس كلّهم. والمعنى : لا يوجد فيما بينكم هذا الأمر. فإنّه إذا وجد بينهم وهم راضون به ، كانوا كالفاعلين له. والعضل : الحبس. (تَراضَوْا بَيْنَهُمْ). أي الخطّاب والنساء. وهو ظرف لأن ينكحن أو لا تعضلوهنّ. (١)

(فَلا تَعْضُلُوهُنَّ). قيل : إنّه خطاب للأزواج. يعني أن تطلّقوهنّ في السرّ ولا تظهروا طلاقهنّ كيلا يتزوّجن غيرهم فيبقين لا ممسكات إمساك الأزواج ولا مخلّيات تخلية المطلّقات ، أو تطوّلوا العدّة عليهنّ. (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ) ؛ أي : من يرضين بهم أزواجا لهنّ. (٢)

(بِالْمَعْرُوفِ) ؛ أي : بما يعرفه الشرع وتستحسنه المروّة. حال من الضمير المرفوع ، أو صفة مصدر محذوف ، أي : تراضيا كائنا بالمعروف. وفيه دلالة على أنّ العضل عن التزوّج من غير كفؤ ، غير منهيّ عنه. (ذلِكَ). إشارة إلى ما مضى ذكره. والخطاب للجميع ، على تأويل القبيل ، أو كلّ واحد. أو إنّ الكاف لمجرّد الخطاب والفرق بين الحاضر والمنقضي دون تعيين المخاطبين أو للرسول على طريقة قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ)(٣) للدلالة على أنّ حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يتصوّره كلّ أحد. (ذلِكُمْ) ؛ أي : العمل بمقتضى ما ذكر

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٢٤.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٥٨٣.

(٣) الطلاق (٦٥) / ١.

٢١٨

(أَزْكى لَكُمْ) : أنفع (وَأَطْهَرُ) من دنس الآثام. (١)

(أَزْكى لَكُمْ) ؛ أي : أفضل وأعظم بركة. (وَأَطْهَرُ) ؛ أي : أطهر لقلوبكم من الريبة. فإنّه لعلّ في قلبهما حبّا فإذا منعا من التزويج لم يؤمن أن يتجاوزا إلى ما حرّم الله. (٢)

[٢٣٣] (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ). خبر في معنى الأمر. وهذا الأمر عندنا أمر استحباب ، إذ لا يجب عليهنّ إرضاعهم. نعم ، هو واجب على الأب إلّا أن يكون الولد بحيث لا يشرب إلّا لبن أمّه أو كان بحيث لا توجد مرضعة غيرها لإعساره. فإنّه حينئذ يجب على الأمّ في الأوّلين بالأجرة وفي الثالث لكونه ممّن يجب نفقته. ويحتمل أن يكون المعنى أنّ الإرضاع في هذه المدّة للأمّ بمعنى أنّه حقّها ويجب على الأب تمكينها منه ولا يجوز له الأخذ منها وإرضاع غيرها. فيكون حينئذ إخبارا عن حقّ الأمّ الواجب على الأب. (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) للتأكيد ، ولما فيه من الإشعار بعدم التسامح في الإطلاق. (لِمَنْ أَرادَ). متعلّق بالحكم السابق. أي : إرضاع الحولين الكاملين لمن أراد إتمام الإرضاع. وفيه إشارة إلى أنّه يجوز النقصان عنه على الإطلاق من غير تقييد ، ولكنّ أصحابنا قيّدوا النقصان بشهر أو شهرين ، وربما ذكر بعضهم ثلاثة أشهر. ولعلّ هذا التحديد إجماعيّ بينهم بمعنى أنّه مجمع على أنّه لا يجوز نقصان هذه الإرضاع عن أحد وعشرين شهرا. وفي الروايات دلالة على ذلك أيضا. وفيها أيضا

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ١٢٤.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٥٨٤.

٢١٩

أنّ ما نقص عن ذلك جور على الصبيّ. (بِالْمَعْرُوفِ) ؛ أي : على قدر اليسار والفقر في الشرع والعرف. (١)

(لا تُضَارَّ). قرأ أهل البصرة وابن كثير : «لا تضار» بالرفع وتشديد الراء على الإخبار.

فيكون بدلا من قوله : (لا تُكَلَّفُ). وقرأ أبو جعفر وحده بتخفيف الراء وسكونها ، بناء على أنّ أصله لا تضارّ حذف أحد الراءين تخفيفا. ومن فتح جعله نهيا وفتح الراء ليكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف. (٢) وأصله على القراءتين لا تضارّ بالكسر أو لا تضارّ بالفتح ويجوز أن يكون تضارّ بمعنى تضرّ وأن يكون الباء من صلته. أي : لا تضرّ والدة بولدها ، فلا تسئ غذاءه وتعهّده ولا تفرّط فيما ينبغي له ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها. ولا يضرّ الوالد بولده بأن ينتزعه من يدها أو يقصّر في حقّها فتقصّر في حقّ الولد. (٣)

وإنّما قال : (لا تُضَارَّ) والفعل من واحد ، لأنّه لمّا كان معناه المبالغة كان بمنزلة أن يكون الفعل من اثنين. والمعنى : إنّ الوالدة لا تضارّ زوجها بسبب ولدها بأن تطلب منه ما ليس بعدل ولا معروف من الرزق والكسوة ، أو أن تشغل قلبه في شأن الولد ، أو أن تقول له بعد ما ألفها الولد : خذ ولدك منّي ، أو تتركه فيحصل للولد مرض في يد الأجنبيّة ، أو لم تفعل ما وجب عليها بعد أخذ الأجرة بحيث يحصل الضرر للولد فيتضرّر الوالد بسببه. ولا يضارّ المولود له أيضا امرأته بأن يمنعها شيئا ممّا وجب عليه من الرزق والكسوة ، أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه فتضرّر بمفارقة الولد ، أو يكرهها عليه إذا لم ترده فتضرّر بالإكراه. والذي رواه الكلينيّ في الحسن عن الحلبيّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ) ـ الآية ـ قال : كانت المرأة ترفع يدها إلى زوجها إذا أراد مجامعتها فتقول : لا أدعك. إنّي أخاف أن أحمل على ولدي. ويقول الرجل : لا أجامعك. إنّي أخاف أن تعلقي فأقتل ولدي. فنهى الله عزوجل أن تضارّ المرأة الرجل وأن يضارّ الرجل المرأة ـ الحديث. ولعلّ نهي الرجل عن إضرارها

__________________

(١) مسالك الأفهام ٣ / ٣٠٥ ـ ٣١٠.

(٢) مجمع البيان ٢ / ٥٨٤ ـ ٥٨٥ ، وتفسير البيضاويّ ١ / ١٢٥.

(٣) الكشّاف ١ / ٢٨٠.

٢٢٠