عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

السيّد نعمة الله الجزائري

عقود المرجان في تفسير القرآن - ج ١

المؤلف:

السيّد نعمة الله الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسّسة شمس الضحى الثقافيّة
المطبعة: اميران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-2592-26-5
ISBN الدورة:
978-964-2592-24-1

الصفحات: ٦٦٣

(مِنْ بَعْدِهِ) ؛ أي : من بعد مضيّ موسى إلى الميقات. أو : من بعد مجيء البيّنات. (١)

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ). مدغمة الدال في الجيم في كلّ القرآن ، أبو عمرو وحمزة. (٢)

[٩٣] (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

(مِيثاقَكُمْ). الفائدة في تكرير هذا وأمثاله التأكيد وإيجاب الحجّة عليهم على عادة العرب في مخاطباتهم. (٣)

(مِيثاقَكُمْ). أي : العهود عليكم بأن تعملوا بما في التوراة التي نزلت على موسى بجدّ واجتهاد. (٤)

(خُذُوا) ؛ أي : قلنا لهم : خذوا. (٥)

(وَاسْمَعُوا) : اقبلوا. (قالُوا سَمِعْنا). فيه قولان. أحدهما : انّهم قالوا هذا القول في الحقيقة استهزاء ، ومعناه : سمعنا قولك وعصينا أمرك. وثانيهما : انّ حالهم كحال من قال ذلك إذ فعلوا ما دلّ عليه. (٦)

عن أبي جعفر عليه‌السلام في قوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) قال : عمد موسى فبرا (٧) العجل من أنفه إلى طرف ذنبه ثمّ أحرقه بالنار فذراه في اليمّ. قال : وكان أحدهم ليقع في الماء ـ وما به إليه حاجة ـ فيتعرّض لذلك الرماد فيشربه. وهو قول الله : (وَأُشْرِبُوا). (٨)

(خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) من أحكام التوراة (بِقُوَّةٍ) : بجدّ واجتهاد.

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٣١٦.

(٢) تفسير النيسابوريّ ١ / ٣٣٦.

(٣) مجمع البيان ١ / ٣١٨.

(٤) التبيان ١ / ٣٥٣.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٧٦.

(٦) مجمع البيان ١ / ٣١٨.

(٧) المصدر : فبرد.

(٨) تفسير العيّاشيّ ١ / ٥١.

١٠١

(وَأُشْرِبُوا) ؛ أي : تداخلهم حبّه والحرص على عبادته كما يتداخل الثوب الصبغ. (١)

(فِي قُلُوبِهِمُ). بكسر الهاء والميم ، أبو عمرو. وقرأ حمزة بضمّ الهاء والميم ، والباقون بكسر الهاء وضمّ الميم. (٢)

(بِكُفْرِهِمْ) ؛ أي : بسببه. وذلك لأنّهم كانوا مجسّمة أو حلوليّة ولم يروا جسما أعجب منه فتمكّن في قلوبهم ما سوّل لهم السامريّ. (٣)

«ما يأمركم» من قتل الأنبياء وتكذيب الرسل. (٤)

(إِيمانُكُمْ) بالتوراة. لأنّه ليس في التوراة عبادة العجل. (٥)

[٩٤] (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

(خالِصَةً) ؛ أي : مخصوصة بكم دون المسلمين أو دون كلّ الناس ؛ كما ادّعيتم بقولكم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى)(٦) وكنتم صادقين في قولكم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)(٧) وانّ الله لا يعذّبنا. (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ). لأنّ من اعتقد أنّه من أهل الجنّة ، كان الموت أحبّ إليه من الحياة التي فيها أنواع الهموم. ألا ترى قول أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو يطوف بين الصفّين بصفّين في غلالة ، لمّا قال ابنه الحسن عليه‌السلام : ما هذا زيّ الحرب ، فقال : يا بنيّ إنّ أباك لا يبالي أوقع على الموت أو وقع الموت عليه. وأمّا ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا يتمنّينّ أحدكم الموت لضرّ نزل به ، ولكن ليقل : اللهمّ أحيني ما دامت الحياة خيرا لي. وتوفّني ما كانت الوفاة خيرا لي. فإنّما نهى عن تمنّي الموت لأنّه يدلّ على الجزع والمأمور به الصبر. (٨)

[٩٥] (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)

__________________

(١) الكشّاف ١ / ١٦٦.

(٢) تفسير النيسابوريّ ١ / ٣٣٦.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٧٦.

(٤) مجمع البيان ١ / ٣١٩.

(٥) الكشّاف ١ / ١٦٦.

(٦) البقرة (٢) / ١١١.

(٧) المائدة (٥) / ١٨.

(٨) مجمع البيان ١ / ٣١٩ ـ ٣٢٠.

١٠٢

(بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ). أي من المعاصي والقبائح وتكذيب الكتاب والرسول. وأضاف ذلك إلى اليد ، لأنّ الغالب على الجنايات حصولها باليد. (١)

(عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ). زجر لهم. وقيل : معناه : انّ الله عليم بالأسباب التي منعتهم عن تمنّي الموت. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : انّ اليهود لو تمنّوا الموت ، لماتوا. وهذه القصّة شبيهة بقصّة المباهلة. (٢)

[٩٦] (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)

