عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ١

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي

عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ١

المؤلف:

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات فيروزآبادي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٤٧٧

هو كلي لا يوجد والفرد هو أمر موجود والموجود لا يعقل إيجاده ولكن المنشأ لا محالة يكون هو الفرد لا المفهوم فان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد.

(قوله وقد عرفت أن المنشأ ليس إلا المفهوم ... إلخ) أي قد عرفت ذلك في ضمن دفع الوهم المتقدم قبل وهم الأخير حيث قال وأما الصيغ الإنشائية فهي على ما حققناه في بعض فوائدنا موجدة لمعانيها فتذكر.

(قوله وكمال الإخلاص له نفى الصفات عنه ... إلخ) فان الصفات ملاك الاثنينية وهو تعالى واحد أحد فلا محيص عن إرجاع الصفات إلى نفس الذات.

في معاني صيغة الأمر

(قوله الفصل الثاني فيما يتعلق بصيغة الأمر وفيه مباحث الأول انه ربما يذكر للصيغة معان قد استعملت فيها ... إلخ) وببالي ان المحقق صاحب الحاشية قد ذكر لصيغة الأمر أربعة وعشرين معنى وذكر غيره دون ذلك وقد عد (منها) الترجي والتمني وقد مثل بعضهم للأخير بقوله ألا يا أيها الليل الطويل أن انجلى ولم أر من مثل للمعنى الأول وهو سهل (ومنها) التهديد وقد مثلوا له بقولك للعاصي المتمرد افعل ما شئت تهديدا (ومنها) الإنذار وقد مثلوا له بقوله تعالى تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب (ومنها) الإهانة وقد مثلوا لها بقوله تعالى ذق إنك أنت العزيز الكريم بعد قوله تعالى ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم (ومنها) الاحتقار وقد مثلوا له بقوله تعالى ألقوا ما أنتم ملقون (ومنها) التعجيز وقد مثلوا له بقوله تعالى فأتوا بسورة من مثله (ومنها) التسخير وقد مثلوا له بقوله تعالى كونوا قردة خاسئين إلى غير

٢٠١

ذلك من المعاني مع ما لها من الأمثلة المذكورة في المطولات (ثم ان حاصل كلام المصنف) هنا وهو كلام متين أن الصيغة لم تستعمل في شيء من هذه المعاني وانما استعملت في إنشاء الطلب في الجميع غايته أن الدواعي لإنشاء الطلب تختلف فقد يكون الداعي هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي وان شئت قلت هو ثبوت الطلب الحقيقي النفسانيّ وهذا هو الغالب وقد يكون الداعي هو الترجي أو التمني أو التهديد أو الإنذار ونحو ذلك فعد هذه الأمور من المعاني مع كونها من الدواعي من اشتباه الدواعي بالمعاني (ثم ان) ظاهر القوم الذين قد ذكروا هذه المعاني انهم يعترفون أن الصيغة ليست موضوعة لها لغة وذلك بشهادة نزاعهم الآتي في المبحث اللاحق من أن الصيغة هل هي حقيقة في الوجوب أو في الندب أو في كليهما أو في الجامع بينهما فان ظاهره المفروغية من عدم كونها حقيقة في التمني والترجي والتهديد وأخواتها المتقدمة وانما هي مستعملة فيها مجازا والمصنف كما تقدم قد أنكر استعمالها فيها ولو مجازا.

(قوله وقصارى ما يمكن أن يدعى ... إلخ.)

(أقول) بل يمكن دعوى عدم وضع الصيغة لإنشاء الطلب في خصوص ما إذا كان بداعي البعث والتحريك بل وضعت لإنشاء الطلب مطلقا سواء كان بداعي البعث والتحريك وثبوت الطلب الحقيقي النفسانيّ كما هو الغالب أو كان بسائر الدواعي نعم لا يبعد دعوى ظهورها في الأول لو خليت عن كل قرينة لأجل غلبة الاستعمال فيه كما لا يخفى (ويؤيده) بل يدل عليه أنا لا نجد فيما إذا استعملت الصيغة بأحد الدواعي المذكورة تجوزا في استعمالها لأجل عناية أو رعاية علاقة بل استعمالها في الكل على نمط واحد غير أن استعمالها في إنشاء الطلب بداعي البعث والتحريك أكثر وأغلب كما أشرنا (وعليه) فاستعمالها في جميع تلك الأمثلة المذكورة يكون على نحو الحقيقة من دون عناية ولا

٢٠٢

رعاية علاقة.

(قوله إيقاظ ... إلخ) وحاصل ما في هذا الإيقاظ أن ما ادعيناه في صيغة الأمر من كونها مستعملة دائما في إنشاء الطلب غايته أن الدواعي تختلف فكذلك ندعيه في ساير الصيغ الإنشائية من صيغة التمني والترجي والاستفهام حرفا بحرف فصيغة الاستفهام مثلا مستعملة دائما في إنشاء طلب الفهم غايته أن الداعي إلى الاستفهام (قد يكون) طلب الفهم حقيقة (وقد يكون) إظهار المحبة كما في قوله تعالى وما تلك بيمينك يا موسى (وقد يكون) الإنكار التوبيخي كما في قوله تعالى أتعبدون ما تنحتون أو الإبطالي كما في قوله تعالى أفأصفاكم ربكم بالبنين أو غير ذلك من الدواعي (وعليه) فما ذكروه لصيغة الاستفهام من المعاني الثمانية أو أقل أو أكثر مما لا وجه له فانها من الدواعي لا من المعاني وهكذا التزامهم بانسلاخ تلك الصيغ عما لها من المعاني الحقيقية فيما إذا وقعت في كلامه تعالى وباستعمالها في غير معانيها الحقيقية كالتعليل وما أشبه ذلك كما في قوله تعالى لعله يتذكر أو يخشى نظرا إلى استلزام معانيها الحقيقية العجز كما في الترجي والتمني أو الجهل كما في الاستفهام وهما محالان على الله تعالى فهذا كله مما لا وجه له فان تلك الصيغ إذا وقعت في كلامه تعالى هي مستعملة في نفس إنشاء الترجي أو التمني أو الاستفهام غايته أنه لا بداعي الترجي أو التمني أو طلب الفهم حقيقة كي يلزمه العجز أو الجهل بل بدواعي أخر من إظهار المحبة أو الإنكار أو التقرير أو غير ذلك حسب ما يقتضيه الحال مما لا يلزمه العجز ولا الجهل.

