فتح القدير - ج ١

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ١

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن المنذر من طريق ابن عون عن الحسن وابن سيرين في هذه الآية : قال أحدهما : ترغبون فيهنّ ، وقال الآخر : ترغبون عنهن.

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠))

امرأة : مرفوعة بفعل مقدّر يفسره ما بعده ، أي : وإن خافت امرأة ، وخافت : بمعنى : توقعت ما تخاف من زوجها ، وقيل : معناه : تيقنت ، وهو خطأ. قال الزجاج : المعنى : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها) دوام النشوز. قال النحاس : الفرق بين النشوز والإعراض : أن النشوز التباعد ، والإعراض أن لا يكلمها ولا يأنس بها ، وظاهر الآية أنها تجوز المصالحة عند مخافة أيّ نشوز أو أيّ إعراض ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي سيأتي ، وظاهرها : أنه يجوز التصالح بأيّ نوع من أنواعه ، إما بإسقاط النوبة أو بعضها ، أو بعض النفقة ، أو بعض المهر. قوله : أن يصّالحا هكذا قرأه الجمهور ، وقرأ الكوفيون : (أَنْ يُصْلِحا) وقراءة الجمهور أولى ، لأن قاعدة العرب : أن الفعل إذا كان بين اثنين فصاعدا قيل : تصالح الرجلان أو القوم ، لا أصلح. وقوله : (صُلْحاً) : منصوب على أنه اسم مصدر ، أو على أنه مصدر محذوف الزوائد ، أو منصوب بفعل محذوف ، أي : فيصلح حالهما صلحا ؛ وقيل : هو منصوب على المفعولية. وقوله : (بَيْنَهُما) ظرف للفعل ، أو في محل نصب على الحال. قوله : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) لفظ عام يقتضي : أن الصلح الذي تسكن إليه النفوس ويزول به الخلاف خير على الإطلاق ، أو خير من الفرقة أو من الخصومة ، وهذه جملة اعتراضية. قوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) إخبار منه سبحانه : بأن الشح في كل واحد منهما ؛ بل في كل الأنفس الإنسانية كائن ، وأنه جعل كأنه حاضر لها ؛ لا يغيب عنها بحال من الأحوال ؛ وأن ذلك بحكم الجبلة والطبيعة ، فالرجل يشحّ بما يلزمه للمرأة من حسن العشرة وحسن النفقة ونحوها ، والمرأة تشحّ على الرجل بحقوقها اللازمة للزوج ، فلا تترك له شيئا منها. وشحّ الأنفس : بخلها بما يلزمها أو يحسن فعله بوجه من الوجوه ، ومنه : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (١). قوله : (وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا) أي : تحسنوا عشرة النساء وتتقوا ما لا يجوز من النشوز والإعراض (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) فيجازيكم يا معشر الأزواج بما تستحقونه. قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) أخبر سبحانه : بنفي استطاعتهم للعدل بين النساء على الوجه الذي لا ميل فيه ألبتة ؛ لما جبلت عليه الطباع البشرية من ميل النفس إلى هذه دون هذه ، وزيادة في المحبة ونقصان هذه ، وذلك بحكم الخلقة ، بحيث لا يملكون قلوبهم ، ولا يستطيعون توقيف أنفسهم على التسوية ، ولهذا كان يقول الصادق المصدوق صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم

__________________

(١). الحشر : ٩.

٦٠١

هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» ولما كانوا لا يستطيعون ذلك ولو حرصوا عليه وبالغوا فيه نهاهم عزوجل عن أن يميلوا كل الميل ، لأن ترك ذلك وتجنب الجور كل الجور في وسعهم ، وداخل تحت طاقتهم ، فلا يجوز لهم أن يميلوا عن إحداهنّ إلى الأخرى كل الميل ، حتى يذروا الأخرى كالمعلقة التي ليست ذات زوج ولا مطلقة ، تشبيها بالشيء الذي هو معلق غير مستقر على شيء ، وفي قراءة أبيّ : «فتذروها كالمسجونة» قوله : (وَإِنْ تُصْلِحُوا) أي : ما أفسدتم من الأمور التي تركتم ما يجب عليكم فيها من عشرة النساء والعدل بينهنّ (وَتَتَّقُوا) كل الميل الذي نهيتم عنه (فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لا يؤاخذكم بما فرط منكم. قوله : (وَإِنْ يَتَفَرَّقا) أي : لم يتصالحا بل فارق كل واحد منهما صاحبه (يُغْنِ اللهُ كُلًّا) منهما ، أي : يجعله مستغنيا عن الآخر ، بأن يهيء للرجل امرأة توافقه وتقرّ بها عينه ، وللمرأة رجلا تغتبط بصحبته ، ويرزقهما (مِنْ سَعَتِهِ) رزقا يغنيهما به عن الحاجة (وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً) واسع الفضل ، صادرة أفعاله على جهة الإحكام والإتقان.

وقد أخرج الترمذي ، وحسنه ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي عن ابن عباس قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا رسول الله! لا تطلقني ، واجعل يومي لعائشة ، ففعل ، ونزلت هذه الآية : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) الآية ، قال ابن عباس : فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز. وأخرج أبو داود ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي عن عائشة : أن سبب نزول الآية هو قصة سودة المذكورة. وأخرج البخاري وغيره عنها في الآية قالت : الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول : أجعلك من شأني في حلّ ، فنزلت هذه الآية. وأخرج الشافعي ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، والبيهقي عن سعيد بن المسيب : أن ابنة محمد بن سلمة كانت عند رافع بن خديج ، فكره منها أمرا ، إما كبرا أو غيره ، فأراد طلاقها فقالت : لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك ، فاصطلحا ، وجرت السنة بذلك ، ونزل القرآن : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً) الآية. وأخرج أبو داود الطيالسي ، وابن أبي شيبة ، وابن راهويه ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن عليّ : أنه سئل عن هذه الآية فقال : هو رجل عنده امرأتان ، فتكون إحداهما قد عجزت ، أو تكون دميمة ، فيريد فراقها ، فتصالحه على أن يكون عندها ليلة ، وعند الأخرى ليالي ولا يفارقها ، فما طابت به نفسها فلا بأس به ، فإن رجعت سوّى بينهما. وقد ورد عن جماعة من الصحابة نحو هذا ، وثبت في الصحيحين من حديث عائشة قالت : «لمّا كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم لها بيوم سودة». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) قال : هواه في الشيء يحرص عليه ، وفي قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) قال : في الحبّ والجماع ، وفي قوله : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ) قال : لا هي أيمة ولا ذات زوج. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن المنذر عن عائشة قالت : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : اللهمّ هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما

٦٠٢

تملك ولا أملك» وإسناده صحيح. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وأهل السنن عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط». قال الترمذي : إنما أسنده همام. ورواه هشام الدستوائي عن قتادة قال : كان يقال ، ولا يعرف هذا الحديث مرفوعا إلا من حديث همام. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ) قال : الجماع. وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال : الحبّ.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤))

قوله : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) هذه الجملة مستأنفة لتقرير كمال سعته سبحانه ؛ وشمول قدرته (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أمرناهم فيما أنزلناه عليهم من الكتب ، واللام في الكتاب : للجنس (وَإِيَّاكُمْ) عطف على الموصول (أَنِ اتَّقُوا اللهَ) أي : أمرناهم وأمرناكم بالتقوى ، وهو في موضع نصب بقوله : (وَصَّيْنَا) أو منصوب بنزع الخافض. قال الأخفش : أي : بأن اتقوا الله ، ويجوز أن تكون أن : مفسرة ، لأن التوصية في معنى القول. قوله : (وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) معطوف على قوله : (أَنِ اتَّقُوا) أي : وصيناهم وإياكم بالتقوى ، وقلنا لهم ولكم : إن تكفروا ، وفائدة هذا التكرير : ليتنبه العباد على سعة ملكه ، وينظروا في ذلك ، ويعلموا أنه غنيّ عن خلقه (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أي : يفنكم (وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) أي : بقوم آخرين غيركم ، وهو كقوله تعالى : (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ) (١). (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا) هو من يطلب بعمله شيئا من أمور الدنيا ، كالمجاهد يطلب الغنيمة دون الأجر (فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فما باله يقتصر على أدنى الثوابين وأحقر الأجرين ، وهلا طلب بعمله ما عند الله سبحانه ، وهو ثواب الدنيا والآخرة ، فيحرزهما جميعا ، ويفوز بهما ، وظاهر الآية العموم. وقال ابن جرير الطبري : إنها خاصة بالمشركين والمنافقين (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً) يسمع ما يقولونه ، ويبصر ما يفعلونه.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَكانَ اللهُ غَنِيًّا) عن خلقه (حَمِيداً) قال : مستحمدا إليهم. وأخرجا أيضا عن علي مثله. وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) قال : حفيظا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عنه في قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) قال : قادر والله ربنا على ذلك أن يهلك من خلقه ما شاء ، ويأتي بآخرين من بعدهم.