(وَلَتَجِدَنَّهُمْ). هو من وجد بمعنى علم المتعدّي إلى مفعولين. وإنّما قال : (عَلى حَياةٍ) بالتنكير ، لأنّه أراد حياة مخصوصة وهي الحياة المتطاولة. ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قراءة أبيّ : على الحياة». (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا). محمول على المعنى. [لأنّ معنى](أَحْرَصَ النَّاسِ) أحرص من الناس. وإنّما أفرد الذين أشركوا مع دخولهم تحت الناس ، لأنّ حرصهم شديد. ويجوز أن يراد : وأحرص من الذين أشركوا ، فحذف لدلالة (أَحْرَصَ النَّاسِ) عليه. وفيه توبيخ عظيم. لأنّ الذين أشركوا لا يؤمنون بعاقبة ولا يعرفون إلّا الحياة الدنيا ، فحرصهم عليها لا يستبعد ، لأنّها جنّتهم ، فإذا زاد عليهم في الحرص من له كتاب وهو مقرّ بالجزاء ، كان حقيقا بأعظم التوبيخ. وإنّما زاد حرصهم على حرص المشركين ، لأنّهم علموا لعلمهم بحالهم أنّهم صائرون إلى النار لا محالة والمشركون لا يعلمون. وقيل : أراد بالّذين أشركوا المجوس ، لأنّهم كانوا يقولون لملوكهم : عش ألف نيروز وألف مهرجان. وعن ابن عبّاس : هو قول الأعاجم : زي هزار سال. وقيل : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) كلام مبتدأ. أي : ومنهم ناس يودّ أحدهم ، على حذف الموصوف. والذين أشركوا ، على هذا ، مشار به إلى اليهود ، لأنّهم قالوا : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ)(٣) ليكون من باب إقامة المظهر مقام المضمر. (وَما هُوَ). الضمير لأحدهم. و (أَنْ يُعَمَّرَ) فاعل (بِمُزَحْزِحِهِ). أي : وما أحدهم بمزحزحه تعمير ألف

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٣٢٠.

(٢) مجمع البيان ١ / ٣٢٠ ـ ٣٢١.

(٣) التوبة (٩) / ٣٠.

١٠٣

سنة. وقيل : الضمير لما دلّ عليه (يُعَمَّرُ) من مصدر ه وأن يعمر فاعل (بِمُزَحْزِحِهِ). ويجوز أن يكون مبهما و (أَنْ يُعَمَّرَ) موضحه. والزحزحة : التبعيد والإنحاء. (١)

(لَوْ يُعَمَّرُ). حكاية لودادتهم. ولو بمعنى ليت. وكان أصله : لو أعمّر ، فأجري على الغيبة لقوله : (يَوَدُّ). كقولك : حلف بالله ليفعلنّ. (٢)

[٩٧ ـ ٩٨] (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ)

ابن كثير : (جِبْرِيلَ) [هنا] وفي التحريم بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز ، وأبو بكر بفتح الجيم والراء وهمزة مكسورة من غير ياء ، وحمزة والكسائيّ مثله إلّا أنّهما [جعلا] ياء بعد الهمزة ، والباقون بكسر الجيم والراء من غير همز. حفص وأبو عمرو : (مِيكالَ) بغير همز ولا ياء ، ونافع بهمزة مكسورة من غير ياء ، والباقون بياء بعد الهمزة. (٣)

(لِجِبْرِيلَ) في مظاهرته لأولياء الله على أعدائه ونزوله بفضائل عليّ عليه‌السلام من عند الله. قال أبو محمّد عليه‌السلام : سأل عبد الله بن صوريا ـ وهو غلام أعور يهوديّ ـ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مسائل كثيرة فأجابه وكان ذلك الغلام أعلم اليهود. فقال : يا محمّد ، من يأتيك بهذه الأخبار عن الله؟ قال : جبرئيل. فقال : لو كان غيره يأتيك بها ، لآمنت بك. لأنّه عدوّنا من بين الملائكة. لأنّه ينزل بالبلاء والشدّة على بني إسرائيل ودفع دانيال عن قتل بخت النصر حتّى قوي أمره وأهلك بني إسرائيل. وأمّا ميكائيل فهو يأتينا بالرحمة. فقال له رسول الله : ويحك! أجهلت أمر الله؟ وما ذنب جبرئيل إن أطاع الله فيما يريده بكم؟ أرأيتم ملك الموت؟ أهو عدوّكم وقد وكله الله بقبض أرواح الخلق؟ ثمّ قال عليه‌السلام : نزلت هذه الآية في اليهود والنصّاب. أمّا ما كان من النصّاب ، فهو أسوأ من قول اليهود في الله وفي جبرئيل وميكائيل و

__________________

(١) الكشّاف ١ / ١٦٧ ـ ١٦٨.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٧٧.

(٣) التيسير / ٦٤ ـ ٦٥.

١٠٤

سائر ملائكة الله. وذلك أنّ رسول الله يقول في بعض فضائل عليّ عليه‌السلام : إنّ جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره. وكان جبرئيل يفتخر على ميكائيل بذلك. لأنّ اليمين أفضل من اليسار. وكانا يفتخران على إسرافيل الذي كان خلفه بالخدمة ، وعلى ملك الموت الذي كان أمامه بالخدمة. وكان النصّاب يعادون هؤلاء الملائكة لقربهم من عليّ وخدمتهم له. (١)

(نَزَّلَهُ) ؛ أي : القرآن. فإن قلت : كيف استقام قوله : (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ) جزاء للشرط؟ قلت : فيه وجهان. أحدهما : إن عادى جبرئيل أحد من أهل الكتاب ، فلا وجه لمعاداته حيث نزّل كتابا مصدّقا للكتب بين يديه. فلو أنصفوا ، لأحبّوه وشكروا له صنيعته في إنزاله ما ينفعهم ويصحّح المنزل عليهم. والثاني : إن عاداه أحد ، فالسبب في عداوته أنّه نزّل عليك القرآن مصدّقا لكتابهم وموافقا له وهم كارهون للقرآن ولموافقته لكتابهم ولذلك كانوا يحرّفونه ويجحدون موافقته له. كقولك : إن عاداك فلان ، فقد آذيته وأسأت إليه. أفرد الملكان بالذكر لفضلهما. (٢)

(بِإِذْنِ اللهِ) ؛ أي : بأمره. (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من سائر كتب الله. (وَهُدىً) من الضلالة (وَبُشْرى) بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وولاية أمير المؤمنين والأئمّة عليهم‌السلام. (٣)

(مَنْ كانَ). جواب الشرط محذوف. أي : فليمت غيظا ؛ فإنّه نزّل الوحي على قلبك. (٤)

[٩٩] (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ)

(لَقَدْ أَنْزَلْنا). قال ابن عبّاس : إنّ ابن صوريا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يا محمّد ، ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزل الله عليك من آية بيّنة فنتّبعك بها. فأنزل الله : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا) ـ الآية. (٥)

(إِلَّا الْفاسِقُونَ) : المتمرّدون من الكفرة. واللّام إشارة إلى أهل الكتاب. (٦)

__________________

(١) الاحتجاج ١ / ٤٦.

