فتح القدير - ج ١

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ١

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

جبير نحوه أيضا وزاد في قوله : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) قال : يعني البيان الذي في القرآن في تحريم الربا فانتهى عنه : (فَلَهُ ما سَلَفَ) يعني : فله ما كان أكل من الربا قبل التحريم (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) يعني : بعد التحريم ، وبعد تركه ، إن شاء عصمه منه ، وإن شاء لم يفعل (وَمَنْ عادَ) يعني : في الربا بعد التحريم فاستحله بقولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) يعني : لا يموتون. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) قال : ينقص الربا (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) قال : يزيد فيها ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة مرفوعا «من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلا طيّبا ، فإنّ الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوّه حتى تكون مثل الجبل». وأخرج البزار وابن جرير وابن حبان والطبراني من حديث عائشة نحوه. وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن ابن عمر مرفوعا نحوه أيضا. وفي حديث عائشة وابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ بعد أن ساق الحديث : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ). وأخرج الطبراني عن أبي برزة الأسلمي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ العبد ليتصدّق بالكسرة تربو عند الله حتّى تكون مثل أحد» وهذه الأحاديث تبين معنى الآية.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١))

قوله : (اتَّقُوا اللهَ) أي : قوا أنفسكم من عقابه ، واتركوا البقايا التي بقيت لكم من الربا ، وظاهره أنه أبطل من الربا ما لم يكن مقبوضا. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قيل : هو شرط مجازي على جهة المبالغة ؛ وقيل : إنّ «إن» في هذه الآية بمعنى إذ. قال ابن عطية : وهو مردود لا يعرف في اللغة ، والظاهر أن المعنى : إن كنتم مؤمنين على الحقيقة ، فإن ذلك يستلزم امتثال أوامر الله ونواهيه. قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) يعني : ما أمرتم به من الاتقاء وترك ما بقي من الربا (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) أي : فاعلموا بها ، من أذن بالشيء : إذا علم به ؛ قيل : هو من الإذن بالشيء : وهو الاستماع ، لأنه من طرق العلم. وقرأ أبو بكر عن عاصم ، وحمزة : «فأذنوا» على معنى : فأعلموا غيركم أنكم على حربهم ، وقد دلت هذه : على أن أكل الربا والعمل به من الكبائر ، ولا خلاف في ذلك ، وتنكير الحرب : للتعظيم ، وزادها تعظيما نسبتها إلى اسم الله الأعظم ، وإلى رسوله الذي هو أشرف خليقته. قوله : (وَإِنْ تُبْتُمْ) أي : من الربا (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) تأخذونها (لا تَظْلِمُونَ) غرماءكم بأخذ الزيادة (وَلا تُظْلَمُونَ) أنتم من قبلهم بالمطل والنقص ، والجملة حالية أو استئنافية. وفي هذا دليل على أن أموالهم مع عدم التوبة حلال لمن أخذها من الأئمة ونحوهم ممن ينوب عنهم. قوله : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) لمّا حكم سبحانه لأهل الربا برءوس أموالهم عند

٣٤١

الواجدين للمال ؛ حكم في ذوي العسرة بالنّظرة إلى يسار ، والعسرة : ضيق الحال من جهة عدم المال ، ومنه جيش العسرة. والنظرة : التأخير ، والميسرة : مصدر بمعنى اليسر ، وارتفع ذو بكان التامة التي بمعنى وجد ، وهذا قول سيبويه وأبي عليّ الفارسي وغيرهما. وأنشد سيبويه :

فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي

إذا كان يوم ذو كواكب أشهب

وفي مصحف أبيّ وإن كان ذا عسرة على معنى : وإن كان المطلوب ذا عسرة. وقرأ الأعمش «وإن كان معسرا». قال أبو عمرو الداني عن أحمد بن موسى وكذلك في مصحف أبيّ بن كعب. وروى المعتمر عن حجاج الوراق قال في مصحف عثمان : وإن كان ذا عسرة قال النحاس ومكي والنقاش : وعلى هذا يختص لفظ الآية بأهل الربا ، وعلى من قرأ : ذو ، فهي عامة في جميع من عليه دين ، وإليه ذهب الجمهور. وقرأ الجماعة (فَنَظِرَةٌ) بكسر الظاء. وقرأ مجاهد وأبو رجاء والحسن بسكونها وهي لغة تميم. وقرأ نافع وحده : ميسرة بضم السين ، والجمهور بفتحها ، وهي اليسار. قوله : (وَأَنْ تَصَدَّقُوا) بحذف إحدى التاءين ، وقرئ بتشديد الصاد : أي : وأن تصدقوا على معسري غرمائكم بالإبراء خير لكم ، وفيه الترغيب لهم بأن يتصدقوا برءوس أموالهم على من أعسر وجعل ذلك خيرا من إنظاره ، قاله السدي وابن زيد والضحاك. قال الطبري : وقال آخرون : معنى الآية : وأن تصدقوا على الغنيّ والفقير خير لكم. والصحيح الأوّل ، وليس في الآية مدخل للغنيّ. قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جوابه محذوف ، أي : إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به. قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً) هو يوم القيامة ، وتنكيره للتهويل ، وهو منصوب على أنه مفعول به لا ظرف. وقوله : (تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) وصف له. وقرأ أبو عمرو : بفتح التاء وكسر الجيم ، والباقون : بضم التاء وفتح الجيم ، وذهب قوم : إلى أن هذا اليوم المذكور هو يوم الموت. وذهب الجمهور : إلى أنه يوم القيامة كما تقدّم. وقوله : (إِلَى اللهِ) فيه مضاف محذوف ، تقديره : إلى حكم الله (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) من النفوس المكلفة (ما كَسَبَتْ) أي : جزاء ما عملت من خير أو شر ، وجملة : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) حالية ، وجمع الضمير لأنه أنسب بحال الجزاء ، كما أن الإفراد أنسب بحال الكسب ، وهذه الآية فيها الموعظة الحسنة لجميع الناس.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) قال : نزلت في العباس بن عبد المطلب ، ورجل من بني المغيرة ، كانا شريكين في الجاهلية يسلفان الربا إلى ناس من ثقيف ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ، فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : كانت ثقيف قد صالحت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن ما لهم من ربا على الناس ، وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع ؛ فلما كان الفتح استعمل عتاب بن أسيد على مكة ، وكانت بنو عمرو بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة ، وكان بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية ، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير ، فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم ، فأبى بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ، ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد ، فكتب عتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا

٣٤٢

ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) فكتب بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عتاب وقال : إن رضوا وإلا فأذنهم بحرب. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) قال : من كان مقيما على الربا لا ينزع منه فحق على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه. وأخرجوا أيضا عنه في قوله : (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ) قال : استيقنوا بحرب. وأخرج أهل السنن وغيرهم عن عمر بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «ألا إنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، وأوّل ربا موضوع ربا العبّاس». وأخرج ابن مندة عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في ربيعة بن عمرو وأصحابه (وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ). وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ) قال : نزلت في الربا. وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد عن شريح نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن الضحاك في الآية قال : وكذلك كل دين على مسلم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه. وقد وردت أحاديث صحيحة في الصحيحين وغيرهما في الترغيب لمن له دين على معسر أن ينظره. وأخرج أبو عبيد ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي عن ابن عباس قال : آخر آية نزلت من القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) وأخرج ابن أبي شيبة عن السدي ، وعطية العوفي مثله. وأخرج ابن الأنباري عن أبي صالح ، وسعيد بن جبير مثله أيضا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها آخر آية نزلت ، وكان بين نزولها وبين موت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إحدى وثمانون يوما. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه عاش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد نزولها تسع ليال ثم مات.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣))

٣٤٣

هذا شروع في بيان حال المداينة الواقعة بين الناس بعد بيان حال الربا ، أي : إذا داين بعضكم بعضا وعامله بذلك ، وذكر الدين بعد ذكر ما يغني عنه من المداينة لقصد التأكيد مثل قوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (١) وقيل : إنه ذكر ليرجع إليه الضمير من قوله : (فَاكْتُبُوهُ) ولو قال : فاكتبوا الدين لم يكن فيه من الحسن ما في قوله : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) والدين : عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا ، والآخر في الذمة نسيئة ، فإن العين عند العرب ما كان حاضرا ، والدين ما كان غائبا ، قال الشاعر :

