فتح القدير - ج ١

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ١

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

الذاتي ، أعني : كونها قرآنا ؛ والوصفي أعني : الجهر بها عند الجهر بقراءة ما يفتتح بها من السور في الصلاة. ولتنقيح البحث والكلام على أطرافه استدلالا وردّا وتعقبا ودفعا ورواية ودراية ، موضع غير هذا. ومتعلّق الباء محذوف وهو أقرأ أو أتلو لأنه المناسب لما جعلت البسملة مبدأ له ؛ فمن قدّره متقدما كان غرضه الدلالة بتقديمه على الاهتمام بشأن الفعل ، ومن قدّره متأخرا كان غرضه الدلالة بتأخيره على الاختصاص مع ما يحصل في ضمن ذلك من العناية بشأن الاسم ، والإشارة إلى أن البداية به أهمّ لكون التبرك حصل به ، وبهذا يظهر رجحان تقدير الفعل متأخرا في مثل هذا المقام ، ولا يعارضه قوله تعالى (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (١) لأن ذلك المقام مقام القراءة ، فكان الأمر بها أهمّ ، وأما الخلاف بين أئمة النحو في كون المقدر اسما أو فعلا فلا يتعلق بذلك كثير فائدة. والباء للاستعانة أو المصاحبة ، ورجّح الثاني الزمخشري. واسم أصله سمو حذفت لامه ، ولما كان من الأسماء التي بنوا أوائلها على السكون زادوا في أوّله الهمزة إذا نطقوا به لئلا يقع الابتداء بالساكن ، وهو اللفظ الدالّ على المسمى ؛ ومن زعم أن الاسم هو المسمى كما قاله أبو عبيدة وسيبويه والباقلاني وابن فورك ، وحكاه الرازي عن الحشوية والكرامية والأشعرية فقد غلط غلطا بينا ، وجاء بما لا يعقل ، مع عدم ورود ما يوجب المخالفة للعقل لا من الكتاب ولا من السنة ولا من لغة العرب ، بل العلم الضروري حاصل بأن الاسم الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة غير المسمى الذي هو مدلوله ، والبحث مبسوط في علم الكلام. وقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة : «إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة». وقال الله عزوجل : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (٢) وقال تعالى (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى). والله علم لذات الواجب الوجود لم يطلق على غيره ، وأصله إله حذفت الهمزة وعوّضت عنها أداة التعريف فلزمت. وكان قبل الحذف من أسماء الأجناس يقع على كل معبود بحق أو باطل ، ثم غلب على المعبود بحق ، كالنجم والصعق ، فهو قبل الحذف من الأعلام الغالبة ، وبعده من الأعلام المختصة. و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : اسمان مشتقان من الرحمة على طريق المبالغة ، ورحمن أشد مبالغة من رحيم. وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق على هذا ، ولذلك قالوا : رحمن الدنيا والآخرة ، ورحيم الدنيا. وقد تقرّر أن زيادة البناء تدل على زيادة المعنى. وقال ابن الأنباري والزجاج : إن الرحمن عبراني والرحيم عربي وخالفهما غيرهما. والرحمن من الصفات الغالبة لم يستعمل في غير الله عزوجل. وأما قول بني حنيفة في مسيلمة : رحمان اليمامة ، فقال في الكشاف : إنه باب من تعنتهم في كفرهم. قال أبو عليّ الفارسيّ : الرحمن اسم عام في جميع أنواع الرحمة يختص به الله تعالى ، والرحيم إنما هو في جهة المؤمنين ، قال الله تعالى (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (٣) وقد ورد في فضلها أحاديث. منها ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه وابن خزيمة في كتاب البسملة والبيهقي عن ابن عباس قال : استرق الشيطان من الناس أعظم آية من القرآن : بسم الله الرحمن الرحيم. وأخرج نحوه أبو عبيد وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا. وأخرج الدارقطني بسند ضعيف عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان جبريل إذا جاءني بالوحي أوّل ما يلقي عليّ بسم الله الرحمن الرحيم». وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره والحاكم في المستدرك ، وصحّحه البيهقي في شعب الإيمان

__________________

(١). العلق : ١.

(٢). الأعراف : ١٨٠.

(٣). الإسراء : ١١٠.

٢١

عن ابن عباس : أن عثمان بن عفان سأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن بسم الله الرحمن الرحيم فقال : «هو اسم من أسماء الله ، وما بينه وبين اسم الله الأكبر إلّا كما بين سواد العين وبياضها من القرب». وأخرج ابن جرير وابن عديّ في الكامل وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية وابن عساكر في تاريخ دمشق ، والثعلبي بسند ضعيف جدا ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن عيسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكتاب لتعلّمه ، فقال له المعلم : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال له عيسى : وما بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال المعلم : لا أدري ، فقال له عيسى : الباء بهاء الله ، والسين سناه ، والميم مملكته ، والله إله الآلهة ، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة ، والرحيم رحيم الآخرة» وفي إسناده إسماعيل بن يحيى وهو كذّاب. وقد أورد هذا الحديث ابن الجوزي في الموضوعات. وأخرج ابن مردويه والثعلبي عن جابر قال : لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم : هرب الغيم إلى المشرق ، وسكنت الريح ، وهاج البحر ، وأصغت البهائم بآذانها ، ورجمت الشياطين من السماء ، وحلف الله بعزّته وجلاله أن لا تسمّى على شيء إلّا بارك فيه. وأخرج أبو نعيم والديلمي عن عائشة قالت : لما نزلت بسم الله الرحمن الرحيم ، ضجّت الجبال حتى سمع أهل مكة دويها ، فقالوا : سحر محمد الجبال ، فبعث الله دخانا حتى أظلّ على أهل مكة ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم موقنا سبحت معه الجبال إلّا أنه لا يسمع ذلك منها». وأخرج الديلمي عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم كتب الله له بكل حرف أربعة آلاف حسنة ، ومحا عنه أربعة آلاف سيئة ، ورفع له أربعة آلاف درجة». وأخرج الخطيب في الجامع عن أبي جعفر محمد بن عليّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب». وهذه الأحاديث ينبغي البحث عن أسانيدها والكلام عليها بما يتبيّن بعد البحث إن شاء الله. وقد شرعت التسمية في مواطن كثيرة قد بيّنها الشارع منها : عند الوضوء ، وعند الذبيحة ، وعند الأكل ، وعند الجماع ، وغير ذلك.

* * *

٢٢

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد : هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري ، وبقيد الاختياري فارق المدح ، فإنه يكون على الجميل وإن لم يكن الممدوح مختارا ، كمدح الرجل على جماله وقوّته وشجاعته. وقال صاحب الكشاف : إنهما أخوان. والحمد أخصّ من الشكر موردا وأعمّ منه متعلقا. فمورد الحمد اللسان فقط ، ومتعلقه النعمة وغيرها. ومورد الشكر اللسان والجنان والأركان ، ومتعلقه النعمة. وقيل إن مورد الحمد كمورد الشكر ، لأن كل ثناء باللسان لا يكون من صميم القلب مع موافقة الجوارح ليس بحمد بل سخرية واستهزاء. وأجيب بأن اعتبار موافقة القلب والجوارح في الحمد لا يستلزم أن يكون موردا له بل شرطا ـ وفرق بين الشرط والشطر ـ وتعريفه : لاستغراق أفراد الحمد وأنها مختصة بالرّبّ سبحانه على معنى أن حمد غيره لا اعتداد به ، لأن المنعم هو الله عزوجل ، أو على أن حمده هو الفرد الكامل فيكون الحصر ادّعائيا. ورجّح صاحب الكشاف أن التعريف هنا هو تعريف الجنس لا الاستغراق ، والصواب ما ذكرناه. وقد جاء في الحديث «اللهمّ لك الحمد كله» وهو مرتفع بالابتداء وخبره الظرف وهو لله. وأصله النصب على المصدرية بإضمار فعله كسائر المصادر التي تنصبها العرب ، فعدل عنه إلى الرفع لقصد الدلالة على الدوام والثبات المستفاد من الجمل الاسمية دون الحدوث والتجدد اللذين تفيدهما الجمل الفعلية ، واللام الداخلة على الاسم الشريف هي لام الاختصاص. قال ابن جرير : الحمد ثناء أثنى به على نفسه ، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه ، فكأنه قال : قولوا الحمد لله ؛ ثم رجّح اتحاد الحمد والشكر مستدلا على ذلك بما حاصله : إن جميع أهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلا من الحمد والشكر مكان الآخر. قال ابن كثير : وفيه نظر لأنه اشتهر عند كثير من العلماء المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية. والشكر لا يكون إلا على المتعدية ، ويكون بالجنان واللسان والأركان انتهى. ولا يخفى أن المرجع في مثل هذا إلى معنى الحمد في لغة العرب لا إلى ما قاله جماعة من العلماء المتأخرين ، فإن ذلك لا يرد على ابن جرير ، ولا تقوم به الحجة ؛ هذا إذا لم يثبت للحمد حقيقة شرعية ، فإن ثبتت وجب تقديمها. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال عمر : قد علمنا سبحان الله ولا إله إلّا الله ، فما الحمد لله؟ فقال عليّ : كلمة رضيها لنفسه. وروى ابن أبي حاتم أيضا عن ابن عباس أنه قال : الحمد لله كلمة الشكر ، وإذا قال العبد : الحمد لله قال : شكرني عبدي. وروى هو وابن جرير عن ابن عباس أيضا أنه قال : الحمد لله هو الشكر لله والاستخذاء له والإقرار له بنعمه وهدايته وابتدائه وغير ذلك. وروى ابن جرير عن الحكم بن عمير ، وكانت له صحبة قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قلت : الحمد لله ربّ العالمين ؛ فقد شكرت الله فزادك». وأخرج عبد الرزاق في المصنف ، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والخطابي في الغريب ، والبيهقيّ في الأدب ، والديلميّ في