(٢) الكشّاف ١ / ١٧٠.

(٣) الاحتجاج ١ / ٤٦.

(٤) مجمع البيان ١ / ٣٢٥.

(٥) مجمع البيان ١ / ٣٢٧.

(٦) الكشّاف ١ / ١٧١.

١٠٥

[١٠٠] (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

(أَوَكُلَّما). الهمزة للإنكار. واعلم أنّه دلّ بالآيتين على أنّ جلّ اليهود أربع فرق : فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب ؛ وهم الأقلّون المدلول عليهم بقوله : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). وفرقة جاهروا بنبذ عهودها وتخطّي حدودها تمرّدا وفسوقا ؛ وهم المعنيّون بقوله : (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ). وفرقة لم يجاهروا بنبذها لكن نبذوا لجهلهم بها ؛ وهم الأكثرون. وفرقة تمسّكوا بها ظاهرا ونبذوها حقيقة عالمين بالحال بغيا وعنادا ؛ وهم المتجاهلون. (١)

أقول : من تتبّع أحوال المسلمين ، يرى أنّهم فعلوا بكتابهم من الإيمان به وعدمه ما فعلته اليهود بالتوراة. ولا آمن بالقرآن ظاهرا وباطنا إلّا من صدّق النبيّ وأهل بيته ؛ وهم الفرقة الناجية.

(أَوَكُلَّما عاهَدُوا). المراد به العهد الذي أخذه الأنبياء عليهم أن يؤمنوا بالنبيّ الأمّيّ. وقيل : هي العهود التي كانت بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبين اليهود فنقضوها كفعل قريظة والنضير عاهدوا الله أن لا يعينوا عليه أحدا فنقضوا ذلك وأعانوا عليه قريشا يوم الخندق. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ). أي المعاهدون لا الفريق ، لأنّهم كلّهم لا يؤمنون. (٢)

(أَوَكُلَّما). الواو للعطف على محذوف. معناه : أكفروا بالآيات. (نَبَذَهُ). واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود. (٣)

[١٠١] (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ)

(كِتابَ اللهِ). يعني التوراة. لأنّهم بكفرهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله المصدّق لما معهم ، كافرون بها ، نابذون لها. وقيل : كتاب الله القرآن ؛ نبذوه بعد ما لزمهم تلقّيه بالقبول وراء ظهورهم.

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٧٨.

(٢) مجمع البيان ١ / ٣٢٨.

(٣) الكشّاف ١ / ١٧١.

١٠٦

مثل لتركهم وإعراضهم ، مثّل بما يرمى وراء الظهر. (١)

(لا يَعْلَمُونَ). أنّه كتاب الله. (٢)

[١٠٢] (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

(وَاتَّبَعُوا) ؛ أي : نبذوا الكتاب واتّبعوا. وهو خطاب لليهود. أي : اتّبعوا كتب السحر التي كانت تقرؤها الشياطين. (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) ؛ أي : على عهد ملكه وفي زمانه. وذلك أنّ الشياطين كانوا يسترقون السمع ثمّ يضمّون إلى ما سمعوا أكاذيب يلقونها إلى الكهنة ، وقد دوّنوها في كتب يقرؤونها ويعلّمونها الناس. وفشا ذلك في زمن سليمان عليه‌السلام حتّى قالوا : إنّ الجنّ تعلم الغيب. وكانوا يقولون : هذا علم سليمان. وما تمّ لسليمان ملكه إلّا بهذا العلم وبه تسخر المخلوقات. (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ). تكذيب للشياطين ودفع لما بهتت به سليمان من اعتقاد السحر والعمل. [به]. (٣)

عن الصادق عليه‌السلام في قول الله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) قال : «اتبعوا ما تتلو» كفرة (الشَّياطِينُ) من السحر والنيرنجات (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) الذين يزعمون أنّ سليمان به ملك ونحن أيضا نظهر به العجائب حتّى ينقاد لنا الناس. وقالوا : كان سليمان كافرا ساحرا ، بسحره ملك [ما ملك] وقدر على ما قدر. فردّ الله عليهم فقال : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) ولا استعمل السحر (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) الذي نسبوه إلى سليمان ، وإلى

__________________

(١) الكشّاف ١ / ١٧١.

(٢) تفسير البيضاويّ ١ / ٧٨.

(٣) الكشّاف ١ / ١٧٢.