وعدتنا بدرهمينا طلاء

وشواء معجّلا غير دين

وقال الآخر :

إذا ما أوقدوا حطبا ونارا

فذاك الموت نقدا غير دين

وقد بين الله سبحانه هذا المعنى بقوله : (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وقد استدل به على أن الأجل المجهول لا يجوز وخصوصا أجل السّلم. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أسلف في تمر فليسلف في كيل معلوم إلى أجل معلوم» وقد قال بذلك الجمهور ، واشترطوا توقيته بالأيام أو الأشهر أو السنين ، قالوا : ولا يجوز إلى الحصاد ، أو الدياس ، أو رجوع القافلة ، أو نحو ذلك وجوّزه مالك. قوله : (فَاكْتُبُوهُ) أي : الدين بأجله ، لأنه أدفع للنزاع ، وأقطع للخلاف. قوله : (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ) هو بيان لكيفية الكتابة المأمور بها ، وظاهر الأمر الوجوب ، وبه قال عطاء والشعبي وغيرهما ، فأوجبوا على الكاتب أن يكتب إذا طلب منه ذلك ، ولم يوجد كاتب سواه ؛ وقيل الأمر للندب. وقوله : (بِالْعَدْلِ) متعلق بمحذوف صفة لكاتب ، أي : كاتب كائن بالعدل ، أي : يكتب بالسوية ، لا يزيد ولا ينقص ، ولا يميل إلى أحد الجانبين ، وهو أمر للمتداينين باختيار كاتب متصف بهذه الصفة ، لا يكون في قلبه ولا قلمه هوادة لأحدهما على الآخر ، بل يتحرّى الحق بينهم والمعدلة فيهم. قوله : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) النكرة في سياق النفي مشعرة بالعموم ، أي : لا يمتنع أحد من الكتاب أن يكتب كتاب التداين كما علمه الله ، أي : على الطريقة التي علمه الله من الكتابة ، أو كما علمه الله بقوله : (بِالْعَدْلِ). قوله : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) الإملال والإملاء لغتان : الأولى : لغة أهل الحجاز ، وبني أسد. والثانية : لغة بني تميم. فهذه الآية جاءت على اللغة الأولى ، وجاء على اللغة الثانية قوله تعالى : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٢) و (الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) هو من عليه الدين ، أمره الله تعالى بالإملاء ، لأن الشهادة إنما تكون على إقراره بثبوت الدين في ذمته ، وأمره الله بالتقوى فيما يمليه على الكاتب ، بالغ في ذلك بالجمع بين الاسم والوصف في قوله : (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) ونهاه عن البخس وهو : النقص ؛ وقيل : إنه نهي للكاتب. والأول أولى لأن من عليه الحق هو الذي يتوقع منه النقص ، ولو كان نهيا للكاتب لم يقتصره في نهيه على النقص ، لأنه يتوقع منه الزيادة كما يتوقع منه النقص. والسفيه : هو الذي لا رأي له في حسن التصرف فلا يحسن الأخذ ولا الإعطاء ، شبه بالثوب السفيه ، وهو : الخفيف النسج ، والعرب تطلق السفه على ضعف العقل تارة ، وعلى ضعف البدن أخرى ، فمن الأوّل قول الشاعر :

__________________

(١). الأنعام : ٣٨.

(٢). الفرقان : ٥.

٣٤٤

نخاف أن تسفه أحلامنا

ونجهل الدهر مع الجاهل

ومن الثاني قول ذي الرمة :

مشين كما اهتزّت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرّياح النّواسم

أي : استضعفها واستلانها بحركتها ، وبالجملة فالسفيه : هو المبذر إما لجهله بالصرف ، أو لتلاعبه بالمال عبثا ، مع كونه لا يجهل الصواب. والضعيف : هو الشيخ الكبير ، أو الصبي. قال أهل اللغة : الضعف بضم الضاد في البدن ، وبفتحها في الرأي. والذي لا يستطيع أن يملّ هو : الأخرس ، أو العييّ الذي لا يقدر على التعبير كما ينبغي ؛ وقيل : إن الضعيف هو المذهول العقل ، الناقص الفطنة ، العاجز عن الإملاء ، والذي لا يستطيع أن يملّ هو الصغير. قوله : (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) الضمير عائد إلى الذي عليه الحق فيملّ عن السفيه وليه المنصوب عنه بعد حجره عن التصرف في ماله ، ويملّ عن الصبي وصيه أو وليه ، وكذلك يملّ عن العاجز الذي لا يستطيع الإملال لضعف وليه ، لأنه في حكم الصبيّ أو المنصوب عنه من الإمام أو القاضي ، ويملّ عن الذي لا يستطيع وكيله ، إذا كان صحيح العقل ، وعرضت له آفة في لسانه أو لم تعرض ، ولكنه جاهل لا يقدر على التعبير كما ينبغي. وقال الطبري : إن الضمير في قوله : (وَلِيُّهُ) يعود إلى الحق ، وهو ضعيف جدا. قال القرطبي في تفسيره : وتصرّف السفيه المحجور عليه دون وليه فاسد إجماعا ، مفسوخ أبدا ، لا يوجب حكما ، ولا يؤثر شيئا ، فإن تصرف سفيه ولا حجر عليه ففيه خلاف. انتهى. قوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) الاستشهاد : طلب الشهادة ، وسماهما شهيدين قبل الشهادة من مجاز الأول ، أي : باعتبار ما يؤول إليه أمرهما من الشهادة ، و (مِنْ رِجالِكُمْ) متعلق بقوله : (وَاسْتَشْهِدُوا) أو بمحذوف هو : صفة لشهيدين ، أي : كائنين من رجالكم ، أي : من المسلمين ، فيخرج الكفار ، ولا وجه لخروج العبيد من هذه الآية ؛ فهم إذا كانوا مسلمين من رجال المسلمين ، وبه قال شريح ، وعثمان البتي ، وأحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وأبو ثور. وقال ابو حنيفة ، ومالك ، والشافعي ، وجمهور العلماء : لا تجوز شهادة العبد لما يلحقه من نقص الرق. وقال الشعبي والنخعي : يصح في الشيء اليسير دون الكثير. واستدل الجمهور على عدم جواز شهادة العبد : بأن الخطاب في هذه الآية مع الذين يتعاملون بالمداينة ، والعبيد لا يملكون شيئا تجري فيه المعاملة. ويجاب عن هذا : بأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، وأيضا : العبد تصح منه المداينة ، وسائر المعاملات ؛ إذا أذن له مالكه بذلك. وقد اختلف الناس هل الإشهاد واجب أو مندوب؟ فقال أبو موسى الأشعري ، وابن عمر ، والضحاك ، وسعيد بن المسيب ، وجابر بن زيد ، ومجاهد ، وداود بن علي الظاهري وابنه : إنه واجب ، ورجحه ابن جرير الطبري ؛ وذهب الشعبي ، والحسن ، ومالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابه : إلى أنه مندوب ، وهذا الخلاف بين هؤلاء هو في وجوب الإشهاد على البيع. واستدل الموجبون بقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) ولا فرق بين هذا الأمر وبين قوله : (وَاسْتَشْهِدُوا) فيلزم القائلين بوجوب الإشهاد في البيع أن يقولوا بوجوبه في المداينة. قوله : (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) أي : الشهيدان (رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) أي : فليشهد رجل وامرأتان ، أو فرجل وامرأتان