٢٣

مسند الفردوس ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الحمد رأس الشكر ، ما شكر الله عبد لا يحمده». وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الحلبي قال : الصلاة شكر والصيام شكر ، وكل خير تفعله شكر ، وأفضل الشكر الحمد. وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن النّواس بن سمعان قال : سرقت ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لئن ردّها الله عليّ لأشكرنّ ربي فرجعت ، فلما رآها قال : الحمد لله. فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوما أو صلاة ، فظنوا أنه نسي فقالوا : يا رسول الله! قد كنت قلت : لئن ردّها الله عليّ لأشكرنّ ربي ، قال : ألم أقل الحمد لله؟».

وقد ورد في فضل الحمد أحاديث. منها ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصحّحه ، والبخاري في الأدب المفرد عن الأسود بن سريع قال : «قلت يا رسول الله! ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى؟ فقال : أما إن ربك يحبّ الحمد». وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أفضل الذكر لا إله إلّا الله ، وأفضل الدعاء الحمد لله». وأخرج ابن ماجة والبيهقي بسند حسن عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أنعم الله على عبد نعمة فقال : الحمد لله إلا كان الذي أعطى أفضل مما أخذ». وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول ، والقرطبي في تفسيره ، عن أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله ، لكان الحمد أفضل من ذلك» قال القرطبي : معناه لكان إلهامه الحمد أكبر نعمة عليه من نعم الدنيا ، لأن ثواب الحمد لا يفنى ، ونعيم الدنيا لا يبقى. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن جابر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من عبد ينعم عليه بنعمة إلا كان الحمد أفضل منها». وأخرج عبد الرزاق في المصنف نحوه عن الحسن مرفوعا. وأخرج مسلم والنسائي وأحمد عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان» الحديث. وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والترمذي وحسّنه وابن مردويه ، عن رجل من بني سليم ؛ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سبحان الله نصف الميزان ، والحمد لله تملأ الميزان ، والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض ، والطهور نصف الإيمان ، والصوم نصف الصبر». وأخرج الحكيم الترمذي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التسبيح نصف الميزان ، والحمد لله تملؤه ، ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه». وأخرج البيهقي عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التأني من الله ، والعجلة من الشيطان ، وما شيء أكثر معاذير من الله ، وما شيء أحب إلى الله من الحمد». وأخرج ابن شاهين في السنة والديلمي عن أبان عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «التوحيد ثمن الجنة ، والحمد ثمن كل نعمة ، ويتقاسمون الجنة بأعمالهم». وأخرج أهل السنن وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع». وأخرج ابن ماجة في سننه عن ابن عمر «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حدّثهم أن عبدا من عباد الله قال : يا ربّ! لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، فلم يدر الملكان كيف يكتبانها ، فصعدا إلى السماء فقالا : يا ربنا إن عبدا قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها ، قال الله ـ وهو أعلم بما قال عبده ـ : ما ذا قال عبدي؟

٢٤

قالا يا ربّ إنه قال : لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، فقال الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني وأجزيه بها». وأخرج مسلم عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة فيحمده عليها».

(رَبِّ الْعالَمِينَ) قال في الصحاح : الربّ اسم من أسماء الله تعالى ، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة ، وقد قالوه في الجاهلية للملك. وقال في الكشاف : الربّ المالك. ومنه قول صفوان لأبي سفيان : لأن يربّني رجل من قريش أحبّ إليّ من أن يربّني رجل من هوازن. ثم ذكر نحو كلام الصحاح. قال القرطبي في تفسيره : والربّ السيد ، ومنه قوله تعالى : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) وفي الحديث «أن تلد الأمة ربّها» ، والربّ : المصلح والجابر والقائم قال : والربّ : المعبود. ومنه قول الشاعر :

أربّ يبول الثّعلبان برأسه

لقد هان (١) من بالت عليه الثّعالب

والعالمين : جمع العالم ، وهو كل موجود سوى الله تعالى ؛ قاله قتادة. وقيل أهل كل زمان عالم ، قاله الحسين بن الفضل. وقال ابن عباس : العالمون الجنّ والإنس. وقال الفرّاء وأبو عبيد : العالم عبارة عمن يعقل وهم أربعة أمم : الإنس ، والجن ، والملائكة ، والشياطين. ولا يقال للبهائم عالم ، لأن هذا الجمع إنما هو جمع ما يعقل. حكى هذه الأقوال القرطبي في تفسيره وذكر أدلتها وقال : إن القول الأول أصحّ هذه الأقوال لأنه شامل لكل مخلوق وموجود ، دليله قوله تعالى : (قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) (٢) وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده ، كذا قال الزجّاج. وقال : العالم : كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة ، انتهى. وعلى هذا يكون جمعه على هذه الصيغة المختصة بالعقلاء تغليبا للعقلاء على غيرهم. وقال في الكشاف : ساغ ذلك لمعنى الوصفية فيه ، وهي الدلالة على معنى العلم. وقد أخرج ما تقدم من قول ابن عباس عنه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه. وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد. وأخرجه ابن جرير عن سعيد بن جبير. وأخرج ابن جبير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (رَبِّ الْعالَمِينَ) قال : إله الخلق كله ، السموات كلهنّ ومن فيهنّ. والأرضون كلهنّ ومن فيهنّ ، ومن بينهنّ مما يعلم ومما لا يعلم.

(الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قد تقدم تفسيرهما. قال القرطبي : وصف نفسه تعالى بعد ربّ العالمين بأنه الرحمن الرحيم ، لأنه لما كان في اتصافه بربّ العالمين ترهيب ؛ قرنه بالرحمن الرحيم لما تضمن من الترغيب ، ليجمع في صفاته بين الرهبة منه والرغبة إليه ، فيكون أعون على طاعته وأمنع ، كما قال تعالى : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي

__________________

(١). في القرطبي «ذلّ».

(٢). الشعراء : ٢٣ ـ ٢٤.

٢٥

أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (١). وقال : (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ) (٢). وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد» انتهى. وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال : ما وصف من خلقه ، وفي قوله : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، قال : مدح نفسه.

