من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم - ج ١

الدكتور زغلول النجار

من آيات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

الدكتور زغلول النجار


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الشروق الدولية
الطبعة: ٣
الصفحات: ١٠٩

منزل هذا القرآن ، على سيدنا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وقد اطلع أخى الجليل الأستاذ الدكتور زغلول النجار على ما كان من حوار ضمنا فى رحاب كلمات الله ونور اليقين ، وتفضل فأضاف إليه من المعلومات ما يزيده وضوحا يقتضيه اختلاف الوسيلة المرئية عن المقروءة ، وجاء بمزيد من الفائدة ، وأعود فأذكر عن الدكتور زغلول النجار وفقه الله : إننى لا أبالغ إذا قلت إن الناس على اختلاف مشاربهم ، عدّوه هدية من السماء يجدد الله به الإيمان ويعزز ثقة الشباب والكبار جميعا بهذا الدين ، فى زمن يستشعر فيه الناس هجمة مادية طاغية على قيم الحق والإيمان ، ويستعلى فيه الهوى والتحلل من الإذعان لسلطان الدين باسم العلم والتنوير زورا وبهتانا والعلم منهم براء ، فيأتى هذا الرجل ليقدم العلم فى شموخه وفى قمة إنجازاته ، طريقا للإيمان بالله والسجود لقيوم السموات والأرضين ، شهادة للحق سبحانه الذى خلق السموات والأرض بالحق ، وشهادة لهذا الكتاب الخالد الذى وصفه ربنا ـ تبارك وتعالى ـ بقوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) وشهادة بصدق المصطفى عليه الصلاة والسلام ، ولا أستسلم للرغبة فى المزيد من الحديث عنه ، فقد عرفه من سمعوه وقرءوه بما لا مزيد عليه ، بحسبى أن أكرر الشكر له ، بل بحسبى أن أقول له جزاك الله خيرا ؛ فمن قال ذلك لأخيه فقد أجزل له الثناء كما علمنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأسأل الله أن ينفعنا بعلمه وأن يوفقه لعطاء بالعلم والخير موصول. إن ربى هو أعز من سئل وأكرم من أعطى ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.

أحمد فراج

القاهرة : ربيع الثانى ١٤٢٢ ه

يوليو ٢٠٠١ م

٢١
٢٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

مقدمة

بقلم الأستاذ الدكتور زغلول النجار

أحمد الله ـ تعالى ـ وأصلى وأسلم على كافة أنبيائه ورسله ، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وأخص منهم بأفضل الصلاة وأزكى التسليم خاتمهم أجمعين سيدنا محمد بن عبد الله ، النبى الأمين ، الذى بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة وجاهد فى سبيل الله حتى أتاه اليقين ، فأسأل الله ـ تعالى ـ أن يجزيه خير ما جازى به نبيا عن أمته ، ورسولا على حسن أداء رسالته ، وأن يؤتيه الوسيلة والفضيلة ، والدرجة العالية الرفيعة ، وأن يبعثه المقام المحمود الذى وعده ، إن ربى لا يخلف الميعاد (آمين).

وبعد

فلقد شاءت إرادة الله ـ تعالى ـ أن أمر بالقاهرة فى إحدى رحلاتى العديدة بين أوروبا والمشرق العربى لأجد رسالة هاتفية مسجلة من أخى الأستاذ أحمد فراج يطلب منى فيها ضرورة الاتصال به فور وصولى إلى مصر ، فقمت على الفور بالاتصال به ، واتفقنا على موعد للقاء وجه إلىّ فيه دعوة كريمة لاستضافتى فى برنامجه الشهير «نور على نور» ولما كنت مرتبطا بسفر سريع فقد اتفقنا على موعد آخر.

ثم شاءت إرادة الله أن أصل إلى القاهرة فى صبيحة الأربعاء العاشر من رمضان سنة ١٤٢١ ه‍ (الموافق السادس من ديسمبر سنة ٢٠٠٠ م) بعد رحلة طويلة أخذتنى من لندن إلى كل من دولة الإمارات العربية المتحدة (للمشاركة فى

٢٣

البرنامج الثقافى لجائزة دبى الدولية للقرآن الكريم) ثم إلى الكويت (بدعوة كريمة من وزارة الأوقاف الكويتية) ، ثم إلى البحرين (بدعوة نبيلة من جمعية النور للبر). وفى نفس الليلة تم لقائى مع أخى الأستاذ أحمد فراج ، وتم تسجيل ساعة ونصف الساعة فى برنامج «نور على نور» ، وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة من إتمام اللقاء سافرت إلى لندن ومنها إلى ماركفيلد.

وهناك بدأت اتصالات أخى الأستاذ أحمد فراج بى تترى هاتفيا وبرقيا تحمل بشرى انفعال المشاهدين وتأثرهم وإعجابهم وتقديرهم للبرنامج الذى قسم إلى حلقتين أذيعتا لعدة مرات تحت ضغط من طلباتهم وإلحاحهم على كل من القناة الأولى والفضائية المصرية.