__________________

(١). محمد : ٣٨.

٦٠٣

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦))

قوله : (قَوَّامِينَ) صيغة مبالغة ، أي : ليتكرر منكم القيام بالقسط ، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم ، وهو الإقرار بما عليكم من الحقوق ، وأما شهادته على والديه : فبأن يشهد عليهما بحق للغير ، وكذلك الشهادة على الأقربين ، وذكر الأبوين لوجوب برّهما وكونهما أحبّ الخلق إليه ، ثم ذكر الأقربين ، لأنهم مظنة المودّة والتعصب ، فإذا شهدوا على هؤلاء بما عليهم فالأجنبي من الناس أحرى أن يشهدوا عليه. وقد قيل : إن معنى الشهادة على النفس : أن يشهد بحق على من يخشى لحوق ضرر منه على نفسه وهو بعيد. وقوله : (شُهَداءَ لِلَّهِ) خبر بعد خبر لكان ، أو حال ، ولم ينصرف لأن فيه ألف التأنيث. وقال ابن عطية : الحال فيه ضعيفة في المعنى ، لأنها تخصص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط. وقوله : (لِلَّهِ) أي : لمرضاته وثوابه. وقوله : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) متعلق بشهداء ، هذا المعنى الظاهر من الآية ؛ وقيل : معنى (شُهَداءَ لِلَّهِ) : بالوحدانية ، فيتعلق قوله : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) بقوّامين ، والأوّل أولى. قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) اسم كان مقدّر ، أي : إن يكن المشهود عليه غنيا فلا يراعى لأجل غناه ، استجلابا لنفعه ، أو استدفاعا لضره ، فيترك الشهادة عليه ، أو فقيرا فلا يراعى لأجل فقره رحمة له ، وإشفاقا عليه ، فيترك الشهادة عليه ، وإنما قال : (فَاللهُ أَوْلى بِهِما) ولم يقل : به ، مع أن التخيير إنما يدل على الحصول لواحد ، لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما. وقال الأخفش : تكون أو بمعنى الواو ؛ وقيل : إنه يجوز ذلك مع تقدّم ذكرهما كما في قوله : (وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) (١). وقد تقدّم في مثل هذا ما هو أبسط مما هنا. وقرأ أبيّ : فالله أولى بهم. وقرأ ابن مسعود : إن يكن غنيّ أو فقير على أن : كان ، تامة (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) نهاهم عن اتباع الهوى. وقوله : (أَنْ تَعْدِلُوا) في موضع نصب ، وهو إما من العدل ، كأنه قال : فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس ؛ أو من العدول ، كأنه قال : فلا تتبعوا الهوى مخافة أن تعدلوا عن الحق ، أو كراهة أن تعدلوا عن الحق. قوله : (وَإِنْ تَلْوُوا) من الليّ ، يقال : لويت فلانا حقه : إذا دفعته عنه. والمراد ليّ الشهادة ميلا إلى المشهود عليه. وقرأ ابن عامر والكوفيون : (وَإِنْ تَلْوُوا) من الولاية ، أي : وإن تلوا الشهادة وتتركوا ما يجب عليكم من تأديتها على وجه الحق. وقد قيل : إن هذه قراءة تفيد معنيين : الولاية ، والإعراض. والقراءة الأولى تفيد معنى واحدا وهو الإعراض. وزعم بعض النحويين أن القراءة الثانية غلط ولحن ، لأنه لا معنى للولاية هاهنا ، قال النحاس وغيره : وليس يلزم هذا ، ولكن يكون تلوا بمعنى تلووا ، وذلك أن أصله تلووا فاستثقلت الضمة على الواو بعدها واو أخرى فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين. وذكر الزجاج نحوه. قوله : (أَوْ

__________________

(١). النساء : ١٢.

٦٠٤

تُعْرِضُوا) أي : عن تأدية الشهادة من الأصل (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) أي : لما تعملون من الليّ والإعراض أو من كل عمل ، وفي هذا وعيد شديد لمن لم يأت بالشهادة كما تجب عليه ، وقد روي أن هذه الآية تعمّ القاضي والشهود ، أما الشهود فظاهر ، وأما القاضي فذلك بأن يعرض عن أحد الخصمين أو يلوي عن الكلام معه ؛ وقيل : هي خاصة بالشهود. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) أي : اثبتوا على إيمانكم ودوموا عليه ، والخطاب هنا للمؤمنين جميعا (وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ) هو القرآن ، واللام للعهد (وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) هو كل كتاب ، واللام للجنس. وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو وابن عامر : نزل وأنزل بالضم. وقرأ الباقون : بالفتح فيهما. وقيل : إن الآية نزلت في المنافقين. والمعنى : يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله. وقيل : نزلت في المشركين ، والمعنى : يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى آمنوا بالله ، وهما ضعيفان. قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي : بشيء من ذلك (فَقَدْ ضَلَ) عن القصد (ضَلالاً بَعِيداً) وذكر الرسول فيما سبق لذكر الكتاب الذي أنزل عليه ، وذكر الرسل هنا لذكر الكتب جملة ، فناسبه ذكر الرسل جملة ، وتقديم الملائكة على الرسل : لأنهم الوسائط بين الله وبين رسله.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ) الآية ، قال : أمر الله المؤمنين أن يقولوا بالحق ولو على أنفسهم ، أو آبائهم ، أو أبنائهم ، لا يحابون غنيا لغناه ، ولا يرحمون مسكينا لمسكنته ، وفي قوله : (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى) فتذروا الحق فتجوروا (وَإِنْ تَلْوُوا) يعني : بألسنتكم بالشهادة (أَوْ تُعْرِضُوا) عنها. وأخرج أحمد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو نعيم في الحلية عنه في معنى الآية قال : الرجلان يجلسان عند القاضي ، فيكون ليّ القاضي وإعراضه لأحد الرجلين على الآخر. وأخرج ابن المنذر عنه أيضا قال : لما قدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ؛ كانت البقرة أوّل سورة نزلت ؛ ثم أردفها سورة النساء ، قال : فكان الرجل تكون عنده الشهادة قبل ابن عمه ، أو ذوي رحمه ، فيلوي بها لسانه ، أو يكتمها مما يرى من عسرته حتى يوسر ، فيقضي حين يوسر ، فنزلت : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) الآية. وأخرج ابن جرير عنه أيضا (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) يقول : تلوي لسانك بغير الحق ، وهي اللجلجة ، فلا تقيم الشهادة على وجهها. والإعراض : الترك. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس : «أنّ عبد الله بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلاما ابن أخت عبد الله بن سلام وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا رسول الله! إنّا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن ، وبكلّ كتاب كان قبله. فقالوا : لا نفعل ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) الآية». وينبغي النظر في صحة هذا ، فالثعلبي رحمه‌الله ليس من رجال الرواية ، ولا يفرّق بين الصحيح والموضوع. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك في هذه الآية قال : يعني بذلك : أهل الكتاب ، كان الله قد أخذ ميثاقهم في التوراة والإنجيل ، وأقرّوا على أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ،

٦٠٥

فلما بعث الله رسوله دعاهم إلى أن يؤمنوا بمحمد والقرآن ، وذكرهم الذي أخذ عليهم من الميثاق ، فمنهم من صدّق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم واتبعه ، ومنهم من كفر.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١))