١٠٧

(ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ). وكان بعد نوح عليه‌السلام قد كثر السحر ، فبعث الله ملكين إلى نبيّ ذلك الزمان يذكر ما يسحر به السحرة وذكر ما يبطل به سحرهم. فتلقّاه النبيّ عن الملكين وأدّاه إلى عباد الله بأمر الله ، وأمرهم أن يبطلبوا به السحر ونهاهم أن يسحروا به الناس. وهذا كما يدلّ على السمّ ما هو وعلى ما يدفع به غائلة السمّ. ثمّ قال : (وَما يُعَلِّمانِ). يعني أنّ ذلك النبيّ أمر الملكين أن يظهرا للناس بصورة بشرين ويعلّمانهم ما علّمهما الله من ذلك. (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) من ذلك السحر (حَتَّى يَقُولا) للمتعلّم : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) وامتحان للعباد ليطيعوا الله فيما يتعلّمون من هذا ويبطلون كيد السحرة ولا يسحروهم. (فَلا تَكْفُرْ) باستعمال هذا السحر وطلب الإضرار به. (فَيَتَعَلَّمُونَ). يعني طالبي السحر. (مِنْهُما). يعني ما كتبت الشياطين على ملك سليمان من النيرنجات وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت ، يتعلّمون من هذين الصنفين (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ). هذا ما يتعلّم للإضرار بالناس. (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). يعني : بتخلية الله وعلمه وانّه لو شاء لمنعهم بالجبر والقهر. (ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) لأنّهم إذ أضرّوا الناس بالسحر ، خرجوا من الدين. (وَلَقَدْ عَلِمُوا). أي المتعلّمون للسحر. (مِنْ خَلاقٍ) ؛ أي : من نصيب من ثواب الجنّة. (يُعَلِّمُونَ) أنّهم قد باعوا أنفسهم بالعذاب ، ولكن لا يعلمون ذلك لكفرهم به. (١)

(وَلكِنَّ). ابن عامر وحمزة والكسائيّ بكسر النون مخفّفة [ورفع بعدها]. والباقون بالفتح مشدّدة ونصب ما بعدها. (٢)

(يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) يقصدون به إضلالهم. (وَما أُنْزِلَ). عطف على السحر. أي : ويعلّمونهم ما أنزل على الملكين. وقيل : هو عطف على ما تتلو. (٣)

(وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ). هما ملكان أنزلا لتعليم السحر ابتلاء من الله للناس وتمييزا بينه وبين المعجزة. وما روي من أنّهما مثّلا بشرين وركّب فيهما الشهوة فتعرّضا لامرأة

__________________

(١) عيون الأخبار ١ / ٢٦٦ ـ ٢٧١ ، ح ١.

(٢) التيسير / ٦٥.

(٣) الكشّاف ١ / ١٧٢.

١٠٨

يقال لها زهرة فحملتهما على المعاصي والشرك وصعدت إلى السماء بما تعلّمت منهما ، فمحكيّ عن اليهود. ولعلّه من رموز الأوائل ، وحلّه لا يخفى على ذوي البصائر. (بِبابِلَ). بلد من سواد الكوفة. (هارُوتَ وَمارُوتَ). بدل من الملكين ، أو عطف بيان للملكين. منع صرفهما للعلميّة والعجمة. (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) : أيّ أحد حتّى ينصحاه ويقولا له : إنّما نحن ابتلاء من الله. فمن تعلّم منّا وعمل به ، كفر. ومن تعلّم وتوقّى عمله ، ثبت على الإيمان. (فَلا تَكْفُرْ) باعتقاد جوازه والعمل به. وفيه دليل على أنّ تعلّم السحر وما لا يجوز اتّباعه غير محظور وإنّما المنع من العمل به. (فَيَتَعَلَّمُونَ). أي الناس المفهوم من قوله : (أَحَدٍ). (١)

(بِإِذْنِ اللهِ) ؛ أي : بعلم الله. (٢)

(بِإِذْنِ اللهِ) ؛ أي : بأمره وتخليته. (٣)

(ما يَضُرُّهُمْ). لأنّهم يقصدون به العمل وهو يضرّ بالدين. (٤)

(يُعَلِّمُونَ) ؛ أي : يتفكّرون فيه. أو : يعلمون قبحه على اليقين ، أو حقيقة ما يتبعه من العذاب. والمثبت لهم أوّلا على التوكيد القسميّ [العقل] الغريزيّ أو العلم الإجماليّ بقبح الفعل أو ترتّب العقاب من غير تحقيق. وقيل : معناه : لو كانوا يعملون بعلمهم. فإنّ من لم يعمل بما علم ، فهو كمن لم يعلم. (٥)

[١٠٣] (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)

(وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) بالرسول والكتاب (وَاتَّقَوْا) بترك المعاصي كنبذ كتاب الله واتّباع السحرة. (لَمَثُوبَةٌ). جواب لو. وأصله : لأثيبوا مثوبة من الله خيرا ممّا شروا به أنفسهم. فحذف الفعل وركّب الباقي جملة اسميّة ليدلّ على ثبات المثوبة. وحذف المفضّل عليه إجلالا للمفضّل من أن ينسب إليه. وتنكير المثوبة لأنّ المعنى : لشيء من الثواب خير. وقيل : لو

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٧٩.

(٢) التبيان ١ / ٣٨٠.

(٣) التبيان ١ / ٣٨٠ ، ومجمع البيان ١ / ٣٤٠.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٧٩.

(٥) تفسير البيضاويّ ١ / ٧٩.

١٠٩

للتمنّي. ولمثوبة مبتدأ. (يَعْلَمُونَ) أنّ ثواب الله خير من [ما هم فيه. وقد علموا لكنّه] جهّلهم لترك التدبّر أو العمل بالعلم. (١)

(وَلَوْ أَنَّهُمْ). ذهب البصريّون إلى أنّ جواب (لَوْ) محذوف تقديره : لأثيبوا ، وأوقع (لَمَثُوبَةٌ) موقعه. (٢)

[١٠٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ)

(راعِنا). أي كان اليهود يقولون : راعنا ، نسبة إلى الرعن ؛ وهو الحمق. (٣)

(راعِنا). معناه عند اليهود : استمع لا سمعت! (٤)

(وَلِلْكافِرِينَ) ؛ أي : اليهود الذين تهاونوا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وسبّوه. كان المسلمون يقولون لرسول الله إذا ألقى عليهم شيئا من العلم : راعنا يا رسول الله ؛ أي : راقبنا وانتظرنا وتأنّ بنا حتّى نفهمه ونحفظه. وكانت لليهود كلمة يتسابّون بها ـ عبرانيّة أو سريانيّة ـ وهي : راعينا. فلمّا سمعوا بقول المؤمنين : راعنا ، افترصوه وخاطبوا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وهم يعنون به تلك المسبّة ، فنهي المؤمنون عنها وأمروا بما هو في معناها وهو : (انْظُرْنا). من نظره ، إذا انتظره. (وَاسْمَعُوا) : [وأحسنوا] سماع ما يكلّمكم به رسول الله ويلقي إليكم من المسائل بآذان واعية وأذهان حاضرة حتّى لا تحتاجوا إلى الاستعاذة وطلب المراعاة. أو : اسمعوا سماع قبول وطاعة ، ولا يكن سماعكم مثل سماع اليهود حيث قالوا : سمعنا وعصينا. وروي أنّ سعد بن معاذ سمعها منهم فقال : يا أعداء الله ، عليكم لعنة الله! والذي نفسي بيده ، لئن سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأضربنّ عنقه. فقالوا : أو لستم تقولونها؟ فنزلت. (٥)

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٧٩.

