عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي

عناية الأصول في شرح كفاية الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيد مرتضى الفيروزآبادي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات فيروزآبادي
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٣١

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله بعدد ما في علمه والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأكرم بريته محمد وعترته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا واللعنة الدائمة على أعدائهم الذين سيصلون سعيرا إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا (اما بعد) فهذا هو الجزء الرابع من كتابنا الموسوم بعناية الأصول في شرح كفاية الأصول وأسأل الله تعالى أن يوفقني لإتمامه وإتمام ما يتلوه من الجزء الخامس والسادس كما وفقني للأجزاء المتقدمة إنه ولي التوفيق ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

في تعريف الأصول العملية وتنقيح مجاريها

(قوله المقصد السابع في الأصول العملية .. إلخ)

قد أشرنا في صدر المقصد السادس المنعقد لبيان الأمارات المعتبرة شرعا أو عقلا إلى الفرق بينها وبين الأصول العملية وظهر هناك تعريف كل منهما على حده وأن ما له جهة كشف وحكاية عن الواقع هو أمارة سواء كانت معتبرة كخبر العادل أو غير معتبرة كخبر الفاسق وما ليس له جهة كشف وحكاية عن الواقع بل كان مجرد الوظيفة للجاهل الشاك في وعاء الجهل والحيرة من دون كشف ولا حكاية كقاعدة الطهارة وقاعدة الحل وقاعدة البراءة ونحوها أو كان له جهة كشف وحكاية ولكن الشارع لم يعتبره من هذه الجهة كما ادعى ذلك في الاستصحاب فهو أصل عملي (وقد أشرنا) إلى فرق آخر أيضا وإلى تعريف ثاني لكل منهما على حدة وهو ان كلا من الأمارات والأصول العملية وان كان لدى الحقيقة وظيفة مقررة للجاهل يؤخذ بها في وعاء الجهل والحيرة ويستند إليها في ظرف الستار على الواقع

٢

ولكن الأمارات لم يؤخذ الجهل والشك في لسان دليلها والأصول العملية قد أخذ ذلك في لسان دليلها كما في قوله كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر أو كل شيء حلال حتى تعرف انه حرام أو الناس في سعة ما لا يعلمون أو لا ينقض اليقين بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر إلى غير ذلك من أدلة الأصول الشرعية.

(قوله وهي التي ينتهى إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل ... إلخ)

هذا التعريف مما ينطبق على خصوص الأصول العملية الجارية في الشبهة الحكمية فانها هي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الدليل الاجتهادي لا على مطلق الأصول العملية ولو كانت جارية في الشبهة الموضوعية (والمقصد الأصلي) من البحث في هذا المقام وان كان هو خصوص الأصول الجارية في الشبهة الحكمية فانها التي تكون من المسائل الأصولية ويستنبط بها الأحكام الشرعية الكلية ولكن تعريف مطلق الأصول العلمية بما ينطبق على خصوص الجارية في الشبهة الحكمية مما لا وجه له كما لا يخفى.

(قوله والمهم منها أربعة فان مثل قاعدة الطهارة فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية وان كان مما ينتهى إليها. إلخ)

مقصوده من هذه العبارة إلى قوله فافهم هو بيان السر في عدم ذكر الأصوليين في علم الأصول غير الأصول العملية الأربعة من البراءة والتخيير والاحتياط والاستصحاب مع ان الأصول العملية الجارية في الشبهة الحكمية التي تكون من المسائل الأصولية مما لا تنحصر بها فان قاعدة الطهارة الجارية لدى الشك في طهارة مثل الأرانب والثعالب ونحوهما أصل عملي جار في الشبهة الحكمية وتكون من المسائل الأصولية ويستنبط بها حكم شرعي كلي ولم يتعرضوا لها (وقد أفاد) في وجه ذلك أمرين.

(الأول) ان تلك الأصول العملية الأربعة هي محل الخلاف بين الأصحاب

٣

ويحتاج تنقيح مجاريها إلى إطالة الكلام ومزيد النقض والإبرام فتعرضوا لها بخلاف مثل قاعدة الطهارة الجارية في الشبهة الحكمية فانها جارية بلا كلام من غير حاجة إلى مزيد النقض والإبرام فلم يتعرضوا لها.

(الثاني) ان تلك الأصول العملية الأربعة أصول عملية عامة جارية في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى الدّيات ومثل قاعدة الطهارة لا يجري إلّا في باب واحد وهو باب النجاسات (وقد أشار) إلى هذا الأمر الثاني بقوله أخيرا هذا مع جريانها في كل الأبواب واختصاص تلك القاعدة ببعضها.

