فتح القدير - ج ١

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ١

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

ولا يلزمه النكاح ، والبيع. قوله : (وَلا جُنُباً) عطف على محل الجملة الحالية ، وهي قوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) والجنب : لا يؤنث ، ولا يثنى ، ولا يجمع ، لأنه ملحق بالمصدر ، كالبعد والقرب. قال الفراء : يقال جنب الرجل وأجنب من الجنابة ؛ وقيل : يجمع الجنب في لغة على أجناب ، مثل : عنق وأعناق ، وطنب وأطناب. وقوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) استثناء مفرّغ ، أي : لا تقربوها في حال من الأحوال إلا في حال عبور السبيل. والمراد به هنا السفر ، ويكون محل هذا الاستثناء المفرّغ النصب على الحال من ضمير لا تقربوا بعد تقييده بالحال الثانية ، وهي قوله : (وَلا جُنُباً) لا بالحال الأولى ، وهي قوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) فيصير المعنى : لا تقربوا الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال السفر ، فإنه يجوز لكم أن تصلوا بالتيمم ، وهذا قول عليّ ، وابن عباس ، وابن جبير ، ومجاهد ، والحكم ، وغيرهم ، قالوا : لا يصح لأحد أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا بعد الاغتسال ، إلا المسافر فإنه يتيمم ، لأن الماء قد يعدم في السفر لا في الحضر ، فإن الغالب أنه لا يعدم. وقال ابن مسعود ، وعكرمة ، والنخعي ، وعمرو بن دينار ، ومالك ، والشافعي : عابر السبيل : هو المجتاز في المسجد ، وهو مرويّ عن ابن عباس ، فيكون معنى الآية على هذا : لا تقربوا مواضع الصلاة : وهي المساجد في حال الجنابة إلا أن تكونوا مجتازين فيها من جانب إلى جانب ، وفي القول الأول قوّة من جهة كون الصلاة فيه باقية عند عدم الماء بالتيمم ، فإن هذا الحكم يكون في الحاضر إذا عدم الماء ، كما يكون في المسافر ، وفي القول الثاني قوّة من جهة عدم التكلف في معنى قوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) وضعف من جهة حمل الصلاة على مواضعها ، وبالجملة فالحال الأولى ، أعني قوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) تقوّي بقاء الصلاة على معناها الحقيقي من دون تقدير مضاف ، وكذلك ما سيأتي من سبب نزول الآية يقوّي ذلك. وقوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) يقوّي تقدير المضاف : أي لا تقربوا مواضع الصلاة. ويمكن أن يقال : إن بعض قيود النهي أعني : (لا تَقْرَبُوا) وهو قوله : (وَأَنْتُمْ سُكارى) يدل على أن المراد بالصلاة معناها الحقيقي ، وبعض قيود النهي وهو قوله : (إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) يدل على أن المراد : مواضع الصلاة ، ولا مانع من اعتبار كل واحد منهما مع قيده الدالّ عليه ، ويكون ذلك عليه ، ويكون ذلك بمنزلة نهيين مقيد كل واحد منهما بقيد ، وهما : لا تقربوا الصلاة التي هي ذات الأذكار والأركان وأنتم سكارى ، ولا تقربوا مواضع الصلاة حال كونكم جنبا إلا حال عبوركم في المسجد من جانب إلى جانب ، وغاية ما يقال في هذا : أنه من الجمع بين الحقيقة والمجاز ، وهو جائز بتأويل مشهور. وقال ابن جرير بعد حكايته للقولين : والأولى قول من قال : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) إلا مجتازي طريق فيه ، وذلك أنه قد بين حكم المسافر إذا عدم الماء ، وهو جنب في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (١) فكان معلوما بذلك ، أي : أن قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) لو كان معنيا به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ) معنى مفهوم. وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك ، فإذا كان ذلك كذلك فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضا جنبا حتى تغتسلوا إلا عابري

__________________

(١). المائدة : ٥.

٥٤١

سبيل. قال : والعابر السبيل : المجتاز مرّا وقطعا ، يقال منه : عبرت هذا الطريق فأنا أعبره عبرا وعبورا ، ومنه قيل : عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ؛ ومنه قيل للناقة القوية : هي عبر أسفار ، لقوّتها على قطع الأسفار. قال ابن كثير : وهذا الذي نصره ، يعني : ابن جرير ، هو قول الجمهور ، وهو الظاهر من الآية. انتهى. قوله : (حَتَّى تَغْتَسِلُوا) غاية للنهي عن قربان الصلاة أو مواضعها حال الجنابة. والمعنى : لا تقربوها حال الجنابة حتى تغتسلوا إلا حال عبوركم السبيل. قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) المرض : عبارة عن خروج البدن عن حدّ الاعتدال والاعتياد إلى الاعوجاج والشذوذ ، وهو على ضربين كثير ويسير. والمراد هنا : أن يخاف على نفسه التلف أو الضرر باستعمال الماء ، أو كان ضعيفا في بدنه لا يقدر على الوصول إلى موضع الماء. وروي عن الحسن أنه يتطهر وإن مات ، وهذا باطل يدفعه قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١) وقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) (٢) وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) (٣) قوله : (أَوْ عَلى سَفَرٍ) فيه جواز التيمم لمن صدق عليه اسم المسافر ، والخلاف مبسوط في كتب الفقه ، وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يشترط أن يكون سفر قصر ، وقال قوم : لا بد من ذلك ، وقد أجمع العلماء على جواز التيمم للمسافر. واختلفوا في الحاضر ، فذهب مالك ، وأصحابه ، وأبو حنيفة ، ومحمد : إلى أنه يجوز في الحضر والسفر. وقال الشافعي : لا يجوز للحاضر الصحيح أن يتيمم إلا أن يخاف التلف. قوله : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ) هو المكان المنخفض ، والمجيء منه : كناية عن الحدث ، والجمع : الغيطان والأغواط ، وكانت العرب تقصد هذا الصنف من المواضع لقضاء الحاجة تسترا عن أعين الناس ، ثم سمي الحدث الخارج من الإنسان غائطا توسعا ، ويدخل في الغائط جميع الأحداث الناقضة للوضوء. قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) قرأ نافع وابن كثير ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر : (لامَسْتُمُ) وقرأ حمزة ، والكسائي : لمستم قيل : المراد بها بما في القراءتين : الجماع ؛ وقيل : المراد به : مطلق المباشرة ؛ وقيل : إنه يجمع الأمرين جميعا. وقال محمد بن يزيد المبرد : الأولى في اللغة أن يكون (لامَسْتُمُ) بمعنى قبلتم ونحوه ، ولمستم بمعنى غشيتم.

واختلف العلماء في معنى ذلك على أقوال ، فقالت فرقة : الملامسة هنا مختصة باليد دون الجماع ، قالوا : والجنب لا سبيل له إلى التيمم بل يغتسل أو يدع الصلاة حتى يجد الماء. وقد روي هذا عن عمر بن الخطاب ، وابن مسعود. قال ابن عبد البر : لم يقل بقولهما في هذه المسألة أحد من فقهاء الأمصار من أهل الرأي ، وحملة الآثار. انتهى. وأيضا : الأحاديث الصحيحة تدفعه وتبطله ، كحديث عمار ، وعمران بن حصين ، وأبي ذرّ في تيمم الجنب. وقال طائفة : هو الجماع كما في قوله : (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) (٤) ، وقوله : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) (٥) وهو مرويّ عن عليّ ، وأبيّ بن كعب ، وابن عباس ، ومجاهد ، وطاوس ، والحسن ، وعبيد بن عمير ، وسعيد بن جبير ، والشعبي ، وقتادة ، ومقاتل بن حبان ، وأبي حنيفة. وقال مالك : الملامس بالجماع يتيمم ، والملامس باليد يتيمم إذا التذّ ، فإن لمسها بغير شهوة فلا وضوء ، وبه قال أحمد وإسحاق. وقال الشافعي : إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى بدن المرأة سواء كان باليد أو غيرها من أعضاء الجسد انتقضت به الطهارة وإلا فلا. وحكاه القرطبي عن ابن مسعود ، وابن عمر ، والزهري ،

__________________

(١). الحج : ٧٨.

(٢). النساء : ٢٩.

(٣). البقرة : ١٨٥.