٢٠٣

صيغة الأمر هل هي حقيقة في الوجوب

(قوله المبحث الثاني في أن الصيغة حقيقة في الوجوب أو في الندب أو فيهما أو في المشترك بينهما وجوه بل أقوال ... إلخ) (قول) بكونها حقيقة في الوجوب وقد نسب ذلك إلى جمهور الأصوليين (وقول) بكونها حقيقة في الندب وقد نسب ذلك إلى قوم منهم (وقول) بكونها مشتركة لفظا بين الوجوب والندب وقد نسب ذلك إلى السيد رحمه‌الله ولكن في خصوص اللغة وأما في العرف الشرعي فقال بكونها حقيقة في الوجوب (وقول) بكونها للقدر المشترك بين الوجوب والندب وهو الجامع بينهما أي الطلب وقد نسب ذلك إلى قوم آخرين هذه عمدة الأقوال في المسألة وإلا فقد ذكر صاحب المعالم رحمه‌الله أقوالا أخر فيها مثل كونها مشتركة لفظا بين الوجوب والندب والإباحة أو مشتركة معنى بين هذه الثلاثة والجامع هو الإذن أو مشتركة لفظا بين أربعة وهي الثلاثة السابقة والتهديد (قال في المعالم) وقيل فيها أشياء أخر يعنى بها غير ما ذكر لكنها شديدة الشذوذ بينة الوهن فلا جدوى للتعرض لنقلها (انتهى).

(قوله لا يبعد تبادر الوجوب عند استعمالها بلا قرينة ... إلخ) دعوى تبادر الوجوب من صيغة الأمر أي تبادر خصوص الطلب الحتمي الإلزامي تبادرا حاقيا لا إطلاقيا بمعنى استناده إلى حاق اللفظ الكاشف ذلك عن الوضع والحقيقة لا إلى الإطلاق وكثرة الاستعمال هي في غاية الإشكال وذلك لما يلزمه من التجوز عند استعمال الصيغة في الندب مع أنا لا نرى في استعمالها في الندب عناية ولا رعاية علاقة بل استعمال الصيغة في كل من إنشاء

٢٠٤

الطلب الحتمي وغير الحتمي على حد سواء فلا فرق بين قوله إذا زالت الشمس فصل وبين قوله إذا كان أول الشهر فصل أو بين قوله إذا أجنبت فاغتسل وبين قوله إذا كان يوم الجمعة فاغتسل (وعليه) فدعوى كون الصيغة موضوعة للوجوب مما لا تخلو عن ضعف (وأضعف) منها دعوى اشتراك الصيغة لفظا بين الوجوب والندب فان تعدد الوضع مما يحتاج إلى دليل ولا دليل (وأضعف من الكل) دعوى كونها حقيقة في خصوص الندب دون الوجوب فانها لو لم تكن موضوعة للوجوب فليست هي موضوعة للندب قطعا (ومن هنا) يتجه تعين القول الرابع وهو وضع الصيغة للقدر المشترك بين الوجوب والندب بمعنى وضعها لإنشاء مطلق الطلب سواء كان وجوبيا أو ندبيا نعم لا يبعد دعوى ظهور الصيغة في الوجوب ظهورا انصرافيا وضعيا كما سيأتي في المبحث الرابع إن شاء الله تعالى.

(قوله ويؤيده عدم صحة الاعتذار عن المخالفة باحتمال إرادة الندب ... إلخ) ولعل وجه التعبير بالمؤيد وعدم جعله دليلا برأسه أن عدم صحة الاعتذار عن المخالفة كما يلائم وضع الصيغة للوجوب فكذلك يلائم ظهورها فيه أيضا وأن لم تكن موضوعة له لغة فالمدعى أخص والدليل أعم.

(قوله وكثرة الاستعمال فيه في الكتاب والسنة وغيرهما لا يوجب نقله إليه أو حمله عليه ... إلخ) الظاهر أنه رد على صاحب المعالم غير أنه لم يدع نقل الصيغة إلى الندب أو حمله عليه بل ادعى التوقف عند ورود الأمر (قال رحمه‌الله) بعد الفراغ عن إثبات كون الصيغة حقيقة في الوجوب بوجوه عديدة ما هذا لفظه فائدة يستفاد من تضاعيف أحاديثنا المروية عن الأئمة عليهم الصلاة والسلام أن استعمال صيغة الأمر في الندب كان شايعا في عرفهم بحيث صار من المجازات الراجحة المساوي احتمالها من اللفظ لاحتمال

٢٠٥

الحقيقة عند انتفاء المرجح الخارجي فيشكل التعلق في إثبات وجوب أمر بمجرد ورود الأمر به منهم عليهم‌السلام (انتهى كلامه) فيقول المصنف ان كثرة الاستعمال في الندب مما لا يوجب النقل إليه ولا الحمل عليه لكثرة الاستعمال في الوجوب أيضا (مضافا) إلى أن الاستعمال في الندب وان كثر ولكنه كان مع القرينة المصحوبة وكثرة الاستعمال كذلك في المعنى المجازي مما لا يوجب صيرورته مشهورا ليرجح على المعنى الحقيقي أو يتوقف على الخلاف في المجاز المشهور بل المجاز انما يصير مشهورا بكثرة الاستعمال فيه كما صرح به المحقق القمي إذا كان بلا قرينة عليه حالية أو لفظية بل علم من دليل آخر منفصل أنه استعمل فيه اللفظ مجازا.