(قوله فافهم ... إلخ)

ولعله أشار بذلك إلى ضعف ما أفاده من الأمرين المتقدمين في وجه عدم ذكر الأصوليين غير تلك الأصول العملية الأربعة في علم الأصول (وان السر) في عدم تعرضهم له كما يظهر من الشيخ أعلى الله مقامه هو حصر الأصول العملية الجارية في الشبهة الحكمية بتلك الأصول الأربعة بل صرح ان الحصر بها عقلي (قال) في أول الرسائل (ما لفظه) فاعلم ان المكلف إذا التفت إلى حكم شرعي فإما ان يحصل له الشك فيه أو القطع أو الظن فإن حصل له الشك فالمرجع فيه هي القواعد الشرعية الثابتة للشاك في مقام العمل وتسمى بالأصول العملية وهي منحصرة في أربعة (انتهى) (وقال) في أوائل البراءة واعلم ان المقصود بالكلام في هذا المقصد الأصول المتضمنة لحكم الشبهة في الحكم الفرعي

الكلي وإن تضمنت حكم الشبهة في الموضوع أيضاً وهي منحصرة في أربعة أصل البراءة وأصل الاحتياط والتخيير والاستصحاب (إلى ان قال) ثم ان انحصار موارد الاشتباه في الأصول الأربعة عقلي (انتهى).

(أقول)

والظاهر ان مقصود الشيخ أعلى الله مقامه من الحصر حصر الأصول العملية الجارية في الأحكام التكليفية بتلك الأربعة على ما يستفاد من بعض تعبيراته كالتعبير بالشك

٤

في التكليف أو المكلف به ونحو ذلك وإلّا فلا وجه للحصر بها بناء على جريان قاعدة الطهارة في الشبهة الحكمية وأن الطهارة هي من الأحكام الشرعية الوضعيّة (ومنه يظهر) انه لا وجه لقول المصنف فافهم إن كان نظره فيه إلى الحصر وضعف الأمرين السابقين فتأمل جيدا.

(ثم إن الشيخ) أعلى الله مقامه قد أفاد في أول الرسائل بل وأول البراءة أيضاً في وجه حصر الأصول العملية بالأربعة المتقدمة ما محصله أن الشك (ان لوحظ فيه الحالة السابقة) فهو مجري الاستصحاب وإلّا (فإن كان) الشك في أصل التكليف فهو مجري البراءة (وان كان) في المكلف به بعد العلم الإجمالي بأصل التكليف كالشك في ان الواجب في يوم الجمعة هل هو صلاة الظهر أو صلاة الجمعة فهو مجري الاحتياط (وإن كان) بين الوجوب والحرمة بحيث لا يمكن الاحتياط فيه أصلا فهو مجري التخيير.

في أصالة البراءة

(قوله فصل لو شك في وجوب شيء أو حرمته ولم تنهض عليه حجة جاز شرعا ترك الأصول وفعل الثاني ... إلخ)

شروع في البحث عن أصالة البراءة أي براءة الذّمّة عن التكليف المشكوك (وقد أشار) بقوله في وجوب شيء أو حرمته إلى كل من الشبهة الوجوبية والتحريمية (وكأن) وجه التخصيص بالشك في وجوب شيء أو حرمته دون استحبابه أو كراهته هو اختصاص التكليف بالوجوب والحرمة أو اختصاص النزاع الجاري في البراءة والاحتياط بهما (قال الشيخ) أعلى الله مقامه فيما أفاده في أوائل البراءة (ما لفظه) وهذا مبني على اختصاص التكليف بالإلزام أو اختصاص الخلاف في البراءة والاحتياط به ولو فرض شموله للمستحب والمكروه يظهر حالهما من الواجب

٥

والحرام فلا حاجة إلى تعميم العنوان (انتهى) (كما انه قد أشار) المصنف بقوله جاز شرعا وعقلا ... إلخ إلى كل من البراءة الشرعية والعقلية جميعا فتفطن.

(قوله كان عدم نهوض الحجة لأجل فقدان النص أو إجماله واحتماله الكراهة أو الاستحباب أو تعارضه ... إلخ)

إشارة إلى أقسام كل من الشبهة الوجوبية والتحريمية فإن منشأ الشك في وجوب شيء أو حرمته.

(تارة) يكون فقدان النص.

(وأخرى) يكون إجمال النص.

(وثالثة) يكون تعارض النصين.

(ثم إن) لكل من الشبهة الوجوبية والتحريمية قسم رابع لم يؤشر إليه المصنف وهو الشبهة الموضوعية فيكون مجموع الأقسام ثمانية (وقد أشار الشيخ) أعلى الله مقامه إلى جميعها واحدا بعد واحد (ومن هنا) عقد لبحث البراءة ثمان مسائل لكل قسم مسألة خاصة (قال) أعلى الله مقامه (ما لفظه) ثم متعلق التكليف المشكوك (إما ان) يكون فعلا كليا متعلقا للحكم الشرعي الكلي كشرب التتن المشكوك في حرمته والدعاء عند رؤية الهلال المشكوك في وجوبه (وإما ان) يكون فعلا جزئيا متعلقا للحكم الجزئي كشرب هذا المائع المحتمل كونه خمرا ومنشأ الشك في القسم الثاني اشتباه الأمور الخارجية ومنشؤه في الأول (إما عدم النص) في المسألة كمسألة شرب التتن (وإما ان) يكون إجمال النص كدوران الأمر في قوله تعالى حتى يطهرن بالتشديد والتخفيف مثلا (وإما يكون) تعارض النصين ومنه الآية بناء على تواتر القراءات (إلى ان قال) فالمطلب الأول فيما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الوجوب يعني به الشبهة التحريمية (قال) وقد عرفت ان متعلق الشك (تارة) الواقعة الكلية كشرب التتن ومنشأ الشك فيه عدم النص أو إجماله أو تعارضه (وأخرى) الواقعة الجزئية فهنا أربع مسائل (انتهى) ثم شرع

٦

أعلى الله مقامه في بيانها إلى ان ذكر للشبهة الوجوبية أيضا أربع مسائل.