وبدأت وسائل الإعلام فى كل من مصر وباقى الدول العربية فى التعليق الإيجابى على هاتين الحلقتين بثناء عظيم وإعجاب كبير من فضل الله وكرمه ، كما انهالت على الاتصالات من مختلف أنحاء العالم ، ومن كبار الشخصيات العربية والإسلامية بالثناء العاطر على هاتين الحلقتين ، وبطلب المزيد ، وحمدت الله تعالى حمدا كثيرا أن جعل لى ولكلماتى هذا القبول عند خلقه.

وفى فجر الاثنين ١١ / ١١ / ١٤٢١ ه‍ (الموافق ٥ / ٢ / ٢٠٠١ م) توجهت إلى القاهرة بعد رحلة أخذتنى من ماركفيلد إلى لندن ثم الرياض وجدة والمدينة المنورة لأفاجئ باستقبال فى مطار القاهرة من استقبالات الفاتحين ، وحمدت الله تعالى على ذلك حمدا كثيرا ، وحمدت لشعبنا الطيب حماسه للإسلام وانفعاله بالكلمات البسيطة التى دارت بينى وبين الأستاذ أحمد فراج فى برنامج «نور على نور».

ثم بدأت سلسلة متصلة من الدعوات للمحاضرات ، والمناقشات ، واللقاءات الصحفية والإذاعية والتلفازية شملت عددا كبيرا من الجامعات والنقابات ، والأندية الرياضية والمراكز الإسلامية على سعة مساحة الجمهورية بصورة لا يكاد الوقت أن يتسع لها ، ولا تكاد الصحة أن تتحملها ، ولكن عواطف هذا الشعب

٢٤

المسلم ، وحماسه لموضوع الإعجاز العلمي للقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة كانا هما العون بعد الله تعالى على تحمل ما لا قبل لمثلى بتحمله.

فعلى الرغم من مضى أكثر من خمسة وثلاثين سنة وأنا أحاضر فى هذا الموضوع متحدثا باللغتين العربية والإنجليزية ، وجبت الأرض من الأمريكتين غربا إلى أواسط آسيا شرقا ، ومن كندا شمالا إلى أستراليا جنوبا ، وعلى الرغم من أن الناس استقبلوا محاضراتى بانبهار شديد وترحاب أشد ، إلا أننى أشهد بأن ما لقيته فى مصر من عاطفة دافقة يفوق كل ذلك ، فإقبال الناس على المحاضرات فى كل مكان فاق كل وصف وانفعالهم بها فاق كل تصور ، وإن دل ذلك على شىء فإنما يدل على ارتباط هذا الشعب المسلم بدينه ، واعتزازه بقرآنه وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وحرصه على مقدساته واستعداده للدفاع عن كل ذلك بالنفس والنفيس.

والآيات الكونية فى كتاب الله والتى يزيد عددها عن الألف آية صريحة ، بالإضافة إلى آيات أخرى عديدة تقترب دلالتها من الصراحة والتى تشكل فى مجموعها حوالى سدس آيات القرآن الكريم مجتمعة ، هذه الآيات لا يمكن فهمها فهما عميقا فى إطارها اللغوى فقط ، بل لا بدّ من توظيف المعارف العلمية الحديثة من أجل ذلك ؛ لأن فيها من الألفاظ والمعانى ما لا يقف على دلالتها إلا الراسخون فى العلم ، كل فى حقل تخصصه ، ومن هنا كانت الآيات القرآنية العديدة التى تشير إلى مستقبلية الفهم لبعض الآيات القرآنية من مثل قوله (تعالى) :

(لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) [الأنعام : ٦٧].

وقوله ـ عز من قائل ـ : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [النمل : ٩٣]

٢٥

والآيات القرآنية الكريمة المتعلقة بالدين بركائزه الأربع الأساسية : العقيدة ، العبادة ، الأخلاق والمعاملات جاءت كلها بصيغة محكمة ، واضحة الدلالة ، جلية المعنى ، لا تحتمل إلا وجها واحدا ، أما الآيات الكونية فجاءت بصياغة مجملة معجزة ، يفهم منها أهل كل عصر معنى من المعانى يتناسب مع ما توافر لهم فيه من إلمام بالكون وعلومه ، وتظل هذه المعانى تتسع باستمرار مع اتساع دائرة المعرفة الإنسانية فى تكامل لا يعرف التضاد ، حتى تبقى الآية القرآنية الكريمة مهيمنة على المعرفة الإنسانية مهما اتسعت دوائرها (وليس هذا لغير كلام الله) ، وحتى تصدق نبوءة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى وصفه للقرآن الكريم بأنه لا تنتهى عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد.

ولذلك يحضنا ربنا (تبارك وتعالى) حضا على تدبر آيات القرآن الكريم فيقول (عز من قائل) : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢]

ويقول (جل وعلا) : (قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [الأنعام : ١٠٤]

ويقول (سبحانه وتعالى) : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩]

ويقول (تبارك وتعالى) : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) [محمد : ٢٤]

وفى ذلك يقول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه».

