فتح القدير - ج ١

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ١

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

حسبي الله ونعم الوكيل. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ردوا عليّ الرجل ، فقال : ما قلت؟ قال : قلت : حسبي الله ونعم الوكيل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله يلوم على العجز ، ولكن عليك بالكيس ، فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل». وأخرج أحمد عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يسمع متى يؤمر فينفخ؟ ثم أمر الصحابة أن يقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا» وهو حديث جيد. وأخرج البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) قال : النعمة : أنهم سلموا ، والفضل : أن عيرا مرّت ، وكان في أيام الموسم ، فاشتراها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فربح مالا ، فقسمه بين أصحابه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال : الفضل : ما أصابوا من التجارة والأجر. وأخرج ابن جرير عن السدي قال : أما النعمة : فهي العافية ، وأما الفضل : فالتجارة ، والسوء : القتل. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) قال : لم يؤذهم أحد (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) قال : أطاعوا الله ورسوله. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه في قوله : (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) قال : يقول : الشيطان يخوّف بأوليائه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : يعظم أولياءه في أعينكم. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة مثل قول ابن عباس. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن : إنما كان ذلك تخويف الشيطان ، ولا يخاف الشيطان إلا وليّ الشيطان.

(وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠))

قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ) : قرأ نافع : بضم الياء وكسر الزاي ، وقرأ ابن محيصن بضم الياء والزاي (١) ، وقرأ الباقون : بفتح الياء وضم الزاي ، وهما لغتان ، يقال : حزنني الأمر وأحزنني ، والأول أفصح. وقرأ طلحة : (يُسارِعُونَ) قيل : هم قوم ارتدّوا ، فاغتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لذلك ، فسلاه الله سبحانه ، ونهاه عن الحزن ، وعلل ذلك : بأنهم لن يضروا الله شيئا ، وإنما ضروا أنفسهم ، بأن لاحظ لهم في الآخرة ، ولهم عذاب عظيم ؛ وقيل : هم كفار قريش ، وقيل : هم المنافقون ؛ وقيل : هو عام في جميع الكفار. قال

__________________

(١). قال محقق تفسير القرطبي [٤ / ٢٨٤] : الصواب بضم الياء وكسر الزاي. قلنا : وهذا يوافق قراءة نافع.

٤٦١

القشيري : والحزن على كفر الكافر طاعة ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يفرط في الحزن ، فنهي عن ذلك ، كما قال الله تعالى : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) (١) (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) (٢) وعدى يسارعون بفي دون إلى ، للدلالة : على أنهم مستقرون فيه مديمون لملابسته ، ومثله : يسارعون في الخيرات. وقوله : (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) تعليل للنهي ؛ والمعنى : أن كفرهم لا ينقص من ملك الله سبحانه شيئا ؛ وقيل : المراد لن يضروا أولياءه ، ويحتمل أن يراد : لن يضروا دينه الذي شرعه لعباده ، وشيئا : منصوب على المصدرية ، أي : شيئا من الضرر ؛ وقيل : منصوب بنزع الخافض ، أي : بشيء. والحظ : النصيب. قال أبو زيد : يقال : رجل حظيظ ، إذا كان ذا حظّ من الرزق ؛ والمعنى : أن الله يريد أن لا يجعل لهم نصيبا في الجنة ، أو نصيبا من الثواب ، وصيغة الاستقبال : للدالة على دوام الإرادة واستمرارها (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) بسبب مسارعتهم في الكفر ، فكان ضرر كفرهم عائدا عليهم ، جالبا لهم عدم الحظ في الآخرة ، ومصيرهم في العذاب العظيم. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) أي : استبدلوا الكفر بالإيمان ، وقد تقدم تحقيق هذه الاستعارة (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) معناه : كالأول ، وهو للتأكيد لما تقدمه ؛ وقيل : إن الأول : خاص بالمنافقين ، والثاني يعم جميع الكفار ، والأول أولى. قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وغيرهما : (يَحْسَبَنَ) : بالياء التحتية ، وقرأ حمزة : بالفوقية ، والمعنى على الأولى : لا يحسبن الكافرون أنما نملي لهم بطول العمر ورغد العيش ، أو بما أصابوا من الظفر يوم أحد (خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) فليس الأمر كذلك ، بل : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ). وعلى القراءة الثانية : لا تحسبن يا محمد! أن الإملاء للذين كفروا بما ذكر خير لأنفسهم ، بل هو شرّ واقع عليهم ، ونازل بهم ، وهو أن الإملاء الذي نمليه لهم ليزدادوا إثما. فالموصول على القراءة الأولى : فاعل الفعل ، وأنما نملي وما بعده : ساد مسد مفعولي الحسبان عند سيبويه ، أو سادّ مسد أحدهما ، والآخر محذوف عند الأخفش. وأما على القراءة الثانية : فقال الزجاج : إن الموصول هو المفعول الأول ، وأنما وما بعدها : بدل من الموصول ، ساد مسد المفعولين ، ولا يصح أن يكون أنما وما بعده هو المفعول الثاني ، لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو الأوّل في المعنى. وقال أبو علي الفارسي : لو صح هذا لكان : خيرا ، بالنصب ، لأنه يصير بدلا من الذين كفروا ، فكأنه قال : لا تحسبن إملاء الذين كفروا خيرا. وقال الكسائي والفراء : إنه يقدر تكرير الفعل ، كأنه قال : ولا تحسبنّ الذين كفروا ، ولا تحسبن أنما نملي لهم ، فسدّت مسدّ المفعولين. وقال في الكشاف : فإن قلت كيف صح مجيء البدل ولم يذكر إلا أحد المفعولين ، ولا يجوز الاقتصار بفعل الحسبان على مفعول واحد؟ قلت : صح ذلك من حيث أن التعويل على البدل والمبدل منه في حكم المنحى ، ألا تراك تقول جعلت متاعك بعضه فوق بعض مع امتناع سكوتك على متاعك. انتهى. وقرأ يحيى بن وثاب : (أَنَّما نُمْلِي) بكسر إن فيهما ، وهي قراءة ضعيفة باعتبار العربية. وقوله : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) جملة مستأنفة ، مبينة لوجه الإملاء للكافرين. وقد احتج الجمهور بهذه الآية على بطلان ما تقوله المعتزلة : لأنه سبحانه أخبر بأنه يطيل أعمار

__________________

(١). فاطر : ٨.

(٢). الكهف : ٦.