(أقول) والإنصاف ان الاستعمال في المعنى المجازي ولو كان مع القرينة المصحوبة إذا كثر وشاع حتى بلغ أضعاف الاستعمال في المعنى الحقيقي فلا يبعد أن يحصل بسبب ذلك أنس خاص وربط مخصوص بينه وبين اللفظ على نحو يوجب تقديمه على المعنى الحقيقي لدى الإطلاق ولو كان ذلك بقرينة الشهرة وكثرة الاستعمال فيه بل جاز أن يبلغ حدا لا يحتاج في انفهام المعنى من اللفظ إلى قرينة أصلا وهو حد النقل (وعليه) فالجواب عن صاحب المعالم رحمه‌الله مما ينحصر بالأول أي بالمنع عن بلوغ الاستعمال في الندب حدا يوجب النقل إليه أو الحمل عليه أو التوقف عند إطلاقها واستعمالها وذلك لكثرة الاستعمال في الوجوب أيضا وان فرض كونه أقل من الاستعمال في الندب بكثير.

(قوله كيف وقد كثر استعمال العام في الخاصّ حتى قيل ما من عام إلّا وقد خص ولم ينثلم به ظهوره في العموم ... إلخ) دليل لما ادعاه آنفا من ان كثرة الاستعمال مع القرينة المصحوبة في المعنى المجازي مما لا يوجب صيرورته

٢٠٦

مشهورا (وتقريب الدلالة) أن استعمال العام في الخاصّ كثيرا جدا حتى قيل ما من عام إلّا وقد خص ومع ذلك لم ينثلم به ظهور العام في العموم بل بمجرد وروده بلا قرينة يحمل على العموم وليس ذلك إلّا لاستعمال العام في الخاصّ مع القرينة المصحوبة.

(أقول) وفيه :

(أولا) ان قياس المقام بالعامّ والخاصّ مما لا وجه له فان العام وان كثر استعماله في الخاصّ لكن ليس في خاص معين كي يصير ذلك مجازا مشهورا له بل في خواص مختلفة فقد يخرج الفساق مثلا عن العلماء وقد يخرج الشعراء منهم وقد يخرج النحويون وهكذا.

(وثانيا) ان العام حسب ما ستعرفه ويعترف به المصنف من عدم كون التخصيص مجازا لا يكاد يكون مستعملا في الخاصّ بل مستعمل دائما في العموم على التقريب الآتي في موضعه إن شاء الله تعالى (وعليه) فلم يستعمل العام في الخاصّ كي يصير الخاصّ بسبب ذلك مجازا مشهورا ينثلم به ظهور العام في العموم.

في الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب

(قوله المبحث الثالث هل الجمل الخبرية التي تستعمل في مقام الطلب والبعث مثل يغتسل ويتوضأ ويعيد ظاهرة في الوجوب أولا ... إلخ) في هذا المبحث مقامان من الكلام قد أخر المصنف أولهما عن الثاني على خلاف النظم.

(المقام الأول) ان الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب والبعث مثل

٢٠٧

يغتسل ويتوضأ ويعيد هل هي مستعملة في معناها الحقيقي من قيام المبدأ بفاعل مذكر أو مؤنث غايته أنه لا بداعي الإخبار والإعلام بل بداعي البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي أو هي مستعملة في إنشاء الطلب ولو مجازا (فيه وجهان) بل قولان لا يبعد أن يكون الثاني هو المشهور ولكن مختار المصنف تبعا لصاحب البدائع هو الأول وهو الأقرب إذ لا يفهم من قوله يغتسل في مقام الإخبار والإعلام وقوله يغتسل في مقام الطلب والبعث الا معنى واحدا غير أنه في الأول يكون الداعي هو الإخبار والحكاية عن الواقع وفي الثاني هو البعث والتحريك نحو المطلوب الواقعي.

(المقام الثاني) أن الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب والبعث سواء قلنا باستعمالها فيما هو معناها الحقيقي أم في إنشاء الطلب ولو مجازا هل هي ظاهرة في الوجوب أم لا (أما القائلون) في المقام الأول باستعمالها في إنشاء الطلب ولو مجازا فهم بين من يقول بظهورها في الوجوب لوجوه أوجهها أن الوجوب أقرب المجازات فان كلا من الوجوب والندب والإباحة معنى مجازي لها والوجوب أقرب وبين من يقول بالتوقف نظرا إلى أن الأقربية اعتبارية غير موجبة لظهور اللفظ فيه (وأما القائلون) في المقام الأول باستعمالها فيما هو معناها الحقيقي من قيام المبدأ بفاعل مذكر أو مؤنث غايته أنه لا بداعي الإخبار والإعلام بل بداعي البعث والتحريك فهم أيضا بين من يقول بالتوقف كصاحب البدائع وبين من يقول بظهورها في الوجوب كالمصنف بل يقول انها أظهر في الوجوب من الصيغة فانه أخبر بوقوع مطلوبه في مقام طلبه إظهارا بأنه لا يرضى إلّا بوقوعه فتكون آكد في البعث والتحريك من الصيغة.