وإعرابه معرفة معانيه ؛ والتماس غرائب القرآن الكريم هو معرفة ما غمض من معانيه على القارئ العادى ، خاصة فى مجال الآيات الكونية التى تتسع دلالاتها باتساع دائرة المعرفة الإنسانية جيلا بعد جيل ، وذلك لبساطة تلك المعرفة فى زمن

٢٦

تنزل القرآن الكريم ، ولطبيعتها التراكمية مع الزمن ، بمعنى اتساع دوائر المعرفة فيها بزيادة استقراء الإنسان للكون ، وتعرفه على سنن الله فيه.

والآيات الكونية فى كتاب الله تشير إلى العديد من حقائق الكون وأشيائه وظواهره ، وهى مما لا يمكن فهمه فهما كاملا فى الإطار اللغوى فقط ، بل لا بدّ من توظيف المعارف العلمية المتاحة لنا فى كل تخصص من التخصصات التى تشير إليها آيات الكتاب العزيز من أجل فهم دلالة تلك الآيات الكونية فهما صحيحا ، وفى ذلك يقول الحق (تبارك وتعالى) :

(لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء : ١٦٦]

ويقول (عز من قائل) : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) [الأنعام : ١٩]

ويقول (سبحانه وتعالى) : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [يونس : ١٨]

ويقول (تبارك اسمه) : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [هود : ١٤]

ويقول (سبحانه) مخاطبا خاتم أنبيائه ورسله (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) [الفرقان : ٦]

ويقول ربنا (تبارك وتعالى) مخاطبا رسوله الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [النمل : ٩٣]

ويقول رب العالمين : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ* وَمِنَ

٢٧

النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فاطر : ٢٧ ، ٢٨]

ويقول ربنا (عز من قائل) (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ* وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ* وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ) [الشورى : ٢٧ ـ ٢٩]

وهذه قضايا من العلوم الكونية فى الصميم ، ومن هنا كان اهتمامى بالآيات الكونية فى كتاب الله ، وحرصى على توظيف ما منّ الله (تعالى) به على شخصى الضعيف من معرفة محدودة فى جانب من جوانب العلوم الكونية فى الإشارة إلى الدلالة العلمية لتلك الآيات ، وإظهار وجه من أوجه الإعجاز فيها وهو الإعجاز العلمى ، بمعنى سبق القرآن الكريم بالإشارة إلى عدد من الحقائق الكونية التى لم يكن لأحد من الناس إدراك لها ، أو دراية بها فى وقت تنزل القرآن الكريم ، ولا لقرون متطاولة من بعد نزوله ، وهذه الحقائق الكونية التى سبق القرآن الكريم بالإشارة إليها فى دقة وشمول وكمال من قبل أكثر من ألف وأربعمائة من السنين ، لم يستطع الإنسان إدراك شىء منها إلا بعد مجاهدة طويلة استغرقت آلافا من العلماء لمئات من السنين ، ولم يتبلور لهم تصور صحيح عنها ، إلا منذ عشرات قليلة من السنين. ومحاولاتى فى إظهار هذا الجانب من جوانب الإعجاز فى كتاب الله محاولة بشرية لها كل ما للبشر من نقص وبعد عن الكمال ، ولكنها محاولة أرجو أن تكون خالصة لله (تعالى) ولخدمة كتابه الخاتم الذى بعث به نبيه الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما أرجو أن تكون مفيدة لقارئى القرآن الكريم من المسلمين وغير المسلمين ، وأرجو بها عفو الله ورضاه وهو (تعالى) أكرم الأكرمين ...!

فإن أصبت فى ذلك فمن الله وبتوفيقه وهدايته ، وإن أخطأت فمن نفسى ، والله تعالى يعفو عن تقصيرى وسهوى ، وهو غفار الذنوب ، الذى لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، وهو (تعالى) يعفو عن كثير.