٤٦٢

الكفار ، ويجعل عيشهم رغدا ليزدادوا إثما. قال أبو حاتم : وسمعت الأخفش يذكر كسر (أَنَّما نُمْلِي) الأولى وفتح الثانية ، ويحتج بذلك لأهل القدر لأنه منهم ، ويجعله على هذا التقدير : ولا يحسبنّ الذين كفروا أنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم. وقال في الكشاف : إن ازدياد الإثم علة ، وما كل علة بعرض ، ألا ترك تقول : قعدت عن الغزو للعجز والفاقة ، وخرجت من البلد لمخافة الشرّ ، وليس شيء يعرض لك ، وإنما هي علل وأسباب. قوله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) كلام مستأنف. والخطاب عند جمهور المفسرين للكفار والمنافقين ، أي : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه من الكفر والنفاق (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) وقيل : الخطاب للمؤمنين والمنافقين ، أي : ما كان الله ليترككم على الحال التي أنتم عليه من الاختلاط حتى يميز بعضكم من بعض ؛ وقيل : الخطاب للمشركين. والمراد بالمؤمنين : من في الأصلاب والأرحام ، أي : ما كان الله ليذر أولادكم على ما أنتم عليه حتى يفرق بينكم وبينهم ، وقيل : الخطاب للمؤمنين ، أي : ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين! على ما أنتم عليه من الاختلاط بالمنافقين حتى يميز بينكم ، وعلى هذا الوجه ، والوجه الثاني يكون في الكلام التفات. وقرئ يميز بالتشديد للمخفف ، من : ماز الشيء ، يميزه ، ميزا (١) : إذا فرق بين شيئين ، فإن كانت أشياء قيل : ميزه تمييزا (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) حتى تميزوا بين الطيب والخبيث ، فإنه المستأثر بعلم الغيب ، لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول من رسله ، يجتبيه فيطلعه على شيء من غيبه ، فيميز بينكم ، كما وقع من نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تعيين كثير من المنافقين ، فإن ذلك كان بتعليم الله له ، لا بكونه يعلم الغيب ، وقيل : المعنى : وما كان الله ليطلعكم على الغيب في من يستحق النبوة ، حتى يكون الوحي باختياركم (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي) أي : يختار (مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ). قوله : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) أي : افعلوا الإيمان المطلوب منكم ، ودعوا الاشتغال بما ليس من شأنكم من التطلع لعلم الله سبحانه ، (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بما ذكر (وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ) عوضا عن ذلك (أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يعرف قدره ، ولا يبلغ كنهه. قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ) الموصول : في محل رفع على أنه فاعل الفعل ، على قراءة من قرأ بالياء التحتية ، والمفعول الأول محذوف ، أي : لا يحسبنّ الباخلون البخل خيرا لهم. قاله الخليل وسيبويه والفراء. قالوا : وإنما حذف لدلالة يبخلون عليه ، ومن ذلك قول الشاعر :

إذا نهي السّفيه جرى إليه

وخالف والسّفيه إلى خلاف

أي : جرى إلى السفه ، فالسفيه دلّ على السفه. وأما على قراءة من قرأ بالفوقية : فالفعل مسند إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والمفعول الأول محذوف ، أي : لا تحسبنّ يا محمد! بخل الذين يبخلون خيرا لهم. قال الزجاج : هو مثل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ، والضمير المذكور : هو ضمير الفصل. قال المبرد : والسين في قوله : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ) سين الوعيد ، وهذه الجملة مبينة لمعنى قوله : (بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) قيل : ومعنى

__________________

(١). هذا التصريف هو للفعل المخفف يميز.

٤٦٣

التطويق هنا : أنه يكون ما بخلوا به من المال طوقا من نار في أعناقهم ؛ وقيل : معناه : أنه سيحملون عقاب ما بخلوا به فهو من الطاقة وليس من التطويق ؛ وقيل : المعنى : أنهم يلزمون أعمالهم كما يلزم الطوق العنق ، يقال : طوق فلان عمله طوق الحمامة ، أي : ألزم جزاء عمله ؛ وقيل : إن ما لم تؤدّ زكاته من المال يمثل له شجاعا أقرع ، حتى يطوّق به في عنقه. كما ورد ذلك مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال القرطبي : والبخل في اللغة : أن يمنع الإنسان الحقّ الواجب ، فأما من منع ما لا يجب عليه فليس ببخيل. قوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له وحده لا لغيره ، كما يفيده التقديم. والمعنى : أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلها فما بالهم يبخلون بذلك ولا ينفقونه وهو لله سبحانه لا لهم وإنما كان عندهم عارية مستردة ومثل هذه الآية : قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) (١) وقوله : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (٢) ، والميراث في الأصل : هو ما يخرج من مالك إلى آخر ، ولم يكن مملوكا لذلك الآخر قبل انتقاله إليه بالميراث ، ومعلوم : أن الله سبحانه هو المالك بالحقيقة لجميع مخلوقاته.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) قال : هم المنافقون. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال : ما من نفس برّة ولا فاجرة إلا والموت خير لها من الحياة إن كان برا ، فقد قال الله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) (٣) وإن كان فاجرا ، فقد قال : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن أبي الدرداء نحوه. وأخرج سعيد ابن منصور ، وابن المنذر عن محمد بن كعب نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن أبي برزة أيضا نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي قال : قالوا : إن كان محمد صادقا فليخبرنا بمن يؤمن به منا ومن يكفر ، فأنزل الله : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : يميز أهل السعادة من أهل الشقاوة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة قال : يميز بينهم في الجهاد والهجرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) قال : ولا يطلع على الغيب إلا رسول. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي) قال : يختص. وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك قال : يستخلص. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) قال : هم أهل الكتاب بخلوا أن يبينوه للناس. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : هم يهود. وأخرج ابن جرير عن السدي قال : بخلوا أن ينفقوها في سبيل الله : لم يؤدوا زكاتها. وأخرج البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : «من آتاه الله مالا فلم يؤدّ زكاته ، مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه ـ يعني : شدقيه ـ فيقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم تلا هذه الآية» وقد ورد هذا المعنى في أحاديث كثيرة عن جماعة من الصحابة يرفعونها.

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ

__________________

(١). مريم : ٤٠.

(٢). الحديد : ٧.

(٣). آل عمران : ١٩٨.

٤٦٤

بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤))

قال أهل التفسير : لما أنزل الله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (١) قال قوم من اليهود : [إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا ، وإنما قالوا] (٢) هذه المقالة تمويها على ضعفائهم لا أنهم يعتقدون ذلك ، لأنهم أهل الكتاب ، بل أرادوا : أنه تعالى إن صح ما طلبه منا من القرض على لسان محمد فهو فقير ، ليشككوا على إخوانهم في دين الإسلام. وقوله : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) سنكتبه في صحف الملائكة ، أو سنحفظه ، أو سنجازيهم عليه. والمراد : الوعيد لهم ، وأن ذلك لا يفوت على الله ، بل هو معدّ لهم ليوم الجزاء. وجملة سنكتب على هذا : مستأنفة ، جوابا لسؤال مقدّر ، كأنه قيل : ماذا صنع الله بهؤلاء الذين سمع منهم هذا القول الشنيع؟ فقال : قال لهم : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا). وقرأ الأعمش ، وحمزة : «سيكتب» بالمثناة التحتية ، مبني للمفعول. وقرأ : برفع اللام من «قتلهم» ، «ويقول» : بالياء المثناة تحت. قوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ) عطف على ما قالوا ، أي : ونكتب قتلهم الأنبياء : أي : قتل أسلافهم للأنبياء ، وإنما نسب ذلك إليهم لكونهم رضوا به ، جعل ذلك القول قرينا لقتل الأنبياء ، تنبيها : على أنه من العظم والشناعة بمكان يعدل قتل الأنبياء. قوله : (وَنَقُولُ) معطوف على (سَنَكْتُبُ) أي : ننتقم منهم بعد الكتابة بهذا القول الذي نقوله لهم في النار ، أو عند الموت ، أو عند الحساب. والحريق : اسم للنار الملتهبة ، وإطلاق الذوق على إحساس العذاب فيه مبالغة بليغة. وقرأ ابن مسعود : ويقال ذوقوا والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى العذاب المذكور قبله ، وأشار إلى القريب بالصيغة التي يشار بها إلى البعيد للدلالة على بعد منزلته في الفظاعة ، وذكر الأيدي لكونها المباشرة لغالب المعاصي. وقوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) معطوف على (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) ووجه : أنه سبحانه عذبهم بما أصابوا من الذنب ، وجازاهم على فعلهم ، فلم يكن ذلك ظلما ، أو بمعنى : أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء ، وليس بظالم لمن عذبه بذنبه ، وقيل : إن وجهه : أن نفي الظلم مستلزم للعدل المقتضي لإثابة المحسن ومعاقبة المسيء ، ورد : بأن ترك التعذيب مع وجود سببه ، ليس بظلم عقلا ولا شرعا ؛ وقيل : إن جملة قوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) في محل رفع على أنها خبر مبتدأ محذوف ، أي : والأمر أن الله ليس بظلام للعبيد ، والتعبير بذلك عن نفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم عند أهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا : لبيان تنزهه عن ذلك ، ونفي ظلام المشعر بالكثرة : يفيد ثبوت أصل الظلم. وأجيب عن ذلك : بأن الذي توعد بأن