(أقول) بعد ما قلنا بظهور صيغة الأمر في الوجوب اما وضعا للتبادر كما ادعى المصنف في المبحث السابق أو انصرافا لأحد الوجوه الآتية في المبحث

٢٠٨

اللاحق فلا محيص عن كون الجملة الخبرية المستعملة في مقام الطلب والبعث ظاهرة في الوجوب لا محالة فانها قائمة مقام صيغة الأمر سواء قلنا باستعمالها في إنشاء الطلب ولو مجازا أو قلنا باستعمالها فيما هو معناها الحقيقي غايته أنه لا بداعي الاخبار والاعلام بل بداعي البعث والتحريك نعم يبقى الكلام في انها هل هي أظهر من الصيغة في الوجوب أم لا ولا يبعد أن تكون النكتة التي قد أشار إليها المصنف موجبة لأظهريتها من الصيغة في الوجوب.

(قوله ولكنه لا يخفى أنه ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام أي الطلب مستعملة في غير معناها ... إلخ) شروع في المقام الأول من البحث الّذي قد أشرنا ان المصنف أخره عن المقام الثاني على خلاف النظم.

(قوله كما هو الحال في الصيغ الإنشائية على ما عرفت ... إلخ) راجع إلى قوله ليست الجمل الخبرية الواقعة في ذلك المقام ... إلخ أي ليست الجمل الخبرية الواقعة في مقام الطلب مستعملة في غير معناها الحقيقي كما هو الحال في الصيغ الإنشائية على ما تقدم وعرفت من أن صيغة الأمر والاستفهام والتمني والترجي مستعملة دائما فيما هو معناها الحقيقي غايته أنه بدواعي مختلفة فقد يكون الداعي في صيغة الأمر مثلا هو البعث وقد يكون هو التهديد وقد يكون هو الإنذار وهكذا.

(قوله هذا مع أنه إذا أتى بها في مقام البيان ... إلخ) هذا وجه آخر لكون الجمل الخبرية المستعملة في مقام الطلب والبعث ظاهرة في الوجوب غير ما تقدم فكان حاصل الوجه الأول أن مجرد الإخبار بوقوع المطلوب في مقام الطلب موجب لظهورها في الوجوب بل لأظهريتها من صيغة الأمر وحاصل هذا الوجه أن مقدمات الحكمة وهي في المقام كما صرح في المتن عبارة عن كون المتكلم بصدد البيان مع عدم نصب قرينة على غير الوجوب مما

٢٠٩

تقتضي حملها على الوجوب فان تلك النكتة المتقدمة وهي الاخبار بوقوع المطلوب في مقام الطلب ان لم تكن موجبة لظهور الجملة الخبرية في الوجوب فلا محالة توجب تعين الوجوب من بين ساير المحتملات من الندب وغيره وذلك لشدة مناسبة الاخبار بالوقوع مع الوجوب كما لا يخفى.

(قوله فافهم ... إلخ) ولعله إشارة إلى أن مقدمات الحكمة من شأنها أن تقتضي الشيوع والسريان كما في أعتق رقبة أو تقتضي العموم والشمول كما في أحل الله البيع على ما سيأتي التصريح به في آخر المطلق والمقيد ولا تكاد تقتضي تعين أحد المحتملات إلا إذا كان ساير المحتملات مما فيه تقييد وتضييق كما في اقتضائها كون الوجوب نفسيا تعيينيا عينيا لأجل كون كل واحد مما يقابله من الغيري والتخييري والكفائي مما فيه تقييد الوجوب وتضييق دائرته كما سيأتي تحقيقه في المبحث السادس والمقام ليس من هذا القبيل فان الندب وان كان يصرح المصنف في المبحث الآتي بأنه طلب كأنه يحتاج إلى مئونة التقييد بعدم المنع من الترك ولكن الوجوب أيضا طلب كأنه يحتاج إلى مئونة التقييد بالمنع من الترك وإليه يشير في آخر المبحث الآتي بقوله فافهم فانتظر.

صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب

(قوله المبحث الرابع أنه إذا سلم أن الصيغة لا تكون حقيقة في الوجوب هل لا تكون ظاهرة فيه أيضا أو تكون ... إلخ) وحاصل ما في هذا المبحث أنه لو سلم عدم كون الصيغة حقيقة في الوجوب وضعا فهل هي ظاهرة في الوجوب انصرافا أم لا قد يقال بل قد قيل بظهورها فيه إما لغلبة

٢١٠

الاستعمال فيه أو لغلبة وجود الوجوب أو لأكمليته والكل مورد المناقشة عند المصنف.

(أما الأول والثاني) فلعدم الصغرى فيهما نظرا إلى أن الاستعمال في الندب وكذا وجوده الخارجي لو لم يكن أكثر بكثير فليس بأقل.