ثم ذكر بقية الفاتحة (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قرئ ملك ومالك وملك بسكون اللام ، وملك بصيغة الفعل. وقد اختلف العلماء أيّهما أبلغ ملك أو مالك؟ فقيل إن ملك أعمّ وأبلغ من مالك ، إذ كل ملك مالك ، وليس كل مالك ملكا ، ولأن أمر الملك نافذ على المالك في ملكه حتى لا يتصرف إلا بتدبير الملك ، قاله أبو عبيد والمبرّد ورجّحه الزمخشري. وقيل مالك أبلغ لأنه يكون مالكا للناس وغيرهم ، فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم. وقال أبو حاتم : إن مالكا أبلغ في مدح الخالق من ملك. وملك أبلغ في مدح المخلوقين من مالك ، لأن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك ، وإذا كان الله تعالى مالكا كان ملكا. واختار هذا القاضي أبو بكر بن العربي. والحق أن لكل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في الآخر ؛ فالمالك يقدر على ما يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع والهبة والعتق ونحوها ، والملك يقدر على ما لا يقدر عليه المالك من التصرفات العائدة إلى تدبير الملك وحياطته ورعاية مصالح الرعية ؛ فالمالك أقوى من الملك في بعض الأمور ، والملك أقوى من المالك في بعض الأمور. والفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الربّ سبحانه أن الملك صفة لذاته ، والمالك صفة لفعله. ويوم الدين : يوم الجزاء من الرب سبحانه لعباده كما قال : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ـ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ ـ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٣) وهذه الإضافة إلى الظرف على طريق الاتساع ، كقولهم : يا سارق الليلة أهل الدار ؛ ويوم الدين وإن كان متأخرا فقد يضاف اسم الفاعل وما في معناه إلى المستقبل ، كقولك : هذا ضارب زيدا غدا. وقد أخرج الترمذي عن أمّ سلمة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ ملك بغير ألف. وأخرج نحوه ابن الأنباري عن أنس. وأخرج أحمد والترمذي عن أنس أيضا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يقرءون مالك بالألف. وأخرج نحوه سعيد بن منصور عن ابن عمر مرفوعا. وأخرج نحوه أيضا وكيع في تفسيره وعبد بن حميد وأبو داود عن الزهري يرفعه مرسلا. وأخرجه أيضا عبد الرزاق في تفسيره وعبد بن حميد وأبو داود عن ابن المسيب مرفوعا مرسلا. وقد روي هذا من طرق كثيرة ، فهو أرجح من الأول. وأخرج الحاكم وصحّحه عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ مالك يوم الدين ، وكذا رواه الطبراني في الكبير عن ابن مسعود مرفوعا. وأخرج ابن جرير والحاكم وصحّحه عن ابن مسعود وناس من الصحابة أنهم فسروا يوم الدين بيوم الحساب. وكذا رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : يوم الدين : يوم يدين الله العباد بأعمالهم.

__________________

(١). الحجر : ٤٩ ـ ٥٠.

(٢). غافر : ٣.

(٣). الانفطار : ١٧ ـ ١٩.

٢٦

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قراءة السبعة وغيرهم بتشديد الياء ، وقرأ عمرو بن فائد بتخفيفها مع الكسر ؛ وقرأ الفضل والرقاشي بفتح الهمزة ؛ وقرأ أبو السوار الغنوي «هياك» في الموضعين وهي لغة مشهورة. والضمير المنفصل هو «إيا» وما يلحقه من الكاف والهاء والياء هي حروف لبيان الخطاب والغيبة والتكلم ، ولا محل لها من الإعراب كما ذهب إليه الجمهور ، وتقديمه على الفعل لقصد الاختصاص ، وقيل للاهتمام ، والصواب أنه لهما ولا تزاحم بين المقتضيات. والمعنى : نخصّك بالعبادة ونخصّك بالاستعانة ، لا نعبد غيرك ولا نستعينه ، والعبادة أقصى غايات الخضوع والتذلّل. قال ابن كثير : وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف ، وعدل عن الغيبة إلى الخطاب لقصد الالتفات ، لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى آخر كان أحسن تطرية لنشاط السامع ، وأكثر إيقاظا له كما تقرر في علم المعاني. والمجيء بالنون في الفعلين لقصد الإخبار من الداعي عن نفسه وعن جنسه من العباد ، وقيل : إن المقام لمّا كان عظيما لم يستقلّ به الواحد استقصارا لنفسه واستصغارا لها ، فالمجيء بالنون لقصد التواضع لا لتعظيم النفس ؛ وقدمت العبادة على الاستعانة لكون الأولى وسيلة إلى الثانية ، وتقديم الوسائل سبب لتحصيل المطالب ، وإطلاق الاستعانة لقصد التعميم. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : إياك نعبد : يعني إياك نوحد ونخاف يا ربنا لا غيرك ، وإياك نستعين على طاعتك وعلى أمورنا كلها. وحكى ابن كثير عن قتادة أنه قال في : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : يأمركم أن تخلصوا له العبادة وأن تستعينوه على أمركم. وفي صحيح مسلم من حديث المعلّى ابن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى : قسمت الصّلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، إذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين قال : حمدني عبدي ، وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال : أثنى عليّ عبدي ، فإذا قال : مالك يوم الدين ، قال : مجّدني عبدي ، فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين ، قال : هذا لعبدي ، ولعبدي ما سأل». وأخرج أبو القاسم البغوي والماوردي معا في معرفة الصحابة والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عن أنس بن مالك عن أبي طلحة قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزاة فلقي العدوّ فسمعته يقول : «يا مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين» قال : فلقد رأيت الرجال تصرع فتضربها الملائكة من بين يديها ومن خلفها.

(اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) قرأه الجمهور بالصاد ، وقرئ «السراط» بالسين ، و «الزراط» بالزاي ، والهداية قد يتعدى فعلها بنفسه كما هنا ، وكقوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١) ، وقد يتعدى بإلى كقوله : (اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢) (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) (٣) (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٤) وقد يتعدّى باللام كقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) (٥) (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (٦) ، قال الزمخشري : أصله أن يتعدّى باللام أو بإلى انتهى. وهي الإرشاد أو التوفيق أو الإلهام أو الدلالة. وفرّق كثير من المتأخرين بين معنى المتعدي بنفسه وغير المتعدي فقالوا : معنى الأوّل الدلالة ، والثاني

__________________

(١). البلد : ١٠.

(٢). النحل : ١٢١.

(٣). الصافات : ٢٣.

(٤). الشورى : ٥٢.

(٥). الأعراف : ٤٣.

(٦). الإسراء : ٩.

٢٧

الإيصال. وطلب الهداية من المهتدي معناه طلب الزيادة كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (١) (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٢). والصراط : قال ابن جرير : أجمعت الأمة من أهل التأويل جميعا على أن الصراط المستقيم : هو الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ، وهو كذلك في لغة جميع العرب. قال : ثم تستعير العرب الصراط فتستعمله فتصف المستقيم باستقامته والمعوجّ باعوجاجه. وقد أخرج الحاكم وصحّحه وتعقبه الذهبي ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بالصاد. وأخرج سعيد ابن منصور وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه ، عن ابن عباس أنه قرأ الصراط بالسين. وأخرج ابن الأنباري عن ابن كثير أنه كان يقرأ السراط بالسين. وأخرج أيضا عن حمزة أنه كان يقرأ الزراط بالزاي. قال الفرّاء : وهي لغة لعذرة وكلب وبني القين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) يقول : ألهمنا دينك الحق. وأخرج ابن جرير عنه وابن المنذر نحوه. وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصحّحه عن جابر بن عبد الله أنه قال : هو دين الإسلام وهو أوسع مما بين السماء والأرض. وأخرج نحوه ابن جرير عن ابن عباس. وأخرج نحوه أيضا عن ابن مسعود وناس من الصحابة. وأخرج أحمد والترمذي وحسّنه ، والنسائي وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ والحاكم وصحّحه ، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان ، عن النّواس بن سمعان ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تفرّقوا ، وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه فالصراط : الإسلام ، والسوران : حدود الله ، والأبواب المفتحة : محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط : كتاب الله ، والداعي من فوق : واعظ الله تعالى في قلب كل مسلم». قال ابن كثير بعد إخراجه : وهو إسناد حسن صحيح. وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو بكر الأنباري والحاكم وصحّحه والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود أنه قال «هو كتاب الله». وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن عدي وابن عساكر عن أبي العالية قال : هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحباه من بعده. وأخرج الحاكم وصححه عن أبي العالية عن ابن عباس مثله. وروى القرطبي عن الفضيل بن عياض أنه قال : الصراط المستقيم طريق الحج ، قال : وهذا خاص والعموم أولى انتهى. وجميع ما روي في تفسير هذه الآية ما عدا هذا المروي عن الفضيل يصدق بعضه على بعض ، فإن من اتبع الإسلام أو القرآن أو النبيّ قد اتبع الحق. وقد ذكر ابن جرير نحو هذا فقال والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أن يكون معنيا به : وفقنا للثبات على ما ارتضيته ، ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل ، وذلك هو الصراط المستقيم ، لأن من وفق إليه ممن أنعم الله عليه من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين فقد وفق للإسلام وتصديق الرسل ، والتمسك بالكتاب ، والعمل بما أمره الله به والانزجار عما زجره عنه ، واتباع منهاج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومنهاج الخلفاء الأربعة وكل عبد صالح ، وكل ذلك من الصراط المستقيم. انتهى.

__________________

(١). محمد : ١٧.

(٢). العنكبوت : ٦٩.