(٢) التبيان ١ / ٣٨٥.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٨٠.

(٤) مجمع البيان ١ / ٣٤٣.

(٥) الكشّاف ١ / ١٧٤ ـ ١٧٥.

١١٠

[١٠٥] (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)

(مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ). من هنا للبيان. (مِنْ خَيْرٍ). الخير هنا الوحي. وكذلك الرحمة. والمعنى : يرون أنفسهم [أحقّ] بأن يوحى إليهم ، فيحسدونكم وما يحبّون أن ينزل عليكم شيء من الوحي. والله يختصّ بالنبوّة من يشاء. (مِنْ رَبِّكُمْ). من للابتداء. (١)

(أَهْلِ الْكِتابِ) ؛ أي : اليهود. (مِنْ خَيْرٍ). من زائدة للتأكيد. (بِرَحْمَتِهِ). عن أمير المؤمنين عليه‌السلام : المراد برحمته هنا النبوّة. (٢)

(الْعَظِيمِ). إذ لا أعظم من النبوّة.

[١٠٦] (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

(ما نَنْسَخْ). قرأ ابن عامر بضمّ النون وكسر السين ، والباقون بفتحها. (أَوْ نُنْسِها). قرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح النون والسين وإثبات الهمزة ، والباقون بضمّ النون وكسر السين بلا همز. (٣)

(ما نَنْسَخْ). روي أنّ اليهود أو المشركين طعنوا في النسخ فقالوا : ألا ترون أنّ محمّدا يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم [عنه ويأمرهم] بخلافه ويقول اليوم قولا ويرجع عنه غدا؟ فنزلت : (ما نَنْسَخْ) ـ الآية. ونسخ الآية إزالتها بإبدال أخرى مكانها. وإنساخها الأمر بنسخها ؛ وهو أن يأمر جبرئيل بأن يجعلها منسوخة بالإعلام بنسخها. ونسؤها تأخيرها وإذهابها لا إلى بدل. وإنساؤها أن يذهب بحفظها عن القلوب. والمعنى : انّ كلّ آية يذهب بها على ما توجبه المصلحة من إزالة لفظها وحكمها معا ، أو من إزالة أحدهما إلى بدل أو غير بدل ، نأت بآية العمل بها أكثر للثواب أو مثلها في ذلك. (٤)

__________________

(١) الكشّاف ١ / ١٧٥.

(٢) مجمع البيان ١ / ٣٤٤.

(٣) مجمع البيان ١ / ٣٤٥.

(٤) الكشّاف ١ / ١٧٦.

١١١

(أَوْ نُنْسِها) : نذهب بها من خواطر الناس. (١)

(أَوْ نُنْسِها). روي : انّ رجلا من الأنصار قام جوف اللّيل يريد أن يفتتح سورة قد كان اعتادها فلم يقدر منها على شيء إلّا على (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فأتى باب النبيّ حين أصبح ليسأل النبيّ عن ذلك. ثمّ جاء آخر وآخر حتّى اجتمعوا. فسأل بعضهم بعضا ، فأخبروا بنسيان تلك السورة. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : نسخت البارحة من صدوركم ومن كلّ شيء كان فيه. (سعد الدين).

عن عمر بن يزيد قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها). فقال : كذبوا. ما هكذا قال الله. قلت : فكيف قال؟ قال : ليس فيها ألف ولا واو. قال : بخير منها مثلها. يقول : ما يميت من إمام أو ينس ذكره ، يأت بخير منه من صلبه مثله. (٢)

(بِخَيْرٍ مِنْها) في السهولة ؛ كالثبات لاثنين بعد أن كان لعشر. (٣)(أَوْ مِثْلِها) ؛ كالتوجّه إلى الكعبة بعد بيت المقدس. (٤)

[١٠٧] (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)

(أَلَمْ تَعْلَمْ). الخطاب للنبيّ. والاستفهام لتقرير [أنّ له تعالى] ملك السموات فيجري أموركم على حسب مصلحتكم من ناسخ ومنسوخ. (٥)

[١٠٨] (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٨٠.

(٢) تفسير العيّاشيّ ١ / ٥٦ ، ح ٧٨.

(٣) وذلك في قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ثمّ نسخ ذلك بقوله : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ). (تفسير النيسابوريّ ١ / ٣٦١)

(٤) مجمع البيان ١ / ٣٤٨ ، والتبيان ١ / ٣٩٧ ، وتفسير النيسابوريّ ١ / ٣٦١.

(٥) مجمع البيان ١ / ٣٤٩ ـ ٣٥٠ ، والكشّاف ١ / ١٧٦.

١١٢

بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ).