(وأما الثالث) فلعدم الكبرى فيه بمعنى أن أكملية الوجوب وان كانت مسلمة إلّا انها مما لا توجب ظهور اللفظ فيه لأن الظهور ناش عن أنس اللفظ بالمعنى والأكملية مما لا توجب ذلك (ثم ان المصنف) قد اختار ظهور الصيغة في الوجوب انصرافا لوجه آخر غير الوجوه المتقدمة كلها وهو أن مقدمات الحكمة التي قد أشير إليها في المبحث السابق وسيأتي تفصيلها في المطلق والمقيد مما تقتضي الحمل على الوجوب نظرا إلى أن الندب مما يحتاج إلى مئونة التحديد والتقييد بعدم المنع من الترك بخلاف الوجوب فانه لا تحديد فيه ولا تقييد (وفيه) ان المدعى ليس أولى من العكس فنقول ان مقدمات الحكمة تقتضي الحمل على الندب نظرا إلى أن الوجوب مما يحتاج إلى مئونة التحديد والتقييد بالمنع من الترك فحيث لا دليل على المنع من الترك مع كون المولى في مقام البيان فيبنى على عدم كون الطلب للوجوب ولعله إليه أشار أخيرا بقوله فافهم.

(أقول) قد عرفت منا في المبحث الثاني عدم كون الصيغة للوجوب وضعا وذلك لما تقدم من المناقشة في كون التبادر حاقيا لا إطلاقيا نظرا إلى عدم وجدان العناية ولا رعاية العلاقة في استعمال الصيغة في الندب وهو كاشف عن وضعها لإنشاء مطلق الطلب سواء كان وجوبيا أو ندبيا إلّا أن ظهورها في الوجوب وانصرافها إليه عرفا مما لا ينبغي إنكاره وحينئذ يقع الكلام في وجه انصرافها إليه (والإنصاف) أن غلبة الاستعمال وغلبة الوجود كما عرفت من المصنف هما ممنوعتان وأما مقدمات الحكمة فقد عرفت حالها فإذا لا يبقى في

٢١١

البين سوى أكملية الوجوب وأتمية من الندب فلا يبعد أن يكون هو الوجه لانصراف الصيغة إليه عرفا (وأما ما اشتهر على الألسن) من أن الأكملية لو كانت موجبة للانصراف لكان لفظ الإنسان منصرفا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو إلى طبقة الأنبياء والأوصياء عموما فانهم الأكملون الأتمون فهو مما لا وجه له فان المراد من الأكملية في أفراد الإنسان هي الأكملية بحسب الجسم والخلقة لا الأكملية المعنوية الروحية ولذا ترى أن لفظ الإنسان ينصرف إلى الفرد المتعارف الكامل جسما وخلقة دون الفرد الناقص بحسب الجسم والخلقة وان كان أكمل معنويا وروحيا وهذا واضح.

(قوله فافهم ... إلخ) قد أشير آنفا إلى وجه قوله فافهم فلا تغفل

في التعبدي والتوصلي

(قوله المبحث الخامس إطلاق الصيغة هل يقتضى كون الوجوب توصليا ... إلخ) ان الواجبات في شريعتنا بل في كل شريعة حتى في الشرائع السابقة بل وحتى في الأديان الباطلة على قسمين (فمنها) ما سيق لأجل التقرب به إلى المولى بمعنى ان الغرض من تأسيسه وتشريعه ليس إلّا أن يتقرب به العبد إلى المولى كالصلاة والصيام والحج وغير ذلك من العبادات الشرعية الواردة في شرعنا بل في الشرائع السابقة أيضا وهذا القسم من الواجب يسمى بالتعبدي أي ما لا يحصل الغرض منه ولا يسقط الأمر به إلّا أن يؤتى به على وجه التقرب به إلى المولى (ومنها) ما أمر به لمجرد مصالح وحكم فيها ولم يكن أصل تشريعه لأن يتقرب به الناس إلى المولى فان أتى به متقربا به وامتثالا لأمره حصل به القرب والثواب قهرا وان لم يؤت به كذلك بل أتى به

٢١٢

بدواعي أخر لا بداعي التقرب به إلى المولى حصل منه الغرض وسقط به الأمر وان لم يحصل به القرب والثواب أصلا وهذا كما في دفن الميت وكفنه وتوجيهه إلى القبلة والإنفاق على الزوجة وصلة الرحم وهكذا ويسمى هذا القسم من الواجب بالتوصلي أي ما لا يتوقف حصول الغرض منه وسقوط أمره على الإتيان به على وجه التقرب به إلى المولى وان توقف الأجر والثواب على الإتيان به كذلك (ثم ان الميز) بين هذين القسمين واضح ظاهر غالبا يعرفه العرف نوعا بمجرد النّظر إلى الواجب والتأمل في كيفيته وسياقه فمن كان أجنبيا عن ديننا إذا نظر إلى صلاتنا وصيامنا وطوافنا حول البيت ونحو ذلك من العبادات عرف أن هذا كله عبادات الإسلام شرعت لأجل التقرب بها إلى الله تعالى وإذا نظر إلى دفن الميت أو كفنه أو صلة الرحم ونحو ذلك من التوصليات عرف أن هذا كله واجبات لمصالح فيها بنظر شارعنا وليس الغرض من تأسيسها مجرد التقرب بها إلى الله تعالى وهكذا الحال إذا نظرنا نحن إلى أديان الأجانب فنعرف عباداتهم من غير عباداتهم وهذا ظاهر واضح كما أشرنا (نعم قد يشتبه) الأمر علينا ويردد الواجب كالعتق مثلا بين كونه تعبديا يعتبر فيه قصد القربة أو توصليا لا يعتبر فيه ذلك فيقع الكلام حينئذ في أن الأصل اللفظي هل هو يقتضى التوصلية كي يؤخذ به عند الشك أو التعبدية أو الأصل لا يقتضى شيئا منهما فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي فيه خلاف بين الأعلام (ثم ان القائلين) بأصالة التوصلية بين من يقول بها من جهة إطلاق الصيغة ولعله المشهور بينهم فكما أنه إذا شك في اعتبار جزء أو شرط في المأمور به صح التمسك بإطلاقها لرفعه فكذلك إذا شك في اعتبار قصد القربة فيه صح التمسك بإطلاقها لدفعه وبين من يقول بها من جهة ظهور نفس الأمر في التوصلية كما اختاره صاحب التقريرات نظرا إلى أن مفاد الهيئة