__________________

(١). البقرة : ٢٤٥.

(٢). ما بين الحاصرتين مستدرك من القرطبي [٤ / ٢٩٤].

٤٦٥

يفعله بهم لو كان ظلما لكان عظيما ، فنفاه على حدّ عظمه لو كان ثابتا. قوله : (الَّذِينَ قالُوا) هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هم الذين قالوا : وقيل : نعت للعبيد ، وقيل : منصوب على الذم ؛ وقيل : هو في محل جر بدل من (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) ، وهو ضعيف ، لأن البدل هو المقصود دون المبدل منه ، وليس الأمر كذلك هنا ، والقائلون هؤلاء : هم جماعة من اليهود كما سيأتي ، وهذا المقول : وهو أن الله عهد إليهم أن لا يؤمنوا لرسول حتى يأتيهم بالقربان ، هو من جملة دعاويهم الباطلة. وقد كان دأب بني إسرائيل أنهم كانوا يقربون القربان ، فيقوم النبي فيدعو ، فتنزل نار من السماء فتحرقه ، ولم يتعبد الله بذلك كل أنبيائه ، ولا جعله دليلا على صدق دعوى النبوة ، ولهذا رد الله عليهم فقال : (قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) من القربان (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) كيحيى بن زكريا ، وشعياء ، وسائر من قتلوا من الأنبياء. والقربان : ما يتقرب به إلى الله من نسيكة وصدقة وعمل صالح ، وهو فعلان من القربة. ثم سلى الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ) بمثل ما جئت به من البينات. والزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب ، وقد تقدم تفسيره (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) : الواضح الجلي المضيء ، يقال : نار الشيء ، وأنار ، ونوره ، واستناره ، بمعنى.

وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر بيت المدارس فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له : فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم ، فقال أبو بكر : ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم ، فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة ، فقال فنحاص : والله يا أبا بكر! ما بنا إلى الله من فقر وإنه إلينا لفقير ، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان غنيا عنا ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويعطينا ، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا الربا ؛ فغضب أبو بكر ، فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة ، وقال : والذي نفسي بيده : لو لا العهد الذي بيننا وبينكم ، لضربت عنقك يا عدو الله! فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد! انظر ما صنع صاحبك بي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر : ما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا رسول الله! قال قولا عظيما ، يزعم : أن الله فقير ، وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك ، غضبت لله مما قال ، فضربت وجهه ، فجحد فنحاص فقال : ما قلت ذلك ، فأنزل الله فيما قال فنحاص تصديقا لأبي بكر : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا) الآية ، ونزل في أبي بكر وما بلغه في ذلك من الغضب : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) (١) الآية. وقد أخرج هذه القصة ابن جرير ، وابن المنذر عن عكرمة ، وأخرجها ابن جرير عن السدي بأخصر من ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أنزل الله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) (٢) فقالوا : يا محمد! أفقير ربك يسأل عباده القرض؟ فأنزل الله الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة : أن القائل لهذه المقالة حيي بن أخطب وأنها نزلت فيه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن العلاء بن بدر أنه سئل عن قوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) وهم لم يدركوا

__________________

(١). آل عمران : ١٨٦.

(٢). البقرة : ٢٤٥.

٤٦٦

ذلك ، قال : بموالاتهم من قتل الأنبياء. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) قال : ما أنا بمعذب من لم يجترم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) قال : يتصدّق الرجل منا ، فإذا تقبل منه أنزلت عليه النار من السماء فأكلته. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) قال : كذبوا على الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (بِالْبَيِّناتِ) قال الحلال والحرام (وَالزُّبُرِ) قال : كتب الأنبياء (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) قال : هو القرآن.

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩))

قوله : (ذائِقَةُ) من الذوق ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :

من لم يمت عبطة (١) يمت هرما

الموت كأس والمرء ذائقها

وهذه الآية تتضمن الوعد والوعيد للمصدق والمكذب بعد إخباره عن الباخلين القائلين : (إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ). وقرأ الأعمش ، ويحيى بن وثاب ، وابن أبي إسحاق : (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) بالتنوين ونصب الموت. وقرأ الجهور بالإضافة. قوله : (إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أجر المؤمن : الثواب ، وأجر الكافر : العقاب ، أي : أن توفية الأجور وتكميلها إنما تكون في ذلك اليوم ، وما يقع من الأجور في الدنيا أو في البرزخ فإنما هو بعض الأجور. والزحزحة : التنحية ، والإبعاد : تكرير الزح وهو الجذب بعجلة ، قاله في الكشاف ، وقد سبق الكلام عليه ، أي : فمن بعد عن النار يومئذ ونحي فقد فاز ، أي ظفر بما يريد ونجا مما يخاف ، وهذا هو الفوز الحقيقي الذي لا فوز يقاربه ، فإن كل فوز وإن كان بجميع المطالب دون الجنة ليس بشيء بالنسبة إليها. اللهم لا فوز إلا فوز الآخرة ، ولا عيش إلا عيشها ، ولا نعيم إلا نعيمها ، فاغفر ذنوبنا ، واستر عيوبنا ، وارض عنا رضا لا سخط بعده ، واجمع لنا بين الرضا منك علينا والجنة. والمتاع : ما يتمتع به الإنسان وينتفع به ثم يزول ولا يبقى ، كذا قال أكثر المفسرين. الغرور : الشيطان يغرّ الناس بالأماني الباطلة

__________________

(١). «مات عبطة» : أي شابا صحيحا.