٢٨

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) انتصب صراط على أنه بدل من الأوّل ، وفائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير ، ويجوز أن يكون عطف بيان ، وفائدته الإيضاح ، والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء حيث قال : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً) (١) وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام ؛ وغير المغضوب عليهم بدل من الذين أنعمت عليهم ، على معنى : أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال ، أو صفة له على معنى : أنهم جمعوا بين النعمتين نعمة الإيمان والسلامة من ذلك ، وصحّ جعله صفة للمعرفة مع كون غير لا تتعرف بالإضافة إلى المعارف لما فيها من الإبهام ، لأنها هنا غير مبهمة لاشتهار المغايرة بين الجنسين. والغضب في اللغة قال القرطبي : الشدة ، ورجل غضوب : أي شديد الخلق ، والغضوب : الحيّة الخبيثة لشدتها. قال : ومعنى الغضب في صفة الله : إرادة العقوبة فهو صفة ذاته ، أو نفس العقوبة ، ومنه الحديث «إن الصدقة لتطفئ غضب الربّ» فهو صفة فعله. قال في الكشاف : هو إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم ، وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده ؛ والفرق بين عليهم الأولى وعليهم الثانية ، أن الأولى في محل نصب على المفعولية ، والثانية في محل رفع على النيابة عن الفاعل. و «لا» في قوله ولا الضّالّين تأكيد النفي المفهوم من غير ؛ والضّلال في لسان العرب قال القرطبي : هو الذهاب عن سنن القصد وطريق الحق ، ومنه ضلّ اللبن في الماء : أي غاب ، ومنه (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) (٢) أي غبنا بالموت وصرنا ترابا. وأخرج وكيع وأبو عبيد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عن عمر بن الخطاب أنه كان يقرأ «صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضّالّين» وأخرج أبو عبيد وعبد بن حميد أن عبد الله بن الزبير قرأ كذلك. وأخرج ابن الأنباري ، عن الحسن أنه كان يقرأ «عليهمي» بكسر الهاء والميم وإثبات الياء. وأخرج ابن الأنباري عن الأعرج أنه كان يقرأ «عليهمو» بضم الهاء والميم وإلحاق الواو. وأخرج أيضا عن ابن كثير أنه كان يقرأ «عليهمو» بكسر الهاء وضم الميم مع إلحاق الواو. وأخرج أيضا عن أبي إسحاق أنه قرأ «عليهم» بضم الهاء والميم من غير إلحاق واو. وأخرج ابن أبي داود عن عكرمة والأسود أنهما كانا يقرءان كقراءة عمر السابقة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يقول : طريق من أنعمت عليهم من الملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين أطاعوك وعبدوك. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس أنهم المؤمنون. وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) قال : النبيون. (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) قال : اليهود. (وَلَا الضَّالِّينَ) قال : النصارى. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله. وأخرج أيضا عن سعيد بن جبير مثله. وأخرج عبد الرزاق وأحمد في مسنده وعبد بن حميد وابن جرير والبغوي وابن المنذر وأبو الشيخ عن عبد الله بن شقيق قال : «أخبرني من سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بوادي القرى على فرس له ، وسأله رجل من بني القين فقال : من المغضوب عليهم يا رسول الله؟ قال : اليهود ، قال : فمن الضّالون؟ قال : النصارى». وأخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذرّ

__________________

(١). النساء : ٦٩ ـ ٧٠.

(٢). السجدة : ١٠.

٢٩

قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره. وأخرجه وكيع وعبد بن حميد وابن جرير عن عبد الله بن شقيق قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحاصر أهل وادي القرى فقال له رجل .. إلى آخره ، ولم يذكر فيه أخبرني من سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالأوّل. وأخرجه البيهقي في الشعب عن عبد الله بن شقيق عن رجل من بني القين عن ابن عم له أنه قال : أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكره. وأخرجه سفيان بن عيينة في تفسيره ، وسعيد بن المنصور عن إسماعيل بن أبي خالد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المغضوب عليهم : اليهود ، والضّالون : النصارى». وأخرجه أحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسّنه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه عن عدي ابن حاتم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن المغضوب عليهم هم اليهود ، وإن الضالين : النصارى». وأخرج أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم وصحّحه والطبراني عن الشريد قال : «مرّ بي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا جالس هكذا ، وقد وضعت يدي اليسرى خلف ظهري واتكأت على ألية يدي فقال : أتقعد قعدة المغضوب عليهم؟!» قال ابن كثير بعد ذكره لحديث عديّ بن حاتم : وقد روي حديث عديّ هذا من طرق ، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها. انتهى. والمصير إلى هذا التفسير النبويّ متعين ، وهو الذي أطبق عليه أئمة التفسير من السلف. قال ابن أبي حاتم : لا أعلم خلافا بين المفسرين في تفسير المغضوب عليهم باليهود ، والضّالين بالنصارى. ويشهد لهذا التفسير النبويّ آيات من القرآن ، قال الله تعالى في خطابه لبني إسرائيل في سورة البقرة (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) (١) وقال في المائدة (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) (٢) وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل ؛ أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف ، قال اليهود : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله ، فقال : أنا من غضب الله أفرّ ، وقالت له النصارى : إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله ، فقال : لا أستطيعه ، فاستمرّ على فطرته وجانب عبادة الأوثان.

[فائدة في مشروعية التأمين بعد قراءة الفاتحة] اعلم أن السنة الصحيحة الصريحة الثابتة تواترا ، قد دلت على ذلك ، فمن ذلك ما أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل بن حجر قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين. فقال : آمين. مدّ بها صوته» ولأبي داود «رفع بها صوته» وقد حسّنه الترمذي. وأخرجه أيضا النسائي وابن أبي شيبة وابن ماجة والحاكم وصحّحه ، وفي لفظ من حديثه أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ربّ اغفر لي آمين» أخرجه الطبراني والبيهقي. وفي لفظ أنه قال : «آمين ثلاث مرات» أخرجه الطبراني. وأخرج وكيع وابن أبي شيبة عن أبي ميسرة قال : «لما أقرأ جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتحة الكتاب فبلغ ولا الضّالّين قال : قل آمين ، فقال آمين». وأخرج ابن ماجة عن عليّ قال : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قال ولا الضّالّين قال آمين». وأخرج مسلم وأبو داود والنسائيّ وابن ماجة عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا قرأ» يعني الإمام «غير المغضوب عليهم ولا الضّالّين ، فقولوا : آمين يحبّكم الله».

__________________

(١). البقرة : ٩٠.

(٢). المائدة : ٦٠.

٣٠

وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وأحمد وابن أبي شيبة وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا أمّن الإمام فأمّنوا فإنّه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدّم من ذنبه». وأخرج أحمد وابن ماجة والبيهقي بسند قال السيوطي : صحيح عن عائشة أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السّلام والتأمين». وأخرج ابن عديّ من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ اليهود قوم حسد ، حسدوكم على ثلاثة : إفشاء السّلام ، وإقامة الصّف ، وآمين». وأخرج الطبراني في الأوسط من حديث معاذ مثله. وأخرج ابن ماجة بسند ضعيف عن ابن عباس قال : «ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على آمين ، فأكثروا من قول آمين». ووجه ضعفه : أن في إسناده طلحة بن عمرو وهو ضعيف. وأخرج الديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ بسم الله الرحمن الرحيم ، ثم قرأ فاتحة الكتاب ، ثم قال آمين ، لم يبق ملك في السّماء مقرّب إلّا استغفر له». وأخرج أبو داود عن بلال أنه قال : «يا رسول الله! لا تسبقني بآمين» ومعنى آمين : استجب. قال القرطبي في تفسيره : معنى آمين عند أكثر أهل العلم : اللهم استجب لنا ، وضع موضع الدعاء. وقال في الصحاح معنى آمين : كذلك فليكن. وأخرج جويبر في تفسيره عن الضّحاك عن ابن عباس قال : «قلت يا رسول الله! ما معنى آمين؟ قال : ربّ افعل». وأخرج الكلبي عن أبي صالح عن أبي عباس مثله. وأخرج وكيع وابن أبي شيبة في المصنف عن هلال بن يساف ومجاهد قالا : آمين اسم من أسماء الله. وأخرج ابن أبي شيبة عن حكيم بن جبير مثله. وقال الترمذي : معناه لا تخيّب رجاءنا. وفيه لغتان ، المد على وزن فاعيل كياسين. والقصر على وزن يمين ، قال الشاعر في المدّ :

يا ربّ لا تسلبنّي حبّها أبدا

ويرحم الله عبدا قال آمينا

وقال آخر :

آمين آمين لا أرضى بواحدة

حتّى أبلّغها ألفين آمينا

قال الجوهري : وتشديد الميم خطأ. وروي عن الحسن وجعفر الصادق والحسين بن فضل التشديد ، من أمّ إذا قصد : أي نحن قاصدون نحوك ، حكى ذلك القرطبي. قال الجوهري : وهو مبني على الفتح مثل أين وكيف لاجتماع الساكنين ، وتقول منه : أمّن فلان تأمينا. وقد اختلف أهل العلم في الجهر بها ، وفي أن الإمام يقولها أم لا؟ وذلك مبيّن في مواطنه.