أخبر الله سبحانه عن هذه الطائفة التي آمنت ثم كفرت ، ثم آمنت ثم كفرت ، ثم ازدادت كفرا بعد ذلك كله : أنه لم يكن الله سبحانه ليغفر لهم ذنوبهم ، ولا ليهديهم سبيلا يتوصلون به إلى الحق ، ويسلكونه إلى الخير ، لأنه يبعد منهم كل البعد أن يخلصوا لله ، ويؤمنوا إيمانا صحيحا ، فإن هذا الاضطراب منهم ـ تارة يدّعون أنهم مؤمنون وتارة يمرقون من الإيمان ويرجعون إلى ما هو دأبهم وشأنهم من الكفر المستمرّ والجحود الدائم ـ يدلّ أبلغ دلالة على أنهم متلاعبون بالدين ، ليست لهم نية صحيحة ، ولا قصد خالص. قيل : المراد بهؤلاء : اليهود ، فإنهم آمنوا بموسى ثم كفروا بعزير ، ثم آمنوا بعزير ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقيل : آمنوا بموسى ، ثم كفروا به بعبادتهم العجل ، ثم آمنوا به عند عوده إليهم ، ثم كفروا بعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمراد بالآية : أنهم ازدادوا كفرا ، واستمروا على ذلك ، كما هو الظاهر من حالهم ، وإلا فالكافر إذا آمن وأخلص إيمانه وأقلع عن الكفر فقد هداه الله السبيل الموجب للمغفرة ، والإسلام يجبّ ما قبله ، ولكن لما كان هذا مستبعدا منهم جدا ؛ كان غفران ذنوبهم وهدايتهم إلى سبيل الحق مستبعدا. قوله : (بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) إطلاق البشارة على ما هو شرّ خالص لهم تهكم بهم ، وقد مرّ تحقيقه. وقوله : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) وصف للمنافقين ، أو منصوب على الذم ، أي : يجعلون الكفار أولياء لهم ، يوالونهم على كفرهم ، ويمالئونهم على ضلالهم. وقوله : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) في محل نصب على الحال ، أي : يوالون الكافرين متجاوزين ولاية المؤمنين (أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ) هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ ، والجملة معترضة. قوله : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) هذه الجملة تعليل لما تقدّم من توبيخهم بابتغاء العزّة عند الكافرين ، وجميع أنواع العزّة وأفرادها مختص بالله سبحانه ، وما كان منها مع غيره فهو من فيضه وتفضله كما في قوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (١) والعزة : الغلبة ، يقال : عزّة يعزّه عزّا : إذا غلبه (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ) الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من مؤمن ومنافق ،

__________________

(١). المنافقون : ٨.

٦٠٦

لأن من أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل ما أنزله الله ؛ وقيل : إنه خطاب للمنافقين فقط ، كما يفيده التشديد والتوبيخ. وقرأ عاصم ويعقوب : (نَزَّلَ) بفتح النون والزاي وتشديدها ، وفاعله ضمير راجع إلى اسم الله تعالى في قوله : (فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً). وقرأ حميد : بتخفيف الزاي مفتوحة مع فتح النون ، وقرأ الباقون : بضم النون مع كسر الزاي مشدّدة على البناء للمجهول. وقوله : (أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ) في محل نصب على القراءة الأولى على أنه مفعول نزل ، وفي محل رفع على القراءة الثانية على أنه فاعل ، وفي محل رفع على أنه مفعول ما لم يسمّ فاعله على القراءة الثالثة. وأن هي المخففة من الثقيلة ، والتقدير أنه إذا سمعتم آيات الله. (فِي الْكِتابِ) : هو القرآن. وقوله : (يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها) حالان ، أي : إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله ، فأوقع السماع على الآيات. والمراد : سماع الكفر والاستهزاء. وقوله : (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) أي : أنزل عليكم في الكتاب أنكم عند هذا السماع والاستهزاء بآيات الله لا تعقدوا معهم ما داموا كذلك ، حتى يخوضوا في حديث غير حديث الكفر والاستهزاء بها. والذي أنزله الله عليهم في الكتاب هو قوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (١) وقد كان جماعة من الداخلين في الإسلام يقعدون مع المشركين واليهود حال سخريتهم بالقرآن واستهزائهم به ، فنهوا عن ذلك.

وفي هذه الآية ـ باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب ـ دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية ، كما يقع كثيرا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة ، ولم يبق في أيديهم سوى : قال إمام مذهبنا كذا ، وقال فلان من أتباعه : بكذا ، وإذا سمعوا من يستدلّ على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منه ، ولم يرفعوا إلى ما قاله رأسا ، ولا بالوا به بالة ، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع ، وخطب شنيع ، وخالف مذهب إمامهم الذي نزلوه منزلة معلم الشرائع ، بل بالغوا في ذلك حتى جعلوا رأيه الفائل (٢) ، واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل ، مقدّما على الله وعلى كتابه وعلى رسوله ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ما صنعت هذه المذاهب بأهلها ، والأئمة الذين انتسب هؤلاء المقلدة إليهم برآء من فعلهم ، فإنهم قد صرّحوا في مؤلفاتهم بالنهي عن تقليدهم كما أوضحنا ذلك في رسالتنا المسماة ب [القول المفيد في حكم التقليد] وفي مؤلفنا المسمى ب [أدب الطلب ومنتهى الأرب] اللهم انفعنا بما علمتنا ، واجعلنا من المقتدين بالكتاب والسنة ، وباعد بيننا وبين آراء الرجال المبنية على شفا جرف هار ، يا مجيب السائلين!

قوله : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) تعليل للنهي ، أي : إنكم إن فعلتم ذلك ولم تنتهوا فأنتم مثلهم في الكفر. قيل : وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات ، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر كما في قول القائل :

وكلّ قرين بالمقارن يقتدي (٣)

__________________

(١). الأنعام : ٦٨.

(٢). الفائل : رجل فائل الرأي ؛ أي : ضعيفه.

(٣). وصدر البيت : عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه.

٦٠٧

وهذه الآية محكمة عند جميع أهل العلم ، إلا ما يروى عن الكلبي ، فإنه قال : هي منسوخة بقوله تعالى : (وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) (١) وهو مردود ، فإن من التقوى اجتناب مجالس هؤلاء الذين يكفرون بآيات الله ويستهزئون بها. قوله : (إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) هذا تعليل لكونهم مثلهم في الكفر ، قيل : وهم القاعدون والمقعود إليهم عند من جعل الخطاب موجها إلى المنافقين. قوله : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) أي : ينتظرون بكم ما يتجدد ويحدث لكم من خير أو شرّ ، والموصول : في محل نصب على أنه صفة للمنافقين ، أو بدل منهم فقط دون الكافرين لأن التربص المذكور هو من المنافقين دون الكافرين ، ويجوز أن يكون في محل نصب على الذم ، (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) هذه الجملة والجملة التي بعدها حكاية لتربصهم ، أي : إن حصل لكم فتح من الله بالنصر على من يخالفكم من الكفار (قالُوا) لكم : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) في الاتصاف بظاهر الإسلام ، والتزام أحكامه ، والمظاهرة والتسويد وتكثير العدد؟ (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) من الغلب لكم والظفر بكم (قالُوا) للكافرين : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) أي : ألم نقهركم ونغلبكم ونتمكن منكم ولكن أبقينا عليكم؟ وقيل المعنى : إنهم قالوا للكفار الذين ظفروا بالمسلمين : ألم نستحوذ عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم؟ والأوّل أولى ، فإن معنى الاستحواذ : الغلب ، يقال : استحوذ على كذا ، أي : غلب عليه ، ومنه قوله تعالى : (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ) (٢) ولا يصح أن يقال : ألم نغلبكم حتى هابكم المسلمون؟ ولكن المعنى : ألم نغلبكم يا معشر الكافرين ، ونتمكن منكم ، فتركناكم وأبقينا عليكم حتى حصل لكم هذا الظفر بالمسلمين؟ (وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) بتخذيلهم وتثبيطهم عنكم ، حتى ضعفت قلوبهم عن الدفع لكم ، وعجزوا عن الانتصاف منكم ؛ والمراد : أنهم يميلون مع من له الغلب والظفر من الطائفتين ، ويظهرون لهم أنهم كانوا معهم على الطائفة المغلوبة ، وهذا شأن المنافقين أبعدهم الله ، وشأن من حذا حذوهم من أهل الإسلام من التظهر لكل طائفة بأنه معها على الأخرى ، والميل إلى من معه الحظ في الدنيا في مال أو جاه ، فيلقاه بالتملق والتودد والخضوع والذلة ، ويلقى من لا حظ له من الدنيا بالشدّة والغلظة وسوء الخلق ، ويزدري به ويكافحه بكل مكروه ، فقبح الله أخلاق أهل النفاق وأبعدها. قوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بما انطوت عليه ضمائرهم من النفاق والبغض للحق وأهله ، ففي هذا اليوم تنكشف الحقائق ، وتظهر الضمائر ، وإن حقنوا في الدنيا دماءهم ، وحفظوا أموالهم بالتكلم بكلمة الإسلام نفاقا (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) ، هذا في يوم القيامة إذا كان المراد بالسبيل النصر والغلب ، أو في الدنيا إن كان المراد به الحجة. قال ابن عطية : قال جميع أهل التأويل : إن المراد بذلك : يوم القيامة. قال ابن العربي : وهذا ضعيف لعدم فائدة الخبر فيه ، وسببه توهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوّله ، يعني قوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وذلك يسقط فائدته ، إذ يكون تكرارا ، هذا معنى كلامه ، وقيل : المعنى : إن الله لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين يمحو به دولتهم ، ويذهب آثارهم ، ويستبيح ببضتهم ، كما يفيده الحديث الثابت في الصحيح : «وأن لا أسلّط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها ، حتّى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي

__________________

(١). الأنعام : ٦٩.

(٢). المجادلة : ١٩.

٦٠٨

بعضهم بعضا» وقيل : إنه سبحانه لا يجعل للكافرين سبيلا على المؤمنين ما داموا عاملين بالحق غير راضين بالباطل ولا تاركين للنهي عن المنكر كما قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (١) قال ابن العربي : وهذا نفيس جدا ؛ وقيل : إن الله لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا ، فإن وجد فبخلاف الشرع. هذا خلاصة ما قاله أهل العلم في هذه الآية ، وهي صالحة للاحتجاج بها على كثير من المسائل.

وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) الآية ، قال : هم اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت ، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عنه في الآية قال : هؤلاء اليهود آمنوا بالتوراة ثم كفروا ، ثم ذكر النصارى فقال : (ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) يقول : آمنوا بالإنجيل ثم كفروا ، (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال : هؤلاء المنافقون آمنوا مرتين ، ثم كفروا مرتين ، ثم ازدادوا كفرا بعد ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) قال : تموا على كفرهم حتى ماتوا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن أبي وائل قال : إن الرجل ليتكلم في المجلس بالكلمة من الكذب ليضحك بها جلساءه فيسخط الله عليهم جميعا ، فذكروا ذلك لإبراهيم النخعي ، فقال : صدق أبو وائل ، أو ليس ذلك في كتاب الله؟ (فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ). وأخرج ابن المنذر عن مجاهد قال : أنزل في سورة الأنعام : (حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ) (٢) ثم نزل التشديد في سورة النساء : (إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ). وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير : أن الله جامع المنافقين من أهل المدينة والكافرين من أهل مكة الذين خاضوا واستهزءوا بالقرآن في جهنم جميعا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد : (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ) قال : هم المنافقون يتربصون بالمؤمنين (فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ) إن أصاب المسلمين من عدوّهم غنيمة قال المنافقون : (أَلَمْ نَكُنْ) قد كنا (مَعَكُمْ) فأعطونا من الغنيمة مثل ما تأخذون (وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ) يصيبونه من المسلمين قال المنافقون للكفار : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) ألم نبين لكم أنا على ما أنتم عليه ، قد كنا نثبطهم عنكم. وأخرج ابن جرير عن السدّي : (أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ) قال : نغلب عليكم. وأخرج عبد الرزاق ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، ابن المنذر ، والبيهقي في الشعب ، والحاكم ، وصححه عن عليّ أنه قيل له : أرأيت هذه الآية (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون ، فقال : ادنه ادنه ، ثم قال : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً). وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال : في الآخرة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن أبي مالك نحوه أيضا ـ وأخرج ابن جرير عن السدّيّ (سَبِيلاً) قال : حجة.

(إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً

__________________

(١). الشورى : ٣٠.

(٢). الأنعام : ٦٨.

٦٠٩

(١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧))

قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) هذا كلام مبتدأ يتضمن بيان بعض قبائح المنافقين وفضائحهم ، وقد تقدّم معنى الخدع في البقرة ، ومخادعتهم لله هي : أنهم يفعلون فعل المخادع من إظهار الإيمان وإبطال الكفر ، ومعنى كون الله خادعهم : أنه صنع بهم صنع من يخادع من خادعه ، وذلك أنه تركهم على ما هم عليه من التظهر بالإسلام في الدنيا ، فعصم به أموالهم ودماءهم ، وأخر عقوبتهم إلى الدار الآخرة ، فجازاهم على خداعهم بالدرك الأسفل من النار. قال في الكشاف : والخادع اسم فاعل من : خادعته فخدعته ، إذا غلبته وكنت أخدع منه. والكسالى بضم الكاف : جمع كسلان ، وقرئ بفتحها ، والمراد : أنهم يصلون وهم متكاسلون متثاقلون ، لا يرجون ثوابا ، ولا يخافون عقابا. والرياء : إظهار الجميل ليراه الناس ، لا لاتباع أمر الله ، وقد تقدّم بيانه ، والمراءاة المفاعلة. قوله : (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) معطوف على يراءون ، أي : لا يذكرونه سبحانه إلا ذكرا قليلا ، أو لا يصلون إلا صلاة قليلة ، ووصف الذكر بالقلة لعدم الإخلاص ، أو لكونه غير مقبول ، أو لكونه قليلا في نفسه ، لأن الذي يفعل الطاعة لقصد الرياء ، إنما يفعلها في المجامع ولا يفعلها خاليا كالمخلص. قوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) المذبذب : المتردد بين أمرين ، والذبذبة الاضطراب ، يقال : ذبذبه فتذبذب ، ومنه قول النابغة :

ألم تر أنّ الله أعطاك سورة

ترى كلّ ملك دونها يتذبذب

قال ابن جني : المذبذب القلق الذي لا يثبت على حال ، فهؤلاء المنافقون متردّدون بين المؤمنين والمشركين ، لا مخلصين الإيمان ولا مصرّحين بالكفر. قال في الكشاف : وحقيقة المذبذب : الذي يذبّ عن كلا الجانبين ، أي : يذاد ويدفع فلا يقرّ في جانب واحد ، كما يقال : فلان يرمي به الرحوان ، إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذبّ ؛ كأن المعنى : كلما مال إلى جانب ذبّ عنه. انتهى. وقرأ الجمهور : بضم الميم وفتح الذالين. وقرأ ابن عباس : بكسر الذال الثانية ، وفي حرف أبي : «متذبذبين» ، وقرأ الحسن : بفتح الميم والذالين ، وانتصاب مذبذبين : إما على الحال ، أو على الذمّ ، والإشارة بقوله : بين ذلك : إلى الإيمان والكفر. قوله : (لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) أي : لا منسوبين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين ، ومحل الجملة : النصب على الحال ، أو على البدل من مذبذبين ، أو على التفسير له (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ) أي : يخذله ، ويسلبه التوفيق (فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً) أي : طريقا يوصله إلى الحق. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : لا تجعلوهم خاصة لكم ، وبطانة توالونهم من دون إخوانكم من المؤمنين ، كما فعل المنافقون من موالاتهم للكافرين (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) الاستفهام للتقريع والتوبيخ : أي : أتريدون أن تجعلوا لله عليكم حجة بينة يعذبكم بها بسبب ارتكابكم لما نهاكم عنه من موالاة