٤٦٧

والمواعيد الكاذبة ، شبه سبحانه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على من يريده ، وله ظاهر محبوب وباطن مكروه. قوله : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) هذا الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمته تسلية لهم عما سيلقونه من الكفرة والفسقة ، ليوطنوا أنفسهم على الثبات والصبر على المكاره. والابتلاء : الامتحان والاختبار ، والمعنى : لتمتحننّ ، ولتختبرنّ في أموالكم بالمصائب ، والإنفاقات الواجبة ، وسائر التكاليف الشرعية المتعلقة بالأموال. والابتلاء في الأنفس : بالموت والأمراض ، وفقد الأحباب ، والقتل في سبيل الله وهذه الجملة جواب قسم محذوف ، دلت عليه اللام الموطئة (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) وهم اليهود والنصارى (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) وهم سائر الطوائف الكفرية من غير أهل الكتاب (أَذىً كَثِيراً) من الطعن في دينكم وأعراضكم ، والإشارة بقوله : (فَإِنَّ ذلِكَ) إلى الصبر والتقوى المدلول عليها بالفعلين. وعزم الأمور : معزوماتها ، أي : مما يجب عليكم أن تعزموا عليه ، لكونه عزمة من عزمات الله التي أوجب عليهم القيام بها ، يقال : عزم الأمر : أي شدّه وأصلحه. قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) هذه الآية توبيخ لأهل الكتاب وهم اليهود والنصارى ، أو اليهود فقط ، على الخلاف في ذلك ـ والظاهر : أن المراد بأهل الكتاب : كل من آتاه الله علم شيء من الكتاب ، أيّ كتاب كان ، كما يفيده التعريف الجنسي في الكتاب. قال الحسن وقتادة : إن الآية عامة لكل عالم ، وكذا قال محمد بن كعب ، ويدل على ذلك قول أبي هريرة : لو لا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء ، ثم تلا هذه الآية ، والضمير في قوله : (لَتُبَيِّنُنَّهُ) راجع إلى الكتاب ؛ وقيل : راجع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يتقدّم له ذكر ، لأن الله أخذ على اليهود والنصارى أن يبينوا نبوته للناس ولا يكتموها (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ). وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وأهل المدينة : «ليبيننه» بالياء التحتية ، وقرأ الباقون : بالمثناة الفوقية. وقرأ ابن عباس : وإذ أخذ الله ميثاق النبيّين ليبيّننّه ويشكل على هذه القراءة قوله : (فَنَبَذُوهُ) فلا بد من أن يكون فاعله الناس. وفي قراءة ابن مسعود : «لتبينونه». والنبذ : الطرح ، وقد تقدّم في البقرة. وقوله : (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) مبالغة في النبذ والطرح ، وقد تقدّم أيضا معنى قوله : (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) والضمير عائد إلى الكتاب الذي أمروا ببيانه ونهوا عن كتمانه. وقوله : (ثَمَناً قَلِيلاً) أي : حقيرا يسيرا من حطام الدنيا وأعراضها ، قوله : (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) ما : نكرة منصوبة مفسرة لفاعل بئس ، ويشترون : صفة ، والمخصوص بالذم : محذوف ، أي : بئس شيئا يشترونه بذلك الثمن. قوله : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) قرأ الكوفيون : بالتاء الفوقية ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل من يصلح له. وقوله : (بِما أَتَوْا) أي : بما فعلوا. وقد اختلف في سبب نزول الآية كما سيأتي ، والظاهر شمولها لكل من حصل منه ما تضمنته عملا بعموم اللفظ ، وهو المعتبر دون خصوص السبب ، فمن فرح بما فعل ، وأحب أن يحمده الناس بما لم يفعل ، فلا تحسبنه بمفازة من العذاب. وقرأ نافع ، وابن عامر ، وابن كثير ، وأبو عمرو : «لا يحسبن» بالياء التحتية ، أي : لا يحسبن الفارحون فرحهم منجيا لهم من العذاب ، فالمفعول الأوّل محذوف ، وهو فرحهم ، والمفعول الثاني : بمفازة من العذاب ، وقوله : (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد للفعل الأوّل على القراءتين ،

٤٦٨

والمفازة : المنجاة ، مفعلة ، من : فاز ، يفوز ، إذا نجا ، أي : ليسوا بفائزين ، سمي موضع الخوف مفازة على جهة التفاؤل ، قاله الأصمعي. وقيل : لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك ، تقول العرب : فوز الرجل : إذا مات. قال ثعلب : حكيت لابن الأعرابي قول الأصمعي فقال : أخطأ. قال لي أبو المكارم : إنما سميت مفازة لأن من قطعها فاز. وقال ابن الأعرابي : بل لأنه مستسلم لما أصابه. وقيل : المعنى : لا تحسبنهم بمكان بعيد من العذاب ، لأن الفوز التباعد عن المكروه. وقرأ مروان بن الحكم ، والأعمش ، وإبراهيم النخعي : «آتوا» بالمد ، أي : يفرحون بما أعطوا. وقرأ جمهور القراء السبعة وغيرهم : «أتوا» بالقصر.

وقد أخرج ابن أبي شيبة ، وهناد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وصححه ، وابن حبان ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم والحاكم ، وصححه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ موضع سوط في الجنّة خير من الدنيا وما فيها ، اقرءوا إن شئتم : (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ)». وأخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد مرفوعا نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الزهري في قوله : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قال : هو كعب بن الأشرف ، وكان يحرّض المشركين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه في شعره. وأخرج ابن المنذر من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج في الآية قال : يعني : اليهود والنصارى ، فكان المسلمون يسمعون من اليهود قولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) (١) ، ومن النصارى قولهم : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) (٢) (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) قال : من القوة مما عزم الله عليه وأمركم به. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) قال : فنحاص ، وأشيع ، وأشباههما من الأحبار. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) قال : كان الله أمرهم أن يتبعوا النبي الأميّ. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية قال : في التوراة والإنجيل أن الإسلام دين الله الذي افترضه على عباده. وأن محمدا رسول الله يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل فنبذوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في الآية قال : هم اليهود (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) قال : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن جرير عن السدّي مثله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم ، فمن علم علما فليعلمه الناس ، وإياكم وكتمان العلم ، فإن كتمان العلم هلكة. وأخرج ابن سعد عن الحسن قال : لو لا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما : أن مروان قال لبوابه اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل : لئن كان كل امرئ منا فرح بما أوتي ، وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا ، لنعذبنّ أجمعون ، فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية ، إنما أنزلت في أهل الكتاب ، ثم تلا (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية ، قال ابن عباس : سألهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره ، فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه

__________________

(١). التوبة : ٣٠.

(٢). التوبة : ٣٠.

٤٦٩

واستحمدوا بذلك إليه ، وفرحوا بما أتوا من كتمان ما سألهم عنه. وفي البخاري ، ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري : أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الغزو ، وتخلفوا عنه ؛ وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإذا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الغزو اعتذروا إليه ، وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت. وقد روي : أنها نزلت في فنحاص وأشيع وأشباههما. وروي : أنها نزلت في اليهود. وأخرج مالك ، وابن سعد ، والطبراني ، والبيهقي في الدلائل عن محمد بن ثابت أن ثابت بن قيس قال : «يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت قال : لم؟ قال : قد نهانا الله أن نحبّ أن نحمد بما لم نفعل ، وأجدني أحبّ الحمد ، ونهانا عن الخيلاء ، وأجدني أحبّ الجمال ، ونهانا أن نرفع أصواتنا فوق صوتك ، وأنا رجل جهير الصوت ، فقال : يا ثابت ألا ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟» فعاش حميدا ، وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب. وأخرج ابن المنذر عن الضحّاك في قوله : (بِمَفازَةٍ) قال : بمنجاة. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله.