٣١

سورة البقرة

ترتيبها ٢ آياتها ٢٨٦ قال القرطبي في تفسير سورة البقرة : مدنية نزلت في مدد شتى. وقيل هي أوّل سورة نزلت بالمدينة إلا قوله تعالى (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (١) فإنها آخر آية نزلت من السماء ، ونزلت يوم النحر في حجة الوداع بمنى ، وآيات الربا أيضا من أواخر ما نزل من القرآن انتهى. وأخرج أبو الضريس في فضائله ، وأبو جعفر النّحاس في الناسخ والمنسوخ ، وابن مردويه والبيهقي في دلائل النبوة ، من طرق عن ابن عباس قال : نزلت بالمدينة سورة البقرة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير مثله. وأخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ ، عن عكرمة قال : أوّل سورة أنزلت بالمدينة سورة البقرة.

وقد ورد في فضلها أحاديث ، منها : ما أخرجه مسلم والترمذي وأحمد والبخاري في تاريخه ، ومحمد بن نصر ، عن النّواس بن سمعان قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «يؤتى بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمهم سورة البقرة وآل عمران» قال : وضرب لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال : «كأنهما غمامتان ، أو كأنهما غيايتان ، أو كأنهما ظلتان سوداوان ، أو كأنهما فرقان من طير صوافّ ، تحاجّان عن صاحبهما». وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والدارمي ومحمد بن نصر والحاكم وصحّحه عن بريدة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعلّموا سورة البقرة فإن أخذها بركة وتركها حسرة ولا يستطيعها البطلة» ، ثم سكت ساعة ثم قال : «تعلّموا سورة البقرة وآل عمران فإنهما الزهراوان تظلّان صاحبهما يوم القيامة ، كأنهما غمامتان ، أو غيايتان ، أو فرقان من طير صوافّ». قال ابن كثير : وإسناده حسن على شرط مسلم. وأخرج نحوه أبو عبيد وأحمد وحميد بن زنجويه ومسلم وابن حبان والطبراني والحاكم والبيهقي من حديث أبي أمامة مرفوعا. وأخرج نحوه أيضا الطبراني وأبو ذرّ الهروي بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا. وأخرج نحوه أيضا البزار في سننه بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعا. وأخرج مسلم والترمذي وأحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تجعلوا بيوتكم مقابر ، إن الشيطان ينفر من البيت الذي يقرأ فيه سورة البقرة». وأخرج أبو عبيد عن أنس نحوه مرفوعا. وأخرج ابن عديّ في الكامل ، وابن عساكر في تاريخه ، عن أبي الدرداء مرفوعا نحوه. وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن عبد الله بن مغفّل مرفوعا نحوه. وأخرج النسائيّ والطبراني والبيهقي عن ابن مسعود مرفوعا نحوه ، وسنده ضعيف. وأخرجه الدارمي والبيهقي والحاكم وصحّحه من حديثه بنحوه. وأخرج أبو يعلى وابن حبان والطبراني والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن لكل شيء سناما ، وسنام القرآن سورة البقرة ، من قرأها في بيته نهارا لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام ، ومن قرأها في بيته ليلا لم يدخله الشيطان ثلاث ليال». وأخرج أحمد ومحمد ابن نصر والطبراني بسند صحيح عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «البقرة سنام القرآن وذروته ، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا واستخرجت ـ الله لا إله إلّا هو الحي القيوم ـ من تحت العرش فوصلت

__________________

(١). البقرة : ٢٨١.

٣٢

بها». وأخرج البغوي في معجم الصحابة وابن عساكر في تاريخه عن ربيعة الجرشي قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيّ القرآن أفضل؟ قال : «السورة التي يذكر فيها البقرة ، قيل فأيّ البقرة أفضل؟ قال : آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة نزلت من تحت العرش». وأخرج أبو عبيد وأحمد والبخاري في صحيحه تعليقا ومسلم والنسائي عن أسيد بن حضير قال : «بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت ، ثم قرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت ، ثم قرأ فجالت الفرس فسكت فسكنت فانصرف إلى ابنه يحيى وكان قريبا منها فأشفق أن تصيبه ، فلما أخذه رفع رأسه إلى السماء فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح حدّث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتدري ما ذاك؟ قال : لا يا رسول الله ، قال : تلك الملائكة دنت لصوتك ، ولو قرأت لأصبحت تنظر إليها الناس لا تتوارى منهم» ولهذا الحديث ألفاظ. وأخرج الترمذي وحسّنه النسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصحّحه عن أبي هريرة قال : «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعثا فاستقرأ كل رجل منهم» يعني ما معه من القرآن «فأتى على رجل من أحدثهم سنا فقال : ما معك يا فلان؟ قال : معي كذا وكذا وسورة البقرة ، قال : أمعك سورة البقرة؟ قال : نعم ، قال : اذهب فأنت أميرهم». وأخرج البيهقي في الدلائل عن عثمان بن أبي العاص قال : «استعملني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأنا أصغر القوم الذين وفدوا عليه من ثقيف ، وذلك أني كنت قرأت سورة البقرة». وأخرج البيهقي في الشعب بسند صحيح ، عن الصلصال بن الدلهمس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اقرءوا سورة البقرة في بيوتكم ولا تجعلوها قبورا» قال : «ومن قرأ سورة البقرة في ليلة توّج بتاج في الجنة». وأخرج أبو عبيد عن عبّاد بن عبّاد عن جرير بن حازم ، عن عمه جرير بن يزيد ؛ أن أشياخ أهل المدينة حدثوا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قيل له : ألم تر إلى ثابت بن قيس بن شمّاس لم تزل داره البارحة تزهر مصابيح ، قال : فلعلّه قرأ سورة البقرة ، قال : فسئل ثابت فقال : قرأت سورة البقرة». قال ابن كثير : وهذا إسناد جيد ، إلّا أن فيه إبهاما ثم هو مرسل.

وقد روى أئمة الحديث في فضائلها أحاديث كثيرة وآثارا عن الصحابة واسعة ، ومن فضائلها ما هو خاص بآية الكرسي ، وما هو خاص بخواتم هذه السورة ، وقد سبق بعض ذلك ، وما هو في فضلها وفضل آل عمران ، وقد سبق أيضا بعض من ذلك وما هو في فضل السبع الطوال ، كما أخرج أبو عبيد عن واثلة ابن الأسقع عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعطيت السبع مكان التوراة ، وأعطيت المئين مكان الإنجيل ، وأعطيت المثاني مكان الزبور ، وفضلت بالمفصل» وفي إسناده سعيد بن بشير وفيه لين ، وقد رواه بسند آخر عن سعيد بن أبي هلال. وأخرج أيضا عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أخذ السبع فهو خير». وقد رواه عنها أحمد في المسند باللفظ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أخذ السبع الأول من القرآن فهو خير». وأخرج أبو عبيد عن سعيد ابن جبير في قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي) (١) قال : هي السبع الطوال البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس ، وبذلك قال مجاهد ومكحول وعطية بن قيس وأبو محمد القاري شدّاد ابن عبد الله ويحيى بن الحارث الذماري.

__________________

(١). الحجر : ٨٧.