٣٤٥

يكفون. وقوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) متعلق بمحذوف وقع صفة لرجل وامرأتان ، أي : كائنون ممن ترضون ، حال كونهم من الشهداء. والمراد : ممن ترضون دينهم وعدالتهم ، وفيه : أن المرأتين في الشهادة برجل ، وأنها لا تجوز شهادة النساء إلا مع الرجل لا وحدهنّ ، إلا فيما لا يطلع عليه غيرهنّ للضرورة. واختلفوا هل يجوز الحكم بشهادة امرأتين مع يمين المدّعى كما جاز الحكم برجل مع يمين المدّعى؟ فذهب مالك والشافعي إلى أنه يجوز ذلك ، لأن الله سبحانه قد جعل المرأتين كالرجل في هذه الآية. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه لا يجوز ذلك ، وهذا يرجع إلى الخلاف في الحكم بشاهد مع يمين المدّعى ، والحق أنه جائز لورود الدليل عليه ، وهو زيادة لم تخالف ما في الكتاب العزيز فيتعين قبولها. وقد أوضحنا ذلك في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا ، ومعلوم عند كل من يفهم : أنه ليس في هذه الآية ما يردّ به قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشاهد واليمين ، ولم يدفعوا هذا إلا بقاعدة مبنية على شفا جرف هار هي قولهم : إن الزيادة على النص نسخ ، وهذه دعوى باطلة ، بل الزيادة على النص شريعة ثابتة جاءنا بها من جاءنا بالنص المتقدم عليها ، وأيضا كان يلزمهم أن لا يحكموا بنكول المطلوب ولا بيمين الرد على الطالب. وقد حكموا بهما. والجواب الجواب. قوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) قال أبو عبيد : معنى تضل : تنسى. والضلال عن الشهادة : إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء. وقرأ حمزة : «إن تضلّ» بكسر الهمزة. وقوله : (فَتُذَكِّرَ) جوابه على هذه القراءة ، وعلى قراءة الجمهور هو منصوب بالعطف على تضلّ ، ومن رفعه فعلى الاستئناف. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «فتذكر» بتخفيف الذال والكاف ، ومعناه : تزيدها ذكرا. وقراءة الجماعة : بالتشديد ، أي : تنبهها إذا غفلت ونسيت ، وهذه الآية تعليل لاعتبار العدد في النساء ، أي : فليشهد رجل وتشهد امرأتان عوضا عن الرجل الآخر ، لأجل تذكير إحداهما للأخرى إذا ضلت ، وعلى هذا فيكون في الكلام حذف ، وهو سؤال سائل عن وجه اعتبار امرأتين عوضا عن الرجل الواحد ، فقيل : وجهه أن تضلّ إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ، والعلة في الحقيقة هي التذكير ، ولكن الضلال لما كان سببا له نزل منزلته ، وأبهم الفاعل في تضلّ وتذكر ، لأن كلا منهما يجوز عليه الوصفان ؛ فالمعنى : إن ضلت هذه ذكرتها هذه ، وإن ضلت هذه ذكرتها هذه ، لا على التعيين ، أي : إن ضلت إحدى المرأتين ذكرتها المرأة الأخرى ، وإنما اعتبر فيهما هذا التذكير لما يلحقهما من ضعف النساء بخلاف الرجال. وقد يكون الوجه في الإبهام : أن ذلك ، يعني : الضلال والتذكر يقع بينهما متناوبا حتى ربما ضلت هذه عن وجه وضلت تلك عن وجه آخر ، فذكرت كل واحدة منهما صاحبتها. وقال سفيان بن عيينة : معنى قوله : (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) تصيرها ذكرا ، يعني أن مجموع شهادة المرأتين مثل شهادة الرجل الواحد. وروي نحوه عن أبي عمرو بن العلاء ، ولا شك أن هذا باطل لا يدل عليه شرع ولا لغة ولا عقل. قوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) أي : لأداء الشهادة التي قد تحملوها من قبل ؛ وقيل : إذا ما دعوا لتحمل الشهادة ، وتسميتهم شهداء مجاز كما تقدم ، وحملها الحسن على المعنيين. وظاهر هذا النهي أن الامتناع من أداء الشهادة حرام. قوله : (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ) معنى تسأموا : تملوا. قال الأخفش : يقال سئمت أسأم سآمة وسآما ، ومنه قول الشاعر :

٣٤٦

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولا لا أبا لك يسأم

أي : لا تملوا أن تكتبوه ، أي : الدين الذي تداينتم به ؛ وقيل : الحق ؛ وقيل : الشاهد ؛ وقيل : الكتاب ، نهاهم الله سبحانه عن ذلك لأنهم ربما ملوا من كثرة المداينة أن يكتبوا ، ثم بالغ في ذلك فقال : (صَغِيراً أَوْ كَبِيراً) أي : حال كون ذلك المكتوب صغيرا أو كبيرا ، أي : لا تملوا في حال من الأحوال سواء كان الدين كثيرا أو قليلا ؛ وقيل : إنه كنى بالسآمة عن الكسل. والأول أولى. وقدّم الصغير هنا على الكبير للاهتمام به لدفع ما عساه أن يقال إن هذا مال صغير ، أي : قليل لا احتياج إلى كتبه ، والإشارة في قوله : (ذلِكُمْ) إلى المكتوب المذكور في ضمير قوله : (أَنْ تَكْتُبُوهُ) و (أَقْسَطُ) معناه : أعدل ، أي : أصح وأحفظ (وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ) أي : أعون على إقامة الشهادة ، وأثبت لها ، وهو مبني من : أقام ، وكذلك أقسط مبني من فعله ، أي : أقسط. وقد صرح سيبويه بأنه قياسي ، أي : بنى أفعل التفضيل. ومعنى قوله : (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا) أقرب لنفي الريب في معاملاتكم ، أي : الشك ، ولذلك إن الكتاب الذي يكتبونه يدفع ما يعرض لهم من الريب كائنا ما كان. قوله : (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) أن في موضع نصب على الاستثناء قاله الأخفش ، وكان تامة : أي إلا أن تقع أو توجد تجارة ، والاستثناء منقطع ، أي : لكن وقت تبايعكم وتجارتكم حاضرة بحضور البدلين ، (تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ) تتعاطونها يدا بيد ، فالإدارة : التعاطي والتقابض ، فالمراد : التبايع الناجز يدا بيد ، فلا حرج عليكم إن تركتم كتابته. وقرئ : بنصب تجارة ، على أن كل ناقصة ، أي : إلا أن تكون التجارة تجارة حاضرة. قوله : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) قيل معناه : وأشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع المذكور هنا ، وهو التجارة الحاضرة على أن الإشهاد فيها يكفي ؛ وقيل : معناه : إذا تبايعتم أيّ تبايع كان حاضرا أو كالئا (١) ، لأن ذلك أدفع لمادة الخلاف وأقطع لمنشأ الشجار. وقد تقدّم قريبا ذكر الخلاف في كون هذا الإشهاد واجبا أو مندوبا. قوله : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل ، أو للمفعول ؛ فعلى الأوّل معناه : لا يضارر كاتب ولا شهيد من طلب ذلك منهما ، إما بعدم الإجابة ، أو بالتحريف ، والتبديل ، والزيادة والنقصان في كتابته ؛ ويدل على هذا قراءة عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وابن أبي إسحاق : «ولا يضارر» بكسر الراء الأولى ؛ وعلى الثاني : لا يضارر كاتب ولا شهيد ، بأن يدعيا إلى ذلك وهما مشغولان بمهمّ لهما ، ويضيق عليهما في الإجابة ، ويؤذيا إن حصل منهما التراخي ، أو يطلب منهما الحضور من مكان بعيد ، ويدل على ذلك قراءة ابن مسعود : «ولا يضارر» بفتح الراء الأولى ، وصيغة المفاعلة تدل على اعتبار الأمرين جميعا. وقد تقدّم في تفسير قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) (٢) ما إذا راجعته زادك بصيرة إن شاء الله. قوله : (وَإِنْ تَفْعَلُوا) أي : ما نهيتم عنه من المضارة (فَإِنَّهُ) أي : فعلكم هذا (فُسُوقٌ بِكُمْ) أي : خروج عن الطاعة إلى المعصية ،

__________________

(١). ورد في الحديث أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نهى عن الكالئ بالكالئ. أي : النسيئة بالنسيئة ، وذلك أن يشتري الرجل شيئا إلى أجل ، فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به ، فيقول : بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء ، فيبيعه منه ، ولا يجري بينهما تقابض. [النهاية ٤ / ١٩٤].

(٢). البقرة : ٢٣٣.