٢٨

من هنا أيضا كان ترحيبى بالدعوة الكريمة التى وجهها إلىّ أخى الكريم الأستاذ أحمد فراج لمناقشة تلك القضية المهمة فى برنامجه المحبوب «نور على نور» بعد أن استمع إلى عرضى لها طويلا ، وانفعل بها كثيرا ، وشعر بحسه الإسلامى العميق ، وخبرته الإعلامية الكبيرة حاجة الناس فى مصرنا الحبيبة ، وفى عالمينا العربى والإسلامى ، بل وفى العالم كله إلى هذا الخطاب الذى يحرك العقل والقلب معا ، ويشحذ الهمم ، ويوقظ العزائم فى زمن فتن الناس بالعلم ومعطياته فتنة كبيرة ، وكان لتخلف الأمتين العربية والإسلامية فى مجال العلوم والتقنية طوال القرن الماضى ـ بعد أن حملت الحضارة الإسلامية لواء المعرفة العلمية والتقنية والفكرية فى شتى مجالات الحياة على مدى عشرة قرون أو يزيد ـ كان لتلك الانتكاسة الحضارية ردة فعل عنيفة عند شباب أمتنا الذى لا زال يتلمس الطريق وسط هجمة العولمة التى تخطط لفرض القيم الغربية الساقطة على دول العالم الثالث ـ بصفة عامة ـ والدول العربية والإسلامية بصفة خاصة باسم الشرعية الدولية الضالة المضلة ، والشرع والشرعية منها براء ...! خاصة بعد أن أثبتت تجربة تلك القيم المتهالكة فشلها فى كل من الغرب والشرق على حد سواء ... ، فأدت إلى تفكك الأسرة ، وإلى انفلات المرأة ، وإلى تحلل المجتمعات وبعدها عن الفطرة السليمة فزادت معدلات الجريمة والإدمان والانحراف والأزمات النفسية ، والانهيارات العصبية ، والقتل العمد والانتحار ...!!!

ولا خلاص للبشرية من هذا الانحدار والانهيار والضلال إلا بالعودة إلى كتاب الله الخاتم ، المحفوظ بنفس اللغة التى أوحى بها ـ اللغة العربية ـ محفوظا بحفظ الله كلمة كلمة وحرفا حرفا ، والذى لا يمكن لعاقل أن ينظر إليه بشيء من الموضوعية والحيدة إلا ويجد فى كل أمر من أموره ما يشهد له أنه كتاب الله الخالق ، الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأنه حقا معجز فى بيانه ، ومحتواه ، وفى كل زاوية من زواياه ...!!!

وبقدر ترحيبى باللقاء التلفازى ، وسعادتى به ، وبانفعال المشاهدين له ـ على

٢٩

اختلاف مشاربهم ومستوياتهم ـ وبردة الفعل الإيجابية التى تركتها الحلقتان اللتان تم بثهما تلفازيّا بالفعل ، إلا أننى ترددت كثيرا فى الموافقة على نشر تفاصيل هذا الحوار ، ثم عدت فوجدت أن توفره مطبوعا بين أيدى الناس قد يتمم الفائدة على الرغم من تشعب الحوار وتفرعه ، وقد تم زيادة إضافات علمية مهمة رأيت أنها تساعد القارئ فى الوصول إلى الفائدة المرجوة بإذن الله.

هذا وأسأل الله تعالى أن ينفع بنشر هذه الكلمات كما قد نفع ببثها تلفازيّا والله الموفق والمستعان ، وهو الهادى إلى سواء السبيل.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

القاهرة : ربيع الثانى ١٤٢٢ ه‍

يوليو ٢٠٠١ م

الفقير إلى عفو ربه

زغلول النجار

٣٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحوار الذى تم حول موضوع الإعجاز العلمى فى القرآن الكريم

والذى أجراه الأستاذ أحمد فراج مع الدكتور زغلول النجار

الأستاذ أحمد فراج :

سيداتى وسادتى : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طوال شهر رمضان الماضى ، وفى كل رمضان ، وعلى مدى الأزمان والعصور ، نحتفل دائما بمعجزة القرآن.

وأراد الله لهذه الأمة أن تكون معجزتها فى كتاب ؛ لكى يكون أتباع سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكثر الناس يوم القيامة عددا ، وأقربهم من الله ـ تعالى ـ منزلة.

والحديث عن الإعجاز القرآنى حديث موصول ودائم ومستمر.

ولعل الله سبحانه وتعالى أراد ـ وكان أول ما نزل على هذه الأمة من كتاب الله الكريم الأمر بالقراءة (اقرأ) ـ أن تكون هذه الآية أمرا دائما موصولا بقراءة كتاب الله الخاتم وبقراءة كل ما فى هذا الكون من آيات دالة على قدرة الله وعلى خالقية الله سبحانه وتعالى لهذا الكون ومن فيه وما فيه ، فطلاقة القدرة الإلهية

٣١

تتضح لنا فى كل آيات الكون التى جاءت فى القرآن ، ولذلك نجد فى هذه الآية الكريمة : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت : ٥٣] الأمر المستقبلى (سنريهم) هذه السين التى تتحدث عن المستقبليات ، تدل على أن معجزة القرآن ستظل معجزة باقية ومتجددة لا تخلق على كثرة الرد.

ومن الأمور اللافتة للنظر أن الأقدمين كانوا يفهمون الآيات الكونية بأسلوب يتناسب مع معارف العصر ، فيتقدم العلم ويكشف عن مزيد من الإعجاز فى آيات الكون أيضا ، فنجد أن فهمنا للآيات يتسع ويتجدد ونرى رؤى جديدة.

ويستطيع علماؤنا أن يقدموا الإعجاز العلمي فى هذه المجالات من خلال آيات القرآن الكريم ، وأحاديث خاتم المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل فى حقل تخصصه.