(٤). الأحزاب : ٤٩.

(٥). البقرة : ٢٣٧.

٥٤٢

وربيعة. وقال الأوزاعي : إذا كان اللمس باليد نقض الطهر ، وإن كان بغير اليد لم ينقضه لقوله تعالى : (فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ) وقد احتجوا بحجج تزعم كل طائفة أن حجتها تدل على أن الملامسة المذكورة في الآية هي ما ذهبت إليه ، وليس الأمر كذلك. فقد اختلفت الصحابة ومن بعدهم في معنى الملامسة المذكورة في الآية ، وعلى فرض أنها ظاهرة في الجماع ، فقد ثبتت القراءة المروية عن حمزة والكسائي بلفظ أو لمستم وهي محتملة بلا شك ولا شبهة ، ومع الاحتمال فلا تقوم الحجة بالمحتمل. وهذا الحكم تعمّ به البلوى ويثبت به التكليف العامّ ، فلا يحل إثباته بمحتمل قط ، وقد وقع النزاع في مفهومه. وإذا عرفت هذا فقد ثبتت السنة الصحيحة بوجوب التيمم على من اجتنب ولم يجد الماء ، فكان الجنب داخلا في الآية بهذا الدليل ، وعلى فرض عدم دخوله فالسنة تكفي في ذلك. وأما وجوب الوضوء أو التيمم على من لمس المرأة بيده أو بشيء من بدنه فلا يصح القول به استدلالا بهذه الآية لما عرفت من الاحتمال. وأما ما استدلوا به : من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه رجل فقال : يا رسول الله! ما تقول في رجل لقي امرأة لا يعرفها؟ وليس يأتي الرجل من امرأته شيئا إلا قد أتاه منها غير أنه لم يجامعها ، فأنزل الله (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ). وأخرجه أحمد ، والترمذي ، والنسائي من حديث معاذ ، قالوا : فأمره بالوضوء لأنه لمس المرأة ولم يجامعها ، ولا يخفاك أنه لا دلالة بهذا الحديث على محمل النزاع ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما أمره بالوضوء ليأتي بالصلاة التي ذكرها الله سبحانه في هذه الآية ، إذ لا صلاة إلا بوضوء. وأيضا فالحديث منقطع لأنه من رواية ابن أبي ليلى عن معاذ ولم يلقه ، وإذا عرفت هذا ، فالأصل : البراءة عن هذا الحكم ، فلا يثبت إلا بدليل خالص عن الشوائب الموجبة لقصوره عن الحجة. وأيضا قد ثبت عن عائشة من طرق أنها قالت : «كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتوضأ ثم يقبّل ، ثم يصلّي ولا يتوضأ». وقد روي هذه الحديث بألفاظ مختلفة ، ورواه أحمد ، وابن أبي شيبة ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجة ، وما قيل : من أنه من رواية حبيب بن أبي ثابت عن عروة ، عن عائشة ولم يسمع من عروة ، فقد رواه أحمد في مسنده من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، ورواه ابن جرير من حديث ليث عن عطاء عن عائشة ، ورواه أحمد أيضا ، وأبو داود ، والنسائي من حديث أبي روق الهمداني عن إبراهيم التيمي ، عن عائشة ، ورواه أيضا ابن جرير من حديث أم سلمة ، ورواه أيضا من حديث زينب السهمية. ولفظ حديث أم سلمة : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقبّل ثم يصلّي ولا يتوضأ». ورواه أحمد عن زينب السهمية عن عائشة. قوله : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) هذا القيد إن كان راجعا إلى جميع ما تقدم مما هو مذكور بعد الشرط ، وهو المرض ، والسفر ، والمجيء من الغائط ، وملامسة النساء ، كان فيه دليل على أن المرض والسفر بمجردهما لا يسوّغان التيمم ، بل لا بد مع وجود أحد السببين من عدم الماء فلا يجوز للمريض أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ، ولا يجوز للمسافر أن يتيمم إلا إذا لم يجد ماء ، ولكنه يشكل على هذا أن الصحيح كالمريض إذا لم يجد الماء تيمم ، وكذلك المقيم كالمسافر إذا لم يجد الماء تيمم ، فلا بد من فائدة في التنصيص على المرض والسفر ؛ فقيل : وجه التنصيص عليهما أن المرض مظنة للعجز عن الوصول إلى الماء ، وكذلك المسافر عدم الماء في حقه غالب ، وإن كان راجعا إلى الصورتين الأخيرتين ، أعني : قوله :

٥٤٣

(أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) كما قال بعض المفسرين كان فيه إشكال ، وهو أن من صدق عليه اسم المريض أو المسافر جاز له التيمم ، وإن كان واجدا للماء قادرا على استعماله ، وقد قيل : إنه رجع هذا القيد إلى الآخرين مع كونه معتبرا في الأوّلين لندرة وقوعه فيهما. وأنت خبير بأن هذا كلام ساقط وتوجيه بارد. وقال مالك ومن تابعه : ذكر الله المرض والسفر في شرط التيمم اعتبارا بالأغلب في من لم يجد الماء بخلاف الحاضر ، فإن الغالب وجوده ، فلذلك لم ينص الله سبحانه عليه. انتهى. والظاهر أن المرض بمجرّده مسوّغ للتيمم ، وإن كان الماء موجودا إذا كان يتضرّر باستعماله في الحال أو في المآل ، ولا تعتبر خشية التلف ، فالله سبحانه يقول : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) (١) ويقول : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) ، والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «الدين يسر» ويقول : «يسّروا ولا تعسّروا» وقال : «قتلوه قتلهم الله» ويقول : «أمرت بالشريعة السّمحة» فإذا قلنا : إن قيد عدم وجود الماء راجع إلى الجميع ، كان وجه التنصيص على المرض : هو أنه يجوز له التيمم والماء حاضر موجود إذا كان استعماله يضرّه ، فيكون اعتبار ذلك القيد في حقه إذا كان استعماله لا يضرّه ، فإن في مجرّد المرض مع عدم الضرر باستعمال الماء ما يكون مظنة لعجزه عن الطلب ، لأنه يلحقه بالمرض نوع ضعف. وأما وجه التنصيص على المسافر فلا شك أن الضرب في الأرض مظنة لإعواز الماء في بعض البقاع دون بعض. قوله : (فَتَيَمَّمُوا) التيمم لغة : القصد ، يقال : تيممت الشيء : قصدته ، وتيممت الصعيد : تعمدته ، وتيممته بسهمي ورمحي : قصدته دون من سواه ، وأنشد الخليل :

يمّمته الرّمح شزرا ثمّ قلت له

هذي البسالة لا لعب الزّحاليق

وقال امرؤ القيس :

تيمّمتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عالي

وقال :

تيمّمت العين التي عند ضارج

يفيء عليها الظّلّ عرمضها طامي (٣)

قال ابن السكيت : قوله : (فَتَيَمَّمُوا) أي : اقصدوا ، ثم كثر استعمال هذه الكلمة حتى صار التيمم مسح الوجه واليدين بالتراب. وقال ابن الأنباري في قولهم قد تيمم الرجل : معناه : قد مسح التراب على وجهه ، وهذا خلط منهما للمعنى اللغوي بالمعنى الشرعي ، فإن العرب لا تعرف التيمم بمعنى مسح الوجه واليدين ، وإنما هو معنى شرعي فقط ، وظاهر الأمر الوجوب ، وهو مجمع على ذلك. والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وتفاصيل التيمم وصفاته مبينة في السنة المطهرة ، ومقالات أهل العلم مدوّنة في كتب الفقه ، قوله : (صَعِيداً) الصعيد : وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن ، قاله الخليل ، وابن الأعرابي ، والزجاج. قال الزجاج : لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة ، قال الله تعالى : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً

__________________

(١). البقرة : ١٨٥.

(٢). الحج : ٧٨.

(٣). ضارج اسم موضع. والعرمض : الطحلب ، وقيل : الخضرة على الماء. وطامي : مرتفع.

٥٤٤

جُرُزاً) (١) أي : أرضا غليظة لا تنبت شيئا ، وقال تعالى : (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً) (٢) وقال ذو الرمة :

كأنّه بالضّحى تزمي الصّعيد به

دبّابة في عظام الرّأس خرطوم (٣)

وإنما سمى صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض ، وجمع الصعيد : صعدات.