٢١٣

هو الطلب ومفاد المادة هو الفعل الواقع عليه الطلب فإذا أتينا بالفعل فقد سقط الأمر عقلا وإلّا لزم طلب الحاصل (كما أن القائلين) بأصالة التعبدية بين من يقول بها لأدلة خاصة (منها) ان الأمر ظاهر في إتيان المأمور به بداعي الأمر كما أنه ظاهر في إتيانه على وجه العمد والقصد (ومنها) أن العقلاء يذمون العبد إذا علموا أنه أتى بالفعل لا بداعي أمر المولى وقد ذكر هذين الوجهين في البدائع (ومنها) أن العقل يحكم بوجوب الامتثال ولا امتثال إلا بالإتيان بداعي الأمر وقد ذكر هذا الوجه في التقريرات وبين من يقول بها لعمومات قد دلت على تعبدية الواجبات طرا خرج منها ما خرج وبقي الباقي (مثل) قوله تعالى في سورة البينة وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين دلت الآية الشريفة على حصر المأمور به لأهل الكتاب بالعبادات فينسحب الحكم إلى شريعتنا اما بالاستصحاب أو بذيل الآية الشريفة وهو قوله تعالى وذلك دين القيمة أي المستقرة الثابتة التي لا تنسخ (ومثل قوله تعالى) أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم دلت الآية الشريفة على وجوب الإطاعة وهي لا تحصل إلا بقصد القربة (ومثل) قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا عمل إلا بالنية أو الأعمال بالنيات ونظائرهما (ثم ان القول) بأصالة التعبدية حيث كان ضعيفا جدا نظرا إلى ضعف أدلته حتى عموم قوله تعالى وما أمروا إلّا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وذلك لوضوح عدم كون الحصر فيه حقيقيا كي يستدل بعمومه خرج ما خرج وبقي الباقي إذ من الضروري عدم حصر الواجبات لأهل الكتاب بعبادة الله فقط بل الله سبحانه وتعالى حيث كان في مقام بيان المهم مما أمروا به وهو لم يكن سوى عبادته جل وعلا فقال وما أمروا إلّا ليعبدوا الله ... إلخ (وأضعف من ذلك) التمسك بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا عمل إلا بالنية أو الأعمال بالنيات فانه أجنبي

٢١٤

عن المقام جدا وانما هو دليل على اعتبار قصد العنوان كما سيأتي شرحه لم يتعرض المصنف لهذا القول إلى القول بأصالة التعبدية أصلا (بل لم يتعرض) لدليل التقريرات أيضا على أصالة التوصلية من دعوى ظهور نفس الأمر فيها بتقريب أن مفاد الهيئة هو الطلب ومفاد المادة هو الفعل الواقع عليه الطلب فإذا أتينا بالفعل فقد سقط الأمر عقلا وإلّا لزم طلب الحاصل وذلك لضعف هذه الدعوى أيضا فان مفاد الهيئة في الواجب التعبدي أيضا ليس إلّا الطلب ومفاد المادة فيه كما ستعرف ليس إلا الفعل الواقع عليه الطلب ومع ذلك إذا أتينا بالفعل بدون قصد القربة فلا يكاد يسقط الأمر عقلا لعدم حصول الغرض منه فإذا كان هذا حال التعبدي فكيف يمكن التمسك بهذا الوجه في مورد الشك ونعتمد عليه في إثبات كون المشكوك توصليا يسقط أمره بمجرد الإتيان به بدون قصد القربة (نعم خص) المصنف بالذكر من بين تمام الوجوه المتقدمة كلها الوجه الأول لأصالة التوصلية فعقد له هذا البحث الطويل نظرا إلى اشتهاره بين الأصحاب كما أشرنا وهو التمسك بإطلاق الصيغة لإثبات توصلية الواجب وعدم اعتبار قصد القربة فيه على حد التمسك به لرفع اعتبار ساير الأشياء مما شك في اعتباره من جزء أو شرط فصار بصدد إبطال هذا الوجه المشهور وقد مهد له مقدمات ثلاث كما ستعرف شرحها (ثم ان التعبدية) والتوصلية يمكن جعلهما صفتين للوجوب فتقول الوجوب التعبدي والوجوب التوصلي ولعل بهذا اللحاظ قد ذكرهما المصنف في ذيل مباحث صيغة الأمر بل ذكرهما بعد الفراغ عن ظهور الصيغة في الوجوب وضعا أو انصرافا أي ان إطلاق الصيغة بمادتها بعد الفراغ عن ظهورها بهيئتها في الوجوب هل هو يقتضى كون الوجوب المستفاد منها توصليا غير مشروط بقصد القربة أم لا ويمكن جعلهما صفتين للواجب فتقول الواجب التعبدي والواجب التوصلي ولعل بهذا اللحاظ

٢١٥

قد ذكرهما التقريرات في بحث مقدمة الواجب في ذيل تقسيمات الواجب وعلى كل حال الأمر في ذلك سهل هين.

(قوله إحداها الوجوب التوصلي هو ما كان الغرض منه ... إلخ) المقصود من عقد هذه المقدمة الأولى هو تعريف كل من التعبدي والتوصلي وقد عرفت منه شرحهما آنفا فلا نعيد.