(أَمْ تُرِيدُونَ). قال له المشركون من العرب : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ) إلى قوله : (قَبِيلاً). (١) وجه اتّصال هذه الآية بما قبلها أنّه لمّا دلّ الله بما تقدّم على تدبيره لهم فيما يأتي به من الآيات و [ما] ينسخه ، واختياره لهم ما هو الأصلح ، قال : أما ترضون بذلك؟ وكيف تتخيّرون محالات مع اختيار الله لكم ما يعلم فيه من المصلحة؟ فإذا أتى بآية تقوم بها الحجّة ، فليس لأحد الاعتراض عليها والاقتراح على غيرها. لأنّ ذلك بعد صحّة البرهان يكون تعنّتا. (٢)

(أَمْ) معادلة للهمزة في (أَلَمْ تَعْلَمْ). أي : ألم تعلموا أنّه مالك الأمور قادر على أن يأمر وينهى كما أراد؟ أم تعلمون وتقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى. أو منقطعة والمراد أن يوصيهم بترك الاقتراح عليه. قيل : نزلت في أهل الكتاب حين سألوا أن ينزّل [الله] عليهم كتابا من السماء. وقيل : في المشركين لمّا قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) ؛ أي : معراجك (حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ). (٣)(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ) ؛ أي : من ترك الثقة بالآيات البيّنات وشكّ فيها واقترح غيرها ، فقد ضلّ الطريق المستقيم. (٤)

[١٠٩] (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)

(كَثِيرٌ). يعني أحبار اليهود. (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) : أن يردّوكم. فإنّ (لَوْ) تنوب عن أن في المعنى دون اللّفظ. (كُفَّاراً) : مرتدّين. وهو حال من ضمير المخاطبين. (حَسَداً). علّة ودّ. (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ). يجوز أن يتعلّق بودّ. أي : تمنّوا ذلك عند أنفسهم وتشهّيهم ، لا من قبل التديّن والميل إلى الحقّ. أو بحسدا. أي : حسدا بالغا منبعثا من أصل نفوسهم. (الْحَقُّ)

__________________

(١) الإسراء (١٧) / ٩٠.

(٢) مجمع البيان ١ / ٣٥١ ـ ٣٥٢.

(٣) الإسراء (١٧) / ٩٣.

(٤) تفسير البيضاويّ ١ / ٨١.

١١٣

بالمعجزات والنعوت المذكورة في التوراة. (فَاعْفُوا). العفو : ترك عقوبة المذنب. والصفح : ترك لومته. (بِأَمْرِهِ) الذي هو الأمر بقتالهم وضرب الجزية عليهم ، أو قتل قريظة وإجلاء بني النضير. وعن ابن عبّاس أنّه منسوخ بآية السيف. وفيه نظر ؛ إذ الأمر مطلق. (قَدِيرٌ) فيقدر على الانتقام منهم. (١)

(حَسَداً) ؛ أي : حسدوكم حسدا. (بِأَمْرِهِ). عن الباقر عليه‌السلام أنّه قال : لم يؤمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بقتل ، ولا أذن له فيه حتّى نزل جبرئيل عليه‌السلام بهذه الآية : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)(٢) وقلّده سيفا. (٣)

[١١٠] (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

(وَأَقِيمُوا). لمّا أمر الله المسلمين بالصفح عن الكفّار والتجاوز عنهم ، علم أنّه يشقّ عليهم ذلك مع شدّة عداوة اليهود وغيرهم لهم ، فأمرهم بالاستعانة على ذلك بالصلاة والزكاة. فإنّ ذلك معونة لهم مع ما يحوزون بهما من الثواب. كما قال : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ)(٤). (٥)

(وَأَقِيمُوا). عطف على (فَاعْفُوا). كأنّه أمرهم بالصبر واللّجأ إلى الله بالعبادة والبرّ. (مِنْ خَيْرٍ) كصلاة أو صدقة. (تَجِدُوهُ) ؛ أي : تجدوا ثوابه. (بَصِيرٌ) ؛ أي : لا يضيع عنده عمل عامل. (٦)

[١١١] (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

__________________

(١) تفسير البيضاويّ ١ / ٨١.

(٢) الحج (٢٢) / ٣٩.

(٣) التبيان ١ / ٤٠٥ و ٤٠٧.

(٤) البقرة (٢) / ٤٥.

(٥) مجمع البيان ١ / ٣٥٤.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٨١.

١١٤

(وَقالُوا). أي أهل الكتاب. (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) ؛ أي : قالت اليهود : لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا. وقالت النصارى : لن يدخل الجنّة إلّا من كان نصارى. فلفّ بين القولين ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كلّ فريق قوله. (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) : أباطيلهم وما يتمنّونه على الله تعالى. فإن قلت : لم قيل : (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) وقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) أمنيّة واحدة؟ قلت : أشير بها إلى الأمانيّ المذكورة وهي أمنيّتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربّهم وأمنيّتهم أن لا يدخل الجنّة غيرهم. أي : تلك الأمانيّ الباطلة أمانيّهم. (١)

(هُوداً). جمع هائد. والهائد : التائب الراجع إلى الحقّ. (٢) لأنّهم تابوا عن عبادة العجل.

(قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على اختصاصكم بدخول الجنّة. (٣)

[١١٢] (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

معنى (أَسْلَمَ) يحتمل وجهين. أحدهما : أسلم إلى كذا بمعنى صرفه إليه. كقولك : أسلمت الثوب إليه. والثاني : أسلم له بمعنى أخلص له. من قولك : قد سلم الشيء لفلان ، إذا أخلص له. ومنه قوله : (وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ)(٤) ؛ أي : خالصا. (٥)

(بَلى). إثبات لما نقوه من دخول غيرهم الجنّة. (أَسْلَمَ) : أخلص نفسه لله. (عِنْدَ رَبِّهِ) ؛ أي ثابتا عنده لا يضيع ولا ينقص. والجملة جواب من إن كانت [شرطيّة وخبرها إن كانت] موصولة. والفاء فيها لتضمّنها معنى الشرط. فيكون الردّ بقوله : (بَلى) وحده ويحسن الوقف عليه. ويجوز أن يكون (مَنْ أَسْلَمَ) فاعل فعل محذوف مثل بلى يدخلها من أسلم. (يَحْزَنُونَ) في الآخرة. (٦)

__________________

(١) الكشّاف ١ / ١٧٧ ـ ١٧٨.