وقد اختلف أهل العلم فيما يجزئ التيمم به ، فقال مالك ، وأبو حنيفة ، والثوري ، والطبري : إنه يجزئ بوجه الأرض كله ترابا كان أو رملا أو حجارة ، وحملوا قوله : (طَيِّباً) على الطاهر الذي ليس بنجس. وقال الشافعي ، وأحمد ، وأصحابهما : إنه لا يجزئ التيمم إلا بالتراب فقط ، واستدلوا بقوله تعالى : (صَعِيداً زَلَقاً) أي : ترابا أملس طيبا ، وكذلك استدلوا بقوله : (طَيِّباً) قالوا : والطيب : التراب الذي ينبت. وقد تنوزع في معنى الطيب ، فقيل : الطاهر كما تقدم ؛ وقيل : المنبت كما هنا ؛ وقيل : الحلال. والمحتمل لا تقوم به حجة ولو لم يوجد في الشيء الذي يتيمم به إلا ما في الكتاب العزيز ، لكان الحق ما قاله الأوّلون ، لكن ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فضلنا الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلّها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء» وفي لفظ : «وجعل ترابها لنا طهورا» فهذا مبين لمعنى الصعيد المذكور في الآية ، أو مخصص لعمومه ، أو مقيد لإطلاقه ، ويؤيد هذا ما حكاه ابن فارس عن كتاب الخليل : تيمم بالصعيد ، أي : أخذ من غباره. انتهى ، والحجر الصلد لا غبار له. قوله : (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) هذا المسح مطلق ، يتناول المسح بضربة أو ضربتين ، ويتناول المسح إلى المرفقين ، أو إلى الرسغين ، وقد بينته السنة بيانا شافيا ، وقد جمعنا بين ما ورد في المسح بضربة وبضربتين ، وما ورد في المسح إلى الرسغ وإلى المرفقين ، في شرحنا للمنتقى وغيره من مؤلفاتنا بما لا يحتاج الناظر فيه إلى غيره. قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً) أي : عفا عنكم وغفر لكم تقصيركم ، ورحمكم بالترخيص لكم والتوسعة عليكم.

وقد أخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي ، وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه ، والضياء في المختارة عن عليّ بن أبي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن ابن عوف طعاما ، فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ) وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه : أن الذي صلّى به عبد الرحمن. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في الآية قال : نزلت في أبي بكر ، وعمر ، وعليّ ، وعبد الرحمن بن ابن عوف طعاما ، فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا ، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت :

__________________

(١). الكهف : ٨.

(٢). الكهف : ٤٠.

(٣). الصّعيد : التراب ، والدبّابة : الخمر. والخرطوم : الخمر وصفوتها. يقول : ولد الظبية لا يرفع رأسه ، وكأنه رجل سكران من ثقل نومه في وقت الضحى.

٥٤٥

الكافرون حتى ختمها فقال : ليس لي دين وليس لكم دين ، فنزلت. وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والنسائي ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في هذه الآية قال : نسختها (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) (١) الآية. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : لم يعن بها الخمر ، إنما عنى بها سكر النوم. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس : (وَأَنْتُمْ سُكارى) قال : النعاس. وأخرج الفريابي ، وابن أبي شيبة في المصنف ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن عليّ. قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) قال : نزلت في المسافر تصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي. وفي لفظ قال : لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافرا تصيبه الجنابة فلا يجد الماء ، فيتيمم ، ويصلي حتى يجد الماء. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن ابن عباس في الآية يقول : لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إذا وجدتم الماء ، فإن لم تجدوا الماء فقد أحللت أن تمسحوا بالأرض. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال : لا يمرّ الجنب ولا الحائض في المسجد ، إنما أنزلت : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) للمسافر يتيمم ثم يصلي. وأخرج الدارقطني ، والطبراني ، وأبو نعيم في المعرفة ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه ، والضياء في المختارة عن الأسلع ابن شريك قال : كنت أرحل ناقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الرحلة ، فكرهت أن أرحل ناقته وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض ، فأمرت رجلا من الأنصار فرحلها ، ثم رضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت ، ثم لحقت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فقال : يا أسلع! ما لي أرى راحلتك تغيرت؟ قلت : يا رسول الله! لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال : ولم؟ قلت : إني أصابتني جنابة فخشيت القرّ على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجارا فأسخنت بها ماء فاغتسلت به ، فأنزل الله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إلى قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ). وأخرج ابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، والطبراني ، والبيهقي من وجه آخر عن أسلع قال : كنت أخدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأرحل له ، فقال لي ذات ليلة : يا أسلع! قم فأرحل لي» قلت : يا رسول الله! أصابتني جنابة ، فسكت عنّي ساعة ، حتّى جاء جبريل بآية الصّعيد ، فقال : «قم يا أسلع فتيمّم» الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق عطاء الخراساني عن ابن عباس (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) قال : المساجد. وأخرج عبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي من طريق عطاء الخراساني عنه : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ) قال : لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل ، قال : تمر به مرّا ولا تجلس. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود نحوه. وأخرج عبد الرزاق ، والبيهقي في سننه عنه أنه كان يرخص للجنب أن يمرّ في المسجد ولا يجلس فيه ، ثم قرأ قوله : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ). وأخرج البيهقي عن أنس نحوه. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن جرير ، والبيهقي عن جابر قال : كان أحدنا يمرّ في المسجد وهو جنب مجتازا. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) قال : نزلت في رجل من الأنصار كان مريضا فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن

__________________

(١). المائدة : ٩٠.

٥٤٦

أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) قال : هو الرجل المجدور ، أو به الجراح ، أو القرح ، يجنب فيخاف إن اغتسل أن يموت فيتيمم. وأخرج ابن جرير عن إبراهيم النخعي قال : نال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جراح ففشت فيهم ، ثم ابتلوا بالجنابة ، فشكوا ذلك إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) الآية. وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم ، والبيهقي من طرق عن ابن مسعود في قوله : (أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) قال : اللمس : ما دون الجماع ، والقبلة منه ، وفيه الوضوء. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير عن ابن عمر : أنه كان يتوضأ من قبلة المرأة ، ويقول هي اللماس. وأخرج الدارقطني ، والبيهقي ، والحاكم عن عمر قال : إن القبلة من اللمس فتوضأ منها. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن علي قال : اللمس هو الجماع ولكن الله كنى عنه. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : كنا في حجرة ابن عباس ومعنا عطاء بن أبي رباح ونفر من الموالي وعبيد بن عمير ونفر من العرب فتذاكرنا اللمس ، فقلت أنا وعطاء والموالي : اللمس باليد ، وقال عبيد بن عمير والعرب : هو الجماع ، فدخلت على ابن عباس فأخبرته فقال : غلبت الموالي وأصابت العرب ، ثم قال : إن اللمس والمسّ والمباشرة : الجماع (١) ، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال : إن أطيب الصعيد أرض الحرث.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً (٤٥) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٤٧) إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨))

قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) كلام مستأنف ، والخطاب لكل من يتأتى منه الرؤية من المسلمين. والنصيب : الحظّ ، والمراد : اليهود أوتوا نصيبا من التوراة. وقوله : (يَشْتَرُونَ) جملة حالية ، والمراد بالاشتراء : الاستبدال ، وقد تقدم تحقيق معناه. والمعنى : أن اليهود استبدلوا الضلالة ، وهي البقاء على اليهودية بعد وضوح الحجة على صحة نبوّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : (وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ)

__________________

(١). في المطبوع : والمباشرة إلى الجماع ما هو. والمثبت من تفسير الطبري (ط دار الكتب العلمية ٤ / ١٠٥)