٣٣

وقد ورد ما يدل على كراهة أن يقول القائل سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله. فأخرج ابن الضريس ، والطبراني في الأوسط ، وابن مردويه والبيهقي في الشعب ، بسند ضعيف عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذا القرآن كله ، ولكن قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة ، والسورة التي يذكر فيها آل عمران ، وكذا القرآن كله» قال ابن كثير : هذا حديث غريب لا يصح رفعه ، وفي إسناده يحيى بن ميمون الخوّاص وهو ضعيف الرواية لا يحتج به. وأخرج البيهقي في الشعب بسند صحيح عن ابن عمر قال : «لا تقولوا سورة البقرة ، ولكن قولوا السورة التي تذكر فيها البقرة». وقد روي عن جماعة من الصحابة خلاف هذا. فثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أنه رمى الجمرة من بطن الوادي ، فجعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال : هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة. وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وأهل السنن والحاكم وصحّحه عن حذيفة ، قال : صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة من رمضان فافتتح البقرة ، فقلت يصلي بها في ركعة ، ثم افتتح النساء فقرأها ، ثم افتتح آل عمران فقرأها مترسلا. الحديث. وأخرج أحمد وابن الضريس والبيهقي عن عائشة قالت : «كنت أقوم مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الليل فيقرأ بالبقرة وآل عمران والنساء». وأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي والبيهقي عن عوف بن مالك الأشجعي قال : «قمت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة ، فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلّا وقف» الحديث.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١))

(الم) قال القرطبي في تفسيره : اختلف أهل التأويل في الحروف التي في أوائل السور ، فقال الشعبي وسفيان الثوري وجماعة من المحدثين : هي سرّ الله في القرآن ، ولله في كل كتاب من كتبه سرّ ، فهي من المتشابه الذي انفرد الله بعلمه ولا نحبّ أن نتكلم فيها ولكن نؤمن بها ، وتمدّ كما جاءت. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب. قال : وذكر أبو الليث السمرقندي عن عمر وعثمان وابن مسعود أنهم قالوا : الحروف المقطعة من المكتوم الذي لا يفسّر. وقال أبو حاتم : لم نجد الحروف في القرآن إلا في أوائل السور ، ولا ندري ما أراد الله عزوجل. قال : وقال جمع من العلماء كثير : بل نحبّ أن نتكلم فيها ونلتمس الفوائد التي تحتها ، والمعاني التي تتخرج عليها. واختلفوا في ذلك على أقوال عديدة ، فروي عن ابن عباس وعليّ أيضا عن الحروف المقطعة في القرآن : اسم الله الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. وقال قطرب والفرّاء وغيرهما : هي إشارة إلى حروف الهجاء أعلم الله بها العرب حين تحدّاهم بالقرآن أنه مؤتلف من حروف هي التي بناء كلامهم عليها ليكون عجزهم عنه أبلغ في الحجة عليهم إذ لم يخرج عن كلامهم. قال قطرب : كانوا ينفرون عند استماع القرآن ، فلما نزل (الم) و (المص) استنكروا هذا اللفظ ، فلما أنصتوا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم أقبل عليهم بالقرآن المؤتلف ليثبته في أسماعهم وآذانهم ويقيم الحجة عليهم. وقال قوم : روي أن المشركين لما أعرضوا عن القرآن بمكة وقالوا (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) (١) فأنزلها استغربوها ، فيفتحون أسماعهم ،

__________________

(١). فصلت : ٢٦.

٣٤

فيسمعون بالقرآن بعدها ، فتجب عليهم الحجة. وقال جماعة : هي حروف دالة على أسماء أخذت منها وحذفت بقيتها ، كقول ابن عباس وغيره : الألف من الله واللام من جبريل والميم من محمد. وذهب إلى هذا الزجّاج فقال : أذهب إلى أن كل حرف منها يؤدي عن معنى. وقد تكلمت العرب بالحروف المقطعة كقوله :

فقلت لها قفي ، فقالت قاف

أي : وقفت. وفي الحديث : «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة» قال شقيق : هو أن يقول في اقتل اق كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كفى بالسّيف شا» أي شافيا ، وفي نسخة شاهدا. وقال زيد بن أسلم : هي أسماء للسور. وقال الكلبي : هي أقسام أقسم الله بها لشرفها وفضلها وهي من أسمائه.

ومن أدقّ ما أبرزه المتكلمون في معاني هذه الحروف ما ذكره الزمخشري في الكشاف فإنه قال : واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عزّ سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء ، وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء : وهي الألف واللام والميم والصاد والراء والكاف والهاء والياء والعين والطاء والسين والحاء والقاف والنون في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم ، ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف. بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها الصاد والكاف والهاء والسين والحاء ، ومن الجهورة نصفها الألف واللام والميم والراء والعين والطاء والقاف والياء والنون ، ومن الشديدة نصفها الألف والكاف والطاء والقاف ، ومن الرخوة نصفها اللام والميم والراء والصاد والهاء والعين والسين والحاء والياء والنون ، ومن المطبقة نصفها الصاد والطاء ، ومن المنفتحة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والعين والسين والحاء والقاف والياء والنون ، ومن المستعلية نصفها القاف والصاد والطاء ، ومن المنخفضة نصفها الألف واللام والميم والراء والكاف والهاء والتاء والعين والسين والحاء والنون ، ومن حروف القلقلة نصفها القاف والطاء. ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكنوزة بالمذكورة منها ، فسبحان الذي دقّت في كل شيء حكمته ، وقد علمت أن معظم الشيء وجلّه ينزل منزلة كله ، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته ، فكأن الله عزّ اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم ، وما يدل على أنه تعمّد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم ، أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكررتين ، وهي فواتح سورة البقرة وآل عمران والروم والعنكبوت ولقمان والسجدة والأعراف والرعد ويونس وإبراهيم وهود ويوسف والحجر انتهى. وأقول : هذا التدقيق لا يأتي بفائدة يعتدّ بها ، وبيانه أنه إذا كان المراد منه إلزام الحجة والتبكيت كما قال ، فهذا متيسر بأن يقال لهم : هذا القرآن هو من الحروف التي تتكلمون بها ليس هو من حروف مغايرة لها ، فيكون هذا تبكيتا وإلزاما يفهمه كل سامع منهم من دون إلغاز وتعمية وتفريق لهذه الحروف في فواتح تسع وعشرين سورة ، فإن هذا مع ما فيه من التطويل الذي لا يستوفيه سامعه إلا بسماع جميع هذه الفواتح ، هو أيضا مما لا يفهمه أحد من السامعين ولا يتعقل شيئا منه ، فضلا عن أن يكون تبكيتا له وإلزاما للحجة أيا كان ، فإن ذلك هو أمر وراء الفهم ، مترتب عليه ولم يفهم السامع هذا ، ولا ذكر أهل العلم عن فرد من أفراد الجاهلية الذين وقع التحدي لهم بالقرآن أنه بلغ

٣٥

فهمه إلى بعض هذا فضلا عن كله. ثم كون هذه الحروف مشتملة على النصف من جميع الحروف التي تركبت لغة العرب منها ، وذلك النصف مشتمل على أنصاف تلك الأنواع من الحروف المتصفة بتلك الأوصاف هو أمر لا يتعلق به فائدة لجاهليّ ولا إسلاميّ ولا مقرّ ولا منكر ولا مسلم ولا معارض ، ولا يصح أن يكون مقصدا من مقاصد الربّ سبحانه ، الذي أنزل كتابه للإرشاد إلى شرائعه والهداية به. وهب أن هذه صناعة عجيبة ونكتة غريبة ، فليس ذلك مما يتصف بفصاحة ولا بلاغة حتى يكون مفيدا أنه كلام بليغ أو فصيح ، وذلك لأن هذه الحروف الواقعة في الفواتح ليست من جنس كلام العرب حتى يتصف بهذين الوصفين ، وغاية ما هناك أنها من جنس حروف كلامهم ولا مدخل لذلك فيما ذكر. وأيضا لو فرض أنها كلمات متركبة بتقدير شيء قبلها أو بعدها لم يصح وصفها بذلك ، لأنها تعمية غير مفهومة للسامع إلا بأن يأتي من يريد بيانها بمثل ما يأتي به من أراد بيان الألغاز والتعمية ، وليس ذلك من الفصاحة والبلاغة في ورد ولا صدر ، بل من عكسهما وضد رسمهما ، وإذا عرفت هذا فاعلم أن من تكلّم في بيان معاني هذه الحروف جازما بأن ذلك هو ما أراده الله عزوجل ، فقد غلط أقبح الغلط ، وركب في فهمه ودعواه أعظم الشطط ، فإنه إن كان تفسيره لها بما فسّرها به راجعا إلى لغة العرب وعلومها فهو كذب بحت ، فإن العرب لم يتكلموا بشيء من ذلك ، وإذا سمعه السامع منهم كان معدودا عنده من الرطانة ، ولا ينافي ذلك أنهم قد يقتصرون على أحرف أو حروف من الكلمة التي يريدون النطق بها ، فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد أن تقدّمه ما يدل عليه ويفيد معناه ، بحيث لا يلتبس على سامعه كمثل ما تقدّم ذكره. ومن هذا القبيل ما يقع منهم من الترخيم ، وأين هذه الفواتح الواقعة في أوائل السور من هذا؟ وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادّعوه من لغة العرب وعلومها لم يبق حينئذ إلا أحد أمرين : الأوّل التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه والوعيد عليه ، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه والصدّ عنه والتنكّب عن طريقه ، وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبة لهم يتلاعبون به ويضعون حماقات أنظارهم وخزعبلات أفكارهم عليه. الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع ، وهذا هو المهيع (١) الواضح والسبيل القويم ، بل الجادة التي ما سواها مردوم ، والطريقة العامرة التي ما عداها معدوم ، فمن وجد شيئا من هذا فغير ملوم أن يقول بملء فيه ويتكلم بما وصل إليه علمه ، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري ، أو الله أعلم بمراده ، فقد ثبت النهي عن طلب فهم المتشابه ومحاولة الوقوف على علمه مع كونه ألفاظا عربية وتراكيب مفهومة ، وقد جعل الله تتبع ذلك صنيع الذين في قلوبهم زيغ ، فكيف بما نحن بصدده؟ فإنه ينبغي أن يقال فيه إنه متشابه المتشابه على فرض أن للفهم إليه سبيلا ، ولكلام العرب فيه مدخلا ، فكيف وهو خارج عن ذلك على كل تقدير. وانظر كيف فهم اليهود عند سماع الم فإنهم لما لم يجدوها على نمط لغة العرب فهموا أن الحروف المذكورة رمز إلى ما يصطلحون عليه من العدد الذي يجعلونه لها ، كما أخرج ابن إسحاق والبخاري في تاريخه ، وابن جرير بسند ضعيف ، عن ابن عباس ، عن جابر بن عبد الله قال : «مرّ أبو ياسر ابن أخطب في رجال من يهود برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يتلو فاتحة سورة البقرة : (الم ـ ذلِكَ الْكِتابُ لا