٦١٠

الكافرين؟ (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) قرأ الكوفيون : الدرك بسكون الراء ، وقرأ غيرهم : بتحريكها. قال أبو علي : هما لغتان ، والجمع : أدراك ؛ وقيل : جمع المحرك : أدراك ، مثل : جمل وأجمال ، وجمع الساكن : أدرك ، مثل : فلس وأفلس. قال النحاس : والتحريك أفصح. والدرك : الطبقة. والنار دركات سبع ، فالمنافق في الدرك الأسفل منها ، وهي الهاوية ، لغلظ كفره وكثرة غوائله ، وأعلى الدركات : جهنم ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية. وقد تسمى جميعها باسم الطبقة العليا ، أعاذنا الله من عذابها (وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً) يخلصهم من ذلك الدرك ، والخطاب لكل من يصلح له ، أو للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء من المنافقين ، أي : إلا الذين تابوا عن النفاق (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوا من أحوالهم (وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) أي : جعلوه خالصا له غير مشوب بطاعة غيره. والاعتصام بالله : التمسك به والوثوق بوعده ، والإشارة بقوله : (فَأُولئِكَ) إلى الذين تابوا واتصفوا بالصفات السابقة. قوله : (مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) قال الفراء : أي من المؤمنين يعني الذين لم يصدر منهم نفاق أصلا. قال القتبي : حاد عن كلامهم غضبا عليهم فقال : (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) ولم يقل : هم المؤمنون. انتهى. والظاهر أن معنى : مع ، معتبر هنا ، أي : فأولئك مصاحبون للمؤمنين في أحكام الدنيا والآخرة. ثم بين ما أعدّ الله للمؤمنين الذين هؤلاء معهم فقال : (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) وحذفت الياء من يؤت في الخط كما حذفت في اللفظ : لسكونها وسكون اللام بعدها ، ومثله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) (١) و (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) (٢) و (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ) (٣) ونحوها ، فإن الحذف في الجميع لالتقاء الساكنين. قوله : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) هذه الجملة متضمنة لبيان : أنه لا غرض له سبحانه في التعذيب إلا مجرّد المجازاة للعصاة. والمعنى : أيّ منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم؟ فإن ذلك لا يزيد في ملكه ، كما أن ترك عذابكم لا ينقص من سلطانه (وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) أي : يشكر عباده على طاعته ، فيثيبهم عليها ، ويتقبلها منهم. والشكر في اللغة : الظهور ، يقال دابة شكور : إذا ظهر من سمنها فوق ما تعطى من العلف.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن الحسن في قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) الآية ، قال : يلقى على مؤمن ومنافق نور يمشون به يوم القيامة ، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طفئ نور المنافقين ، ومضى المؤمنون بنورهم ، فتلك خديعة الله إياهم. وأخرج ابن جرير عن السدّي نحوه. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد وسعيد بن جبير نحوه أيضا ، ولا أدري من أين جاء لهم هذا التفسير ، فإن مثله لا ينقل إلا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج في الآية قال : نزلت في عبد الله بن أبيّ وأبي عامر بن النعمان. وقد ورد في الأحاديث الصحيحة وصف صلاة المنافق ، وأنه يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ) قال : هم المنافقون (لا إِلى هؤُلاءِ) يقول : لا إلى أصحاب محمد (وَلا إِلى هؤُلاءِ) اليهود ، وثبت في الصحيح عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ مثل المنافق مثل الشاة العائرة (٤) بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرّة ، فلا تدري

__________________

(١). القمر : ٦.

(٢). العلق : ١٨.

(٣). ق : ٤١.

(٤). العائرة : المترددة بين قطيعين.

٦١١

أيّهما تتبع؟». وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) قال : إن لله السلطان على خلقه ولكنه يقول : عذرا مبينا. وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والفريابي ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : «كل سلطان في القرآن فهو حجة» والله سبحانه أعلم. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن مسعود في قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) قال : في توابيت من حديد مقفلة عليهم ، وفي لفظ : مبهمة عليهم ، أي : مغلقة لا يهتدى لمكان فتحها. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه. وأخرج ابن أبي الدنيا عن ابن مسعود نحوه أيضا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ) الآية ، قال : إن الله لا يعذّب شاكرا ولا مؤمنا.

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))

نفي الحبّ كناية عن البغض ، وقراءة الجمهور : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للمجهول. وقرأ زيد بن أسلم ، وابن أبي إسحاق ، والضحاك ، وابن عباس ، وابن جبير ، وعطاء بن السائب : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) على البناء للمعلوم ، وهو على القراءة الأولى : استثناء متصل ، بتقدير مضاف محذوف ، أي : إلا جهر من ظلم ؛ وقيل : إنه على القراءة الأولى أيضا منقطع ، أي : لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان. واختلف أهل العلم : في كيفية الجهر بالسوء الذي يجوز لمن ظلم ، فقيل : هو أن يدعو على من ظلمه ؛ وقيل : لا بأس أن يجهر بالسوء من القول على من ظلمه بأن يقول : فلان ظلمني ، أو هو ظالم ، أو نحو ذلك ؛ وقيل : معناه : إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول من كفر أو نحوه ، فهو مباح له ، والآية على هذا في الإكراه ، وكذا قال قطرب ، قال : ويجوز أن يكون على البدل ، كأنه قال لا يحبّ الله إلا من ظلم : أي لا يحبّ الظالم بل يحبّ المظلوم. والظاهر من الآية : أنه يجوز لمن ظلم أن يتكلم بالكلام الذي هو من السوء في جانب من ظلمه ، ويؤيده الحديث الثابت في الصحيح بلفظ : «ليّ الواجد ظلم يحلّ عرضه وعقوبته» ، وأما على القراءة الثانية : فالاستثناء منقطع ، أي : إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول في معنى النهي عن فعله ، والتوبيخ له. وقال قوم : معنى الكلام : لا يحبّ الله أن يجهر أحد بالسوء من القول ، لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك ، وهذا شأن كثير من الظلمة ، فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم على من ظلموه وينالون من عرضه. وقال الزجاج : يجوز أن يكون المعنى إلا من ظلم فقال سوءا ، فإنه ينبغي أن يأخذوا على يديه ، ويكون استثناء ليس من الأوّل. (وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) هذا تحذير للظالم بأن الله يسمع ما يصدر منه ويعلم به ، ثم بعد أن أباح للمظلوم أن يجهر بالسوء ندب إلى ما هو الأولى والأفضل فقال : (إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ) تصابون به (فَإِنَّ اللهَ كانَ

٦١٢

عَفُوًّا) عن عباده (قَدِيراً) على الانتقام منهم بما كسبت أيديهم ، فاقتدوا به سبحانه ، فإنه يعفو مع القدرة.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) قال : لا يحبّ الله أن يدعو أحد على أحد إلا أن يكون مظلوما ، فإنه رخص له أن يدعو على من ظلمه ، وإن يصبر فهو خير له. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في الآية قال : نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاة من الأرض فلم يضفه ، ثم ذكر أنه لم يضفه ، لم يزد على ذلك. وأخرج ابن المنذر عن إسماعيل : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) قال : كان الضحاك ابن مزاحم يقول : هذا على التقديم والتأخير ، يقول الله : ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم إلا من ظلم ، وكان يقرؤها كذلك ، ثم قال : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) أي : على كل حال ، هكذا قال ، وهو قريب من التحريف لمعنى الآية. وقد أخرج ابن أبي شيبة ، والترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من دعا على من ظلمه فقد انتصر». وروى نحوه أبو داود عنها من وجه آخر. وقد أخرج أبو داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المستبّان ما قالا ، فعلى البادئ منهما ما لم يعتد المظلوم».