٥٤٧

عطف على قوله : (يَشْتَرُونَ) مشارك له في بيان سوء صنيعهم ، وضعف اختيارهم ، أي : لم يكتفوا بما جنوه على أنفسهم من استبدال الضلالة بالهدى ، بل أرادوا مع ضلالهم : أن يتوصلوا بكتمهم وجحدهم إلى أن تضلوا أنتم أيها المؤمنون السبيل المستقيم الذي هو سبيل الحق ، (وَاللهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ) أيها المؤمنون وما يريدونه بكم من الإضلال ، والجملة اعتراضية ، (وَكَفى بِاللهِ وَلِيًّا) لكم (وَكَفى بِاللهِ نَصِيراً) ينصركم في مواطن الحرب ، فاكتفوا بولايته ونصره ، ولا تتولوا غيره ؛ ولا تستنصروه ، والباء في قوله : (بِاللهِ) في الموضعين : زائدة. قوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) قال الزجاج : إن جعلت متعلقة بما قبل فلا يوقف على قوله : (نَصِيراً) وإن جعلت منقطعة ، فيجوز الوقف على نصيرا ، والتقدير : من الذين هادوا قوم يحرّفون ، ثم حذف ، وهذا مذهب سيبويه ، ومثله قول الشاعر :

لو قلت ما في قومها لم أيثم

يفضلها في حسب وميسم

قالوا : المعنى : لو قلت ما في قومها أحد يفضلها ، ثم حذف. وقال الفراء : المحذوف لفظ من ، أي : من الذين هادوا من يحرّفون الكلم كقوله : (وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) (١) أي من له ، ومنه قول ذي الرمة :

فظلّوا ومنهم دمعه سابق له

وآخر يذري عبرة العين بالهمل (٢)

أي : من دمعه ، وأنكره المبرّد والزجاج ، لأن حذف الموصول كحذف بعض الكلمة ؛ وقيل : إن قوله : (مِنَ الَّذِينَ هادُوا) بيان لقوله : (الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ). والتحريف : الإمالة والإزالة ، أي : يميلونه ، ويزيلونه عن مواضعه ، ويجعلون مكانه غيره ؛ أو المراد : أنهم يتأوّلونه على غير تأويله ، وذمهم الله عزوجل بذلك ، لأنهم يفعلونه عنادا وبغيا ، وتأثيرا لغرض الدنيا. قوله : (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) أي : سمعنا قولك ، وعصينا أمرك ، (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) أي : اسمع حال كونك غير مسمع. وهو يحتمل أن يكون دعاء على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ والمعنى : اسمع لا سمعت ، ويحتمل أن يكون المعنى : اسمع غير مسمع مكروها ، أو اسمع غير مسمع جوابا. وقد تقدم الكلام في راعنا. ومعنى : (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) : أنهم يلوونها عن الحق ، أي : يميلونها إلى ما في قلوبهم ، وأصل اللّي : القتل ، وهو منتصب على المصدر ، ويجوز أن يكون مفعولا لأجله. قوله : (وَطَعْناً فِي الدِّينِ) معطوف على ليا ، أي : يطعنون في الدين بقولهم : لو كان نبيا لعلم أنا نسبه ، فأطلع الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا) قولك : (وَأَطَعْنا) أمرك (وَاسْمَعْ) ما نقول (وَانْظُرْنا) أي : لو قالوا هذا مكان قولهم راعنا (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) مما قالوه ، (وَأَقْوَمَ) أي : أعدل وأولى من قولهم الأوّل ، وهو قولهم : (سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا) لما في هذا من المخالفة وسوء الأدب ، واحتمال الذم في راعنا ، (وَلكِنْ) لم يسلكوا المسلك الحسن ، ويأتوا بما هو خير لهم وأقوم ، ولهذا : (لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي : إلا إيمانا قليلا ، وهو الإيمان ببعض الكتب دون بعض ، وببعض الرسل دون بعض. قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ذكر

__________________

(١). الصافات : ١٦٤.

(٢). بالهمل : هملان العين : فيضانها بالدمع. ويذري : يصيب.

٥٤٨

سبحانه أوّلا أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب ، وهنا ذكر أنهم أوتوا الكتاب. والمراد : أنهم أوتوا نصيبا منه ، لأنهم لم يعملوا بجميع ما فيه ، بل حرّفوا وبدّلوا. وقوله : (مُصَدِّقاً) (١) منتصب على الحال. والطمس : استئصال أثر الشيء ، ومنه (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) يقال : نطمس بكسر الميم وضمها : لغتان في المستقبل ، ويقال : طمس الأثر ، أي : محاه كله ، ومنه (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ) (٢) أي : أهلكها ويقال : هو مطموس البصر ، ومنه (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) (٣) أي : أعميناهم.

واختلف العلماء في المعنى المراد بهذه الآية هل هو حقيقة؟ فيجعل الوجه كالقفا ، فيذهب بالأنف والفم والحاجب والعين ؛ أو ذلك عبارة عن الضلالة في قلوبهم وسلبهم التوفيق؟ فذهب إلى الأوّل طائفة ، وذهب إلى الآخر آخرون ، وعلى الأوّل فالمراد بقوله : (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) نجعلها قفا ، أي : نذهب بآثار الوجه ، وتخطيطه ، حتى يصير على هيئة القفا ؛ وقيل : إنه بعد الطمس يردّها إلى موضع القفا ، والقفا إلى مواضعها ، وهذا هو ألصق بالمعنى الذي يفيده قوله : (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) فإن قيل : كيف جاز أن يهدّدهم بطمس الوجوه إن لم يؤمنوا ولم يفعل ذلك بهم؟ فقيل : إنه لما آمن هؤلاء ومن اتبعهم رفع الوعيد عن الباقين. وقال المبرد : الوعيد باق منتظر ، وقال : لا بدّ من طمس في اليهود ، ومسخ قبل يوم القيامة. قوله : (أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ) الضمير عائد إلى أصحاب الوجوه ، قيل : المراد باللعن هنا المسخ لأجل تشبيهه بلعن أصحاب السبت ، وكان لعن أصحاب السبت مسخهم قردة وخنازير ؛ وقيل : المراد نفس اللعنة وهم ملعونون بكل لسان. والمراد وقوع أحد الأمرين : إما الطمس ، أو اللعن. وقد وقع اللعن ، ولكنه يقوّي الأوّل تشبيه هذا اللعن بلعن أهل السبت. قوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي : كائنا موجودا لا محالة ، أو يراد بالأمر المأمور. والمعنى : أنه متى أراده كان ، كقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤). قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) (٥) هذا الحكم يشمل جميع طوائف الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، ولا يختص بكفار أهل الحرب ، لأن اليهود قالوا : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ، وقالوا : ثالث ثلاثة. لا خلاف بين المسلمين أن المشرك إذا مات على شركه لم يكن من أهل المغفرة التي تفضل الله بها على غير أهل الشرك حسبما تقتضيه مشيئته ؛ وأما غير أهل الشرك من عصاة المسلمين فداخلون تحت المشيئة ، يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. قال ابن جرير : قد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة في مشيئة الله عزوجل ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه ، ما لم تكن كبيرته شركا بالله عزوجل. وظاهره : أن المغفرة منه سبحانه تكون لمن اقتضته مشيئته تفضلا منه ورحمة ، وإن لم يقع من ذلك المذنب توبة ، وقيد ذلك المعتزلة بالتوبة. وقد تقدّم قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) (٦) وهي تدل : على أن الله سبحانه يغفر سيئات من اجتنب الكبائر ، فيكون مجتنب الكبائر ممن قد شاء الله غفران سيئاته.

وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظماء اليهود ، إذا كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوى لسانه وقال : أرعنا

__________________

(١). المرسلات : ٨.

(٢). يونس : ٨٨.

(٣). يس : ٦٦.

(٤). يس : ٨٢.

(٥). النساء : ٤٨.

(٦). النساء : ٣١.