__________________

(١). المهيع : الطريق الواسع البيّن.

٣٦

فأتى أخاه حيي بن أخطب في رجال من اليهود فقال : تعلمون والله لقد سمعت محمدا يتلوا فيما أنزل عليه الم ذلك الكتاب ، فقال : أنت سمعته؟ فقال نعم ، فمشى حيي في أولئك النفر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد! ألم تذكر أنك تتلوا فيما أنزل عليك (الم ـ ذلِكَ الْكِتابُ) قال : بلى ، قالوا : أجاءك بهذا جبريل من عند الله؟ قال : نعم. قالوا : لقد بعث الله قبلك الأنبياء ما نعلمه بين لنبيّ منهم ما مدّة ملكه وما أجل أمته غيرك ، فقال حيي بن أخطب : وأقبل على من كان معه : الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ، أفتدخلون في دين نبيّ إنما مدّة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ ثم أقبل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد هل مع هذا غيره؟ قال : نعم ، قال : وما ذاك؟ قال : المص ، قال : هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون ، فهذا إحدى وستون ومائة سنة ، هل مع هذا يا محمد غيره؟ قال : نعم ، قال : وما ذلك؟ قال ـ الر ـ قال : هذه أثقل وأطول الألف واحدة واللام ثلاثون والراء مائتان ، هذه إحدى وثلاثون سنة ومائتان ، فهل مع هذا غيره؟ قال نعم ـ المر ـ قال : فهذه أثقل وأطول الألف واحدة وثلاثون والميم أربعون والراء مائتان ، فهذه إحدى وسبعون سنة ومائتان ، ثم قال : فقد لبس علينا أمرك يا محمد حتى ما ندري قليلا أعطيت أم كثيرا ثم قاموا ، فقال أبو ياسر لأخيه حيي ومن معه من الأحبار : ما يدريكم لعله قد جمع هذا لمحمد كله : إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ومائة ، وإحدى وثلاثون ومائتان ، وإحدى وسبعون ومائتان ، فذلك سبعمائة وأربع وثلاثون سنة ، فقالوا : لقد تشابه علينا أمره ، فيزعمون أن هذه الآيات نزلت فيهم (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (١)» فانظر ما بلغت إليه أفهامهم من هذا الأمر المختص بهم من عدد الحروف مع كونه ليس من لغة العرب في شيء ، وتأمل أيّ موضع أحق بالبيان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من هذا الموضع ، فإن هؤلاء الملاعين قد جعلوا ما فهموه عند سماع (الم ـ ذلِكَ الْكِتابُ) من ذلك العدد موجبا للتثبيط عن الإجابة له والدخول في شريعته ، فلو كان لذلك معنى يعقل ومدلول يفهم ، لدفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما ظنوه بادئ بدء حتى لا يتأثر عنه ما جاءوا به من التشكيك على من معهم.

فإن قلت : هل ثبت عن رسول الله في هذه الفواتح شيء يصلح للتمسك به؟ قلت : لا أعلم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تكلم في شيء من معانيها ، بل غاية ما ثبت عنه هو مجرد عدد حروفها ، فأخرج البخاري في تاريخه ، والترمذي وصحّحه ، والحاكم وصحّحه ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة ، والحسنة بعشر أمثالها ، لا أقول : الم حرف ، ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف» وله طرق عن ابن مسعود. وأخرج ابن أبي شيبة والبزار بسند ضعيف عن عوف بن مالك الأشجعي نحوه مرفوعا. فإن قلت : هل روي عن الصحابة شيء من ذلك بإسناد متصل بقائله أم ليس إلا ما تقدم من حكاية القرطبي عن ابن عباس وعلي؟ قلت : قد روى ابن جرير والبيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن ابن مسعود أنه قال : الم أحرف اشتقت من حروف اسم الله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه

__________________

(١). آل عمران : ٧.

٣٧

عن ابن عباس في قوله الم وحم ون قال : اسم مقطّع. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في كتاب الأسماء عن ابن عباس أيضا في قوله ، الم ، والمص ، والر ، والمر ، وكهيعص ، وطه ، وطسم ، وطس ، ويس ، وص ، وحم ، وق ، ون ، قال : هو قسم أقسمه الله ، وهو من أسماء الله. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله الم قال : هي اسم الله الأعظم. وأخرج عبد بن حميد عن الربيع بن أنس في قوله الم قال : ألف مفتاح اسمه الله ، ولام مفتاح اسمه لطيف ، وميم مفتاح اسمه مجيد. وقد روي نحو هذه التفاسير عن جماعة من التابعين فيهم عكرمة والشعبي والسدي وقتادة ومجاهد والحسن. فإن قلت : هل يجوز الاقتداء بأحد من الصحابة قال في تفسير شيء من هذه الفواتح قولا صحّ إسناده إليه؟ قلت : لا ، لما قدّمنا ، إلا أن يعلم أنه قال ذلك عن علم أخذه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فإن قلت : هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه ولا مدخل للغة العرب ، فلم لا يكون له حكم الرفع؟ قلت : تنزيل هذا منزلة المرفوع ، وإن قال به طائفة من أهل الأصول وغيرهم ، فليس مما ينشرح له صدور المنصفين ، ولا سيما إذا كان في مثل هذا المقام وهو التفسير لكلام الله سبحانه ، فإنه دخول في أعظم الخطر بما لا برهان عليه صحيح إلا مجرد قولهم إنه يبعد من الصحابي كل البعد أن يقول بمحض رأيه فيما لا مجال فيه للاجتهاد ، وليس مجرد هذا الاستبعاد مسوّغا للوقوع في خطر الوعيد الشديد. على أنه يمكن أن يذهب بعض الصحابة إلى تفسير بعض المتشابه كما تجده كثيرا في تفاسيرهم المنقولة عنهم ، ويجعل هذه الفواتح من جملة المتشابه ، ثم هاهنا مانع آخر ، وهو أن المرويّ عن الصحابة في هذا مختلف متناقض ، فإن عملنا بما قاله أحدهم دون الآخر كان تحكّما لا وجه له ، وإن عملنا بالجميع كان عملا بما هو مختلف متناقض ولا يجوز. ثم هاهنا مانع غير هذا المانع ، وهو : أنه لو كان شيء مما قالوه مأخوذا عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لاتفقوا عليه ولم يختلفوا كسائر ما هو مأخوذ عنه ، فلما اختلفوا في هذا علمنا أنه لم يكن مأخوذا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم لو كان عندهم شيء عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذا لما تركوا حكايته عنه ورفعه إليه ، لا سيما عند اختلافهم واضطراب أقوالهم في مثل هذا الكلام الذي لا مجال للغة العرب فيه ولا مدخل لها. والذي أراه لنفسي ولكل من أحبّ السلامة واقتدى بسلف الأمّة أن لا يتكلّم بشيء من ذلك ، مع الاعتراف بأن في إنزالها حكمة لله عزوجل لا تبلغها عقولنا ولا تهتدي إليها أفهامنا ، وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه ، وسيأتي لنا عند تفسير قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) (١) كلام طويل الذيول ، وتحقيق تقبله صحيحات الأفهام وسليمات العقول.