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))

لما فرغ من ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى ، لأنهم كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان ذلك كالكفر بجميع الرسل والكتب المنزلة ، والكفر بذلك كفر بالله ، وينبغي حمل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ) على أنه استلزم ذلك كفرهم ببعض الكتب والرسل ، لا أنهم كفروا بالله ورسله جميعا ، فإن أهل الكتاب لم يكفروا بالله ولا بجميع رسله ، لكنهم لما كفروا بالبعض كان ذلك كفر بالله وبجميع الرسل. ومعنى : (وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ) أنهم كفروا بالرسل بسبب كفرهم ببعضهم وآمنوا بالله ، فكان ذلك تفريقا بين الله وبين رسله (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ) هم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد ، وكذلك النصارى آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد (وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) أي : يتخذوا بين الإيمان والكفر دينا متوسطا بينهما ، فالإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى قوله نؤمن ونكفر (أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) أي : الكاملون في الكفر. وقوله : (حَقًّا) مصدر مؤكد لمضمون الجملة ، أي : حق ذلك حقا ، أو هو صفة الكافرين ، أي : كفرا حقا. قوله : (وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) بأن يقولوا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، ودخول بين على أحد لكونه عاما في المفرد مذكرا ومؤنثا ومثناهما وجمعهما. وقد تقدّم تحقيقه. والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى الذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرّقوا بين أحد منهم.

٦١٣

وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة في الآية ، قال : (أُولئِكَ) أعداء الله اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بالتوراة وموسى وكفروا بالإنجيل وعيسى ، وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى وكفروا بالقرآن ومحمد ، اتخذوا اليهودية والنصرانية وهما بدعتان ليستا من الله وتركوا الإسلام ، وهو دين الله الذي بعث به رسله. وأخرج ابن جرير عن السدّي وابن جريج نحوه.

(يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ ۚ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّـهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ۚ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَٰلِكَ ۚ وَآتَيْنَا مُوسَىٰ سُلْطَانًا مُّبِينًا (١٥٣) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا (١٥٤) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّـهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ ۚ بَلْ طَبَعَ اللَّـهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَىٰ مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّـهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ ۚ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ۚ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ ۚ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (١٥٧) بَل رَّفَعَهُ اللَّـهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّـهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (١٥٨) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (١٥٩))

قوله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) هم اليهود ، سألوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرقى إلى السماء وهم يرونه ، فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدّعيه ، يدل على صدقه دفعة واحدة ، كما أتى موسى التوراة ، تعنتا منهم ، أبعدهم الله ، فأخبره الله عزوجل بأنهم قد سألوا موسى سؤالا أكبر من هذا السؤال ، فقالوا : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) أي : عيانا ، وقد تقدّم معناه في البقرة ، وجهرة : نعت لمصدر محذوف ، أي : رؤية جهرة. وقوله : (فَقَدْ سَأَلُوا) جواب شرط مقدر ، أي : إن استكبرت هذا السؤال منهم لك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك. قوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ) هي : النار التي نزلت عليهم من السماء فأهلكتهم ، والباء في قوله : (بِظُلْمِهِمْ) للسببية ، أي : بسبب ظلمهم في سؤالهم الباطل ، لامتناع الرؤية عيانا في هذه الحالة ، وذلك لا يستلزم امتناعها يوم القيامة ، فقد جاءت بذلك الأحاديث المتواترة. ومن استدل بهذه الآية على امتناع الرؤية يوم القيامة فقد غلط غلطا بينا ؛ ثم لم يكتفوا بهذا السؤال الباطل الذي نشأ منهم بسبب ظلمهم بعد ما رأوا المعجزات ، بل ضموا إليه ما هو أقبح منه ، وهو عبادة العجل. وفي الكلام حذف والتقدير : فأحييناهم فاتخذوا العجل. والبينات : البراهين والدلائل ، والمعجزات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها (فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) أي : عما كان منهم من التعنت وعبادة العجل (وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) أي : حجة بينة ، وهي : الآيات التي جاء بها ، وسميت : سلطانا ، لأن من جاء بها قهر خصمه ، ومن ذلك أمر الله سبحانه له بأن يأمرهم بقتل أنفسهم توبة عن معصيتهم ، فإنه من جملة السلطان الذي قهرهم به (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) أي : بسبب ميثاقهم ليعطوه ، لأنه روي أنهم امتنعوا من قبول شريعة موسى فرفع الله عليهم الطور فقبلوها ؛

٦١٤

وقيل : إن المعنى بسبب نقضهم ميثاقهم الذي أخذ منهم ، وهو العمل بما في التوراة ، وقد تقدّم رفع الجبل في البقرة ، وكذلك تفسير دخولهم الباب سجدا (وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) فتأخذوا ما أمرتم بتركه فيه من الحيتان ، وقد تقدّم تفسير ذلك ، وقرئ : لا تعتدوا ، وتعدّوا ، بفتح العين وتشديد الدال (وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) مؤكدا ، وهو العهد الذي أخذه عليهم في التوراة ؛ وقيل : إنه عهد مؤكد باليمين ، فسمي غليظا لذلك. قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) ما : مزيدة للتوكيد ، أو نكرة ، ونقضهم : بدل منها ، والباء : متعلقة بمحذوف ، والتقدير : فبنقضهم ميثاقهم لعناهم. وقال الكسائي : هو متعلق بما قبله ، والمعنى : فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إلى قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) قال : ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة بسببه بما بعده من نقضهم ميثاقهم وقتلهم الأنبياء وما بعده. وأنكر ذلك ابن جرير الطبري وغيره ، لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى ، والذين قتلوا الأنبياء ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان ، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برمتهم بالبهتان. قال المهدوي وغيره : وهذا لا يلزم لأنه يجوز أن يخبر عنهم ، والمراد آباؤهم ، وقال الزجاج : المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، لأن هذه القصة ممتدة إلى قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) ونقضهم الميثاق : أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقيل المعنى : فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم ؛ وقيل المعنى : فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلا ، والفاء في قوله : (فَلا يُؤْمِنُونَ) مقحمة. قوله : (وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ) معطوف على ما قبله ، وكذا قوله : (وَقَتْلِهِمُ) ، والمراد بآيات الله : كتبهم التي حرّفوها ، والمراد بالأنبياء الذين قتلوهم : يحيى وزكرياء. وغلف : جمع أغلف ، وهو المغطى بالغلاف ، أي : قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول. وقيل : إن غلف : جمع غلاف ، والمعنى : أن قلوبهم أوعية للعلم ، فلا حاجة لهم إلى علم غير ما قد حوته قلوبهم ، وهو كقولهم : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) (١) وغرضهم بهذا ردّ حجة الرسل. قوله : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) هذه الجملة اعتراضية ؛ أي : ليس عدم قبولهم للحق بسبب كونها غلفا بحسب مقصدهم الذي يريدونه ، بل بحسب الطبع من الله عليها. والطبع : الختم ، وقد تقدم إيضاح معناه في البقرة ، وقوله : (فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي : هي مطبوع عليها من الله بسبب كفرهم فلا يؤمنون إلا إيمانا قليلا ، أو إلا قليلا منهم : كعبد الله بن سلام ومن أسلم معه منهم ، وقوله : (وَبِكُفْرِهِمْ) معطوف على قولهم ، وإعادة الجار : لوقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، وهذا التكرير لإفادة أنهم كفروا كفرا بعد كفر ؛ وقيل : إن المراد بهذا الكفر : كفرهم بالمسيح ، فحذف لدلالة ما بعده عليه. قوله : (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) هو رميها بيوسف النجار ، وكان من الصالحين. والبهتان : الكذب المفرط الذي يتعجب منه. قوله : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) معطوف على ما قبله ، وهو من جملة جناياتهم وذنوبهم ، لأنهم كذبوا بأنهم قتلوه ، وافتخروا بقتله ، وذكروه بالرسالة استهزاء ، لأنهم ينكرونها ولا يعترفون بأنه نبيّ ، وما ادّعوه من أنهم قتلوه قد اشتمل على بيان صفته وإيضاح حقيقته الإنجيل ، وما فيه هو من تحريف النصارى ، أبعدهم الله ، فقد كذبوا ، وصدق الله القائل في كتابه العزيز : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ) والجملة

__________________

(١). فصلت : ٥.