٥٤٩

سمعك يا محمد حتى نفهمك ، ثم طعن في الإسلام وعابه ، فأنزل الله فيه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) يعني : يحرفون حدود الله في التوراة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) قال : تبديل اليهود التوراة (وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا) قالوا : سمعنا ما تقول ولا نطيعك (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) قال : غير مقبول ما تقول (لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ) قال : خلافا يلوون به ألسنتهم (وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا) قال : أفهمنا لا تعجل علينا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن عباس في قوله : (وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ) قال : يقولون اسمع لا سمعت. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رؤساء من أحبار اليهود ، منهم : عبد الله بن صوريا ، وكعب بن أسد ، فقال لهم : يا معشر اليهود! اتقوا الله وأسلموا ، فو الله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحق. فقالوا : ما نعرف ذلك يا محمد! وأنزل الله فيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) قال : طمسها أن تعمى (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ، ونجعل لأحدهم عينين في قفاه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً) يقول : عن صراط الحق (فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) قال : في الضلالة. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام ، قال : وما دينه؟ قال : يصلي ويوحد الله ، قال : استوهب منه دينه فإن أبى فابتعه منه ، فطلب الرجل منه ذلك فأبى عليه ، فأتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقال : وجدته شحيحا على دينه ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية. وأخرج ابن الضريس ، وأبو المنذر ، وابن عديّ بسند صحيح عن ابن عمر قال : كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) وقال : «إنّي ادّخرت دعوتي وشفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي ، فأمسكنا عن كثير ممّا كان في أنفسنا». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عرم قال : لما نزلت (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) (١) الآية قام رجل فقال : والشرك يا نبيّ الله؟ فكره ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية. وأخرج ابن المنذر عن أبي مجلز أن سؤال هذا الرجل هو سبب نزول : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ). وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال في هذه الآية : إن الله حرّم المغفرة على من مات وهو كافر ، وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته ، فلم يؤيسهم من المغفرة. وأخرج الترمذي ، وحسنه عن علي قال : أحبّ آية إليّ في القرآن (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) الآية.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ

__________________

(١). الزمر : ٥٣.

٥٥٠

وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥))

قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) تعجيب من حالهم. وقد اتفق المفسرون على أن المراد : اليهود. واختلفوا في المعنى الذي زكوا به أنفسهم ، فقال الحسن وقتادة : هو قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (١) وقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (٢) وقال الضحاك : هو قولهم : لا ذنوب لنا ونحن كالأطفال ؛ وقيل : قولهم : إن آباءهم يشفعون لهم ؛ وقيل : ثناء بعضهم على بعض. ومعنى التزكية : التطهير والتنزيه ، فلا يبعد صدقها على جميع هذه التفاسير وعلى غيرها ، واللفظ يتناول كل من زكى نفسه بحق أو بباطل من اليهود وغيرهم ، ويدخل في هذا التلقب بالألقاب المتضمنة للتزكية : كمحيي الدين ، وعز الدين ، ونحوهما. قوله : (بَلِ اللهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) أي : ذلك إليه سبحانه ، فهو العالم بمن يستحق التزكية من عباده ومن لا يستحقها ، فليدع العباد تزكية أنفسهم ، ويفوضوا أمر ذلك إلى الله سبحانه ، فإن تزكيتهم لأنفسهم مجرد دعاوى فاسدة ، تحمل عليها محبة النفس ، وطلب العلوّ ، والترفع والتفاخر ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣). قوله : (وَلا يُظْلَمُونَ) أي : هؤلاء المزكون لأنفسهم (فَتِيلاً) وهو الخيط الذي في نواة التمر ، وقيل : القشرة التي حول النواة ؛ وقيل : هو ما يخرج بين إصبعيك أو كفيك من الوسخ إذا فتلتهما ، فهو فتيل بمعنى مفتول ، والمراد هنا : الكناية عن الشيء الحقير ، ومثله : (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) وهو النكتة التي في ظهر النواة. والمعنى : أن هؤلاء الذين يزكون أنفسهم يعاقبون على تزكيتهم لأنفسهم بقدر هذا الذنب ، ولا يظلمون بالزيادة على ما يستحقون ، ويجوز أن يعود الضمير إلى (مَنْ يَشاءُ) أي : لا يظلم هؤلاء الذين يزكيهم الله فتيلا مما يستحقونه من الثواب ، ثم عجب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تزكيتهم لأنفسهم فقال : (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في قولهم ذلك. والافتراء : الاختلاق ، ومنه : افترى فلان على فلان ، أي : رماه بما ليس فيه ، وفريت الشيء : قطعته ، وفي قوله : (وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً) من تعظيم الذنب وتهويله ما لا يخفى. قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) هذا تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأوّل وهم اليهود.

واختلف المفسرون في معنى الجبت : فقال ابن عباس وابن جبير وأبو العالية : الجبت : الساحر بلسان الحبشة. والطاغوت : الكاهن. وروي عن عمر بن الخطاب : أن الجبت : السحر ، والطاغوت : الشيطان. وروي عن ابن مسعود : أن الجبت والطاغوت هاهنا : كعب بن الأشرف. وقال قتادة : الجبت : الشيطان ، والطاغوت الكاهن. وروي عن مالك : أن الطاغوت : ما عبد من دون الله ، والجبت : الشيطان ؛ وقيل :

__________________

(١). المائدة : ١٨.

(٢). البقرة : ١١١.

(٣). النجم : ٣٢.

٥٥١

هما كل معبود من دون الله أو مطاع في معصية الله. وأصل الجبت : الجبس (١) ، وهو الذي لا خير فيه ، فأبدلت التاء من السين قاله قطرب ؛ وقيل : الجبت : إبليس ، والطاغوت : أولياؤه. قوله : (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) هذا تعجيب من حالهم بعد التعجيب الأوّل ، وهم اليهود ، أي : يقول اليهود لكفار قريش : أنتم أهدى من الذين آمنوا بمحمد سبيلا ، أي : أقوم دينا ، وأرشد طريقا. وقوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى القائلين (الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) أي : طردهم وأبعدهم من رحمته (وَمَنْ يَلْعَنِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً) يدفع عنه ما نزل به من عذاب الله وسخطه. قوله : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) أم : منقطعة ، والاستفهام للإنكار ، يعني : ليس لهم نصيب من الملك (فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً) والفاء : للسببية الجزائية لشرط محذوف ، أي : إن جعل لهم نصيب من الملك فإذن لا يعطون الناس نقيرا منه لشدّة بخلهم وقوّة حسدهم ؛ وقيل : المعنى : بل لهم نصيب من الملك ، على أن معنى أم : الإضراب عن الأوّل والاستئناف للثاني ؛ وقيل : هي عاطفة على محذوف ، والتقدير : أهم أولى بالنبوة ممن أرسلته ، أم لهم نصيب من الملك ، فإذن لا يؤتون الناس نقيرا؟ والنقير : النقرة في ظهر النواة ؛ وقيل : ما نقر الرجل بإصبعه كما ينقر الأرض. والنقير أيضا : خشبة تنقر وينبذ فيها. وقد نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن النقير ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، والنقير : الأصل ، يقال : فلان كريم النقير ، أي : كريم الأصل. والمراد هنا : المعنى الأوّل ، والمقصود به المبالغة في الحقارة ، كالقطمير والفتيل. وإذن هنا : ملغاة غير عاملة ، لدخول فاء العطف عليها ، ولو نصب لجاز. قال سيبويه : إذن : في عوامل الأفعال بمنزلة أظن في عوامل الأسماء التي تلغى إذا لم يكن الكلام معتمدا عليها ، فإن كانت في أوّل الكلام وكان الذي بعدها مستقبلا نصبت. قوله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) أم : منقطعة مفيدة للانتقال عن توبيخهم بأمر إلى توبيخهم بآخر : أي : بل يحسدون الناس ، يعني : اليهود يحسدون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقط ، أو يحسدونه هو وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله من النبوّة والنصر وقهر الأعداء. قوله : (فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ) هذا إلزام لليهود بما يعترفون به ولا ينكرونه ، أي : ليس ما آتينا محمدا وأصحابه من فضلنا ببدع حتى يحسدهم اليهود على ذلك ، فهم يعلمون بما آتينا آل إبراهيم ، وهم أسلاف محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد تقدّم تفسير الكتاب والحكمة. والملك العظيم : قيل : هو ملك سليمان ، واختاره ابن جرير (فَمِنْهُمْ) أي : اليهود (مَنْ آمَنَ بِهِ) أي : بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ) أي : أعرض عنه ؛ وقيل : الضمير في به : راجع إلى ما ذكر من حديث آل إبراهيم ؛ وقيل : الضمير راجع إلى إبراهيم. والمعنى : فمن آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ، ومنهم من صدّ عنه ؛ وقيل : الضمير يرجع إلى الكتاب ، والأوّل أولى (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) أي : نارا مسعرة.

وقد أخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال : إن اليهود قالوا : إن آباءنا قد توفوا وهم لنا

__________________

(١). قال في لسان العرب : الجبس : الجبان الفدم ، وقيل : الضعيف اللئيم ، وقيل : الثقيل الذي لا يجيب إلى خير.