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤))

قوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ) هذه جملة مستأنفة لتقرير اختصاصه سبحانه بما ذكره فيها. والمراد : ذات السموات والأرض وصفاتهما (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : تعاقبهما ، وكون كل واحد منهما يخلف الآخر ، وكون زيادة أحدهما في نقصان الآخر ، وتفاوتهما طولا وقصرا ، وحرا وبردا ، وغير ذلك (لَآياتٍ) أي : دلالات واضحة ، وبراهين بينة ، تدل على الخالق سبحانه. وقد تقدم تفسير بعض ما هنا في سورة البقرة. والمراد باولي الألباب : أهل العقول الصحيحة الخالصة عن شوائب النقص ، فإن مجرد التفكر فيما قصه الله في هذه الآية يكفي العاقل ، ويوصله إلى الإيمان الذي لا تزلزله الشبه ، ولا تدفعه التشكيكات. قوله : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الموصول : نعت لأولي الألباب ـ وقيل : هو مفصول عنه ، خبر مبتدأ محذوف ، أو منصوب على المدح ، والمراد بالذكر هنا : ذكره سبحانه في هذه الأحوال ، من غير فرق بين حال الصلاة وغيرها ، وذهب جماعة من المفسرين : إلى أن الذكر هنا عبارة عن الصلاة ، أي : لا يضيعونها في حال من الأحوال ، فيصلونها قياما مع عدم العذر ، وقعودا وعلى جنوبهم مع العذر. قوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) معطوف على قوله : (يَذْكُرُونَ) وقيل : إنه معطوف على الحال ، أعني : (قِياماً وَقُعُوداً) وقيل : إنه منقطع عن الأوّل ، والمعنى : أنهم يتفكرون في بديع صنعهما ، واتقانهما ، مع عظم أجرامهما ، فإن هذا الفكر إذا كان صادقا أوصلهم إلى الإيمان

٤٧٠

بالله سبحانه. قوله : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) هو على تقدير القول ، أي : يقولون ما خلقت هذا عبثا ولهوا ، بل خلقته دليلا على حكمتك وقدرتك. والباطل : الزائل الذاهب ، ومنه قول لبيد :

ألا كلّ شيء ما خلا الله باطل (١)

وهو منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف ، أي : خلقا باطلا ؛ وقيل : منصوب بنزع الخافض ؛ وقيل : هو مفعول ثان ، وخلق : بمعنى جعل ، أو : منصوب على الحال ، والإشارة بقوله : (هذا) إلى السموات والأرض ، أو إلى الخلق على أنه بمعنى المخلوق. قوله : (سُبْحانَكَ) أي : تنزيها لك عما لا يليق بك من الأمور التي من جملتها أن يكون خلقك لهذه المخلوقات باطلا. وقوله : (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) الفاء لترتيب هذا الدعاء على ما قبله. وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) تأكيد لما تقدمه من استدعاء الوقاية من النار منه سبحانه ، وبيان للسبب الذي لأجله دعاه عباده بأن يقيهم عذاب النار ، وهو أن من أدخله النار فقد أخزاه ، أي : أذله وأهانه. وقال المفضل : معنى أخزيته : أهلكته ، وأنشد :

أخزى الإله بني الصّليب عنيزة (٢)

واللّابسين ملابس الرّهبان

وقيل : معناه : فضحته وأبعدته ، يقال : أخزاه الله : أبعده ومقته ، والاسم : الخزي. قال ابن السكيت : خزي ، يخزى ، خزيا : إذا وقع في بلية. قوله : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) المنادي عند أكثر المفسرين : هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقيل : هو القرآن ، وأوقع السماع على المنادي مع كون المسموع هو النداء : لأنه قد وصف المنادي بما يسمع ، وهو قوله : (يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا). وقال أبو علي الفارسي : إن «ينادي» هو المفعول الثاني ، وذكر ينادي مع أنه قد فهم من قوله : (مُنادِياً) لقصد التأكيد والتفخيم لشأن هذا المنادى به ، واللام في قوله : (لِلْإِيمانِ) : بمعنى إلى ؛ وقيل : إن ينادي يتعدّى باللام وبإلى ، يقال ينادي لكذا وينادي إلى كذا ، وقيل : اللام للعلة ، أي : لأجل الإيمان. قوله : (أَنْ آمِنُوا) هي : إما تفسيرية ، أو مصدرية ، وأصلها : بأن آمنوا ، فحذف حرف الجرّ. قوله : (فَآمَنَّا) أي : امتثلنا ما يأمر به هذا المنادي من الإيمان فآمنا ، وتكرير النداء في قوله : (رَبَّنا) لإظهار التضرع والخضوع ؛ قيل : المراد بالذنوب هنا : الكبائر ، وبالسيئات : الصغائر. والظاهر : عدم اختصاص أحد اللفظين بأحد الأمرين ، والآخر بالآخر ، بل يكون المعنى في الذنوب والسيئات واحدا ، والتكرير للمبالغة والتأكيد ، كما أن معنى الغفر والكفر : الستر. والأبرار : جمع بارّ أو برّ ، وأصله من الاتساع ، فكأن البار متسع في طاعة الله ومتسعة له رحمته ، قيل : هم الأنبياء ، ومعنى اللفظ أوسع من ذلك. قوله : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) هذا دعاء آخر والنكتة في تكرير النداء ما تقدّم ، والموعود به على ألسن الرسل هو الثواب الذي وعد الله به

__________________

(١). وعجزه : وكلّ نعيم لا محالة زائل.

(٢). في القرطبي (٤ / ٣١٦) : أخرى الإله من الصّليب عبيده ...

٤٧١

أهل طاعته ، ففي الكلام حذف ، وهو لفظ الألسن ، كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) وقيل : المحذوف التصديق ، أي : ما وعدتنا على تصديق رسلك ؛ وقيل : ما وعدتنا منزلا على رسلك ، أو محمولا على رسلك ، والأول أولى. وصدور هذا الدعاء منهم ـ مع علمهم أن ما وعدهم الله به على ألسن رسله كائن لا محالة ـ ، إما لقصد التعجيل ، أو : للخضوع بالدعاء ، لكونه مخ العبادة ، وفي قولهم : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) دليل على أنهم لم يخافوا خلف الوعد ، وأن الحامل لهم على الدعاء هو ما ذكرنا.

وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن ابن عباس قال : أتت قريش اليهود فقالوا : ما جاءكم به موسى من الآيات؟ قالوا عصاه ويده بيضاء للناظرين ، وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى فيكم؟ قالوا : كان يبرئ الأكمه ، والأبرص ، ويحيي الموتى ، فأتوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا ، فدعا ربه ، فنزلت : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الآية. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس قال : بتّ عند خالتي ميمونة ، فنام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى انتصف الليل ، أو قبله بقليل ، أو بعده بقليل ، ثم استيقظ ، فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده ، ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم. وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، والطبراني ، والحاكم في الكنى ، والبغوي في معجم الصحابة عن صفوان بن المعطل قال : كنت مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سفر فذكر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن مسعود في قوله : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) الآية ، قال : إنما هذه في الصلاة ، إذا لم يستطع قائما فقاعدا ، وإن لم يستطع قاعدا فعلى جنبه. وقد ثبت في البخاري من حديث عمران بن حصين قال : «كانت بي بواسير ، فسألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الصلاة فقال : صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب». وثبت فيه عنه قال : «سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صلاة الرجل وهو قاعد قال : من صلّى قائما فهو أفضل ، ومن صلّى قاعدا فله نصف أجر القائم ، ومن صلّى نائما فله نصف أجر القاعد». وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هذه حالاتك كلها يا ابن آدم ، اذكر الله وأنت قائم ، فإن لم تستطع فاذكره جالسا ، فإن لم تستطع فاذكره وأنت على جنبك ، يسر من الله وتخفيف.