(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢))

الإشارة بقوله ذلك إلى الكتاب المذكور بعده. قال ابن جرير : قال ابن عباس (ذلِكَ الْكِتابُ) هذا الكتاب وبه قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والسدي ومقاتل وزيد بن أسلم وابن جريج ، وحكاه البخاري عن أبي عبيدة. والعرب قد تستعمل الإشارة إلى البعيد الغائب مكان الإشارة إلى القريب الحاضر كما قال خفاف :

أقول له والرمح يأطر متنه

تأمّل خفافا أنّني أنا ذلكا

__________________

(١). آل عمران : ٧.

٣٨

أي أنا هذا ، ومنه قوله تعالى : (ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (١) ـ (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ) (٢) ـ (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ) (٣) ـ (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) (٤) وقيل إن الإشارة إلى غائب ؛ واختلف في ذلك الغائب ، فقيل : هو الكتاب الذي كتب على الخلائق بالسعادة والشقاوة والأجل والرزق (لا رَيْبَ فِيهِ) أي لا مبدل له ، وقيل ذلك الكتاب الذي كتبه الله على نفسه في الأزل أن رحمته سبقت غضبه ، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لمّا قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده : إنّ رحمتي تغلب غضبي». وفي رواية «سبقت». وقيل الإشارة إلى ما قد نزل بمكة ، وقيل إلى ما في التوراة والإنجيل ، وقيل إشارة إلى قوله قبله الم ، ورجّحه الزمخشري ، وقد وقع الاختلاف في ذلك إلى تمام عشرة أقوال حسبما حكاه القرطبي وأرجحها ما صدّرناه ، واسم الإشارة مبتدأ ، والكتاب صفته ، والخبر لا ريب فيه ، ومن جوّز الابتداء بالم جعل ذلك مبتدأ ثانيا ، وخبره الكتاب أو هو صفته ، والخبر لا ريب فيه ، والجملة خبر المبتدأ. ويجوز أن يكون المبتدأ مقدّرا وخبره الم وما بعده. والريب مصدر ، وهو قلق النفس واضطرابها ، وقيل إن الريب : الشك. قال ابن أبي حاتم : لا أعلم في هذا خلافا. وقد يستعمل الريب في التهمة والحاجة ، حكى ذلك القرطبي. ومعنى هذا النفي العام أن الكتاب ليس بمظنة للريب ؛ لوضوح دلالته وضوحا يقوم مقام البرهان المقتضى ، لكونه لا ينبغي الارتياب فيه بوجه من الوجوه ، والوقف على (فِيهِ) هو المشهور. وقد روي عن نافع وعاصم الوقف على (لا رَيْبَ). قال في الكشاف : ولا بدّ للواقف من أن ينوي خبرا ونظيره قوله تعالى : (قالُوا لا ضَيْرَ) (٥) وقول العرب : لا بأس ، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز ، والتقدير : لا ريب فيه ، فيه هدى. والهدى مصدر. قال الزمخشري : وهو الدلالة الموصلة إلى البغية بدليل وقوع الضلال في مقابلته انتهى. ومحله الرفع على الابتداء وخبره الظرف المذكور قبله على ما سبق. قال القرطبي : الهدى هديان : هدى دلالة وهو الذي يقدر عليه الرسل وأتباعهم ؛ قال الله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (٦) وقال : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧) فأثبت لهم الهدى الذي معناه الدلالة والدعوة والتنبيه ، وتفرّد سبحانه بالهدى الذي معناه التأييد والتوفيق ، فقال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) (٨) فالهدى على هذا يجيء بمعنى خلق الإيمان في القلب ، ومنه قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) (٩) وقوله (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١٠) انتهى. والمتقين من ثبتت لهم التقوى. قال ابن فارس : وأصلها في اللغة قلة الكلام. وقال في الكشاف : المتقي في اللغة : اسم فاعل من قولهم وقاه فاتقى ، والوقاية : الصيانة ، ومنه : فرس واق ، وهذه الدابة تقي من وجاها : إذا أصابها ضلع من غلظ الأرض ورقة الحافر ، فهو يقي حافره أن يصيبه أدنى شيء يؤلمه. وهو في الشريعة : الذي يقي نفسه تعاطي ما يستحق به العقوبة من فعل أو ترك انتهى. وأخرج ابن جرير والحاكم وصحّحه عن ابن مسعود أن الكتاب : القرآن ، لا ريب فيه : لا شك فيه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ) قال : لا شك فيه. وأخرج أحمد في الزهد وابن أبي حاتم عن أبي الدرداء قال : الريب : الشك. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة مثله ، وكذا ابن جرير عن مجاهد. وأخرج ابن جرير عن

__________________

(١). السجدة : ٦.

(٢). الأنعام : ٨٣.

(٣). البقرة : ٢٥٢.

(٤). الممتحنة : ١٠.

(٥). الشعراء : ٥٠.

(٦). الرعد : ٧.

(٧). الشورى : ٥٢.

(٨). القصص : ٥٦.

(٩). البقرة : ٥.

(١٠). القصص : ٥٦.

٣٩

ابن مسعود في قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) قال : نور للمتقين وهم المؤمنون. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ويرجون رحمته في التصديق مما جاء منه. وأخرج ابن أبي حاتم عن معاذ بن جبل أنه قيل له : من المتقون؟ فقال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان وأخلصوا لله العبادة. وأخرج ابن أبي الدنيا عن أبي هريرة أن رجلا قال له : ما التقوى؟ قال : هل وجدت طريقا ذا شوك؟ قال : نعم ، قال : فكيف صنعت؟ قال : إذا رأيت الشوك عدلت عنه أو جاوزته أو قصّرت عنه ، قال : ذاك التقوى. وأخرج أحمد في الزهد ، عن أبي الدرداء قال : تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة حين يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام. وقد روي نحو ما قاله أبو الدرداء عن جماعة من التابعين. وأخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه ، والترمذي وحسّنه ، وابن ماجة ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الشعب ، عن عطية السعدي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتّى يدع ما لا بأس به حذرا لما به البأس» فالمصير إلى ما أفاده هذا الحديث واجب ، ويكون هذا معنى شرعيا للمتقي أخصّ من المعنى الذي قدمنا عن صاحب الكشاف زاعما أنه المعنى الشرعي.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)

وهو وصف للمتقين كاشف. والإيمان في اللغة : التصديق ، وفي الشرع ما سيأتي. والغيب في كلام العرب : كل ما غاب عنك. قال القرطبي : واختلف المفسرون في تأويل الغيب هنا ، فقالت فرقة : الغيب في هذه الآية هو الله سبحانه ، وضعّفه ابن العربي. وقال آخرون : القضاء والقدر. وقال آخرون : القرآن وما فيه من الغيوب. وقال آخرون : الغيب كل ما أخبر به الرسول مما لا تهتدي إليه العقول من أشراط الساعة وعذاب القبر والحشر والنشر والصراط والميزان والجنة والنار. قال ابن عطية : وهذه الأقوال لا تتعارض بل يقع الغيب على جميعها ، قال : وهذا هو الإيمان الشرعي المشار إليه في حديث جبريل حين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فأخبرني عن الإيمان؟ قال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشرّه ، قال : صدقت» انتهى. وهذا الحديث هو ثابت في الصحيح بلفظ «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والقدر خيره وشرّه». وقد أخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مندة وأبو نعيم كلاهما في معرفة الصحابة ، عن تويلة بنت أسلم قالت : «صلّيت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، فاستقبلنا مسجد إيليا فصلّينا سجدتين ، ثم جاءنا من يخبرنا بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد استقبل البيت ، فتحوّل الرجال مكان النساء والنساء مكان الرجال ، فصلّينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فبلغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أولئك قوم آمنوا بالغيب». وأخرج البزار وأبو يعلى والحاكم وصحّحه عن عمر بن الخطاب قال : «كنت جالسا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنبئوني بأفضل أهل الإيمان إيمانا؟ فقالوا : يا رسول الله! الملائكة ، قال : هم كذلك ويحقّ لهم ، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها؟ قالوا : يا رسول الله!

٤٠