وقد يوجد أناس يحجمون عن تناول التفسير العلمى للقرآن الكريم ؛ بدعوى أن العلم لا يعرف الكلمة الأخيرة ، ويخشون أن تتغير معطيات العلم فيظنّ أن آيات القرآن فيها خطأ ـ حاشا لله ـ.

وأقول لهؤلاء الذين يتحفظون على اللجوء إلى التفسير العلمى للقرآن : إنه إذا تبين لنا شىء جديد فى ضوء التطور العلمى يخالف تفسيرنا العلمى ، فيكون الخطأ فى فهمنا بطبيعة الحال وليس فى الآيات.

ثم إننا يجب أن نفرق بين أمرين : الأول ، التفسير العلمى للآيات ، والثانى الإعجاز العلمى فيها.

والموضوع ، حقيقة ، مهم ومتجدد ، وقد سبق أن قدمنا فيه بعض الحلقات فى برنامج «نور على نور» ، وفى كل مرة نقدم مزيدا من الآيات ، وما فيها من إعجاز علمى.

ويسعدنا فى هذا اللقاء أن نستضيف عالما مصريّا مرموقا هو الأستاذ الدكتور

٣٢

زغلول راغب محمد النجار ، أستاذ الجيولوجيا (علوم الأرض) فى عدد من الجامعات العربية والغربية ، ومدير معهد ماركفيلد للدراسات العليا فى المملكة المتحدة وزميل الأكاديمية الإسلامية للعلوم وعضو مجلس إدارتها.

ونود فى البداية أن نتعرف على الفرق بين التفسير العلمى والإعجاز العلمى ، ثم نتعرض بعد ذلك لبعض الآيات فى الكون ـ فى الخلق ـ فى السماوات والأرض ـ وما سوى ذلك ، فهلا تفضلتم بالإجابة على هذا السؤال؟

الدكتور زغلول النجار :

الحمد لله ، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله وأحييكم بتحية الإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد.

فقبل أن أتعرض لقضية الفرق بين الإعجاز العلمى والتفسير العلمى لكتاب الله ، أود أن أؤكد أولا على أن القرآن الكريم معجز فى كل أمر من أموره.

فالإعجاز البيانى كان المنطلق الأول الذى تحدث عنه علماء التفسير ؛ لأن كل نبى وكل رسول قد أوتى من الكرامات ومن المعجزات ما يشهد له بالنبوة أو بالرسالة ؛ وكانت تلك المعجزات مما تميز فيه أهل عصره.

فسيدنا موسى عليه‌السلام جاء فى زمن كان السحر قد بلغ فيه شأوا عظيما ، فأعطاه الله تعالى من العلم ما أبطل به سحر السحرة.

وسيدنا عيسى عليه‌السلام جاء فى زمن كان الطب قد بلغ فيه مبلغا عظيما ، فأعطاه الله تعالى من العلم ما تفوق به على طب أطباء عصره.

وسيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فى زمن كانت المزية الرئيسية لأهل الجزيرة العربية فيه هى الفصاحة والبلاغة وحسن البيان. فجاء القرآن يتحدى العرب ـ وهم فى هذه القمة من الفصاحة والبلاغة وحسن البيان ـ أن يأتوا بقرآن مثله ، أو بعشر سور مفتريات من مثله. أو حتى بسورة واحدة من مثله ، ولا يزال هذا التحدى

٣٣

قائما دون أن يستطيع عاقل أن يقول : نعم ، لقد استطعت أن أكتب سورة من مثل سور القرآن الكريم.

هذه الحقيقة جعلت علماء التفسير يركزون على قضية الإعجاز النظمى والبيانى واللفظى للقرآن الكريم ، ولكن فى الحقيقة ما من زاوية من الزوايا ينظر منها الإنسان المحايد إلى كتاب الله إلا ويرى فيه وجها من أوجه الإعجاز ، وما من حرف ولا كلمة فى القرآن الكريم إلا ووراءها صورة من صور الإعجاز ؛ تؤكد أنه كلام الله ، وأن رسوله الخاتم سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان موصولا بالوحى ، معلّما من قبل الحق ، تبارك وتعالى.

والقرآن له رسالة ، والأسلوب والنظم مجرد إطار ، والرسالة أهم من الإطار ؛ ورسالة القرآن الكريم هى الدين بركائزه الأربع الرئيسية : العقيدة ، والعبادة ، والأخلاق ، والمعاملات. وإذا نظرنا فى كل قضية من هذه القضايا وجدنا فيها ما يشهد بأن القرآن معجز.

وبالإضافة إلى ذلك فإن القرآن يضم عددا من سير الأمم السابقة البائدة ، أمة بعد أمة ، وهذا السرد القصصى جاء للاعتبار ، ولكن له فوائده الأخرى. فالاكتشافات الأثرية تؤكد صدق القرآن الكريم فى كل ما أخبر به عن تلك الأمم السابقة ، ويعالج ذلك تحت عنوان «الإعجاز التاريخى للقرآن الكريم». وهناك «الإعجاز التربوى» ، و «الإعجاز الأخلاقى» ، و «الإعجاز التشريعى» ، و «الإعجاز النفسى» ، و «الإعجاز التنبؤى» وغير ذلك من صور الإعجاز فى كتاب الله.