(٢) مجمع البيان ١ / ٣٥٥.

(٣) تفسير البيضاويّ ١ / ٨٢.

(٤) الزمر (٣٩) / ٢٩.

(٥) التبيان ١ / ٤١٢.

(٦) تفسير البيضاويّ ١ / ٨٢.

١١٥

[١١٣] (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)

(وَقالَتِ الْيَهُودُ). النزول : قال ابن عبّاس : إنّه لمّا قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أتتهم أحبار اليهود فتنازعوا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال رافع بن حرمل : ما أنتم على شيء. وجحد نبوّة عيسى عليه‌السلام وكفر بالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران : ليست اليهود على شيء. وجحد نبوّة موسى عليه‌السلام وكفر بالتوراة. فأنزل الله هذه الآية. (١)

(عَلى شَيْءٍ) يصحّ ويعتدّ به. وهذه مبالغة عظيمة. لأنّ المحال والمعدوم يقع عليها اسم الشيء ، فإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه ، فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده. كقولهم : أقلّ من لا شيء. (الْكِتابَ). اللّام للجنس. أي قالوا ذلك وحالهم أنّهم من أهل العلم والتلاوة للكتب وحقّ من حمل التوراة أو الإنجيل أو غيرهما من كتب الله وآمن به أن لا يكفر بالباقي. لأنّ كلّ واحد من الكتابين مصدّق للثاني ، شاهد بصحّته. (بَيْنَهُمْ) ؛ أي : بين اليهود والنصارى. (يَوْمَ الْقِيامَةِ) بما يقسم لكلّ فريق منهم من العقاب الذي استحقّه. وعن الحسن : حكم الله بينهم أن يكذّبهم ويدخلهم النار. (٢)

(مِثْلَ قَوْلِهِمْ). معناه : انّ مشركي العرب الذين هم جهلة وليس لهم كتاب هكذا قالوا لمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه أنّهم ليسوا على شيء من الدين مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض. وقيل : إنّ مشركي العرب قالوا بأنّ جميع الأنبياء وأممهم لم يكونوا على شيء وكانوا على خطأ. أي : فقد ساووكم ـ يا معشر اليهود ـ في الإنكار وهم لا يعلمون. (٣)

[١١٤] (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ

__________________

(١) مجمع البيان ١ / ٣٥٨.

(٢) الكشّاف ١ / ١٧٨ ـ ١٧٩.

(٣) مجمع البيان ١ / ٣٥٩.

١١٦

ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ)

(مِمَّنْ مَنَعَ). أي كلّ من منع لكلّ المساجد. ولا يراد خصوص مورد النزول من النصارى أو المشركين. (خَرابِها) بانقطاع الذكر وبتخريب البنيان. (أُولئِكَ) ؛ أي : المانعون (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها) ؛ أي : مساجد الله (إِلَّا خائِفِينَ) على حال ارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم ، فضلا أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها. والمعنى : ما كان الحقّ والواجب إلّا ذلك لو لا ظلم الكفرة وعتوّهم. وقيل : ما كان لهم في حكم الله. يعني أنّ الله قد حكم وكتب في اللّوح أنّه ينصر المؤمنين حتّى لا يدخلوها إلّا خائفين. (١)

(وَمَنْ أَظْلَمُ). اختلفوا في المعنيّ بهذه الآية. فقال ابن عبّاس : إنّهم الروم ؛ غزوا بيت المقدس وسعوا في خرابه حتّى كانت أيّام عمر فأظهر الله المسلمين عليهم وصاروا لا يدخلونه إلّا خائفين. وقيل : هو بخت النصر خرّب بيت المقدس وأعانه عليه النصارى. وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّهم قريش حين منعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دخول مكّة والمسجد الحرام عام الحديبيّة. وروي عن زيد بن عليّ عن آبائه عن عليّ عليه‌السلام أنّه أراد جميع الأرض ، لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا. (مَساجِدَ اللهِ). إذا حمل المساجد على بيت المقدس أو على الكعبة ، فإنّما جاز جمعه على أحد وجهين ؛ إمّا أن يكون مواضع السجود ، فإنّ المسجد الأعظم يقال لكلّ موضع منه مسجد ، وإمّا أن يدخل فيها المساجد التي يبنيها المسلمون. (أَنْ يُذْكَرَ) بصلاة الجماعة والذكر. (٢)

(خِزْيٌ) : قتل ، أو سبي ، أو ذلّة بضرب الجزية. وقيل : فتح مدائنهم روميّة وعمّوريّة. (٣)

[١١٥] (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ)

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) ؛ أي : بلادهما وهو مالكها ومتولّيها. (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) : ففي أيّ

__________________

(١) الكشّاف ١ / ١٧٩.

(٢) مجمع البيان ١ / ٣٦٠ ـ ٣٦١.

(٣) الكشّاف ١ / ١٨٠.

١١٧

مكان فعلتم التولية. يعني تولية وجوهكم شطر القبلة ؛ بدليل : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). (١)(فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) ؛ أي : جهته التي أمر بها ورضيها. والمعنى : انّكم إذا منعتم أن تصلّوا في المسجد الحرام أو في بيت المقدس ، فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلّوا في أيّ بقعة شئتم من بقاعها. فإنّ التولية ممكنة في كلّ مكان. (٢)

(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ). اختلف في سبب نزول الآية. فقيل : إنّ اليهود أنكروا تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس ، فنزلت الآية ردّا عليهم. وقال [ابن عبّاس] : بيّن سبحانه أنّه ليس في جهة دون جهة كما تقول المجسّمة. وقيل : كان للمسلمين التوجّه في صلاتهم حيث شاؤوا ، فنزلت الآية. ثمّ نسخ ذلك بقوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ). وقيل : نزلت في صلاة التطوّع على الراحلة تصلّيها حيثما توجّهت إذا كنت في سفر. وأمّا الفرائض فقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ). يعني أنّ الفرائض لا تصلّيها إلّا إلى القبلة. وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام. (٣)