وأقول : هذا التقييد الذي ذكره بعدم الاستطاعة مع تعميم الذكر لا وجه له ، لا من الآية ولا من غيرها ، فإنه لم يرد في شيء من الكتاب والسنة ما يدل على أنه لا يجوز الذكر من قعود إلا مع عدم استطاعة الذكر من قيام ، ولا يجوز على جنب إلا مع عدم استطاعته من قعود. وإنما يصلح هذا التقييد لمن جعل المراد بالذكر هنا الصلاة ، كما سبق عن ابن مسعود. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن حبان في صحيحه ، وابن مردويه عن عائشة مرفوعا : ويل لمن قرأ هذه الآية ولم يتفكر فيها. وأخرج ابن أبي الدنيا في التفكر عن سفيان رفعه : «من قرأ آخر سورة آل عمران فلم يتفكر فيها ويله ، فعدّ أصابعه عشرا». قيل للأوزاعي : ما غاية التفكر فيهنّ؟ قال : يقرؤهنّ وهو يعقلهنّ. وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في استحباب التفكر مطلقا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أنس في قوله : (مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) قال : من

__________________

(١). يوسف : ٨٢.

٤٧٢

تخلد. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن سعيد بن المسيب في الآية قال : هذه خاصة بمن لا يخرج منها. وأخرج ابن جرير ، والحاكم عن عمرو بن دينار قال : قدم علينا جابر بن عبد الله في عمرة ، فانتهيت إليه أنا وعطاء فقلت : (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) قال : أخبرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم الكفار ، قلت لجابر : فقوله : (إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) قال : وما أخزاه حين أحرقه بالنار ، وإن دون ذلك خزيا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ) قال : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخرج ابن جرير عن ابن زيد مثله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : هو القرآن ، ليس كل أحد سمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) قال : يستجزون موعد الله على رسله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) قال : لا تفضحنا.

(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥))

قوله : (فَاسْتَجابَ) الاستجابة بمعنى الإجابة ؛ وقيل : الإجابة عامة ، والاستجابة خاصة بإعطاء المسؤول ، وهذا الفعل يتعدى بنفسه وباللام ، يقال : استجابه ، واستجاب له ، والفاء للعطف ؛ وقيل : على مقدّر ، أي : دعوا بهذه الأدعية فاستجاب لهم ؛ وقيل : على قوله : (وَيَتَفَكَّرُونَ) وإنما ذكر سبحانه الاستجابة وما بعدها في جملة ما لهم من الأوصاف الحسنة : لأنها منه ، إذ من أجيبت دعوته فقد رفعت درجته. قوله : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ) أي : بأني ، وقرأ عيسى بن عمرو : بكسر الهمزة ، على تقدير القول ، وقرأ أبيّ : بثبوت الباء ، وهي للسببية ، أي : فاستجاب لهم ربهم بسبب أنه لا يضيع عمل عامل منهم. والمراد بالإضاعة : ترك الإثابة. قوله : (مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) من : بيانية ، ومؤكدة لما تقتضيه النكرة الواقعة في سياق النفي من العموم. قوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) أي : رجالكم مثل نسائكم في الطاعة ، ونساؤكم مثل رجالكم فيها ، والجملة معترضة ، لبيان كون كل منهما من الآخر باعتبار تشعبهما من أصل واحد. قوله : (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) الآية ، هذه الجملة تتضمن تفصيل ما أجمل في قوله : (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ) أي : فالذين هاجروا من أوطانهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ (وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) في طاعة الله عزوجل ؛ (وَقاتَلُوا) أعداء الله ؛ (وَقُتِلُوا) في سبيل الله. وقرأ ابن كثير وابن عامر : (وَقُتِلُوا) على التكثير ، وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : وقتلوا وقاتلوا وهو مثل قول الشاعر :

تصابى وأمسى علاه الكبر

أي : قد علاه الكبر ، وأصل الواو : لمطلق الجمع بلا ترتيب ، كما قال به الجمهور. والمراد هنا : أنهم

٤٧٣

قاتلوا وقتل بعضهم ، كما قال امرؤ القيس :

فإن تقتلونا نقتّلكم

وقرأ عمر بن عبد العزيز : وقتلوا وقتلوا. ومعنى قوله : (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي : بسببه ، والسبيل : الدين الحق. والمراد هنا : ما نالهم من الأذية من المشركين بسبب إيمانهم بالله ، وعملهم بما شرعه الله لعباده. وقوله : (لَأُكَفِّرَنَ) جواب قسم محذوف. وقوله : (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ) مصدر مؤكد عند البصريين ، لأن معنى قوله : (لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ) لأثيبنّهم ثوابا ، أي : إثابة أو تثويبا كائنا من عند الله. وقال الكسائي : إنه منتصب على الحال. وقال الفراء على التفسير : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أي : حسن الجزاء ، وهو ما يرجع على العامل من جزاء عمله ، من : ثاب ، يثوب : إذا رجع.

وقد أخرج سعيد بن منصور ، وعبد الرزاق ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني والحاكم ، وصححه عن أم سلمة قالت : يا رسول الله! لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ) إلى آخر الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن عطاء قال : «ما من عبد يقول يا ربّ! يا ربّ! يا ربّ! ثلاث مرات ، إلّا نظر الله إليه» فذكر للحسن فقال : أما تقرأ القرآن؟ (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً) إلى قوله : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ). وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت : آخر آية نزلت هذه الآية : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) إلى آخرها. وقد ورد في فضل الهجرة أحاديث كثيرة.

(لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))

قوله : (لا يَغُرَّنَّكَ) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمراد : تثبيته على ما هو عليه ، [والمراد الأمة] (١) كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أو : خطاب لكل أحد ، وهذه الآية متضمنة لقبح حال الكفار بعد ذكر حسن حال المؤمنين ؛ والمعنى : لا يغرنك ما هم فيه من تقلبهم في البلاد بالأسفار للتجارة التي يتوسعون بها في معاشهم ، فهو متاع قليل يتمتعون به في هذه الدار ثم مصيرهم إلى جهنم ، فقوله : (مَتاعٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو متاع قليل لا اعتداد به بالنسبة إلى ثواب الله سبحانه : (ثُمَّ مَأْواهُمْ) أي : ما يأوون إليه. والتقلب في البلاد : الاضطراب في الأسفار إلى الأمكنة ، ومثله قوله تعالى : (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) (٢) والمتاع : ما يعجل

__________________

(١). ما بين الحاصرتين مستدرك من تفسير القرطبي [٤ / ٣١٩].

(٢). غافر : ٤.