(قوله ثانيها ان التقرب المعتبر في التعبدي ... إلخ) المقصود من عقد هذه المقدمة بطولها هو إثبات أن قصد القربة هو مما يعتبر في العبادات عقلا لا شرعا وشرحه بنحو الإجمال بتوضيح منا أن قصد القربة (إن كان بمعنى قصد الامتثال) والإتيان بالواجب بداعي أمره فلا يمكن أخذه في العبادات شرعا لما ستعرفه من المصنف قريبا (وإن كان بمعنى الإتيان بالفعل) بداعي حسنه أو كونه ذا مصلحة أوله تعالى فأخذه في العبادات وان أمكن شرعا ولكنه غير معتبر فيها قطعا وذلك لجواز الاقتصار بلا كلام على قصد الامتثال الغير الممكن أخذه شرعا أي الإتيان بالواجب بداعي أمره (وعليه) فإذا دار أمر قصد القربة بين ما لا يمكن اعتباره في العبادات شرعا وبين ما ليس بمعتبر فيها قطعا علم أن اعتباره فيها ليس إلا بحكم العقل لا بحكم الشرع بمعنى أن العقل هو الّذي قد استقل باعتبار قصد القربة في الواجبات التي سيقت لأجل التقريب بها إلى الله تعالى على نحو إذا لم يقصد بها القربة لم تكن عبادة وان الشرع قد اتكل في اعتباره على حكم العقل وان أمكنه اعتباره فيها ولو بمعنى قصد الحسن أو المصلحة أو له تعالى بل يمكنه اعتباره بوسيلة أمرين ولو كان بمعنى قصد الامتثال كما هو الحق عندنا تبعا للتقريرات وان لم يجوزه المصنف كما سيأتي بل الحق عندنا هو إمكان اعتباره حتى بأمر واحد ولو كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره كما ستعرف ذلك غير أن

٢١٦

الشارع لم يعتبره بل اتكل في اعتباره على حكم العقل (وأما ما تقدم) من قوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين أو قوله تعالى في سورة الزمر قل انى أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين أو قول أمير المؤمنين عليه‌السلام وبالإخلاص يكون الخلاص أو ما في بعض الأخبار من أنه قال الله عزوجل أنا خير شريك من أشرك معي غيري في عمل لم أقبله الا ما كان لي خالصا إلى غير ذلك مما ذكرناه في الفقه في نية الوضوء من كتابنا الموسوم بالفروع المهمة في أحكام الأمة فهو دليل على اعتبار الإخلاص في العبادات وهو كما حققناه هناك غير قصد القربة بل هو أخص منه وأضيق ونحن كلامنا هنا في اعتبار قصد القربة بنفسها (ثم ان) من جميع ما ذكر إلى هنا يظهر لك ما في تعبير المصنف قدس‌سره أعني قوله إن التقرب المعتبر في التعبدي ان كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره كان مما يعتبر في الطاعة عقلا ... إلخ فان ظاهره أن التقرب على خصوص هذا التقدير هو مما يعتبر في الطاعة عقلا لا مطلقا مع أن المقصود ليس كذلك بل المقصود أن قصد القربة مطلقا سواء كان بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره أو كان بمعنى الإتيان بالفعل بداعي حسنه ونحوه هو مما يعتبر في الطاعة عقلا بالتقريب الّذي ذكرناه وبيناه فتدبره جيدا.

(قوله وذلك لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى إلا من قبل الأمر بشيء في متعلق ذاك الأمر مطلقا شرطا أو شطرا فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها ... إلخ) هذا وجه لعدم إمكان اعتبار التقرب بمعنى قصد الامتثال والإتيان بالواجب بداعي أمره في العبادات شرطا أو شطرا (وبعبارة أخرى) وجه لعدم إمكان الأمر بإتيان العمل بداعي الأمر (وحاصل الوجه) أن إتيان العمل بداعي أمره غير مقدور

٢١٧

للمكلف قبل الأمر بالعمل إذ لا أمر به كي يقصد فكيف يأمر بإتيان العمل بداعي أمره (ثم ان الظاهر) من عبارة المصنف هذه في بدو الأمر أن مرجعها إلى وجهين لعدم إمكان اعتبار قصد الأمر في المتعلق قد أشار إلى أحدهما بقوله لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى الا من قبل الأمر بشيء في متعلق ذاك الأمر وأشار إلى الآخر بقوله فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر لا يكاد يمكن إتيانها بقصد امتثال أمرها ولكن التدبر فيها كما هو حقه مما يقضى بكونها وجها واحدا لا وجهين وأنه بصدد شيء واحد وهو عدم تمكن المكلف من إتيان العمل بداعي أمره قبل الأمر بالعمل أي لاستحالة أخذ ما لا يكاد يتأتى ويقدر عليه الا من بعد الأمر في متعلق ذلك الأمر فانه من الأمر بغير المقدور فقوله فما لم تكن نفس الصلاة متعلقة للأمر ... إلخ بيان لوجه الاستحالة وهو عدم القدرة على المكلف به لا وجه آخر (نعم يمكن أن يقال) ان المصنف وان كان بصدد شيء واحد وهو عدم تمكن المكلف من إتيان العمل بداعي أمره قبل الأمر بالعمل ولكن صح أن يذكر في المقام وجه آخر لعدم إمكان اعتبار قصد الأمر في متعلق الأمر غير ما ذكره المصنف وهو لزوم تقدم الشيء على نفسه في الرتبة نظرا إلى أن قصد الأمر متأخر عن الأمر والأمر متأخر عن المتعلق فلو اعتبر قصد الأمر المتأخر عن الأمر في المتعلق السابق على الأمر لزم تقدم الشيء على نفسه برتبتين وهو محال (ولكن قد يجاب) بان قصد الأمر المعتبر في المتعلق على القول باعتباره فيه هو قصد طبيعة الأمر والمتأخر عن الأمر هو قصد شخص الأمر الصادر من المولى خارجا فيختلف قصد الأمر المتأخر عن الأمر مع قصد الأمر المعتبر في المتعلق السابق على الأمر فلا تقدم الشيء على نفسه أصلا.