٥٥٢

قربة عند الله ، وسيشفعون لنا ويزكوننا ، فقال الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ). وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : كانت اليهود يقدّمون صبيانهم يصلون بهم ، ويقرّبون قربانهم ، ويزعمون : أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب ، وكذبوا. قال الله : إني لا أطهر ذا ذنب بآخر لا ذنب له ، ثم أنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ). وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن : أن التزكية : قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (١) (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) (٢). وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) قال : الفتيل : ما خرج من بين الإصبعين. وفي لفظ آخر عنه : هو أن تدلك بين إصبعيك ، فما خرج منهما فهو ذلك. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه قال : النقير : النقرة تكون في النواة التي نبتت منها النخلة. والفتيل : الذي يكون على شق النواة. والقطمير : القشر الذي يكون على النواة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه : قال : الفتيل : الذي في الشق الذي في بطن النواة. وأخرج الطبراني ، والبيهقي في الدلائل عنه قال : قدم حييّ بن أخطب ، وكعب بن الأشرف مكة على قريش فحالفوهم على قتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا لهم : أنتم أهل العلم القديم وأهل الكتاب فأخبرونا عنا وعن محمد ، قالوا : ما أنتم وما محمد؟ قالوا : ننحر الكوماء ، ونسقي اللبن على الماء ، ونفك العناة ، ونسقي الحجيج ، ونصل الأرحام ، قالوا : فما محمد؟ قالوا : صنبور ، أي : فرد ضعيف ، قطع أرحامنا ، واتبعه سراق الحجيج بنو غفار ؛ فقالوا : لا بل أنتم خير منه وأهدى سبيلا ، فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ) الآية. وأخرجه سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة مرسلا. وقد روي عن ابن عباس ، وعن عكرمة بلفظ آخر. وأخرج نحوه عبد بن حميد ، وابن جرير عن السدّي عن أبي مالك. وأخرج نحوه أيضا البيهقي في الدلائل ، وابن عساكر في تاريخه عن جابر بن عبد الله. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن عكرمة قال : الجبت والطاغوت صنمان. وأخرج الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عمر في تفسير الجبت والطاغوت ما قدّمناه عنه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الجبت حيي بن أخطب ، والطاغوت : كعب بن الأشرف. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الجبت : الأصنام ، والطاغوت : الذي يكون بين يدي الأصنام يعبرون عنها الكذب ليضلوا الناس. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الجبت : اسم الشيطان بالحبشية ، والطاغوت : كهان العرب. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ) قال : فليس لهم نصيب ، ولو كان لهن نصيب لم يؤتوا الناس نقيرا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال : النقير : النقطة التي في ظهر النواة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس قال : قال أهل الكتاب : زعم محمد : أنه أوتي ما أوتي في تواضع وله تسع نسوة وليس له همة إلا النكاح ، فأيّ ملك أفضل من هذا؟ فأنزل الله هذه الآية (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ) إلى قوله : (مُلْكاً عَظِيماً) يعني : ملك سليمان. وأخرج عبد بن حميد ،

__________________

(١). المائدة : ١٨.

(٢). البقرة : ١١١.

٥٥٣

وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : الناس في هذا الموضع : النبي خاصة. وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : هم هذا الحيّ من العرب.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧))

قوله : (بِآياتِنا) الظاهر عدم تخصيص بعض الآيات دون بعض ، و (سَوْفَ) كلمة تذكر للتهديد قال سيبويه : وينوب عنها السين. وقد تقدّم معنى : نصلي ، في أوّل السورة. والمراد : سوف ندخلهم نارا عظيمة. وقرأ حميد بن قيس : (نُصْلِيهِمْ) بفتح النون. قوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) يقال : نضج الشيء نضجا ونضاجا ، ونضج اللحم ، وفلان نضج الرأي : أي : محكمه. والمعنى : أنها كلما احترقت جلودهم بدّلهم الله جلودا غيرها ، أي : أعطاهم مكان كل جلد محترق جلدا آخر غير محترق ، فإن ذلك أبلغ في العذاب للشخص ، لأن إحساسه لعمل النار في الجلد الذي لم يحترق أبلغ من إحساسه لعملها في الجلد المحترق ، وقيل : المراد بالجلود : السرابيل التي ذكرها في قوله : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) (١) ولا موجب لترك المعنى الحقيقي هاهنا ، وإن جاز إطلاق الجلود على السرابيل مجازا كما في قول الشاعر :

كسا اللّوم تيما خضرة في جلودها

فويل لتيم من سرابيلها الخضر

وقيل المعنى : أعدنا الجلد الأوّل جديدا ، ويأبى ذلك معنى التبديل. قوله : (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) أي : ليحصل لهم الذوق الكامل بذلك التبديل ، وقيل : معناه : ليدوم لهم العذاب ولا ينقطع ، ثم أتبع وصف حال الكفار بوصف حال المؤمنين. وقد تقدّم تفسير الجنات التي تجري من تحتها الأنهار. قوله : (لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) أي : من الأدناس التي تكون في نساء الدنيا. والظل الظليل : الكثيف الذي لا يدخله ما يدخل ظل الدنيا من الحرّ والسموم ونحو ذلك ؛ وقيل : هو مجموع ظلّ الأشجار والقصور ؛ وقيل : الظلّ الظليل : هو الدائم الذي لا يزول ، واشتقاق الصفة من لفظ الموصوف : للمبالغة ، كما يقال : ليل أليل.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) قال : إذا احترقت جلودهم بدّلناهم جلودا بيضاء أمثال القراطيس. وأخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني عنه بسند ضعيف قال : قرئ عند عمر (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) الآية ، فقال معاذ : عندي تفسيرها : تبدّل في ساعة مائة مرة ، فقال عمر : هكذا سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرجه أبو نعيم في الحلية ، وابن مردويه : أن القائل كعب ، وأنه قال : تبدّل في الساعة الواحدة عشرين ومائة مرة. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود : أن غلظ جلد الكافر اثنان وأربعون ذراعا. وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس في قوله : (ظِلًّا ظَلِيلاً) قال : هو ظل العرش الذي لا يزول.

__________________

(١). إبراهيم : ٥٠.

٥٥٤

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (٥٨))

هذه الآية من أمهات الآيات المشتملة على كثير من أحكام الشرع ، لأن الظاهر أن الخطاب يشمل جميع الناس في جميع الأمانات ، وقد روي عن علي ، وزيد بن أسلم ، وشهر بن حوشب : أنها خطاب لولاة المسلمين ، والأوّل أظهر ، وورودها على سبب كما سيأتي لا ينافي ما فيها من العموم ، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، كما تقرر في الأصول ؛ وتدخل الولاة في هذا الخطاب دخولا أوّليا ، فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات ، وردّ الظلامات ، وتحري العدل في أحكامهم ، ويدخل غيرهم من الناس في الخطاب ، فيجب عليهم ردّ ما لديهم من الأمانات ، والتحري في الشهادات والأخبار. وممن قال بعموم هذا الخطاب : البراء بن عازب ، وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبيّ بن كعب ، واختاره جمهور المفسرين ، ومنهم ابن جرير ، وأجمعوا : على أن الأمانات مردودة إلى أربابها : الأبرار منهم والفجار ، كما قال ابن المنذر. والأمانات : جمع أمانة ، وهي مصدر بمعنى المفعول. قوله : (وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) أي : وإن الله يأمركم إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل. والعدل : هو فصل الحكومة على ما في كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا الحكم بالرأي المجرد ، فإن ذلك ليس من الحق في شيء ، إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ولا في سنة رسوله ، فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه ، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص ، وأما الحاكم الذي لا يدري بحكم الله ورسوله ، ولا بما هو أقرب إليهما ، فهو لا يدري ما هو العدل ، لأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته ، فضلا عن أن يحكم بها بين عباد الله. قوله : (نِعِمَّا) ما موصوفة أو موصولة ، وقد قدّمنا البحث في مثل ذلك.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فتح مكة ، وقبض مفتاح الكعبة من عثمان بن طلحة ، نزل جبريل عليه‌السلام بردّ المفتاح ، فدعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عثمان بن طلحة وردّه إليه ، وقرأ هذه الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن عساكر عن ابن جريج : أن هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة لما قبض منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفتاح الكعبة فدعاه ودفعه إليه. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن أبي شيبة عن علي قال : حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ، وأن يؤدي الأمانة ، فإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا له ، وأن يطيعوا ، وأن يجيبوا إذا دعوا. وأخرج أبو داود ، والترمذي ، والحاكم ، والبيهقي عن أبي هريرة : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أدّ الأمانة لمن ائتمنك ، ولا تخن من خانك». وقد ثبت في الصحيح : أن من خان إذا اؤتمن ففيه خصلة من خصال النفاق.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩))