ومن بين القضايا التى تشهد للقرآن الكريم بأنه معجز .. الآيات الكونية العديدة والتى يقترب عددها من الألف آية صريحة بالإضافة إلى آيات أخرى تقترب دلالتها من الصراحة (تكوّن حوالى سدس القرآن الكريم) وتشكل جانبا من أهم جوانب الإعجاز فى كتاب الله يعرف باسم «الإعجاز العلمى للقرآن الكريم» ، والعلم التجريبى له طبيعة تراكمية ، بمعنى أنه كلما اتسعت دائرة

٣٤

المعرفة بالكون كلما أدرك الإنسان من أسرار هذا الكون ما لم يكن معروفا من قبل.

والزمان الذى نحيا فيه والذى يعرف باسم «زمن العلوم والتقنية» قد توفر فيه للإنسان من المعرفة بالكون ومكوناته ما لم يتحقق لجيل من البشر من قبل ، لذلك فإن النظر الآن فى هذه الآيات الكونية الواردة فى كتاب الله على ضوء الحقائق العلمية المتوفرة لنا اليوم يعتبر من أوضح البراهين على الإعجاز العلمى للقرآن الكريم ، وقد جاءت الآيات الكونية فى القرآن الكريم كلها فى مقام الشهادة لله ـ تعالى ـ بطلاقة القدرة وببديع الصنعة ، وبأن هذا الخالق العظيم الذى أبدع هذا الكون بعلمه وحكمته وقدرته ، جدير بالخضوع له بالعبادة وحده ، بغير شبيه ولا شريك ولا منازع ، كما تأتى فى مقام الشهادة بأن الله ـ تعالى ـ الذى أبدع هذا الكون بكل ما فيه ومن فيه قادر على إفناء الكون وإعادة خلقه من جديد ، وعلى الرغم من ذلك فإن الآيات الكونية فى كتاب الله تبقى بيانا من الله الخالق الذى أبدع هذا الكون ، ولا بد وأن تكون آياته التى أنزلها متوافقة مع خلقه الذى أبدع ، ومن ثم فلا بد وأن تكون حقا مطلقا ونحن نرى هذا الحق فى زماننا فى ظل الكم الهائل للمعرفة بالكون ومكوناته التى بدأت تتضح أمام رؤى العلماء فى زمن العلم والتقنية الذى نعيشه ـ وبصورة لا يمكن أن ينكرها إلا جاحد.

أما عن الفرق بين التفسير العلمى للقرآن الكريم ، والإعجاز العلمى فى هذا الكتاب الكريم فأقول :

إن التفسير العلمى : يقصد به توظيف كل المعارف المتاحة لحسن فهم دلالة الآية القرآنية ، وهذه المعارف قد تكون حقائق وقوانين ، كما قد تكون فروضا ونظريات ، ونحن ندعو إلى توظيف الحقائق والقوانين كلما توفرت فإن لم تتوفر فلا أرى حرجا من توظيف النظريات لأن التفسير يبقى محاولة بشرية لحسن الفهم إن أصاب فيها المفسر فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد ، ولا ينسحب خطؤه على جلال القرآن الكريم.

٣٥

أما موضوع الإعجاز العلمى فهو موقف من مواقف التحدى الذى نريد أن نثبت به للناس كافة أن هذا القرآن ـ الذى أنزل قبل ألف وأربعمائة سنة على النبى الأمى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى أمة كان غالبيتها الساحقة من الأميين ـ يحوى من حقائق هذا الكون ما لم يستطع العلماء إدراكه إلا منذ عشرات قليلة من السنين.

هذا السبق يستلزم توظيف الحقائق ، ولا يجوز أن توظف فيه الفروض والنظريات إلا فى قضية واحدة وهى قضية الخلق والإفناء وإعادة الخلق (خلق الكون ، خلق الحياة ، خلق الإنسان وإفناء كل ذلك وبعثه من جديد) لأن هذه القضايا لا تخضع للإدراك المباشر للإنسان ، ومن هنا فإن العلم التجريبى لا يتجاوز فيها مرحلة التنظير ، ويبقى للمسلم نور من كتاب الله أو من سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعينه على أن يرتقى بإحدى تلك النظريات إلى مقام الحقيقة ، ونكون بذلك قد انتصرنا للعلم بالقرآن الكريم أو بالحديث النبوى الشريف ، وليس العكس.