(واما المصنف) فلم يعقد للبراءة سوى مسألة واحدة جمع فيها بين الشبهة الوجوبية والتحريمية جميعا مع الإشارة الإجمالية إلى أقسامهما ولم يؤشر إلى الشبهة الموضوعية أصلا (وقد أفاد) في وجه ذلك في تعليقته على الكتاب (ما هذا لفظه) لا يخفى إن جمع الوجوب والحرمة في فصل وعدم عقد فصل لكل منهما على حده وكذا جمع فقد النص وإجماله في عنوان عدم الحجة انما هو لأجل عدم الحاجة إلى ذلك بعد الاتحاد فيما هو الملاك وما هو العمدة من الدليل على المهم واختصاص بعض شقوق المسألة بدليل أو بقول لا يوجب تخصيصه بعنوان على حدة واما ما تعارض فيه النصان فهو خارج عن موارد الأصول العملية المقررة للشاك على التحقيق فيه من الترجيح أو التخيير كما انه داخل فيما لا حجة فيه بناء على سقوط النصين عن الحجية واما الشبهة الموضوعية فلا مساس لها بالمسائل الأصولية بل فقهية فلا وجه لبيان حكمها في الأصول الا استطرادا فلا تغفل (انتهى).

(أقول)

كان حق المقام أن ينعقد للبراءة أربع مسائل لا ثمان ولا واحدة (مسألة) للشبهة التحريمية الحكمية (ومسألة) للشبهة التحريمية الموضوعية (ومسألة) للشبهة الوجوبية الحكمية (ومسألة) للشبهة الوجوبية الموضوعية فإن كلا من التحريمية الموضوعية والوجوبية الموضوعية وان كان مما لا مساس له بالمسائل الأصولية لعدم استنباط حكم شرعي كلي به بل من القواعد الفقهية التي يستنبط بها حكم شرعي جزئي ولذا صح إعطائها بيد العامي كلي يعمل بها في مواردها فيبني على طهارة ثوبه مثلا إذا شك في طهارته ونجاسته ولم تكن له حالة سابقة معلومة أو على بقاء وضوئه مثلا إذا تيقن به وشك في الحدث وانتقاضه به وهكذا ولكن لا بأس بذكره في الأصول استطرادا بعد اشتداد الحاجة إليه ومزيد الاهتمام به (واما إفراز التحريمية) الحكمية عن الوجوبية الحكمية فلاختصاص الأولى بمخالفة معظم

٧

الأخباريين حيث ذهبوا فيها إلى الاحتياط على خلاف ما ذهب إليه الأصوليون من إجراء البراءة فيها (هذا كله) من غير حاجة إلى التعرض لمنشإ الشك في الشبهة الحكمية من فقدان النص أو إجماله أو تعارضه سيما الأخير منها فان المتعارضين على ما ستعرف مما لا نقول فيهما بمقتضى القاعدة الأولية من التساقط كي يجوز الرجوع في موردهما إلى الأصل العملي بل لا بد فيهما من العمل بأحدهما لا محالة إما تخييرا أو تعيينا بدليل الإجماع والاخبار العلاجية كما ستأتي (ولو بني) على التعرض لمنشإ الشك في الشبهة الحكمية فالتعرض لأقسام إجمال النص من إجمال الحكم أو المتعلق أو الموضوع كان أولى من التعرض لتعارض النص وكانت الشبهات حينئذ تبلغ اثني عشر قسما مع فقد النص وتعارض النصين والشبهة الموضوعية في كل من التحريمية والوجوبية.

(وبالجملة إن) الحق في تعريف الشبهات البدوية الجارية فيها البراءة ان يقال هكذا إن التكليف المشكوك (إن كان حرمة) فالشبهة تحريمية (وان كان وجوبا) فالشبهة وجوبية ثم إن منشأ الشك (إن كان) فقدان النص أو إجمال النص (إما من حيث الحكم) كما إذا ورد نهي مردد بين الحرمة والكراهة (أو من حيث موضوع الحكم) كما إذا ورد نهي عن الغناء ولم يعلم مفهومه وتردد بين الصوت مع الترجيع والطرب أو مطلق الصوت مع الترجيح ولو بلا طرب (أو من حيث موضوع الحكم) كما إذا ورد نهي عن إكرام الفاسق ولم يعرف مفهوم الفاسق وانه هل هو مرتكب الكبيرة فقط أو هو والمصر على الصغيرة (فالشبهة حكمية) (وان كان) منشأ الشك هو اشتباه حال الموضوع كما إذا شك في حرمة مائع خارجي للشك في كونه خمرا أو في حرمة كلي النبيذ للشك في كونه مسكرا مع العلم بحرمة المسكر وبمفهومه جميعا (فالشبهة موضوعية) (ومن هنا يعرف) انه ليس ملاك الشبهة الموضوعية هو كون الحكم المشكوك فيه جزئيا خاصا بل قد يكون كليا عاما ومع ذلك تكون الشبهة موضوعية كما انه قد يكون

٨

الحكم المشكوك فيه جزئيا ولا تكون الشبهة موضوعية كالشك في حرمة الفقاع الخارجي للشك في حرمة أصل الفقاع شرعا فتدبر جيدا.