٣٤٧

ملتبس بكم (وَاتَّقُوا اللهَ) في فعل ما أمركم به ، وترك ما نهاكم عنه ، (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) ما تحتاجون إليه من العلم ، وفيه الوعد لمن اتقاه أن يعلمه ، ومنه قوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (١). قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) لما ذكر سبحانه مشروعية الكتابة والإشهاد لحفظ الأموال ودفع الريب ، عقب ذلك بذكر حالة العذر عن وجود الكاتب ، ونص على حالة السفر ، فإنها من جملة أحوال العذر ، ويلحق بذلك كل عذر يقوم مقام السفر ، وجعل الرهان المقبوضة قائمة مقام الكتابة ، أي : فإن كنتم مسافرين (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) في سفركم (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) قال أهل العلم : الرهن في السفر ثابت بنص التنزيل ، وفي الحضر بفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما ثبت في الصحيحين «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رهن درعا له من يهوديّ». وقرأ الجمهور «كاتبا» أي رجلا يكتب لكم. وقرأ ابن عباس ، وأبيّ ، ومجاهد ، والضحاك ، وعكرمة وأبو العالية : «كتابا» قال ابن الأنباري : فسره مجاهد فقال : معناه فإن لم تجدوا مدادا : يعني في الأسفار. وقرأ أبو عمرو ، وابن كثير «فرهن» بضم الراء والهاء. وروي عنهما تخفيف الهاء جمع رهان ، قاله الفراء ، والزجاج ، وابن جرير الطبري. وقرأ عاصم بن أبي النجود «فرهن» بفتح الراء وإسكان الهاء. وقراءة الجمهور : «رهان». قال الزجاج : يقال في الرهن : رهنت وأرهنت ، وكذا قال ابن الأعرابي والأخفش. وقال أبو علي الفارسي : يقال : أرهنت في المعاملات ، وأما في القرض والبيع : فرهنت ، وقال ثعلب : الرواة كلهم في قول الشاعر :

فلمّا خشيت أظافيرهم

نجوت وأرهنتهم مالكا

على أرهنتهم ، على أنه يجوز : رهنته وأرهنته ، إلا الأصمعي فإنه رواه وأرهنهم على أنه عطف لفعل مستقبل على فعل ماض ، وشبهه بقوله : قمت وأصك وجهه. وقال ابن السكيت : أرهنت فيهما : بمعنى أسلفت ، والمرتهن الذي يأخذ الرهن ، والشيء مرهون ورهين ، وراهنت فلانا على كذا مراهنة : خاطرته. وقد ذهب الجمهور إلى اعتبار القبض كما صرح به القرآن ، وذهب مالك إلى أنه يصح الارتهان بالإيجاب والقبول من دون قبض. قوله : (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) أي : إن كان الذي عليه الحق أمينا عند صاحب الحق ، لحسن ظنه به ، وأمانته لديه ، واستغنى بأمانته عن الارتهان (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) وهو المديون (أَمانَتَهُ) أي : الدين الذي عليه ، والأمانة : مصدر سمى به الذي في الذمة ، وأضافها إلى الذي عليه الدين من حيث أن لها إليه نسبة ، وقرئ «أيتمن» بقلب الهمزة ياء ، وقرئ بإدغام الياء في التاء وهو خطأ ، لأن المنقلبة من الهمزة لا تدغم لأنها في حكمها (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في أن لا يكتم من الحق شيئا. قوله : (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) نهي للشهود أن يكتموا ما تحملوه من الشهادة ، وهو في حكم التفسير لقوله : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ) أي : لا يضارر بكسر الراء الأولى على أحد التفسيرين المتقدّمين. قوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) خص القلب بالذكر لأن الكتم من أفعاله ، ولكونه رئيس الأعضاء ، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وإن فسدت فسد كله ، وارتفاع القلب : على أنه فاعل أو مبتدأ ، وآثم : خبره على ما تقرر في علم النحو ؛ ويجوز أن يكون قلبه : بدلا من آثم ، بدل البعض من الكل ، ويجوز أن يكون

__________________

(١). الأنفال : ٢٩.

٣٤٨

أيضا : بدلا من الضمير الذي في آثم الراجع إلى من ، وقرئ «قلبه» بالنصب كما في قوله : (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) (١).

وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) قال : نزلت في السّلم في كيل معلوم إلى أجل معلوم. وأخرج الشافعي ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وغيرهم عنه قال : أشهد : أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحلّه ، وقرأ هذه الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في الآية. قال : أمر بالشهادة عند المداينة لكيلا يدخل في ذلك جحود ولا نسيان ، فمن لم يشهد على ذلك فقد عصى (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ) يعني : من احتيج إليه من المسلمين ليشهد على شهادة ، أو كانت عنده شهادة ، فلا يحلّ له أن يأبى إذا ما دعي ، ثم قال بعد هذا : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) والضرار : أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنيّ إن الله قد أمرك أن لا تأبى إذا دعيت ، فيضاره بذلك وهو مكتف بغيره ، فنهاه الله عن ذلك. وقال : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) يعني : معصية. قال : ومن الكبائر كتمان الشهادة ، لأن الله تعالى يقول : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في قوله : (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) قال : واجب على الكاتب أن يكتب. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : كانت الكتابة عزيمة فنسخها (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ). وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد. قال : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) قال : هو الجاهل (أَوْ ضَعِيفاً) قال : هو الأحمق. وأخرج ابن جرير عن الضحاك والسدي في قوله : (سَفِيهاً) قالا : هو الصبيّ الصغير. وأخرج ابن جرير من طريق عطية العوفي عن ابن عباس : (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) قال : صاحب الدين. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن الحسن قال : ولي اليتيم. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : وليّ السفيه أو الضعيف. وأخرج سعيد ابن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر ، والبيهقي عن مجاهد في قوله : (مِنْ رِجالِكُمْ) قال : من الأحرار. وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) قال : عدول. وأخرج الشافعي ، والبيهقي عن مجاهد قال : عدلان حران مسلمان. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد ابن جبير في قوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) يقول : أن تنسى إحدى المرأتين الشهادة (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) يعني : تذكرها التي حبطت شهادتها. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ) قال : إذا كانت عندهم شهادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع قال : كان الرجل يطوف في القوم الكثير يدعوهم يشهدون فلا يتبعه أحد منهم ، فأنزل الله : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن المنذر عن عائشة في قوله : (أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) قالت : أعدل. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) قال : يأتي الرجل الرجلين فيدعوهما إلى الكتابة والشهادة فيقولان إنا على حاجة ، فيقول إنكما قد أمرتما أن تحبيبا ، فليس له أن يضارّهما. وأخرج ابن جرير عن طاوس (لا يُضَارَّ كاتِبٌ) ، فيكتب ما

__________________

(١). البقرة : ١٣٠.

٣٤٩

لم يملّ عليه (وَلا شَهِيدٌ) فيشهد بما لم يستشهد. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) الآية ، قال : من كان على سفر فبايع بيعا إلى أجل فلم يجد كاتبا فرخص له في الرهان المقبوضة ، وليس له إن وجد كاتبا أن يرتهن. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : لا يكون الرهن إلا في السفر. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : لا يكون الرهن إلا مقبوضا. وأخرج البخاري في تاريخه ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن ماجة ، وأبو نعيم ، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) حتى بلغ (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) قال : هذه نسخت ما قبلها. وأقول : رضي الله عن هذا الصحابي الجليل ، ليس هذا من باب النسخ ، فهذا مقيد بالائتمان ، وما قبله ثابت محكم لم ينسخ وهو مع عدم الائتمان. وأخرج ابن جرير عن السديّ في قوله : (آثِمٌ قَلْبُهُ) قال : فاجر قلبه. وأخرج ابن جرير بإسناد صحيح عن سعيد بن المسيب : أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. وأخرج أبو عبيد في فضائله عن ابن شهاب قال : آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين.

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤))

قوله : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قد تقدّم تفسيره. قوله : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) إلى آخر الآية ، ظاهره : أن الله يحاسب العباد على ما أضمرته أنفسهم أو أظهرته من الأمور التي يحاسب عليها ، فيغفر لمن يشاء منهم ما يغفره منها ، ويعذب من يشاء منهم بما أسرّ أو أظهر منها ، هذا معنى الآية على مقتضى اللغة العربية. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية على أقوال : الأول : أنها وإن كانت عامة ، فهي مخصوصة بكتمان الشهادة ، وأن الكاتم للشهادة يحاسب على كتمه سواء أظهر للناس أنه كاتم للشهادة أو لم يظهر. وقد روي هذا عن ابن عباس ، وعكرمة ، والشعبي ومجاهد ، وهو مردود بما في الآية من عموم اللفظ ، ولا يصلح ما تقدم قبل هذه الآية من النهي عن كتم الشهادة أن تكون مختصة به. والقول الثاني : أن ما في الآية مختص بما يطرأ على النفوس من الأمور التي هي بين الشك واليقين ، قاله مجاهد ، وهو أيضا تخصيص بلا مخصص. والقول الثالث : أنها محكمة عامة ، ولكن العذاب على ما في النفس يختص بالكفار والمنافقين. حكاه الطبري عن قوم ، وهو أيضا تخصيص بلا مخصص ، فإن قوله : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) لا يختص ببعض معين إلا بدليل. والقول الرابع : أن هذه الآية منسوخة ، قاله ابن مسعود ، وعائشة ، وأبو هريرة ، والشعبي ، وعطاء ، ومحمد بن سيرين ، ومحمد بن كعب ، وموسى بن عبيدة ، وهو مرويّ عن ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين ، وهذا هو الحق لما سيأتي من التصريح بنسخها ، ولما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله غفر لهذه الأمّة ما حدّثت به أنفسها». قوله : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) قدم الجار والمجرور على الفاعل لإظهار العناية به ، وقدم الإبداء على الإخفاء ، لأن الأصل في الأمور التي يحاسب عليها هو الأعمال البادية ،