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال السائل : من هؤلاء الحجج؟ قال : هم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن حلّ محلّه من أصفياء الله الذين قرنهم الله بنفسه. قال : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). (٤)

وفيه قال عليه‌السلام أيضا في الحجج : هم وجه الله الذي قال : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ). (٥)

وعن الرضا عليه‌السلام (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال : عليّ عليه‌السلام. (٦)

(فَأَيْنَما تُوَلُّوا). سأله معاوية بن عمّار عن الرجل يقوم في الصلاة ثمّ ينظر بعد ما فزع فيرى أنّه قد انحرف عن القبلة يمينا أو شمالا؟ فقال له : قد مضت صلاته. وما بين المشرق والمغرب قبلة. ونزلت هذه الآية في قبلة المتحيّر : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ). (٧)

__________________

(١) البقرة (٢) / ١٤٤.

(٢) الكشّاف ١ / ١٨٠.

(٣) مجمع البيان ١ / ٣٦٣.

(٤) الاحتجاج ١ / ٣٧٥.

(٥) الاحتجاج ١ / ٣٧٥.

(٦) مناقب ابن شهر آشوب ٣ / ٢٧٢.

(٧) الفقيه ١ / ١٧٩.

١١٨

[١١٦] (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ)

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً). قالوا : المسيح ابن الله. وعزير ابن الله. والملائكة بنات الله. (سُبْحانَهُ). تنزيه له عن ذلك. (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ) : [هو] خالقه ومالكه ؛ ومن جملته الملائكة وعزير والمسيح. (كُلٌّ) : كلّ من جعلوه لله [ولدا]. والتنوين في (كُلٌّ) عوض من المضاف إليه أي ما في السموات وما في الأرض. (١)

عن الصادق عليه‌السلام قال : لم يخلق الله شجرة إلّا ولها ثمرة تؤكل. فلمّا قال الناس : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) ذهب نصف ثمرها. فلمّا اتّخذوا مع الله إلها ، شاك الشجر. (٢)

(وَقالُوا). قرأ ابن عامر : «قال» بلا واو. (٣)

(قانِتُونَ) : منقادون لمشيّته. ومن كان بهذه الصفة لم يجانس ومن حقّ الولد أن يكون من جنس الوالد. (٤)

[١١٧] (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)

(بَدِيعُ السَّماواتِ). من إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها. أي : بديع سمواته وأرضه. وقيل : البديع بمعنى المبدع. كقوله : (أمن ريحانة الداعي السميع) بمعنى المسمع. (كُنْ فَيَكُونُ). من كان التامّة. أي : أحدث ، فيحدث. وهذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول. وإنّما المعنى أنّ ما قضاه من الأمور وأراد كونه ، فإنّما يتكوّن [ويدخل] تحت الوجود من غير امتناع ولا توقّف. وقد أكّد بهذا استبعاد الولادة. لأنّ من كان بهذه الصفة من القدرة ، كانت حاله مباينة لأحوال الأجسام في توالدها. (٥)

(فَيَكُونُ). ابن عامر : (فَيَكُونُ) نصبا والباقون رفعا. (٦)

__________________

(١) الكشّاف ١ / ١٨٠.

(٢) علل الشرائع ٢ / ٥٧٣.

(٣) التبيان ١ / ٤٢٦.

(٤) الكشّاف ١ / ١٨٠ ـ ١٨١.

(٥) الكشّاف ١ / ١٨١ ـ ١٨٢.

(٦) التبيان ١ / ٤٢٨.

١١٩

[١١٨] (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)

(لا يَعْلَمُونَ). أي الجهلة من المشركين. وقيل : من أهل الكتاب. ونفى عنهم العلم لأنّهم لم يعملوا به. (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ). جحودا لأن يكون [ما] أتاهم من آيات الله آيات واستهانة بها. (١)

(تَأْتِينا آيَةٌ) ؛ أي : تأتينا آية موافقة لدعوتنا كما جاءت الأنبياء آيات موافقة لدعوتهم. ولم يرد أنّهم لم تأتهم آية ، لأنّه قد جاءتهم الآيات والمعجزات. (٢)

(الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ). قيل : هم اليهود حيث اقترحوا الآيات على موسى عليه‌السلام. عن مجاهد. لأنّه حمل قوله : (الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) على النصارى. وقيل : سائر الكفّار الذين كانوا قبل الإسلام. (تَشابَهَتْ) ؛ أي : أشبه بعضها بعضا في القسوة والاعتراض على الأنبياء من غير حجّة ؛ كقول اليهود لموسى : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً)(٣) وقول النصارى للمسيح : (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)(٤) وقول العرب لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله : حوّل لنا الصفا ذهبا. ولذلك قال الله : (أَتَواصَوْا بِهِ). (٥)(الْآياتِ) ؛ أي : الحجج والمعجزات التي يعلم بها صحّة نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله. (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ؛ أي : يستدلّون بها. (٦)

[١١٩] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩))

(بِالْحَقِّ) ؛ أي : متلبّسا به لأن تبشّر وتنذر لا لتجبر على الإيمان. وهذه تسلية لرسول الله لأنّه [كان] يغتمّ لإصرارهم على الكفر. ولا نسألك (عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) ما لهم لم يؤمنوا ، بعد أن بلّغت وبذلت جهدك. كقوله : (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ). (٧)

__________________

(١) الكشّاف ١ / ١٨٢.

(٢) مجمع البيان ١ / ٣٧٠.

(٣) النساء (٤) / ١٥٣.

(٤) المائدة (٥) / ١١٤.

(٥) الذاريات (٥١) / ٥٣.

(٦) مجمع البيان ١ / ١٧٠.

(٧) الرعد (١٣) / ٤٠.

١٢٠