(قوله فيما لم يثبت بينهما ترجيح بناء على التوقف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح في البين واما بناء على التخيير كما هو المشهور فلا مجال لأصالة البراءة ... إلخ)

لا وجه لتقييد التعارض بما لم يثبت بين المتعارضين ترجيح (إذ بناء) على التوقف أي التساقط والرجوع إلى الأصول العملية تصل النوبة إلى البراءة مطلقا سواء كان المتعارضان متكافئين أو متفاضلين (كما أن) بناء على عدم التساقط والأخذ باخبار التخيير أو الترجيح لا تكاد تصل النوبة إلى البراءة مطلقا أيضا سواء كان المتعارضان متكافئين أو متفاضلين (وتوضيحه) ان مقتضي القاعدة الأولية في المتعارضين سواء كانا متكافئين أو متفاضلين بناء على الطريقية هو التساقط والرجوع إلى الأصل العملي ولكن لا يكاد يصار إلى ذلك بل لا بد من العمل فيهما بأحد المتعارضين لا محالة وذلك لدليل الإجماع والاخبار العلاجية كما صرح به الشيخ أعلى الله مقامه وأشير إليه آنفا والمشهور في المتكافئين هو التخيير وفي المتفاضلين هو الترجيح وان كان الحق كما ستعرف هو التخيير في كليهما جميعا (وعلى كل حال) قد اتضح لك من هذا كله ان الحق كان ان يقول المصنف أو تعارضه بناء على التوقف في مسألة تعارض النصين أي بناء على الأخذ بالقاعدة الأولية من التساقط واما بناء على التخيير أو الترجيح فلا مجال لأصل البراءة أصلا (كما ان من هذا كله) قد اتضح لك أيضا ان الحق كان ان لا يؤشر الشيخ هنا إلى تعارض النصين أبدا بعد تسالم الجميع على رفع اليد عن مقتضي القاعدة الأولية من التساقط وعلى عدم الرجوع إلى الأصل العملي أصلا وانه يجب العمل بأحد المتعارضين لا محالة إما تعييناً أو تخييرا فتأمل جيدا.

٩

في الآيات التي استدل بها لأصالة البراءة

وذكر آية التعذيب

(قوله وقد استدل على ذلك بالأدلة الأربعة أما الكتاب فبآيات أظهرها قوله تعالى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ... إلخ)

هي في سورة الأسرى (وقد أفاد الشيخ) أعلى الله مقامه في تقريب التمسك بها (ما حاصله) ان بعث الرسول (إما كناية) عن بيان التكليف ووضوحه وانجلائه للمكلف ولو كان بالعقل وانما كني عنه ببعث الرسول بلحاظ كون البيان بسببه غالباً كما يكنى عن دخول الوقت بأذان المؤذن في مثل قولك لا أبرح من هذا المكان حتى يؤذن المؤذن بلحاظ كون معرفته في الأغلب بأذان المؤذن (وإما عبارة) عن البيان النقلي الّذي يأتي به الرسول ونخصص عموم الآية بغير المستقلات العقلية فإن ما استقل به العقل يستحق العذاب عليه ولو لم يبعث الرسول ولم يبين أو يلتزم في المستقلات العقلية بعدم استحقاق العذاب حتى يبعث الرسول ويبين نظرا إلى وجوب تأكيد حكم العقل بالنقل فتبقى عموم الآية محفوظاً سالماً على حاله وعلى أي تقدير تدل الآية الشريفة على نفي العذاب قبل البيان.

(قوله وفيه ان نفى التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان منة منه تعالى على عباده مع استحقاقهم لذلك .. إلخ)

(قال الشيخ) أعلى الله مقامه في رد المتمسك بالآية الشريفة للبراءة (ما لفظه) وفيه ان ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة (انتهى) (ومحصله) ان الله تعالى قد أخبر انه لم يعذب الأمم السابقة بالعذاب الدنيوي ، ما لم يبعث فيهم رسولا وليس فيها دلالة على انه

١٠

تعالى لم يفعل ذلك لعدم استحقاقهم له كي يكون دليلا على البراءة وعلى نفي العقاب مطلقا أي الدنيوي والأخروي جميعا قبل البيان بل لعله لم يفعل ذلك منة منه تعالى عليهم ولا يمن على غيرهم ودعوى ان نفي التعذيب كان لعدم الاستحقاق بلا كلام لوضوح استقلال العقل بذلك هي عدول عن التمسك بالآية الشريفة إلى غيرها ونحن لا ننكر استقلال العقل به وهو دليل مستقل كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى فانتظر.