٣٥٠

وأما تقديم الإخفاء في قوله سبحانه : (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) (١) فلكون العلم يتعلق بالأعمال الخافية والبادية على السوية ، وقدم المغفرة على التعذيب لكون رحمته سبقت غضبه ، وجملة قوله : (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) مستأنفة : أي فهو يغفر ، وهي متضمنة لتفصيل ما أجمل في قوله : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) وهذا على قراءة ابن عامر وعاصم. وأما على قراءة ابن كثير ، ونافع ، وأبي عمرو ، وحمزة ، والكسائي : بجزم الراء والباء ، فالفاء عاطفة لما بعدها على المجزوم قبلها ، وهو جواب الشرط : أعني قوله : (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ). وقرأ ابن عباس ، والأعرج ، وأبو العالية ، وعاصم الجحدري : بنصب الراء والباء في قوله : (فَيَغْفِرُ وَيُعَذِّبُ) على إضمار أن عطفا على المعنى. وقرأ طلحة بن مصرف : يغفر بغير فاء على البدل ، وبه قرأ الجعفي ، وخلاد.

وقد أخرج أحمد ومسلم ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية ، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم جثوا على الركب ، فقالوا : يا رسول الله! كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزل الله عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا ، بل قولوا : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) (٢) فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) (٣) الآية ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلى آخرها. وأخرج أحمد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي عن ابن عباس مرفوعا نحوه ، وزاد فأنزل الله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) (٤) قال : قد فعلت (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) (٥) قال : قد فعلت (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) (٦) قال : قد فعلت (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا) (٧) الآية ، قال : قد فعلت. وقد رويت هذه القصة عن ابن عباس من طرق. وأخرج البخاري ، والبيهقي ، عن مروان الأصفر عن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحسبه ابن عمر (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) قال : نسختها الآية التي بعدها. وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي عن علي نحوه ، وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، والطبراني عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن جرير عن عائشة نحوه أيضا.

وبمجموع ما تقدم يظهر لك ضعف ما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية أنه قال : نزلت في كتمان الشهادة فإنها لو كانت كذلك لم يشتد الأمر على الصحابة. وعلى كل حال فبعد هذه الأحاديث المصرّحة بالنسخ والناسخ لم يبق مجال لمخالفتها ، ومما يؤيد ذلك ما ثبت في الصحيحين والسنن الأربع من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله تجاوز لي عن أمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تتكلّم أو تعمل به». وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت : كل عبد همّ بسوء ومعصية وحدّث نفسه به حاسبه الله في الدنيا ، يخاف ويحزن ، ويشتدّ همه ، لا يناله من ذلك شيء كما

__________________

(١). آل عمران : ٢٩.

(٢). البقرة : ٢٨٥.

(٣). البقرة : ٢٨٥.

(٤). البقرة : ٢٨٦.

(٥). البقرة : ٢٨٦.

(٦). البقرة : ٢٨٦.

(٧). البقرة : ٢٨٦.

٣٥١

هم بالسوء ولم يعمل منه بشيء. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير عنها نحوه ، والأحاديث المتقدمة المصرحة بالنسخ تدفعه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : إن الله يقول يوم القيامة : إن كتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظهر منها ، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليوم ، فأغفر لمن شئت ، وأعذب من شئت ، وهو مدفوع بما تقدم.

(آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

قوله : (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) أي : بجميع ما أنزل الله. (وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف على الرسول ، وقوله : (كُلٌ) أي من الرسول والمؤمنين (آمَنَ بِاللهِ) ويجوز أن يكون قوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ) مبتدأ. وقوله : (كُلٌ) مبتدأ ثان. وقوله : (آمَنَ بِاللهِ) خبر المبتدأ الثاني ، وهو وخبره خبر المبتدأ الأوّل ، وأفرد الضمير في قوله : (آمَنَ بِاللهِ) مع رجوعه إلى كل المؤمنين ، لما أن المراد بيان إيمان كل فرد منهم ، من غير الاجتماع كما اعتبر ذلك في قوله تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) (١). قال الزجاج لمّا ذكر الله سبحانه في هذه السورة فرض الصلاة ، والزكاة ، وبين أحكام الحج ، وحكم الحيض ، والطلاق والإيلاء ، وأقاصيص الأنبياء ، وبين حكم الربا ، ذكر تعظيمه سبحانه بقوله : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ثم ذكر تصديق نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ذكر تصديق المؤمنين بجميع ذلك فقال : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) أي : صدّق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها ، وكذلك المؤمنون ، كلهم صدّقوا بالله وملائكته وكتبه ورسله ؛ وقيل سبب نزولها : الآية التي قبلها. وقد تقدّم بيان ذلك. قوله : (وَمَلائِكَتِهِ) أي : من حيث كونهم عباده المكرّمين ، المتوسطين بينه وبين أنبيائه في إنزال كتبه ، وقوله : (وَكُتُبِهِ) لأنها المشتملة على الشرائع التي تعبد بها عباده. وقوله : (وَرُسُلِهِ) لأنهم المبلغون لعباده ما نزل إليهم. وقرأ نافع ، وابن كثير ، وعاصم في رواية أبي بكر وابن عامر : وكتبه ، بالجمع. وقرءوا في التحريم : وكتابه. وقرأ ابن عباس هنا : وكتابه ، وكذلك قرأ حمزة والكسائي ، وروي عنه أنه قال : الكتاب أكثر من الكتب. وبينه صاحب الكشاف فقال : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء ، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع. انتهى. ومن أراد تحقيق المقام فليرجع إلى شرح التلخيص المطوّل عند قول صاحب التلخيص «واستغراق المفرد أشمل». وقرأ الجمهور : ورسله ، بضم السين. وقرأ أبو عمرو : بتخفيف السين. وقرأ الجمهور : «لا نفرّق» بالنون. والمعنى : يقولون : لا نفرق. وقرأ سعيد ابن جبير ، ويحيى بن يعمر ، وأبو زرعة ، وابن عمر ، وابن جرير ، ويعقوب : «لا يفرق» بالياء التحتية.

__________________

(١). النمل : ٨٧.