٥٥٥

لما أمر سبحانه القضاة والولاة إذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالحق ، أمر الناس بطاعتهم هاهنا ، وطاعة الله عزوجل هي : امتثال أوامره ونواهيه ، وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي : فيما أمر به ونهى عنه. وأولي الأمر : هم الأئمة ، والسلاطين ، والقضاة ، وكل من كانت له ولاية شرعية لا ولاية طاغوتية ، والمراد طاعتهم فيما يأمرون به وينهون عنه ما لم تكن معصية ، فلا طاعة لمخلوق في معصية الله ، كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال جابر بن عبد الله ومجاهد : إن أولي الأمر : هم أهل القرآن والعلم ، وبه قال مالك والضحاك ، وروي عن مجاهد : أنهم أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن كيسان : هم أهل العقل والرأي ، والراجح : القول الأوّل. قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) المنازعة : المجاذبة ، والنزع : الجذب ، كأن كل واحد ينتزع حجة الآخر ويجذبها ، والمراد : الاختلاف والمجادلة ، وظاهر قوله : (فِي شَيْءٍ) يتناول أمور الدين والدنيا ، ولكنه لما قال : (فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) تبين به أن الشيء المتنازع فيه يختص بأمور الدين دون أمور الدنيا ، والردّ إلى الله : هو الردّ إلى كتابه العزيز ، والردّ إلى الرسول : هو الردّ إلى سنته المطهرة بعد موته ، وأما في حياته فالردّ إليه : سؤاله ، هذا معنى الرد إليهما ؛ وقيل : معنى الردّ : أن يقولوا : الله أعلم ، وهو قول ساقط ، وتفسير بارد ، وليس الردّ في هذه الآية إلا الرد المذكور في قوله تعالى : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (١) قوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فيه دليل : على أن هذا الرد متحتم على المتنازعين ، وإنه شأن من يؤمن بالله واليوم الآخر ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الردّ المأمور به (خَيْرٌ) لكم (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) أي : مرجعا ، من الأوّل : آل ، يؤول إلى كذا ، أي : صار إليه ؛ والمعنى : أن ذلك الردّ خير لكم وأحسن مرجعا ترجعون إليه. ويجوز أن يكون المعنى : أن الردّ أحسن تأويلا من تأويلكم الذي صرتم إليه عند التنازع.

وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن ابن عباس في قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال : نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدّي ، إذ بعثه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في سرية ، وقصته معروفة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عطاء في الآية قال : طاعة الله والرسول : اتباع الكتاب والسنة (وَأُولِي الْأَمْرِ) قال : أولي الفقه والعلم. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي هريرة. قال : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) هم الأمراء ، وفي لفظ : هم أمراء السرايا. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه عن جابر بن عبد الله في قوله : (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) قال : أهل العلم. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير عن أبي العالية نحوه أيضا. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) قال : إلى كتاب الله وسنة رسوله. ثم قرأ : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن ميمون بن مهران في الآية قال : الردّ

__________________

(١). النساء : ٨٣.

٥٥٦

إلى الله : الردّ إلى كتابه ، والردّ إلى رسوله ما دام حيا ، فإذا قبض فإلى سنته. وأخرج ابن جرير عن قتادة والسدي مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) يقول : ذلك أحسن ثوابا وخير عاقبة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) قال : وأحسن جزاء. وقد وردت أحاديث كثيرة في طاعة الأمراء ، ثابتة في الصحيحين وغيرهما ، مقيدة بأن يكون ذلك في المعروف ، وأنه لا طاعة في معصية الله.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (٦٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (٦١) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (٦٣) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً (٦٤) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٦٥))

قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) فيه تعجيب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حال هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم أنهم قد جمعوا بين الإيمان بما أنزل على رسول الله ـ وهو القرآن ـ وما أنزل على من قبله من الأنبياء ، فجاؤوا بما ينقض عليهم هذه الدعوى ، ويبطلها من أصلها ، ويوضح أنهم ليسوا على شيء من ذلك أصلا ، وهو إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت ، وقد أمروا فيما أنزل على رسول الله ، وعلى من قبله ، أن يكفروا به ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية ، وبه يتضح معناها. وقد تقدّم تفسير الطاغوت ، والاختلاف في معناه. قوله : (وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ) معطوف على قوله : (يُرِيدُونَ) والجملتان مسوقتان لبيان محل التعجب ، كأنه قيل : ما ذا يفعلون؟ فقيل : يريدون كذا ، ويريد الشيطان كذا. وقوله : (ضَلالاً) مصدر لفعل المذكور بحذف الزوائد كقوله : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) (١) أو مصدر لفعل محذوف دلّ عليه الفعل المذكور ، والتقدير : ويريد الشيطان أن يضلهم فيضلون ضلالا. والصدود : اسم للمصدر ، وهو الصدّ عند الخليل ، وعند الكوفيين : أنهما مصدران ، أي : يعرضون عنك إعراضا. قوله : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بيان لعاقبة أمرهم وما صار إليه حالهم ، أي : كيف يكون حالهم (إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ)؟ أي : وقت إصابتهم ، فإنهم يعجزون عند ذلك ، ولا يقدرون على الدفع. والمراد : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ما فعلوه من المعاصي التي من جملتها : التحاكم إلى الطاغوت ، (ثُمَّ جاؤُكَ) يعتذرون عن فعلهم ، وهو عطف على (أَصابَتْهُمْ) وقوله : (يَحْلِفُونَ) حال : أي : جاءوك حال كونهم حالفين (إِنْ أَرَدْنا إِلَّا

__________________

(١). نوح : ١٧.

٥٥٧

إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) أي : ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك إلا الإحسان لا الإساءة ، والتوفيق بين الخصمين لا المخالفة لك. وقال ابن كيسان : معناه : ما أردنا إلا عدلا وحقا ، مثل قوله : (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى) (١) فكذبهم الله بقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من النفاق والعداوة للحق. قال الزجاج : معناه : قد علم الله أنهم منافقون (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) أي : عن عقابهم ، وقيل : عن قبول اعتذارهم (وَعِظْهُمْ) أي : خوفهم من النفاق (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي : في حق أنفسهم. وقيل : معناه : قل لهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم (قَوْلاً بَلِيغاً) أي : بالغا في وعظهم إلى المقصود ، مؤثرا فيهم ، وذلك بأن توعدهم بسفك دمائهم ، وسبي نسائهم ، وسلب أموالهم. (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ مِنْ) زائدة للتوكيد (إِلَّا لِيُطاعَ) فيما أمر به ونهى عنه (بِإِذْنِ اللهِ) بعلمه ، وقيل : بتوفيقه ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بترك طاعتك والتحاكم إلى غيرك (جاؤُكَ) متوسلين إليك ، متنصلين عن جناياتهم ومخالفتهم (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) لذنوبهم ، وتضرعوا إليك حتى قمت شفيعا لهم فاستغفرت لهم ، وإنما قال : (وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) على طريقة الالتفات ، لقصد التفخيم لشأن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) أي : كثير التوبة عليهم ، والرحمة لهم. قوله : (فَلا وَرَبِّكَ) قال ابن جرير : (فَلا) رد على ما تقدم ذكره ، تقديره : فليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ، ثم استأنف القسم بقوله : (وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) وقيل : إنه قدّم «لا» على القسم اهتماما بالنفي ، وإظهارا لقوته ، ثم كرره بعد القسم تأكيدا ؛ وقيل : لا : مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد معنى النفي ، والتقدير : فوربك لا يؤمنون ، كما في قوله : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) (٢) (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ) أي : يجعلوك حكما بينهم في جميع أمورهم ، لا يحكمون أحدا غيرك ؛ وقيل : معناه : يتحاكمون إليك ، ولا ملجئ لذلك (فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) أي : اختلف بينهم واختلط ، ومنه : الشجر لاختلاف أغصانه ، ومنه قول طرفة :