(قوله ولو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية لما صح الاستدلال بها إلا جدلا ... إلخ)

(وتوضيح المقام) ان الآية الشريفة قد استدل بها الأخباريون لنفي الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع بدعوى ان ما حكم به العقل قبل بعث الرسول مثل وجوب قضاء الدين ورد الوديعة وحرمة الظلم ونحو ذلك لو كان الشرع يحكم به أيضاً لكان عذاب قبل بعث الرسول فحيث لا عذاب قبل البعث فلا حكم للشرع قبله فيثبت التفكيك بين حكم العقل وحكم الشرع في الخارج (وقد رد الأصوليون) على الاستدلال المذكور بان الآية ليست لنفي استحقاق العذاب قبل البعث كي يستكشف به عدم حكم الشرع قبله بل لنفي فعلية التعذيب وهو أعم من نفي الاستحقاق ولعلهم كانوا مستحقين له فلم يعذبهم تعالى منة منه عليهم فإذا كانوا مستحقين له كفى ذلك في ثبوت حكم الشرع على طبق ما حكم به العقل من قبل بعث الرسول فلا يثبت التفكيك (وقد جمع) بعض الأصحاب بين التمسك بالآية للبراءة وبين الرد على الاستدلال المذكور فأورد عليه بالتناقض فإن التمسك بها للبراءة مما يبتني على نفي الاستحقاق والرد على الاستدلال المذكور مما يبتني على نفي الفعلية فان كانت الآية لنفي الاستحقاق صح التمسك بها للبراءة ولم يصح الرد على الاستدلال المذكور وان كانت لنفي الفعلية صح الرد على الاستدلال المذكور ولم يصح التمسك بها للبراءة (والشيخ) أعلى الله مقامه مع انه ممن لا يرى التمسك بها للبراءة كما عرفت

١١

قد حاول دفع التناقض بين التمسك بها للبراءة وبين الرد على الاستدلال المذكور بأن الآية لنفي الفعلية وبه يتم الرد على الاستدلال المذكور ونفي الفعلية مما يكفي للتمسك بها للبراءة نظراً إلى ان خصمنا في هذا المقام وهو الاخباري القائل بوجوب الاحتياط في الشبهات التحريمية الحكمية ممن يدعي ان فيها الهلاك الفعلي بمقتضى روايات الاحتياط كرواية التثليث وغيرها مما سيأتي تفصيله ويعترف بأنه إذا انتفت الفعلية بالآية فلا مقتضى للاستحقاق أصلا (وعليه) فإذا انتفت الفعلية بالآية واعترف الخصم بعد نفي الفعلية بعدم المقتضي للاستحقاق حصل الالتئام بين الرد على الاستدلال المذكور وبين التمسك بها للبراءة من دون تناقض بينهما أبداً (فالمصنف) ممن يناقش في دفع التناقض المذكور وتصحيح التمسك بها للبراءة بمجرد نفي الفعلية (ووجه المناقشة) انه لو سلم اعتراف الخصم بأنه مهما انتفت الفعلية فلا استحقاق لم يصح الاستدلال بها للبراءة الا جدلا وإلزاماً للخصم لا إقناعاً على نحو صح أن يقنع به المستدل بنفسه بعد وضوح عدم الملازمة واقعاً بين نفي الفعلية وعدم الاستحقاق لجواز نفي الفعلية وثبوت الاستحقاق عقلا كما لا يخفى

(قوله مع وضوح منعه ضرورة ان ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم بحكمه وليس حال الوعيد بالعذاب فيه الا كالوعيد به فيه فافهم ... إلخ)

أي مع وضوح منع اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية فان مشتبه الحرام الّذي يحتاط فيها ليس عنده بأعظم من المحرم القطعي إذ المحرم القطعي لا ملازمة فيه بين الاستحقاق والفعلية لإمكان المغفرة وشمول الرحمة فكيف بمشتبه الحرمة (وفيه) ان الشيخ أعلى الله مقامه لم يدع اعتراف الخصم بالملازمة بين الاستحقاق والفعلية كي يجاب عنه بهذا الجواب بل ادعى اعتراف الخصم بالملازمة بين نفي الفعلية ونفي الاستحقاق وهي وإن لم تكن صحيحة في حد ذاتها لما عرفت من عدم الملازمة بين نفيهما لجواز نفي الفعلية وثبوت الاستحقاق واقعاً ولكنه غير

١٢

الملازمة بين وجود الاستحقاق والفعلية ولعله إليه أشار أخيرا بقوله فافهم (فافهم جيداً) ـ

في الاستدلال بآية الإيتاء

(ثم إن في المقام) آيات أخرى قد استدل بها للبراءة.

(منها) قوله تعالى في سورة الطلاق :

(لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسراً)

(قال الشيخ) قيل دلالتها واضحة (انتهى).