٣٥٢

وقوله : (بَيْنَ أَحَدٍ) ولم يقل بين آحاد ، لأن الأحد يتناول الواحد ، والجمع ، كما في قوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (١) فوصفه بقوله : (حاجِزِينَ) لكونه في معنى الجمع ، وهذه الجملة يجوز أن تكون في محل نصب على الحال ، وأن تكون خبرا آخر لقوله : (كُلٌ). وقوله : (مِنْ رُسُلِهِ) أظهر في محل الإضمار للاحتراز عن توهم اندراج الملائكة في الحكم ، أو الإشعار بعلة عدم التفريق بينهم. وقوله : (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) هو معطوف على قوله : (آمَنَ) وهو وإن كان للمفرد وهذا للجماعة فهو جائز نظرا إلى جانب المعنى ، أي : أدركناه بأسماعنا ، وفهمناه ، وأطعنا ما فيه ؛ وقيل : معنى سمعنا : أجبنا دعوتك. قوله : (غُفْرانَكَ) مصدر منصوب بفعل مقدّر ، أي : اغفر غفرانك. قاله الزجاج وغيره ، وقدّم السمع والطاعة على طلب المغفرة لكون الوسيلة تتقدّم على المتوسل إليه. قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) التكليف : هو الأمر بما فيه مشقة وكلفة ، والوسع : الطاقة ، والوسع : ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه ، وهذه جملة مستقلة جاءت عقب قوله سبحانه : (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية ، لكشف كربة المسلمين ، ودفع المشقة عليهم في التكليف بما في الأنفس ، وهي كقوله : سبحانه : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢). قوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) فيه ترغيب وترهيب ، أي : لها ثواب ما كسبت من الخير ، وعليها وزر ما اكتسبت من الشرّ ، وتقدّم «لها وعليها» على الفعلين ليفيد أن ذلك لها لا لغيرها ، وعليها لا على غيرها ، وهذا مبنيّ على أن : كسب ، للخير فقط ، واكتسب : للشرّ فقط ، كما قاله صاحب الكشاف وغيره ؛ وقيل : كل واحد من الفعلين يصدق على الأمرين ، وإنما كرّر الفعل وخالف بين التصريفين تحسينا للنظم كما في قوله تعالى : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (٣). قوله : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) أي : لا تؤاخذنا بإثم ما يصدر منا من هذين الأمرين. وقد استشكل هذا الدعاء جماعة من المفسرين وغيرهم قائلين : إن الخطأ والنسيان مغفوران غير مؤاخذ بهما ، فما معنى الدعاء بذلك ، فإنه من تحصيل الحاصل. وأجيب عن ذلك : بأن المراد : طلب عدم المؤاخذة بما صدر عنهم من الأسباب المؤدية إلى النسيان والخطأ من التفريط وعدم المبالاة ، لا من نفس النسيان والخطأ ، فإنه لا مؤاخذة بهما كما يفيد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان» وسيأتي مخرّجه ؛ وقيل : إنه يجوز للإنسان أن يدعو بحصول ما هو حاصل له قبل الدعاء لقصد استدامته ؛ وقيل : إنه وإن ثبت شرعا أنه لا مؤاخذة بهما ، فلا امتناع في المؤاخذة بهما عقلا ؛ وقيل : لأنهم كانوا على جانب عظيم من التقوى بحيث لا يصدر عنهم الذنب تعمدا ، وإنما يصدر عنهم خطأ أو نسيانا ، فكأنه وصفهم بالدعاء بذلك إيذانا بنزاهة ساحتهم عما يؤاخذون به ، كأنه قيل : إن كان النسيان والخطأ مما يؤاخذ به ، فما منهم سبب مؤاخذة إلا الخطأ والنسيان. قال القرطبي : وهذا لم يختلف فيه أن الإثم مرفوع ، وإنما اختلف فيما يتعلق على ذلك من الأحكام هل ذلك مرفوع ولا يلزم منه شيء ، أو يلزم أحكام ذلك كله؟ اختلف فيه ، والصحيح : أن ذلك يختلف بحسب الوقائع ، فقسم لا يسقط باتفاق كالغرامات والدّيات والصلوات المفروضات ، وقسم يسقط باتفاق كالقصاص والنطق بكلمة الكفر ، وقسم ثالث مختلف فيه : كمن أكل ناسيا في رمضان أو حنث ساهيا ، وما كان مثله مما يقع

__________________

(١). الحاقة : ٤٧.

(٢). البقرة : ١٨٥.

(٣). الطارق : ١٧.

٣٥٣

خطأ ونسيانا ، ويعرف ذلك في الفروع. انتهى. قوله : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) عطف على الجملة التي قبله ، وتكرير النداء للإيذان بمزيد التضرّع واللجأ إلى الله سبحانه. والإصر : العبء الثقيل الذي يأصر صاحبه ، أي : يحبسه مكانه لا يستقل به لثقله. والمراد به هنا التكليف الشاق ، والأمر الغليظ الصعب ؛ وقيل الإصر : شدّة العمل وما غلظ على بني إسرائيل من قتل الأنفس وقطع موضع النجاسة ، ومنه قول النابغة :

يا مانع الضّيم أن تغشى سراتهم

والحامل الإصر عنهم بعد ما غرقوا

وقيل : الإصر : المسخ قردة وخنازير ؛ وقيل : العهد ، ومنه قوله تعالى : (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) وهذا الخلاف يرجع إلى بيان ما هو الإصر الذي كان على من قبلنا ، لا إلى معنى الإصر في لغة العرب ، فإنه ما تقدّم ذكره بلا نزاع ، والإصار : الحبل الذي تربط به الأحمال ونحوها ، يقال : أصر يأصر إصرا : حبس ، والإصر بكسر الهمزة من ذلك. قال الجوهري : والموضع : مأصر ، والجمع : مأصر ، والعامة تقول معاصر. ومعنى الآية : أنهم طلبوا من الله سبحانه أن لا يحملهم من ثقل التكاليف ما حمل الأمم قبلهم. وقوله : (كَما حَمَلْتَهُ) صفة مصدر محذوف : أي حملا مثل حملك إياه على من قبلنا ، أو صفة لإصرا ، أي : إصرا مثل الإصر الذي حملته على من قبلنا. قوله : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) هو أيضا عطف على ما قبله ، وتكرير النداء للنكتة المذكورة قبل هذا. والمعنى : لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق ؛ وقيل : عبارة عن إنزال العقوبات ، كأنه قال : لا تنزل علينا العقوبات بتفريطنا في المحافظة على تلك التكاليف الشاقة التي كلفت بها من قبلنا ؛ وقيل : المراد به الشاق الذي لا يكاد يستطاع من التكاليف. قال في الكشاف : وهذا تقرير لقوله : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً). قوله : (وَاعْفُ عَنَّا) أي : عن ذنوبنا ، يقال : عفوت عن ذنبه : إذا تركته ولم تعاقبه عليه (وَاغْفِرْ لَنا) أي : استر على ذنوبنا ، والغفر : الستر (وَارْحَمْنا) أي : تفضل برحمة منك علينا (أَنْتَ مَوْلانا) أي : ولينا وناصرنا ، وخرج هذا مخرج التعليم كيف يدعون ؛ وقيل معناه : أنت سيدنا ونحن عبيدك (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فإن من حق المولى أن ينصر عبيده ، والمراد : عامة الكفرة ، وفيه إشارة إلى إعلاء كلمة الله في الجهاد في سبيله. وقد قدّمنا في شرح الآية التي قبل هذه أعني قوله : (إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) إلخ ، أنه ثبت في الصحيح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله تعالى قال عقب كل دعوة من هذه الدعوات قد فعلت ، فكان ذلك دليلا على أنه سبحانه لم يؤاخذهم بشيء من الخطأ والنسيان ، ولا حمل عليهم شيئا من الإصر الذي حمله على من قبلهم ، ولا حملهم ما لا طاقة لهم به ، وعفا عنهم ، وغفر لهم ، ورحمهم ، ونصرهم على القوم الكافرين ، والحمد لله رب العالمين.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) لا نكفر بما جاءت به الرسل ، ولا نفرّق بين أحد منهم ، ولا نكذب به (وَقالُوا سَمِعْنا) للقرآن الذي جاء من الله (وَأَطَعْنا) ، أقرّوا لله أن يطيعوه في أمره ونهيه. وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (غُفْرانَكَ رَبَّنا) قال : قد غفرت لكم (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) قال : إليك المرجع والمآب يوم يقوم الحساب. وأخرج سعيد