٤٧٤

الانتفاع به ، وسماه : قليلا ، لأنه فان ، وكل فان وإن كان كثيرا فهو قليل. وقوله : (وَبِئْسَ الْمِهادُ) ما مهدوا لأنفسهم في جهنم بكفرهم ، أو : ما مهد الله لهم من النار ، فالمخصوص بالذم محذوف : وهو هذا المقدّر. قوله : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) هو استدراك مما تقدّمه ، لأن معناه النفي ، كأنه قال : ليس لهم في تقلبهم في البلاد كثير انتفاع : (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا) لهم الانتفاع الكثير ، والخلد الدائم. وقرأ يزيد ابن القعقاع : لكنّ ، بتشديد النون. قوله : (نُزُلاً) مصدر مؤكد عن البصريين كما تقدّم في (ثَواباً) وعند الكسائي والفراء مثل ما قالا في : ثوابا ، والنزل : ما يهيأ للنزيل ، والجمع أنزال ، قال الهروي : (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : ثوابا من عند الله (وَما عِنْدَ اللهِ) مما أعدّه لمن أطاعه (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) مما يحصل للكفار من الربح في الأسفار ، فإنه متاع قليل ، عن قريب يزول. قوله : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) هذه الجملة سيقت لبيان أن بعض أهل الكتاب لهم حظّ من الدين ، وليسوا كسائرهم في فضائحهم التي حكاها الله عنهم فيما سبق ، وفيما سيأتي ، فإن هذا البعض يجمعون بين الإيمان بالله وبما أنزل الله على نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزله على أنبيائهم حال كونهم : (خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ) أي : يستبدلون (بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً) بالتحريف والتبديل ، كما يفعله سائرهم ، بل يحكون كتب الله سبحانه كما هي ، والإشارة بقوله : (أُولئِكَ) إلى هذه الطائفة الصالحة من أهل الكتاب ، من حيث اتصافهم بهذه الصفات الحميدة (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) الذي وعد الله سبحانه به بقوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) وتقديم الخبر يفيد اختصاص ذلك الأجر بهم. وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) في محل نصب على الحال. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) إلخ. هذه الآية العاشرة من قوله سبحانه : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ) ختم بها هذه السورة لما اشتملت عليه من الوصايا التي جمعت خير الدنيا والآخرة ، فحض على الصبر على الطاعات والشهوات ، والصبر : الحبس ، وقد تقدم تحقيق معناه. والمصابرة مصابرة الأعداء ، قاله الجمهور ، أي : غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب ، وخص المصابرة بالذكر بعد أن ذكر الصبر : لكونها أشدّ منه وأشقّ. وقيل : المعنى صابروا على الصلوات ، وقيل : صابروا الأنفس عن شهواتها ؛ وقيل : صابروا الوعد الذي وعدتم ولا تيأسوا ، والقول الأول هو المعنى العربي ، ومنه قول عنترة :

فلم أر حيّا صابروا مثل صبرنا

ولا كافحوا مثل الذين نكافح

أي : صابروا العدوّ في الحرب. قوله : (وَرابِطُوا) أي : أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها ، كما يربطها أعداؤكم ، هذا قول جمهور المفسرين. وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن : هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة ، ولم يكن في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو يرابط فيه ، وسيأتي ذكر من خرج عنه هذا ، والرباط اللغوي هو الأوّل ، ولا ينافيه تسميته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغيره رباطا كما سيأتي. ويمكن إطلاق الرباط على المعنى الأول ، وعلى انتظار الصلاة. قال الخليل : الرباط ملازمة الثغور ومواظبة الصلاة ، هكذا قال : وهو من أئمة اللغة. وحكى ابن فارس عن الشيباني أنه قال : يقال : ماء مترابط : دائم لا يبرح ، وهو يقتضي تعدية الرباط إلى غير ارتباط الخيل في الثغور. قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تخالفوا ما شرعه لكم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي :

٤٧٥

تكونون من جملة الفائزين بكل مطلوب ، وهم المفلحون.

وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن عكرمة في قوله : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) تقلب ليلهم ونهارهم وما يجري عليهم من النعم ، قال عكرمة : قال ابن عباس : وبئس المهاد : أي : بئس المنزل. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) قال : ضربهم في البلاد. وأخرج عبد بن حميد ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) قال : إنما سماهم الله أبرارا : لأنهم بروا الآباء والأبناء ، كما أن لوالدك عليك حقا ، كذلك لولدك عليك حقا. وأخرج ابن مردويه عنه مرفوعا والأول أصح قاله السيوطي. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد : (خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ) لمن يطيع الله. وأخرج النسائي ، والبزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أنس قال : لما مات النجاشي قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : صلوا عليه ، قالوا يا رسول الله! نصلي على عبد حبشي؟ فأنزل الله (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية. وأخرج ابن جرير عن جابر مرفوعا : أن المنافقين قالوا : انظروا إلى هذا ، يعني : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي على علج نصراني ، فنزلت. وأخرج الحاكم ، وصححه عن عبد الله بن الزبير : أنها نزلت في النجاشي. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : هم مسلمة أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد والذين اتبعوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن المبارك ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ما قدّمنا ذكره. وأخرج ابن مردويه عنه عن أبي هريرة قال : أما إنه لم يكن في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ، يصلون الصلوات في مواقيتها ، ثم يذكرون الله فيها. وقد ثبت في الصحيح وغيره من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات : إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصّلاة بعد الصّلاة ، فذلكم الرّباط ، فذلكم الرّباط ، فذلكم الرباط». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي قال : اصبروا على دينكم ، وصابروا الوعد الذي وعدتكم ، ورابطوا عدوي وعدوكم. وقد روي من تفاسير السلف غير هذا في سر الصبر على نوع من أنواع الطاعات ، والمصابرة على نوع آخر ، ولا تقوم بذلك حجة ، فالواجب الرجوع إلى المدلول اللغوي ، وقد قدّمناه. وقد وردت أحاديث كثيرة في فضل الرباط ، وفيها التصريح بأنه الرباط في سبيل الله ، وهو يرد ما قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن ، فإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد ندب إلى الرباط في سبيل الله وهو الجهاد فيحمل ما في الآية عليه ، وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه سمى حراسة جيش المسلمين رباطا ، وأخرج الطبراني في الأوسط بسند جيد عن أنس قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أجر المرابط فقال : «من رابط ليلة حارسا من وراء المسلمين كان له أجر من خلفه ممّن صام وصلّى».

وقد ورد في فضل هذه العشر الآيات التي في آخر السورة مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أخرجه ابن السني ، وابن مردويه ، وابن عساكر عن أبي هريرة : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ عشر آيات من آخر سورة آل

٤٧٦

عمران كلّ ليلة». وفي إسناده مظاهر بن أسلم ، وهو ضعيف. وقد تقدم من حديث ابن عباس في الصحيحين : أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه العشر الآيات لمّا استيقظ. وكذلك تقدم في غير الصحيحين من رواية صفوان بن المعطل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج الدارمي عن عثمان بن عفان قال : «من قرأ آخر آل عمران في ليلة كتب له قيام ليلة».