(أقول)

وفي الاستدلال بها ما لا يخفى فإن المراد من الموصول (إما هو المال) بقرينة قوله تعالى قبل ذلك لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله فالمعنى هكذا أي لا يكلف الله نفساً الا ما لا آتاها أي أعطاها وهذا المعنى هو أجنبي عن البراءة كما لا يخفى.

(وإما هو الفعل) بقرينة وقوع التكليف عليه أي لا يكلف الله نفساً الا فعلا آتاها أي أقدرها عليه ومكنها منه وهو الّذي يظهر من الطبرسي أعلى الله مقامه حيث قال وفي هذا دلالة على انه سبحانه لا يكلف أحداً ما لا يقدر عليه وما لا يطيقه (وقال الشيخ) وهذا المعنى أظهر وأشمل لأن الإنفاق من الميسور داخل فيما آتاه الله.

(أقول)

اما كونه أشمل فنعم واما كونه أظهر فلا بل الأول أظهر بقرينة ما قبله (وعلى كل حال) هو أجنبي أيضاً عن البراءة بلا كلام.

(وإما هو التكليف) بمناسبة قوله تعالى لا يكلف الله أي لا يكلف الله نفساً

١٣

الا تكليفاً آتاها أي أعلمها وهذا هو الّذي يناسب البراءة ولكنه مما ينافي المورد وهو الإنفاق مما آتاه الله فلا يتم الاستدلال به (قال الشيخ) نعم لو أريد من الموصول نفس الحكم والتكليف كان إيتاؤه عبارة عن الإعلام به لكن إرادته بالخصوص تنافي مورد الآية وإرادة الأعم منه ومن المورد يستلزم استعمال الموصول في معنيين إذ لا جامع بين تعلق التكليف بنفس الحكم وبالفعل المحكوم عليه فافهم (انتهى)

(أقول)

ولعل قوله فافهم إشارة إلى ان الموصول إذا أبقيناه على عمومه الحقيقي ولم يكن المراد منه خصوص المال أو الفعل أو التكليف يشمل كلا من هذه الأمور الثلاثة جميعاً من دون استعمال له في معنيين أو معاني غايته انه إيتاء كل شيء بحسبه فإيتاء المال إعطاؤه وإيتاء الفعل الإقدار عليه وإيتاء التكليف إعلامه.

في الاستدلال بآية الإضلال

(ومنها) قوله تعالى في سورة التوبة :

(وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هديهم حتى يبين لهم ما يتقون)

(قال الشيخ) أعلى الله مقامه أي ما يجتنبون به من الأفعال والتروك (قال) وظاهرها انه تعالى لا يخذلهم بعد هدايتهم إلى الإسلام الا بعد ما يبين لهم (ثم قال) وعن الكافي وتفسير العياشي وكتاب التوحيد حتى يعرفهم ما يرضيه وما يسخطه (انتهى) (وقال الطبرسي) في نزولها (ما لفظه) قيل مات قوم من المسلمين على الإسلام قبل أن ينزل الفرائض فقال المسلمون يا رسول الله إخواننا الذين ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم فنزل وما كان الله ليضل قوماً الآية عن الحسن وقال في معناها أي وما كان الله ليحكم بضلالة قوم بعد ما حكم بهدايتهم حتى يبين لهم ما يتقون من الأمر بالطاعة والنهي عن المعصية فلا يتقون فعند ذلك يحكم بضلالتهم

١٤

(ثم قال) وقيل وما كان الله ليعذب قوماً فيضلهم عن الثواب والكرامة وطريق الجنة بعد إذ هديهم ودعاهم إلى الإيمان حتى يبين لهم ما يستحقون به الثواب والعقاب من الطاعة والمعصية (ثم قال) وقيل لما نسخ بعض الشرائع وقد غاب أناس وهم يعملون بالأمر الأول إذ لم يعلموا بالأمر الثاني مثل تحويل القبلة وغير ذلك وقد مات الأولون على الحكم الأول سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فأنزل الله الآية وبين انه لا يعذب هؤلاء على التوجه إلى القبلة الأولى حتى يسمعوا بالنسخ ولا يعملوا بالناسخ فحينئذ يعذبهم عن الكلي (انتهى).

(أقول)

سواء كان الإضلال بمعنى الخذلان أو بمعنى الحكم بالضلالة أو بمعنى التعذيب قد دلت الآية الشريفة على نفيه قبل البيان من غير اختصاص بقوم دون قوم فتكون هي دليلا قاطعاً على البراءة ولو في خصوص الشبهات الحكمية التي من شأنه تعالى البيان فيها (ومن هنا يظهر) ضعف ما أورده الشيخ على الاستدلال بها (بقوله) وفيه ما تقدم في الآية السابقة (انتهى) فإن الآية السابقة قد أخبر فيها سبحانه وتعالى بنفي تعذيب الأمم السالفة ما لم يبعث فيهم رسولا وليس فيها دلالة على انه يعامل الجميع هذه المعاملة ولعلها كانت مختصة بهم بخلاف هذه الآية فانها تدل على نفي الإضلال قبل البيان مطلقاً من غير اختصاص بقوم دون قوم وان كان سبب النزول أناساً مخصوصين.