٣٥٤

ابن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن حكيم بن جابر قال : لما نزلت (آمَنَ الرَّسُولُ) الآية ، قال جبريل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه ، فقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) حتى ختم السورة. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) قال : هم المؤمنون وسع الله عليهم أمر دينهم فقال : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١). وقال : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٢). وقال : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (٣). وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) قال : من العمل. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (إِلَّا وُسْعَها) قال : إلا طاقتها. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك نحوه. وقد أخرج ابن ماجة ، وابن المنذر ، وابن حبان في صحيحه ، والطبراني ، والدارقطني ، والحاكم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي ذرّ مرفوعا ، والطبراني من حديث ثوبان ، ومن حديث ابن عمر ، ومن حديث عقبة بن عامر ، وأخرجه البيهقي أيضا من حديثه. وأخرجه ابن عديّ في الكامل ، وأبو نعيم من حديث أبي بكرة ، وأخرجه ابن أبي حاتم من حديث أمّ الدرداء. وأخرجه سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد من حديث الحسن مرسلا ، وأخرجه عبد بن حميد من حديث الشعبي مرسلا. وفي أسانيد هذه الأحاديث مقال ولكنها يقوّي بعضها بعضا فلا تقصر عن رتبة الحسن لغيره. وقد تقدّم حديث : «إنّ الله قال قد فعلت» وهو في الصحيح وهو يشهد لهذه الأحاديث. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِصْراً) قال : عهدا. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج مثله. وأخرج أيضا عن عطاء بن أبي رباح في قوله : (وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) قال : لا تمسخنا قردة وخنازير. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية أن الإصر : الذنب الذي ليس فيه توبة ولا كفارة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الفضيل في الآية قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا أذنب قيل له توبتك أن تقتل نفسك فيقتل نفسه ، فوضعت الآصار عن هذه الأمة. وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال : لما نزلت هذه الآيات : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) إلخ ، كما قالها جبريل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال النبيّ آمين رب العالمين. وأخرج أبو عبيد عن ميسرة أن جبريل لقن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتمة البقرة آمين. وأخرج أبو عبيد ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن معاذ بن جبل أنه كان إذا فرغ من قراءة هذه السورة قال : آمين. وأخرج أبو عبيد عن جبير بن نفير أنه كان يقول : آمين آمين. وأخرج عبد بن حميد عن أبي ذرّ قال : هي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة. وأخرج ابن جرير عن الضحاك في هذه الآية قال : سألها نبيّ الله ربه فأعطاه إياها ، فكانت للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة. وقد ثبت عند الشيخين ، وأهل السنن ، وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه». وأخرج أبو عبيد ، والدارمي ، والترمذي ، والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم وصححه ، والبيهقي عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله كتب كتابا قبل أن يخلق السّموات والأرض بألفي عام ، فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ، ولا

__________________

(١). الحج : ٧٨.

(٢). البقرة : ١٨٥.

(٣). التغابن : ١٦.

٣٥٥

يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان». وأخرج أحمد ، والنسائي ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب بسند صحيح عن حذيفة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «أعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطها نبيّ قبلي». وأخرج أحمد ، والبيهقي عن أبي ذرّ مرفوعا نحوه. وأخرج أبو عبيد ، وأحمد ، ومحمد بن نصر عن عقبة بن عامر سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «اقرءوا هاتين الآيتين من آخر سورة البقرة (آمَنَ الرَّسُولُ) إلى خاتمتها ، فإنّ الله اصطفى بها محمّدا» وإسناده حسن. وأخرج مسلم عن ابن مسعود قال : لما أسري برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى إلى سدرة المنتهى وأعطي ثلاثا : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله من أمته شيئا المقحمات (١). وأخرج الحاكم ، وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي ذرّ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه الذي تحت العرش ، فتعلموهما وعلّموهما نساءكم وأبناءكم فإنّهما صلاة وقرآن ودعاء». وأخرج الديلمي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اثنان هما قرآن وهما يشفيان ، وهما ممّا يحبّهما الله الآيتان من آخر البقرة». وأخرج الطبراني بسند جيد عن شدّاد بن أوس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام ، فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة لا يقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان». وأخرج ابن عدي عن ابن مسعود الأنصاري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أنزل الله آيتين من كنوز الجنة ، كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة ، من قرأهما بعد العشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام اللّيل». وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة ، أو آية الكرسي ، ضحك وقال : إنهما من كنز تحت العرش. وأخرج ابن مردويه عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعطيت فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش». وأخرج مسلم ، والنسائي واللفظ له عن ابن عباس قال : بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وعنده جبريل إذ سمع نقيضا فرفع جبريل بصره فقال : هذا باب قد فتح من السّماء ما فتح قط ، قال : فنزل منه ملك فأتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفا منهما إلا أوتيته». فهذه ثلاثة عشر حديثا في فضل هاتين الآيتين مرفوعة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد روي في فضلهما من غير المرفوع عن عمر ، وعليّ ، وابن مسعود ، وأبي مسعود وكعب الأحبار والحسن وأبي قلابة ، وفي قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يغني عن غيره.

* * *

__________________

(١). «المقحمات» : الذنوب العظام الكبائر التي تورد أصحابها النار.

٣٥٦

سورة آل عمران

هي مدنية ، قال القرطبي : بالإجماع ، ومما يدل على ذلك أن صدرها إلى ثلاث وثمانين آية نزل في وفد نجران ، وكان قدومهم في سنة تسع من الهجرة. وقد أخرج البيهقي في الدلائل من طرق عن ابن عباس قال : نزلت سورة آل عمران بالمدينة. وقد تقدم في أوائل سورة البقرة ما هو مشترك بينها وبين هذه السورة من الأحاديث الدالة على فضلهما ، وكذلك تقدّم ما ورد في السبع الطوال. وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ السورة التي يذكر فيها آل عمران يوم الجمعة صلّى الله عليه وملائكته حتى تغيب الشمس». وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب عن عمر بن الخطاب قال : من قرأ البقرة وآل عمران والنساء كتب عند الله من الحكماء. وأخرج الديلمي ، ومحمد بن نصر ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود : من قرأ آل عمران فهو غنيّ. وأخرج الدارمي ، وعبد بن حميد ، والبيهقي عنه قال : نعم كنز الصعلوك آل عمران ، يقوم بها الرجل من آخر الليل. وأخرج سعيد بن منصور عن أبي عطاف قال : اسم آل عمران في التوراة طيبة. وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الملك بن عمير قال : قرأ رجل البقرة وآل عمران ، فقال كعب : قد قرأ السورتين إن فيهما الاسم الذي إذا دعي به أجاب.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

قرأ الحسن ، وعمرو بن عبيد ، وعاصم بن أبي النجود ، وأبو جعفر الرواسي : (الم اللهُ) بقطع ألف الوصل على تقدير الوقف على (الم) كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد نحو واحد اثنان ثلاثة أربعة مع وصلهم. قال الأخفش : ويجوز (الم اللهُ) بكسر الهمزة لالتقاء الساكنين. قال الزجاج : هذا خطأ ، ولا تقوله العرب لثقله. وقد ذكر سيبويه في الكتاب : أن فواتح السور التي لم تكن موازنة لمفرد طريق التلفظ بها الحكاية فقط ساكنة الأعجاز على الوقف ، سواء جعلت أسماء أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لما أنه مغتفر في باب الوقف ، فحق هذه الفاتحة أن يوقف عليها ، ثم يبدأ بما بعدها ، كما فعله الحسن ومن معه في قراءتهم المحكية سابقا. وأما فتح الميم على القراءة المشهورة ، فوجهه : ما روي عن سيبويه : أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين. وقال الكسائي : حروف التهجي إذا لقيتها ألف وصل ، فحذفت الألف وحركت