الأستاذ أحمد فراج :

قضية الخلق أعتقد أن «العلم التجريبى» لا يزال يدور بشأنها فى فلك فروض أو نظريات علمية ليست يقينية ، فإذا طرحنا القضية على المفهوم الدينى ، أفلا نكون متسرعين أو متجاوزين إذا أدخلناها على الإعجاز العلمى فى آيات القرآن؟ أم أن أمامنا فرصة نتخير بعض هذه النظريات مما هو أقرب إلى إقناع العقل المعاصر؟ ثم نرجحه بتفسير علمى تحتمله آية أو آيات لمجرد ورود إشارة لها فى كتاب الله أو فى سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونكون هنا قد انتصرنا بالقرآن أو بالسنة المشرفة للعلم وليس العكس. وهل الآيات القرآنية التى تتعلق بالخلق وبعملية الإفناء والبعث أو القيامة نفسها يمكن أن نفسرها فى ضوء فروض علمية لا ترقى إلى مرتبة اليقين العلمى؟

الدكتور زغلول النجار :

لقد تفضلتم بسؤال جيد ، إن قضية الخلق قضية لا تقع تحت إدراك العلماء

٣٦

مباشرة فالقرآن الكريم يقول ربنا ـ تبارك وتعالى ـ فيه : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً) [الكهف : ٥١].

بمعنى أن قضية الخلق ـ خلق الكون ـ خلق الحياة ـ خلق الإنسان ـ لا يمكن أن تخضع للإدراك أو للمشاهدة المباشرة من أى من الجن أو الإنس ؛ ولذلك لا يستطيع أى عالم تجريبى ، بل أى إنسان أن يتعدى فيها مرحلة التنظير ، فلا يمكن لعالم يحترم نفسه أن يقول : نعم ، هكذا خلق الله الكون ، أو هكذا سيفنى الكون أو هكذا سيعاد خلق الكون. فهذه القضايا لا تخضع للإدراك المباشر للعلماء ؛ ولذلك لا يستطيع العلم التجريبى أن يتجاوز فيها مرحلة التنظير.

ولكن يبقى للمسلمين فى مجال الخلق ـ خلق الكون ، خلق الحياة وخلق الإنسان ـ منارات على الطريق فى كتاب الله أو فى سنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يعين على التخير من بين فروض كثيرة ونظريات عديدة ، فيرقى بأحدهما إلى مقام الحقيقة لمجرد ورود إشارة لها فى كتاب الله أو فى حديث مروى بسند صحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ونكون بذلك قد انتصرنا بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية المطهرة للعلم ، وليس العكس. ويبقى سبق القرآن الكريم فى الإشارة إلى نظرية بعينها ، من صور الإعجاز العلمى فى كتاب الله. ويكون السبق فى ذلك للقرآن الكريم وليس للعلماء التجريبيين ، ونكون قد انتصرنا بالقرآن الكريم أو بالسنة النبوية المشرفة للعلم وليس العكس.

فمثلا نأخذ قضية خلق السماوات والأرض التى يتحدث عنها القرآن الكريم فى ست آيات محدودة ؛ تحكى قصة الخلق والإفناء وإعادة الخلق بالكامل فى إجمال وشمول ودقة مذهلة على النحو التالى :

١ ـ (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : ٧٥ ، ٧٦] ٢ ـ (وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) [الذاريات : ٤٧]

٣٧

٣ ـ (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ..) [الأنبياء : ٣٠]

٤ ـ (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ...) [فصلت : ١١]

٥ ـ (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) [الأنبياء : ١٠٤]

٦ ـ (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ ..) [إبراهيم : ٤٨]

***

ولنبدأ بالآية الأولى التى يقول الله تبارك وتعالى فيها : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ* وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : ٧٥ ـ ٧٦].

والقسم فى القرآن الكريم يأتى من قبيل التنبيه للمسلمين خاصة وللناس عامة إلى أهمية الأمر المقسم به ، لأن الله تعالى غنى عن القسم لعباده.

ويعجب الإنسان من هذا القسم المغلظ بمواقع النجوم ، والنجوم من أعظم خلق الله فى الكون ، فالنجم عبارة عن كتلة من الغاز ، ملتهبة ، مشتعلة ، مضيئة بذاتها ، تظل شعلتها لملايين السنين دون أن تنطفئ بسبب عدد من التفاعلات النووية المعروفة باسم «عملية الاندماج النووى» تتحد فيها نوى العناصر الخفيفة مثل غاز الإيدروجين مع بعضها البعض لتكوين نوى العناصر الأثقل بالتدريج.

فلما ذا أقسم ربنا تبارك وتعالى بمواقع النجوم ولم يقسم بالنجوم ذاتها؟. البدوى على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمع هذا القسم فيقول : النجوم مواقعها عظيمة فتستحق أن يقسم بها ؛ لبعد تلك المواقع ، والآن ندرك عمقا أكبر فى هذا القسم. حقا إن مواقع النجوم أمر مبهر للإنسان ، فالمسافة بيننا وبين الشمس تقدر بحوالى ١٥٠ مليون كم.