(نعم ليس فيها) دلالة على ان نفي الإضلال قبل البيان هل هو لنفي الاستحقاق أو للتفضل ولكن لا يضر ذلك بالمقصود بلا كلام فإن مجرد نفي الإضلال قبل البيان مما يكفي للمقام وان كان للتفضل ولم يكن لعدم الاستحقاق (اللهم) إلّا أن يقال إن الآية مما تدل على نفي الإضلال قبل البيان ونحن في الشبهات الحكمية نحتمل البيان واختفاءه علينا فإذاً يكون التمسك بها تمسكاً بالدليل في الشبهات المصداقية (ولكن يرده) ان المراد من البيان فيها ليس هو مطلق البيان ولو لم

١٥

يصل أصلا فإن المراد منه لو لم يكن هو البيان الواصل بنفسه بشهادة ما تقدم في نزولها من انه لما نسخ بعض الشرائع إلى قوله حتى يسمعوا بالنسخ فلا أقل هو البيان الّذي يمكن الوصول إليه ولو بالفحص عنه فإذا تفحصنا في الشبهات ولم نظفر على بيان من الشرع حتى يئسنا فقد أحرزنا انه لا بيان في البين يمكن الوصول إليه أصلا وقطعنا انه لا إضلال حينئذ أبداً.

في الاستدلال بآية الهلاك

(ومنها) قوله تعالى في سورة الأنفال :

(ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة)

(وأول الآية هكذا) :

(إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله امراً كان مفعولا ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة)

(قال في الفصول) في تقريب الاستدلال بها (ما لفظه) فإن قضية تخصيص الهلاك والحياة بصورة وجود البينة نفيهما عند انتفائهما وقضية ذلك نفي الوجوب والحرمة وأخويهما حينئذ على إشكال في دلالته على نفي الكراهة (انتهى).

(وقال الشيخ) بعد ذكر الآية (ما لفظه) وفي دلالتها تأمل ظاهر (انتهى)

(أقول)

ولعل وجه التأمل ان المراد من الهلاك في الآية ليس هو العذاب كي تكون من أدلة البراءة كما زعم الفصول بل هو الموت أي ليموت من مات عن بينة ويعيش من عاش عن بينة فتكون الآية أجنبية عن المقام جداً.

(قال الطبرسي) أعلى الله مقامه في تفسير الآية (ما ملخصه) ثم بين سبحانه

١٦

وتعالى نصرته للمسلمين ببدر فقال سبحانه (إذ أنتم) أيها المسلمون (بالعدوة الدنيا) أي بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة (وهم) يعني المشركين (بالعدوة القصوى) أي بالشفير الأقصى من المدينة (والركب) يعني أبا سفيان وأصحابه (وهم) العير (أسفل منكم) أي في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر (ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد) أي لو تواعدتم أيها المسلمون للاجتماع في الموضع الّذي اجتمعتم فيه لاختلفتم بما يعرض من العوائق والقواطع (ولكن ليقضي الله امراً كان مفعولا) أي ولكن قدر الله التقاءكم وجمع بينكم وبينهم على غير ميعاد منكم ليقضي الله أمراً كان كائناً لا محالة وهو إعزاز الدين وأهله وإذلال الشرك وأهله (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة) أي فعل ذلك ليموت من مات منهم بعد قيام الحجة عليه (قال) وقيل إن البينة ما وعد الله من النصر للمؤمنين على الكافرين صار ذلك حجة على الناس في صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما أتاهم به من عند الله (انتهى).

في الاستدلال بآية المحرمات

(ومنها) قوله تعالى في سورة الأنعام مخاطباً لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله ملقناً إياه طريق الرد على اليهود حيث حرموا بعض ما رزقهم الله افتراء عليه على ما ذكر الشيخ أعلى الله مقامه

(قل لا أجد فيما أوحى إلى محرماً على طاعم يطعمه إلّا ان يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس)

(الآية) فأبطل تشريعهم بعدم وجدان ما حرموه في جملة المحرمات التي أوحى الله إليه.

(أقول)

وفي الاستدلال بها ما لا يخفى فإن عدم وجدان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما

١٧

أوحى الله إليه محرماً غير ما ذكر من الميتة وأختيها دليل قطعي على عدم الوجود واقعاً وهو خارج عما نحن بصدده من أن الأصل عند الشك مع احتمال الوجود ثبوتاً هو البناء على العدم ما لم يقم عليه دليل إثباتاً.

(نعم عدوله) تعالى عن التعبير بعدم الوجود إلى عدم الوجدان مما لا يخلو عن إشعار بالمطلب ولكنه ليس بحد الدلالة عليه كما أفاد الشيخ أيضاً (قال) لكن الإنصاف ان غاية الأمر ان يكون في العدول عن التعبير من عدم الوجود إلى عدم الوجدان إشارة إلى المطلب واما الدلالة فلا (انتهى) موضع الحاجة من كلامه رفع مقامه.

في الاستدلال بآية التفصيل

(ومنها) قوله تعالى في سورة الأنعام أيضاً.