(أقول) ويمكن أن يقال في مقام الجواب إن قصد الأمر متأخر عن

٢١٨

الأمر خارجا فما لم يتحقق الأمر في الخارج لم يمكن قصده والأمر متأخر عن المتعلق ذهنا لا خارجا وإلّا بان كان متأخرا عنه خارجا لزم طلب الحاصل وهو محال (وعليه) فإذا اعتبر قصد الأمر في المتعلق لم يلزم تقدم الشيء على نفسه في الرتبة فان المتأخر عن الأمر هو قصد الأمر الخارجي والمعتبر في المتعلق هو قصد الأمر الذهني فيختلف أيضا قصد الأمر المتأخر عن الأمر مع قصد الأمر المعتبر في المتعلق السابق على الأمر فلا تقدم للشيء على نفسه أبدا فتأمل جيدا.

(قوله وتوهم إمكان تعلق الأمر بفعل الصلاة بداعي الأمر ... إلخ) وحاصل التوهم أنه من الممكن أن يتصور الشارع إتيان الصلاة بداعي الأمر فيأمر بها كذلك والصلاة بداعي الأمر وان كانت قبل الأمر بها غير مقدورة للمكلف ولكن بعد ما تعلق الأمر بها مقدورة له والقدرة المعتبرة عقلا في صحة الأمر هي القدرة على العمل حين العمل لا حين الأمر (وقد أجاب) عنه المصنف بكونه واضح الفساد ثم أفاد في وجه الفساد ما حاصله أن الإتيان بالصلاة بداعي الأمر غير مقدور للمكلف حتى بعد الأمر إذ لا أمر للصلاة كي يأتي بها بداعيه فان الأمر حسب الفرض قد تعلق بالمجموع أي بالصلاة المقيدة بداعي الأمر لا بنفس الصلاة وحدها كي يمكن الإتيان بها بداعي أمرها والأمر لا يدعو إلّا إلى ما تعلق به لا إلى غيره.

(قوله إن قلت نعم ولكن نفس الصلاة أيضا صارت مأمورة بها بالأمر بها مقيدة ... إلخ) (وحاصل الإشكال) أنه إذا أمر بالمجموع أي بالصلاة المقيدة بداعي الأمر فنفس الصلاة أيضا تصير مأمورة بها في ضمن الأمر بالمجموع فيؤتى بها بداعي أمرها بلا محذور في ذلك عقلا (وحاصل جوابه عنه) أن الأمر إذا تعلق بالمجموع أي بالصلاة المقيدة بداعي الأمر

٢١٩

فلا إشكال حينئذ في خروج القيد عن تحت الأمر ويبقى تحته ذات المقيد والتقيد وهما جزءان تحليليان نظير الجنس والفصل والجزء التحليلي مما لا يتصف بالوجوب أصلا إذ لا وجود له في الخارج غير وجود الكل الواجب بالوجوب النفسيّ الاستقلالي كي يتصف بالوجوب ضمنا كما هو الشأن في الجزء الخارجي (وفيه) ان الجزء التحليلي وان لم يكن كالجزء الخارجي بحيث كان له وجود مستقل على حده فان الأجزاء الخارجية تركبها انضمامي بمعنى أن لكل منها وجود مستقل على الدقة منضم إلى الآخر وإن كان العرف لا يرى للمجموع إلا وجودا واحدا والأجزاء التحليلية تركبها عقلي كالجنس والفصل فان العقل بالتعمل يحلل النوع إلى جنس وفصل كما تقدم في المشتق وإلا فهما موجودان بوجود واحد حقيقة لا بوجودين ممتازين خارجا ولكن مجرد عدم استقلال الجزء التحليلي في الوجود مما لا يمنع عقلا عن اتصافه بالوجوب بعد كونه أمرا ممكنا مقدورا يتمكن المكلف من إيجاده في الخارج ولو متحدا مع الجزء الآخر (وبالجملة) ان الجزء التحليلي هو كالجزء الخارجي في صحة اتصافه بالوجوب الضمني وإن لم يكن هو كالجزء الخارجي في استقلاله بالوجود الخارجي (وعليه) فإذا أمر بالمجموع أي بالصلاة المقيدة بداعي الأمر فيمكن الإتيان بها بداعي أمرها لأنها في ضمن الأمر بالمجموع تصير مأمورة بها قطعا.

(قوله ان قلت نعم لكنه إذا أخذ قصد الامتثال شرطا وأما إذا أخذ شطرا ... إلخ) (وحاصل الإشكال) انه سلمنا أنه إذا تعلق الأمر بالمجموع فالصلاة لا تصير مأمورة بها لأن ذات المقيد جزء تحليلي لا يتصف بالوجوب ولكن هذا إذا أخذ قصد الأمر بنحو الشرطية والقيدية وأما إذا أخذ شطرا أي جزءاً فيتصف كل من الصلاة وقصد الأمر بالوجوب النفسيّ الضمني فيمكن الإتيان بها بداعي وجوبها (وقد أجاب) عن هذا الإشكال من وجهين.

٢٢٠