* * *

٤٧٧

سورة النّساء

هي مدنية كلها. قال القرطبي : إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح : في عثمان بن طلحة الحجبيّ ، وهي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) على ما سيأتي إن شاء الله ، قال النقاش : وقيل : نزلت عند هجرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة إلى المدينة ، وعلى ما تقدّم عن بعض أهل العلم أن قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) حيثما وقع ، فإنه مكي يلزم أن يكون صدر هذه السورة مكيا ، وبه قال علقمة وغيره. وقال النحاس : هذه الآية مكية. قال القرطبي : والصحيح الأوّل ، فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، يعني : قد بنى بها. ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة ، ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. قال. وأما من قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) مكي حيث وقع فليس بصحيح ، فإن البقرة مدنية وفيها (يا أَيُّهَا النَّاسُ) في موضعين. وقد أخرج ابن الضريس في فضائله والنحاس في ناسخه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة النساء بالمدينة ، وفي إسناده العوفي وهو ضعيف ، وكذا أخرجه ابن مردويه عن عبد الله ابن الزبير ، وزيد بن ثابت ، وأخرجه ابن المنذر عن قتادة.

وقد ورد في فضل هذه السورة : ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود قال : إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) الآية ، و (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية ، (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الآية. ثم قال : هذا إسناد صحيح ؛ إن كان عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود سمع من أبيه ، وقد اختلف في ذلك. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن ابن مسعود قال : خمس آيات من النساء هن أحب إليّ من الدنيا جميعا : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ) الآية ، (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها) الآية ، (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية ، (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) الآية ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) الآية. ورواه ابن جرير. ثم روى من طريق صالح المري عن قتادة عن ابن عباس قال : ثمان آيات نزلت في سورة النساء هنّ خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، وذكر ما ذكره ابن مسعود ، وزاد : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) الآية ، (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ) الآية ، (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) الآية. وأخرج أحمد وابن الضريس ، ومحمد بن نصر ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي عن عائشة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أخذ السّبع فهو حبر». وأخرج البيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت مكان التوراة السبع ، وأعطيت مكان الزبور المئين ، وأعطيت مكان الإنجيل المثاني ، وفضلت بالمفصل» (١). وأخرج أبو يعلى ، وابن خزيمة ، وابن حبان ، والحاكم ،

__________________

(١). في المطبوع : «أعطيت مكان التوراة السبع الطوال ، والمئين : كل سورة بلغت مائة فصاعدا ، والمثاني : كل سورة دون المئين ، وفوق المفصل».

٤٧٨

وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أنس قال : «وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذات ليلة شيئا فلمّا أصبح قيل : يا رسول الله! إنّ أثر الوجع عليك لبيّن ، قال : أما إنّي على ما ترون بحمد الله قد قرأت السّبع الطّوال». وأخرج أحمد عن حذيفة قال : «قمت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقرأ السّبع الطّوال في سبع ركعات». وأخرج عبد الرزاق عن بعض أهل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بالسبع الطّوال في ركعة واحدة». وأخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قال : «سلوني عن سورة النساء ؛ فإنّي قرأت القرآن وأنا صغير» قال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عنه قال : «من قرأ سورة النّساء ؛ فعلم ما يحجب ممّا لا يحجب ؛ علم الفرائض».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤))

المراد بالناس : الموجودون عند الخطاب من بني آدم ، ويدخل من سيوجد ، بدليل خارجي ، وهو الإجماع على أنهم مكلفون بما كلف به الموجودون ، أو تغليب الموجودين على من لم يوجد ، كما غلب الذكور على الإناث في قوله : (اتَّقُوا رَبَّكُمُ) لاختصاص ذلك بجمع المذكر. والمراد بالنفس الواحدة هنا : آدم. وقرأ ابن أبي عبلة : واحد ، بغير هاء ، على مراعاة المعنى ، فالتأنيث : باعتبار اللفظ ، والتذكير : باعتبار المعنى. قوله : (وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) قيل : هو معطوف على مقدر يدل عليه الكلام ، أي : خلقكم من نفس واحدة خلقها أولا ، وخلق منها زوجها ؛ وقيل : على : خلقكم ، فيكون الفعل الثاني داخلا مع الأوّل في حيز الصلة. والمعنى : وخلق من تلك النفس التي هي عبارة عن آدم زوجها ، وهي حواء. وقد تقدم في البقرة معنى : التقوى ، والربّ ، والزوج ، والبث ، والضمير في قوله : (مِنْها) راجع إلى آدم وحواء المعبر عنهما بالنفس والزوج. وقوله : (كَثِيراً) وصف مؤكد ، تفيده صيغة الجمع ، لكونها من جموع الكثرة ، وقيل : هو نعت لمصدر محذوف ، أي : بثا كثيرا. وقوله : (وَنِساءً) أي : كثيرة ، وترك التصريح به استغناء بالوصف الأوّل. قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) : قرأ أهل الكوفة بحذف التاء الثانية ، وأصله تتساءلون ، تخفيفا لاجتماع المثلين. وقرأ أهل المدينة ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، بإدغام التاء في

٤٧٩

السين ؛ والمعنى : يسأل بعضكم بعضا بالله والرحم ، فإنهم كانوا يقرنون بينهما في السؤال والمناشدة ، فيقولون : أسألك بالله والرحم ، وأنشدك الله والرحم ، وقرأ النخعي ، وقتادة ، والأعمش ، وحمزة : (وَالْأَرْحامَ) بالجر. وقرأ الباقون بالنصب.

وقد اختلف أئمة النحو في توجيه قراءة الجر ، فأما البصريون فقالوا : هي لحن لا تجوز القراءة بها. وأما الكوفيون فقالوا : هي قراءة قبيحة. قال سيبويه في توجيه هذا القبح : إن المضمر المجرور بمنزلة التنوين ، والتنوين لا يعطف عليه. وقال الزجاج وجماعة : بقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) وجوز سيبويه ذلك في ضرورة الشعر ، وأنشد :

فاليوم قرّبت تهجونا وتمدحنا (١)

فاذهب فما بك والأيّام من عجب

ومثله قول الآخر :

نعلّق في مثل السّواري سيوفنا

وما بينها والكعب مهوى (٢) نفانف

بعطف الكعب على الضمير في بينها. وحكى أبو علي الفارسي أن المبرد قال : لو صليت خلف إمام يقرأ (وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) بالجر ، لأخذت نعلي ومضيت. وقد ردّ الإمام أبو نصر القشيري ما قاله القادحون في قراءة الجرّ فقال : ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين ، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء ثبتت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تواترا ، ولا يخفى عليك أن دعوى التواتر باطلة يعرف ذلك من يعرف الأسانيد التي رووها بها ، ولكن ينبغي أن يحتج للجواز بورود ذلك في أشعار العرب كما تقدم ، وكما في قول بعضهم :

فحسبك والضّحّاك سيف مهنّد

وقول الآخر :

وقد رام آفاق السّماء فلم يجد

له مصعدا فيها ولا الأرض مقعدا

وقول الآخر :

ما إن بها والأمور من تلف (٣)

وقول الآخر :

أكرّ على الكتيبة لست أدري

أحتفي كان فيها أم سواها

فسواها : في موضع جرّ عطفا على الضمير في فيها ، ومنه قوله تعالى : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ

__________________

(١). في القرطبي (٥ / ٣) : وتشتمنا.

(٢). المهوى والمهواة : ما بين الجبلين ونحو ذلك. والنفانف : الهواء ، وقيل : الهواء بين الشيئين ، وكل شيء بينه وبين الأرض مهوى فهو نفنف.

(٣). وعجزه : ما حمّ من أمر غيبه وقعا.

٤٨٠