٦١٥

حالية : أي : قالوا ذلك والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه (وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) أي : ألقي شبهه على غيره ؛ وقيل : لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي : في شأن عيسى ، فقال بعضهم : قتلناه ، وقال من عاين رفعه إلى السماء : ما قتلناه ؛ وقيل : إن الاختلاف بينهم هو : أن النسطورية من النصارى قالوا : صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته ، وقالت الملكانية : وقع القتل والصلب على المسيح بكماله ناسوته ولا هوته ، ولهم من جنس هذا الاختلاف كلام طويل لا أصل له ، ولهذا قال الله : (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ) أي : في تردّد لا يخرج إلى حيز الصحة ، ولا إلى حيز البطلان في اعتقادهم ، بل هم مترددون مرتابون في شكهم يعمهون ، وفي جهلهم يتحيرون ، و (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) من : زائدة لتوكيد نفي العلم ، والاستثناء منقطع ، أي : لكنهم يتبعون الظن ؛ وقيل : هو بدل مما قبله. والأوّل أولى. لا يقال : إن اتباع الظنّ ينافي الشكّ الذي أخبر الله عنهم بأنهم فيه ، لأن المراد هنا بالشك : التردد ، كما قدمنا ، والظنّ نوع منه ، وليس المراد به هنا : ترجح أحد الجانبين. قوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) أي : قتلا يقينا ، على أنه صفة مصدر محذوف ، أو متيقنين ، على أنه حال ، وهذا على أن الضمير في قتلوه لعيسى ؛ وقيل : إنه يعود إلى الظن ، والمعنى : ما قتلوا ظنهم يقينا ، كقولك : قتلته علما ، إذا علمته علما تاما. قال أبو عبيدة : ولو كان المعنى : وما قتلوا عيسى يقينا ، لقال : وما قتلوه فقط ؛ وقيل : المعنى : وما قتلوا الذي شبه لهم ؛ وقيل : المعنى : بل رفعه إليه يقينا ، وهو خطأ ، لأنه لا يعمل ما بعد بل فيما قبلها. وأجاز ابن الأنباري : نصب يقينا بفعل مضمر هو جواب قسم ، ويكون (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) كلاما مستأنفا ، ولا وجه لهذه الأقوال ، والضمائر قبل قتلوه وبعده لعيسى ، وذكر اليقين هنا : لقصد التهكم بهم ، لإشعاره بعلمهم في الجملة. قوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) ردّ عليهم وإثبات لما هو الصحيح ، وقد تقدم ذكر رفعه عليه‌السلام في آل عمران. قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) المراد بأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، والمعنى : وما من أهل الكتاب أحد إلا والله ليؤمننّ به قبل موته ، والضمير في به : راجع إلى عيسى ، والضمير في موته : راجع إلى ما دلّ عليه الكلام ، وهو لفظ أحد المقدّر ، أو الكتابي المدلول عليه بأهل الكتاب ، وفيه دليل : على أنه لا يموت يهوديّ أو نصرانيّ إلا وقد آمن بالمسيح ؛ وقيل : كلا الضميرين لعيسى ، والمعنى : أنه لا يموت عيسى حتى يؤمن به كل كتابيّ في عصره ؛ وقيل : الضمير الأوّل لله ؛ وقيل : إلى محمد ، وقد اختار كون الضميرين لعيسى ابن جرير ، وقال به جماعة من السلف ، وهو الظاهر ، والمراد : الإيمان به عند نزوله في آخر الزمان ، كما وردت بذلك الأحاديث المتواترة (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ) عيسى على أهل الكتاب (شَهِيداً) يشهد على اليهود بالتكذيب له ، وعلى النصارى بالغلوّ فيه حتى قالوا هو ابن الله.

وقد أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : جاء ناس من اليهود إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : إن موسى جاء بالألواح من عند الله ، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدقك ، فأنزل الله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) إلى (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً). وأخرج ابن جرير ،

٦١٦

وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال : إن اليهود والنصارى قالوا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان أنك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى فلان أنك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) قال : إنهم إذا رأوه فقد رأوه ، وإنما قالوا : جهرة أرنا الله قال : هو مقدم ومؤخر. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ) قال : جبل كانوا في أصله فرفعه الله ، فجعله فوقهم كأنه ظلة ، فقال : لتأخذن أمري أو لأرمينكم به ، فقالوا : نأخذه ، فأمسكه الله عنهم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) قال : رموها بالزنا. وأخرج سعيد بن منصور والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء ؛ خرج إلى أصحابه ؛ وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين ، فخرج عليهم من عين في البيت ورأسه يقطر ماء ، فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي ، ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي ؛ فيقتل مكاني ؛ ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال له : اجلس ، ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب ؛ فقال : أجلس ، ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب ؛ فقال : أنا ، فقال : أنت ذاك ، فألقي عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى من روزنة (١) في البيت إلى السماء ؛ قال : وجاء الطلب من اليهود ، فأخذوا الشبه ، فقتلوه ، ثم صلبوه ، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به وافترقوا ثلاث فرق ، فقالت طائفة : كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء ، فهؤلاء اليعقوبية ؛ وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه ، وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ، وهؤلاء المسلمون ، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا ، فأنزل الله عليه : (فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) يعني : الطائفة التي آمنت في زمن عيسى (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) يعني : التي كفرت في زمن عيسى (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) (٢) في زمن عيسى بإظهار محمد دينهم على دين الكافرين. قال ابن كثير بعد أن ساقه بهذا اللفظ عن ابن أبي حاتم قال : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس فذكره ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس ، وصدق ابن كثير ، فهؤلاء كلهم من رجال الصحيح. وأخرجه النسائي من حديث أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه. وقد رويت قصته عليه‌السلام من طرق بألفاظ مختلفة ، وساقها عبد بن حميد ، وابن جرير عن وهب بن منبه على صفة قريبة مما في الإنجيل ، وكذلك ساقها ابن المنذر عنه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) قال : لم يقتلوا ظنهم يقينا. وأخرج ابن المنذر عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن جويبر والسدّي مثله أيضا. وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد ، والحاكم ، وصححه عن ابن عباس في قوله : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) قال : خروج عيسى ابن مريم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طرق عنه في الآية قال : قبل موت عيسى. وأخرجا عنه أيضا قال : قبل موت اليهودي. وأخرج ابن جرير عنه قال : إنه سيدرك أناس من أهل الكتاب عيسى حين يبعث سيؤمنون به. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن

__________________

(١). روزنة : كوّة ، أو خرق في السقف.

(٢). الصف : ١٤.

٦١٧

جرير ، وابن المنذر عنه قال : «ليس يهوديّ يموت أبدا حتى يؤمن بعيسى ؛ قيل لابن عباس : أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال يتكلم به في الهواء ؛ فقيل أرأيت إن ضرب عنق أحدهم؟ قال : يتلجلج بها لسانه». وقد روي نحو هذا عنه من طرق ، وقال به جماعة من التابعين ، وذهب كثير من التابعين فمن بعدهم إلى أن المراد : قبل موت عيسى كما روي عن ابن عباس قبل هذا ، وقيده كثير منهم : بأنه يؤمن به من أدركه عند نزوله إلى الأرض. وقد تواترت الأحاديث بنزول عيسى حسبما أوضحنا ذلك في مؤلف مستقل يتضمن ذكر ما ورد في المنتظر والدجال والمسيح.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥))

الباء في قوله : (فَبِظُلْمٍ) للسببية ، والتنكير والتنوين للتعظيم ، أي : فبسبب ظلم عظيم حرّمنا عليهم طيبات أحلت لهم ، لا بسبب شي آخر ، كما زعموا أنها كانت محرّمة على من قبلهم. وقال الزجاج : هذا بدل من قوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ). والطيبات المذكورة : هي ما نصه الله سبحانه : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) (١) الآية (وَبِصَدِّهِمْ) أنفسهم وغيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) وهو اتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتحريفهم ، وقتلهم الأنبياء ، وما صدر منهم من الذنوب المعروفة. وقوله : (كَثِيراً) مفعول للفعل المذكور ، أي : بصدّهم ناسا كثيرا ، أو صفة مصدر محذوف ، أي : صدّا كثيرا (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) أي : معاملتهم فيما بينهم بالربا وأكلهم له وهو محرّم عليهم (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) كالرشوة والسحت الذي كانوا يأخذونه. قوله : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) استدراك من قوله : (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أو (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا : إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها ، فنزل : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ) والراسخ : هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه ، والرسوخ : الثبوت. وقد تقدّم الكلام عليه في آل عمران. والمراد : عبد الله بن سلام ، وكعب الأحبار ، ونحوهما. والراسخون : مبتدأ ، ويؤمنون : خبره ، والمؤمنون : معطوف على الراسخون. والمراد بالمؤمنين : إما من آمن من أهل الكتاب ، أو من المهاجرين والأنصار ، أو من الجميع. قوله : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ)

__________________

(١). الأنعام : ١٤٦.