٣٥٧

الميم بحركة الألف ، وكذا قال الفراء. وهذه الفواتح إن جعلت مسرودة على نمط التعديد ، فلا محل لها من الإعراب ، وإن جعلت أسماء للسورة فمحلها إما الرفع على أنها أخبار لمبتدآت مقدرة قبلها ، أو النصب على تقدير أفعال يقتضيها المقام كاذكر ، أو اقرأ ، أو نحوهما ، وقد تقدم في أوائل سورة البقرة ما يغني عن الإعادة. وقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) مبتدأ وخبر ، والجملة مستأنفة ، أي : هو المستحق للعبودية. والحيّ القيوم : خبران آخران للاسم الشريف ، أو خبران لمبتدأ محذوف ، أي : هو الحي القيوم ، وقيل : إنهما صفتان للمبتدأ الأول ، أو بدلان منه ، أو من الخبر ، وقد تقدّم تفسير الحيّ والقيوم. وقرأ جماعة من الصحابة : القيام ؛ عمر ، وأبي بن كعب ، وابن مسعود. قوله : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي : القرآن ، وقدم الظرف على المفعول به للاعتناء بالمنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي : إما جملة مستأنفة ، أو خبر آخر للمبتدأ الأوّل. قوله : (بِالْحَقِ) أي : بالصدق ، وقيل : بالحجة الغالبة البالغة ، وهو في محل نصب على الحال. وقوله : (مُصَدِّقاً) حال آخر من الكتاب مؤكدة ، لأنه لا يكون إلّا مصدقا ، فلا تكون الحال منتقلة أصلا ، وبهذا قال الجمهور ، وجوّز بعضهم الانتقال على معنى أنه مصدق لنفسه ولغيره. وقوله : (لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : من الكتب المنزلة ، وهو متعلق بقوله : مصدقا ، واللام للتقوية. قوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) هذه الجملة في حكم البيان لقوله : لما بين يديه. وإنما قال هنا أنزل وفيما تقدّم نزّل : لأن القرآن نزل منجما ، والكتابان نزلا دفعة واحدة ، ولم يذكر في الكتابين من أنزلا عليه ، وذكر فيما تقدّم : أن الكتاب نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن القصد هنا ليس إلّا إلى ذكر الكتابين لا ذكر من نزلا عليه. وقوله : (مِنْ قَبْلُ) أي : أنزل التوراة والإنجيل من قبل تنزيل الكتاب. وقوله : (هُدىً لِلنَّاسِ) إما : حال من الكتابين ، أو علة للإنزال. والمراد بالناس : أهل الكتابين ، أو ما هو أعمّ ، لأن هذه الأمة متعبدة بما لم ينسخ من الشرائع. قال ابن فورك : هدى للناس المتقين ، كما قال في البقرة هدى للمتقين ، قوله : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي : الفارق بين الحق والباطل وهو القرآن ، وكرر ذكره تشريفا له مع ما يشتمل عليه هذا الذكر الآخر من الوصف له بأنه يفرق بين الحق والباطل ، وذكر التنزيل أولا والإنزال ثانيا لكونه جامعا بين الوصفين ، فإنه أنزل إلى سماء الدنيا جملة ، ثم نزل منها إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفرّقا منجما على حسب الحوادث كما سبق ، وقيل : أراد بالفرقان جميع الكتب المنزلة من الله تعالى على رسله ؛ وقيل : أراد الزبور لاشتماله على المواعظ الحسنة ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) أي : بما يصدق عليه أنه آية من الكتب المنزلة وغيرها ، أو بما في الكتب المنزلة المذكورة ، على وضع آيات الله موضع الضمير العائد إليها ، وفيه بيان الأمر الذي استحقوا به الكفر (لَهُمْ) بسبب هذا الكفر (عَذابٌ شَدِيدٌ) أي : عظيم (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يغالبه مغالب (ذُو انْتِقامٍ) عظيم ، والنقمة : السطوة ، يقال انتقم منه : إذا عاقبه بسبب ذنب قد تقدّم منه. قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) هذه الجملة استئنافية لبيان سعة علمه وإحاطته بالمعلومات ، وعبر عن معلوماته بما في الأرض والسماء مع كونها أوسع من ذلك : لقصور عباده عن العلم بما سواهما من أمكنة مخلوقاته وسائر معلوماته ، ومن جملة ما لا يخفى عليه : إيمان من آمن من خلقه وكفر من كفر. قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ)

٣٥٨

أصل اشتقاق الصورة من : صاره إلى كذا ، أي : أماله إليه ، فالصورة مائلة إلى شبه وهيئة ، وأصل الرحم من : الرحمة لأنه مما يتراحم به ، وهذه الجملة مستأنفة ، مشتملة على بيان إحاطة علمه ، وأن من جملة معلوماته ما لا يدخل تحت الوجود ، وهو : تصوير عباده في أرحام أمهاتهم من نطف آبائهم كيف يشاء ، من حسن ، وقبيح ، وأسود ، وأبيض ، وطويل ، وقصير. وكيف : معمول يشاء ، والجملة : حالية.

وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن جعفر بن محمد بن الزبير قال : «قدم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد نجران ستون راكبا ، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم ، فكلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منهم أبو حارثة ابن علقمة ، والعاقب ، وعبد المسيح ، والسيد ، وهو : الأيهم ، ثم ذكروا القصة في الكلام الذي دار بينهم وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأن الله أنزل في ذلك صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الربيع ، فذكر وفد نجران ومخاصمتهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عيسى عليه‌السلام ، وأن الله أنزل : (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) قال : لما قبله من كتاب أو رسول. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة نحوه ، وقال في قوله : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) هو القرآن ، فرق بين الحق والباطل ، فأحل فيه حلاله ، وحرّم فيه حرامه ، وشرع فيه شرائعه ، وحدّ فيه حدوده ، وفرض فيه فرائضه ، وبين فيه بيانه ، وأمر بطاعته ، ونهى عن معصيته. وأخرج ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير في قوله : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي : الفصل بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره ، وفي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) أي : إن الله ينتقم ممن كفر بآياته بعد علمه بها ومعرفته بما جاء منه فيها. وفي قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي : قد علم ما يريدون وما يكيدون وما يضاهون بقولهم في عيسى إذ جعلوه ربا وإلها ، وعندهم من علمه غير ذلك غرّة بالله وكفرا به (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) قد كان عيسى ممن صور في الأرحام ، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه كما صوّر غيره من بني آدم ، فكيف يكون إلها وقد كان بذلك المنزل. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود في قوله : (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) قال : ذكورا وإناثا. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس ، وابن مسعود ، وناس من الصحابة في قوله : (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) قال : إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يوما ، ثم تكون علقة أربعين يوما ، ثم تكون مضغة أربعين يوما ، فإذا بلغ أن يخلق ؛ بعث الله ملكا يصوّرها ، فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه فيخلط منه المضغة ، ثم يعجنه بها ثم يصوّر كما يؤمر فيقول : أذكر أم أنثى ، أشقيّ أم سعيد ، وما رزقه ، وما عمره ، وما أثره ، وما مصائبه؟ فيقول الله ويكتب الملك ، فإذا مات ذلك الجسد دفن حيث أخذ ذلك التراب. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) قال : من ذكر وأنثى ، وأحمر وأسود ، وتامّ الخلق وغير تام الخلق.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ

٣٥٩

زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩))

الكتاب : هو القرآن ، فاللام للعهد ، وقدم الظرف وهو «عليك» لما يفيده من الاختصاص. وقوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) الموافق لقواعد العربية أن يكون الظرف خبرا مقدّما ، والأولى بالمعنى : أن يكون مبتدأ تقديره من الكتاب آيات بينات على نحو ما تقدم في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) وإنما كان أولى ، لأن المقصود انقسام الكتاب إلى القسمين المذكورين ، لا مجرّد الإخبار عنهما بأنهما من الكتاب ، والجملة : حالية في محل نصب ، أو مستأنفة لا محل لها. وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات والمتشابهات على أقوال ، فقيل : إن المحكم : ما عرف تأويله ، وفهم معناه ، وتفسيره. والمتشابه : ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل. ومن القائلين بهذا جابر بن عبد الله ، والشعبي ، وسفيان الثوري ، قالوا : وذلك نحو الحروف المقطعة في أوائل السور ؛ وقيل : المحكم : ما لا يحتمل إلّا وجها واحدا ، والمتشابه : ما يحتمل وجوها ، فإذا ردّت إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما ؛ وقيل : إن المحكم : ناسخه ، وحرامه ، وحلاله ، وفرائضه ، وما نؤمن به ونعمل عليه ، والمتشابه : منسوخه ، وأمثاله ، وأقسامه ، وما نؤمن به ولا نعمل به. روي هذا عن ابن عباس ، وقيل : المحكم : الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له ، والمتشابه : ما فيه تصريف ، وتحريف ، وتأويل. قاله مجاهد وابن إسحاق. قال ابن عطية : وهذا أحسن الأقوال ؛ وقيل : المحكم : ما كان قائما بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره ، والمتشابه : ما يرجع فيه إلى غيره. قال النحاس : وهذا أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات. قال القرطبي : ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية وهو الجاري على وضع اللسان ، ذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم ، والإحكام ، الإتقان ، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردّد ، إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته وإتقان تركيبها ، ومتى اختلّ أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. وقال ابن خويز منداد : للمتشابه وجوه ، ما اختلف فيه العلماء اي الآيتين نسخت الأخرى؟ كما في الحامل المتوفى عنها زوجها ، فإن من الصحابة من قال : إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة الأشهر والعشر ، ومنهم من قال بالعكس. وكاختلافهم في الوصية للوارث ، وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن يقدّم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه ، وكتعارض الأخبار ، وتعارض الأقيسة ، هذا معنى كلامه.

والأولى أن يقال : إن المحكم : هو الواضح المعنى الظاهر الدلالة ، إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره ؛ والمتشابه : ما لا يتضح معناه ، أو لا تظهر دلالته لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره. وإذا عرفت هذا ؛ عرفت أن هذا الاختلاف الذي قدّمناه ليس كما ينبغي ، وذلك لأن أهل كل قوم عرفوا المحكم ببعض صفاته ، وعرفوا

٣٦٠