(وما لكم الا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم)

(أقول)

ويظهر الجواب عن الاستدلال بها مما تقدم في الآية السابقة فإن خلو ما فصل الله لنا من المحرمات عن ذكر ما سواه هو دليل قطعي على حلية ما سواه واقعاً لا على حليته ظاهراً مع احتمال حرمته واقعاً كما هو المطلوب.

(ثم إن الشيخ) أعلى الله مقامه قد أورد إيراداً عاماً على الاستدلال بهذه الآيات الشريفة كلها بل وعلى بعض الأخبار الآتية أيضاً لا بأس بالإشارة إليه (قال) في ذيل الآية الرابعة وهي قوله تعالى ليهلك من هلك عن بينة ... إلخ (ما لفظه) ويرد على الكل ان غاية مدلولها عدم المؤاخذة على مخالفة النهي المجهول عند المكلف لو فرض وجوده واقعاً فلا ينافي ورود الدليل العام على وجوب اجتناب ما يحتمل التحريم ومعلوم ان القائل بالاحتياط ووجوب الاجتناب لا يقول

١٨

به الا عن دليل علمي وهذه الآيات بعد تسليم دلالتها غير معارضة لذلك الدليل بل هي من قبيل الأصل بالنسبة إليه كما لا يخفى (انتهى) ويعني بقوله من قبيل الأصل بالنسبة إليه ان دليل الاحتياط حاكم أو وارد على الآيات لانتفاء موضوعها به فإن موضوعها اللابيان وهو ينتفي بمجيء البيان على وجوب الاحتياط كحكومة الدليل الاجتهادي أو وروده على الأصل العملي عيناً نظراً إلى انتفاء موضوعه به وهو الشك (وقال) أيضاً في ذيل الآية الأخيرة (ما لفظه) والإنصاف ما ذكرناه من ان الآيات المذكورة لا تنهض على إبطال القول بوجوب الاحتياط لأن غاية مدلول الدال منها هو عدم التكليف فيما لم يعلم خصوصاً أو عموماً بالعقل أو النقل وهذا مما لا نزاع فيه لأحد وانما أوجب الاحتياط من أوجبه بزعم قيام الدليل العقلي أو النقلي على وجوبه فاللازم على منكره رد ذلك الدليل أو معارضته بما يدل على الرخصة وعدم وجوب الاحتياط فيما لا نصّ فيه واما الآيات المذكورة فهي كبعض الاخبار الآتية لا تنهض لذلك ضرورة انه إذا فرض انه ورد بطريق معتبر في نفسه انه يجب الاحتياط في كل ما يحتمل أن يكون قد حكم الشارع فيه بالحرمة لم يعارضه شيء من الآيات المذكورة (انتهى).

(أقول)

نعم إن الآيات المذكورة على تقدير دلالتها كلا أو بعضاً هي كبعض الاخبار الآتية بل كلها إلا مرسلة الفقيه (كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي) مما لا تعارض دليل الاحتياط لو تم فإنه لو لم يكن حاكماً أو وارداً عليهما فهو لا محالة أخص منهما بمعنى اختصاصه بالشبهة التحريمية الحكمية دون الآيات وبعض الروايات فيشملان عموم الشبهات (وعليه) فاللازم على مدعي البراءة رد ذلك الدليل أو معارضته بما دل على الرخصة كالمرسلة (ولكن) مجرد رده مما لا يكفي فإما بعد رد ذلك الدليل ودفع المانع نحتاج قطعاً إلى أدلة نستند إليها في الحكم بالبراءة مطلقاً فنحن

١٩

الآن بصدد تلك الأدلة فنقررها واحداً بعد واحد ثم نجيب بعداً عن دليل الاحتياط كما هو حقه.

(وبالجملة إن) الآيات المذكورة وهكذا الأخبار الآتية لو تمت دلالتها على البراءة فهي سالمة من ناحية هذا الإشكال العام الّذي أورده الشيخ أعلى الله مقامه فانه مما لا يضر بهما قطعاً غير انك قد عرفت عدم دلالة الآيات على البراءة سوى الآية الثالثة وهي قوله تعالى (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هديهم حتى يبين لهم ما يتقون) كما انك ستعرف عدم دلالة بعض الاخبار الآتية أيضاً وان دل بعضها الآخر عليها بل وأكثرها كحديث الرفع وحديث الحجب وحديث السعة ونحوها وهو ما يكفي للمدعي كما لا يخفى.

في الروايات التي استدل بها لأصالة البراءة

وذكر حديث الرفع

(قوله واما السنة فروايات منها حديث الرفع حيث عدما لا يعلمون من التسعة المرفوعة فيه ... إلخ)

(قال) المحقق القمي في أثناء ذكر ما دل من السنة على البراءة (ما هذا لفظه) وما رواه الصدوق في التوحيد في الصحيح عن حريز عن الصادق عليه الصلاة والسلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفع عن أمتي تسعة الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وما لا يطيقون وما لا يعلمون وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة (قال) ورواه في أوائل الفقيه أيضاً (انتهى) (وزاد الشيخ أعلى الله مقامه) روايته في الخصال (قال) واما السنة فيذكر منها في المقام اخبار كثيرة منها المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

٢٠