وأقرب نجم إلينا خارج المجموعة الشمسية يبعد عنا بمسافة تقدر بحوالى

٣٨

٣ ر ٤ من السنين الضوئية ، والسنة الضوئية تقدر بحوالى ٥ ر ٩ مليون مليون كم. والجزء المدرك من الكون (وكله فى السماء الدنيا) ، يبلغ قطره أكثر من ٢٠ ألف مليون سنة ضوئية ، كما نجد أن مجرتنا بها أكثر من مليون مليون نجم كشمسنا.

وأن بالسماء من أمثال مجرتنا أكثر من ٢٠٠ ألف مليون مجرة ، بعضها أكبر من مجرتنا كثيرا ، وبعضها أصغر منها قليلا.

وهنا نجد عمقا فى هذا القسم لم يكن يدركه السابقون ، فلما ذا أقسم ربنا تبارك وتعالى بمواقع النجوم ولم يقسم بالنجوم ذاتها على عظم شأنها؟ الجواب الذى أدركه العلماء منذ سنوات قليلة للغاية ، أن الإنسان من فوق سطح هذه الأرض لا يمكن له أن يرى النجوم على الإطلاق ، ولكنه يرى مواقع مرت بها النجوم.

فالشمس وهى أقرب نجم إلينا يبعد عنا بمسافة تقدر بحوالى ١٥٠ مليون كم ، وحين ينبثق منها الضوء يصل إلينا بعد ثمانى دقائق وثلث الدقيقة ، والشمس تجرى فى اتجاه نجم النسر الواقع بسرعة ٤ ر ١٩ كم فى الثانية ، وتدور حول مركز المجرة بسرعة تبلغ ٢٢٠ كم فى الثانية ، فتتحرك ونحن لا نراها وحينما يهيأ لنا أننا نراها فإننا نرى موقعا مرت به الشمس.

والعلماء يقولون إن أقرب نجم إلينا بعد الشمس يبعد عنا ٣ ر ٤ سنة ضوئية ، وإذا انبثق منه الضوء فإنه يصلنا بعد أكثر من خمسين شهرا ، يكون النجم خلالها قد تحرك من مكانه لمسافات شاسعة.

ليس هذا فقط ، بل هناك نجوم ما زالت تتراءى لنا مواقعها فى صفحة السماء فى ظلمة الليل ، وأثبت العلم أنها قد انفجرت منذ آلاف السنين ولا وجود لها الآن.

وهذا من رحمة الله تعالى بنا ؛ لأن الإنسان لو نظر إلي النجم مباشرة لفقد بصره ، وهذه لمحة قرآنية مبهرة وآية من آيات الله سبحانه وتعالى ، وعلى ذلك فإن النجوم التى نراها فى ظلمة السماء هى مجرد مواقع مرت بها النجوم

٣٩

وغادرتها ، وأن الذى نراه فى ظلمة الليل هو انبثاق ضوء من موقع مر به النجم وغادره ، وترك ضوءه يتحرك إلينا من ذلك الموقع.

ليس هذا فقط ، فالموقع يشير إلى كل من المكان والزمان ، فعظم الموقع يشير إلى تعاظم الزمن أى إلى قدم العمر ، وفعلا أثبت العلم أن مواقع النجوم قربا منا أو بعدا عنا تتناسب وأعمارها حداثة وقدما.

وكل من المكان والزمان سنة من سنن الله التى تمسك بأطراف هذا الكون بقوانين الجاذبية المنتشرة بين أجرام السماء ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً) [فاطر : ٤١].

ومن سنن الله قوى الجاذبية ، والجاذبية تمسك بأطراف الكون ، وهى مرتبطة بالموقع أى بالعمق فى فسحة الكون (المعبر عنه بكل من المكان والزمان) وبكل من الكتلة والطاقة.

وهذا القسم المبهر بمواقع النجوم كان من الأهمية بمكان ؛ لأن رصد مواقع النجوم كان منطلق معرفة الناس بكيفية خلق الله للكون. والنجوم حين نظر إليها العلماء وبدءوا يدرسون مواقعها ويحددون صفاتها الطبيعية والكيميائية أدركوا أن الكون المحيط بنا كون دائم الاتساع ، فكيف أدركوا هذه الحقيقة؟ أدركوها عن طريق تجربة بسيطة أجريت على مصدر للضوء ينظر إليه فى منشور زجاجى ، يتحلل الضوء الأبيض عند اختراق هذا المنشور الزجاجى إلى أطياف سبعة (كل طيف له طول موجى) : الأحمر والبرتقالى والأصفر والأخضر والأزرق والنيلى والبنفسجى ، إذا تحرك مصدر الضوء متباعدا عن المشاهد تنحاز هذه الحزمة إلى الطيف الأحمر لأنه أقصر الأطياف.

وإذا كان مصدر الضوء ثابتا تأتى هذه الحزمة متماثلة للأطياف السبعة ، وإذا كان مصدر الضوء يتحرك قربا إلينا تنحاز إلى الطيف الأزرق ثم إلى البنفسجى ؛ لأنه أطول الأطياف.

٤٠