٦١٨

قرأ الحسن ، ومالك بن دينار ، وجماعة : والمقيمون الصّلاة على العطف على ما قبله ، وكذا هو في مصحف ابن مسعود ، واختلف في وجه نصبه على قراءة الجمهور على أقوال : الأوّل : قول سيبويه : أنه نصب على المدح ، أي : وأعني المقيمين. قال سيبويه : هذا باب ما ينتصب على التعظيم ، ومن ذلك : (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) وأنشد :

وكلّ قوم أطاعوا أمر سيّدهم

إلا نميرا أطاعت أمر غاويها

الظّاعنين ولمّا يظعنوا أحدا

والقائلون لمن دار نخلّيها

وأنشد :

لا يبعدنّ قومي الذين هم

سمّ العداة وآفة الجزر

النّازلين بكلّ معترك

والطّيّبون معاقد الأزر

قال النحاس : وهذا أصح ما قيل في المقيمين. وقال الكسائي والخليل : هو معطوف على قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) قال الأخفش : وهذا بعيد لأن المعنى يكون هكذا : ويؤمنون بالمقيمين. ووجهه محمد بن يزيد المبرد : أن المقيمين هنا هم الملائكة ، فيكون المعنى : يؤمنون بما أنزل إليك وبما أنزل من قبلك وبالملائكة ، واختار هذا. وحكى : أن النصب على المدح بعيد ، لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر ، وخبر الرّاسخون هو قوله : (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) وقيل : إن المقيمين معطوف على الضمير في قوله : (مِنْهُمْ) وفيه أنه عطف على مضمر بدون إعادة الخافض. وحكي عن عائشة : أنها سئلت عن المقيمين في هذه الآية وعن قوله تعالى : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) (١) وعن قوله : (وَالصَّابِئُونَ) (٢) في المائدة؟ فقالت : يا ابن أخي! الكتاب أخطئوا. أخرجه عنها أبو عبيد في فضائله ، وسعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر. وقال أبان بن عثمان : كان الكاتب يملي عليه فيكتب فكتب : (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ) ثم قال ما أكتب؟ فقيل له اكتب (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) فمن ثم وقع هذا. وأخرج عنه عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر. قال القشيري : وهذا باطل لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة فلا يظن بهم ذلك. ويجاب عن القشيري : بأنه قد روي عن عثمان بن عفان أنه فرغ من المصحف وأتي به إليه قال : أرى فيه شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنها. أخرجه عنه ابن أبي داود من طرق. وقد رجح قول سيبويه كثير من أئمة النحو والتفسير ، ورجح قول الخليل والكسائي ابن جرير الطبري والقفال ، وعلى قول سيبويه تكون الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر على قول من قال : إن خبر «الرّاسخون» هو قوله : (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ) أو بين المعطوف والمعطوف عليه إن جعلنا خبر «الرّاسخون» هو يؤمنون ، وجعلنا قوله : (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ) عطفا على المؤمنون ، لا على قول سيبويه : أن المؤتون الزكاة مرفوع على الابتداء أو على تقدير مبتدأ محذوف ، أي : هم المؤتون الزكاة. قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) هم مؤمنو أهل الكتاب ، وصفوا أوّلا بالرسوخ في العلم ، ثم بالإيمان بكتب الله ، وأنهم : يقيمون الصلاة ، ويؤتون الزكاة ، ويؤمنون بالله واليوم

__________________

(١). طه : ٦٣.

(٢). المائدة : ٦٩.

٦١٩

الآخر ، وقيل : المراد بهم : المؤمنون من المهاجرين والأنصار كما سلف ، وأنهم جامعون بين هذه الأوصاف ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) إلى الرّاسخون وما عطف عليه. قوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) هذا متصل بقوله : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ) والمعنى : أن أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كأمر من تقدّمه من الأنبياء ، فما بالكم تطلبون منه ما لم يطلبه أحد من المعاصرين للرسل؟ والوحي : إعلام في خفاء ، يقال : وحى إليه بالكلام وحيا ، وأوحى يوحي إيحاء ، وخصّ نوحا لكونه أوّل نبيّ شرعت على لسانه الشرائع ، وقيل : غير ذلك ، والكافر في قوله : (كَما) نعت مصدر محذوف ، أي : إيحاء مثل إيحائنا إلى نوح ، أو حال ، أي : أوحينا إليك هذا الإيحاء حال كونه مشبها بإيحائنا إلى نوح. قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ) معطوف على (أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) وهم أولاد يعقوب كما تقدّم (وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ) خص هؤلاء بالذكر بعد دخولهم في لفظ النبيين تشريفا لهم كقوله : (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ) (١) ، وقدّم عيسى على أيوب ومن بعده مع كونهم في زمان قبل زمانه ، ردا على اليهود الذين كفروا به ، وأيضا فالواو ليست إلا لمطلق الجمع. قوله : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) معطوف على أوحينا. والزبور : كتاب داود. قال القرطبي : وهو مائة وخمسون سورة ، ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام ، وإنما هي حكم ومواعظ. انتهى. قلت : هو مائة وخمسون مزمورا. والمزمور : فصل يشتمل على كلام لداود يستغيث بالله من خصومه ويدعو الله عليهم ويستنصره ، وتارة يأتي بمواعظ ، وكان يقول ذلك في الغالب في الكنيسة ، ويستعمل مع تكلمه بذلك شيئا من الآلات التي لها نغمات حسنة ، كما هو مصرّح بذلك في كثير من تلك المزمورات. والزبر : الكتابة. والزبور بمعنى المزبور ، وقرأ حمزة : (زَبُوراً) بضم الزاي ، جمع زبر كفلس وفلوس ، والزبر بمعنى المزبور ، والأصل في الكلمة : التوثيق ، يقال : بئر مزبورة ، أي : مطوية بالحجارة ، والكتاب سمي زبورا : لقوّة الوثيقة به. قوله : (وَرُسُلاً) منصوب بفعل مضمر يدل عليه (أَوْحَيْنا) أي : وأرسلنا رسلا (قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) وقيل : هو منصوب بفعل دلّ عليه (قَصَصْناهُمْ) أي : وقصصنا رسلا ، ومثله ما أنشده سيبويه :

أصبحت لا أحمل السّلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

والذّئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الرّياح والمطرا

أي : وأخشى الذئب. وقرأ أبيّ : رسل بالرفع على تقدير : ومنهم رسل. ومعنى : (مِنْ قَبْلُ) أنه قصهم عليه من قبل هذه السورة ، أو من قبل هذا اليوم. قيل : إنه لما قصّ الله في كتابه بعض أسماء أنبيائه ولم يذكر أسماء بعض قالت اليهود : ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى ، فنزل : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) وقراءة الجمهور : برفع الاسم الشريف ، على أن الله هو الذي كلم موسى. وقرأ النخعي ، ويحيى بن وثاب : بنصب الاسم الشريف ، على أن موسى هو الذي كلم الله سبحانه و (تَكْلِيماً) مصدر مؤكد. وفائدة التأكيد : دفع توهم كون التكليم مجازا ، كما قال الفراء : إن العرب تسمي ما وصل إلى الإنسان كلاما بأيّ

__________________

(١). البقرة : ٩٨.

٦٢٠