وهم الحكّام أرباب الهدى

وسعاة النّاس في الأمر الشّجر

أي : المختلف ، ومنه : تشاجر الرماح ، أي : اختلافها (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) قيل : هو معطوف على مقدّر ينساق إليه الكلام ، أي : فتقضي بينهم ثم لا يجدوا. والحرج : الضيق : وقيل : الشك ، ومنه قيل للشجر الملتفّ : حرج ، وحرجة ، وجمعها : حراج ؛ وقيل : الحرج : الإثم ، أي : لا يجدون في أنفسهم إثما بإنكارهم ما قضيت (وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي : ينقادوا لأمرك وقضائك انقيادا لا يخالفونه في شيء. قال الزجاج : (تَسْلِيماً) مصدر مؤكد ، أي : ويسلمون لحكمك تسليما لا يدخلون على أنفسهم شكا ولا شبهة فيه. والظاهر : أن هذا شامل لكل فرد من كل حكم ، كما يؤيد ذلك قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) فلا يختص بالمقصودين بقوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) وهذا في حياته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأما بعد موته : فتحكيم الكتاب والسنة. وتحكيم الحاكم بما فيهما من الأئمة والقضاة إذا كان لا يحكم بالرأي المجرد مع وجود الدليل في الكتاب والسنة ، أو في أحدهما ، وكان يعقل ما يردّ عليه من حجج الكتاب والسنة ، بأن يكون عالما باللغة العربية ، وما يتعلق بها : من نحو ، وتصريف ،

__________________

(١). التوبة : ١٠٧.

(٢). الواقعة : ٧٥.

٥٥٨

ومعاني ، وبيان ، عارفا بما يحتاج إليه من علم الأصول ، بصيرا بالسنة المطهرة ، مميزا بين الصحيح وما يلحق به ، والضعيف وما يلحق به ، منصفا غير متعصب لمذهب من المذاهب ولا لنحلة من النحل. ورعا لا يحيف ولا يميل في حكمه ، فمن كان هكذا فهو قائم في مقام النبوّة ، مترجم عنها ، حاكم بأحكامها ، وفي هذا الوعيد الشديد : ما تقشعر له الجلود ، وترجف له الأفئدة. فإنه أوّلا أقسم سبحانه بنفسه ، مؤكدا لهذا القسم بحرف النفي بأنهم لا يؤمنون ، فنفى عنهم الإيمان الذي هو رأس مال صالحي عباد الله ، حتى تحصل لهم غاية ، هي : تحكيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم لم يكتف سبحانه بذلك حتى قال : (ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) فضم إلى التحكيم أمرا آخر ، هو عدم وجود حرج ، أيّ حرج ، في صدورهم ، فلا يكون مجرد التحكيم والإذعان كافيا حتى يكون من صميم القلب عن رضا ، واطمئنان ، وانثلاج قلب ، وطيب نفس ، ثم لم يكتف بهذا كله ، بل ضمّ إليه قوله : (وَيُسَلِّمُوا) أي : يذعنوا وينقادوا ظاهرا وباطنا ، ثم لم يكتف بذلك ، بل ضم إليه المصدر المؤكد فقال : (تَسْلِيماً) فلا يثبت الإيمان لعبد حتى يقع منه هذا التحكيم ، ولا يجد الحرج في صدره بما قضي عليه ، ويسلم لحكم الله وشرعه ، تسليما لا يخالطه ردّ ولا تشوبه مخالفة.

وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني بسند ، قال السيوطي : صحيح عن ابن عباس ، قال : كان أبو برزة الأسلمي كاهنا يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المسلمين ، فأنزل الله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) الآية ، وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : كان الجلاس بن الصامت قبل توبته ، ومعقب بن قشير ، ورافع بن زيد ، كانوا يدّعون الإسلام ، فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعوهم إلى الكهان ، حكام الجاهلية ، فنزلت الآية المذكورة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ) قال : الطاغوت : رجل من اليهود كان يقال له كعب بن الأشرف ، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا : بل نحاكمكم إلى كعب ، فنزلت الآية. وأخرج ابن جرير عن الضحاك مثله. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم عن عبد الله بن الزبير : أن الزبير خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شراج من الحرّة ، وكانا يسقيان به كلاهما النخل. فقال الأنصاري سرح الماء يمرّ ، فأبى عليه ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اسق يا زبير ، ثم أرسل الماء إلى جارك ، فغضب الأنصاري وقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن كان ابن عمتك؟ فتلون وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم قال : اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ، ثم أرسل الماء إلى جارك ، واستوعى (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للزبير حقه وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه سعة له وللأنصاري ، فلما أحفظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، استوعى للزبير حقه في صريح الحكم ، فقال الزبير : ما أحسب هذه الآية نزلت إلّا في ذلك : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ). وأخرج ابن أبي حاتم ، وابن

__________________

(١). استوعى له حقه : أي استوفاه كله.

٥٥٩

مردويه من طريق ابن لهيعة عن الأسود : أن سبب نزول الآية : أنه اختصم إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلان فقضى بينهما ، فقال المقضيّ عليه : ردنا إلى عمر ، فردهما ، فقتل عمر الذي قال ردّنا ، ونزلت الآية ، فأهدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دم المقتول. وأخرجه الترمذي في نوادر الأصول عن مكحول فذكر نحوه ، وبين أن الذي قتله عمر كان منافقا ، وهما مرسلان ، والقصة غريبة ، وابن لهيعة فيه ضعف.

(وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٦٨) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفى بِاللهِ عَلِيماً (٧٠))

(لَوْ) : حرف امتناع ، وأن : مصدرية ، أو تفسيرية ، لأن (كَتَبْنا) في معنى : أمرنا. والمعنى : أن الله سبحانه لو كتب القتل والخروج من الديار على هؤلاء الموجودين من اليهود ما فعله إلّا القليل منهم ، أو : لو كتب ذلك على المسلمين ما فعله إلّا القليل منهم ، والضمير في قوله : (فَعَلُوهُ) راجع إلى المكتوب الذي دلّ عليه كتبنا ، أو إلى القتل والخروج المدلول عليهما بالفعلين ، وتوحيد الضمير في مثل هذا قد قدّمنا وجهه. قوله : (إِلَّا قَلِيلٌ) قرأه الجمهور : بالرفع على البدل. وقرأ عبد الله بن عامر ، وعيسى بن عمر : إلا قليلا : بالنصب على الاستثناء ، وكذا هو في مصاحف أهل الشام ، والرفع أجود عند النحاة. قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ) من اتباع الشرع والانقياد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (لَكانَ) ذلك (خَيْراً لَهُمْ) في الدنيا والآخرة ، (وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً) لأقدامهم على الحق فلا يضطربون في أمر دينهم (وَإِذاً) أي : وقت فعلهم لما يوعظون به (لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) لا عوج فيه ، ليصلوا إلى الخير الذي يناله من امتثل ما أمر به ، وانقاد لمن يدعوه إلى الحق. قوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ) كلام مستأنف ، لبيان فضل طاعة الله والرسول ، والإشارة بقوله : (فَأُولئِكَ) إلى المطيعين ، كما تفيده من (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بدخول الجنة ، والوصول إلى ما أعدّ الله لهم. والصدّيق : المبالغ في الصدق ، كما تفيده الصيغة ؛ وقيل : هم فضلاء أتباع الأنبياء. والشهداء : من ثبتت لهم الشهادة ، والصالحين : أهل الأعمال الصالحة. والرفيق : مأخوذ من الرفق ، وهو لين الجانب ، والمراد به المصاحب ، لارتفاقك بصحبته ، ومنه : الرفقة ، لارتفاق بعضهم ببعض ، وهو منتصب على التمييز أو الحال ، كما قال الأخفش.

وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) هم يهود ، كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن سفيان : أنها نزلت في ثابت بن قيس بن شماس. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدّي نحوه. وقد روي من طرق : أن جماعة من الصحابة قالوا لما نزلت الآية : لو فعل ربنا لفعلنا. أخرجه ابن

٥٦٠