فتح القدير - ج ١

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ١

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

الأنبياء الذين أكرمهم الله برسالته والنبوّة ، قال : هم كذلك ويحقّ لهم ، وما يمنعهم وقد أنزلهم الله المنزلة التي أنزلهم بها؟ قالوا : يا رسول الله! الشهداء الذين استشهدوا مع الأنبياء ، قال : هم كذلك ، وما يمنعهم وقد أكرمهم الله بالشهادة؟ قالوا : فمن يا رسول الله؟! قال : أقوام في أصلاب الرّجال يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ويصدّقوني ولم يروني ، يجدون الورق المعلّق فيعملون بما فيه ، فهؤلاء أفضل أهل الإيمان إيمانا» في إسناده محمد بن أبي حميد وفيه ضعف ، وأخرج الحسن بن عرفة في جزئه المشهور ، والبيهقي في الدلائل ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر نحو الحديث الأول ، وفي إسناده المغيرة بن قيس البصري وهو منكر الحديث. وأخرج نحوه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا ، والإسماعيلي عن أبي هريرة مرفوعا أيضا ، والبزّار عن أنس مرفوعا. وأخرج ابن أبي شيبة في مسنده عن عوف ابن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا ليتني قد لقيت إخواني. قالوا : يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟ قال : بلى ، ولكن قوم يجيئون من بعدكم يؤمنون بي إيمانكم ويصدّقوني تصديقكم وينصروني نصركم ، فيا ليتني قد لقيت إخواني» وأخرج نحوه ابن عساكر في الأربعين السباعية من حديث أنس ، وفي إسناده أبو هدبة وهو كذاب ، وزاد فيه «ثم قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) (١) الآية». وأخرج أحمد والدارمي والباوردي وابن قانع معا في معجم الصحابة ، والبخاري في تاريخه ، والطبراني ، والحاكم ، عن أبي جمعة الأنصاري قال : «قلت : يا رسول الله! هل من قوم أعظم منا أجرا ، آمنّا بك واتّبعناك؟ قال : ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؟ بل قوم يأتون من بعدكم يأتيهم كتاب الله بين لوحين ، فيؤمنون بي ويعملون بما فيه ، أولئك أعظم منكم أجرا». وأخرج أحمد وابن أبي شيبة والحاكم عن أبي عبد الرحمن الجهني قال : «بينما نحن عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ طلع راكبان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كنديّان أو مذحجيّان. حتى أتيا ، فإذا رجلان من مذحج ، فدنا أحدهما ليبايعه ، فلمّا أخذ بيده قال : يا رسول الله أرأيت من جاءك فآمن بك واتّبعك وصدّقك ، فماذا له؟ قال : طوبى له. فمسح على زنده وانصرف ، ثم جاء الآخر حتى أخذ بيده ليبايعه فقال : يا رسول الله أرأيت من آمن بك وصدّقك واتّبعك ولم يرك؟ قال : طوبى له ثم طوبى له ، ثم مسح على زنده وانصرف». وأخرج الطيالسي وأحمد والبخاري في تاريخه والطبراني والحاكم عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى لمن آمن بي ولم يرني ، سبع مرات». وأخرج أحمد وابن حبان عن أبي سعيد «أن رجلا قال : يا رسول الله! طوبى لمن رآك وآمن بك؟ قال : طوبى لمن رآني وآمن بي ، وطوبى ثم طوبى ثم طوبى لمن آمن بي ولم يرني» وأخرج الطيالسي وعبد بن حميد عن ابن عمر نحوه. وأخرج أحمد وأبو يعلى والطبراني من حديث أنس نحو حديث أبي أمامة الباهلي المتقدّم. وأخرج سفيان بن عيينة وسعيد بن منصور وأحمد بن منيع في مسنده ، وابن أبي حاتم وابن الضباري والحاكم وصحّحه عن ابن مسعود أنه قال : والذي لا إله غيره ما آمن أحد أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ (الم ـ ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) إلى قوله : (الْمُفْلِحُونَ) (٢). وللتابعين أقوال ، والراجح ما تقدّم من أن الإيمان الشرعي يصدق على جميع ما ذكر هنا.

__________________

(١). البقرة : ٣.

(٢). البقرة : ١ ـ ٥.

٤١

قال ابن جرير : والأولى أن تكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادا وعملا. قال : وتدخل الخشية لله في معنى الإيمان الذي هو تصديق القول بالعمل. والإيمان كلمة جامعة للإقرار بالله وكتبه ورسله وتصديق الإقرار بالفعل. وقال ابن كثير : إن الإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادا وقولا وعملا ، هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة. بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عبيد وغير واحد إجماعا أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص. وقد ورد فيه آيات كثيرة ، انتهى.

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))

هو معطوف على «يؤمنون» والإقامة في الأصل : الدوام والثبات. يقال قام الشيء : أي دام وثبت. وليس من القيام على الرجل ، وإنما هو من قولك قام الحق : أي ظهر وثبت ، قال الشاعر :

وقامت الحرب بنا على ساق

وقال آخر :

وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا

حتّى تقيم الخيل سوق طعان

وإقامة الصلاة أداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها. والصلاة أصلها في اللغة : الدعاء من صلّى يصلّي إذا دعا. وقد ذكر هذا الجوهري وغيره. وقال قوم : هي مأخوذة من الصّلا ، وهو عرق في وسط الظهر ويفترق عند العجب. ومنه أخذ المصلّي في سبق الخيل ، لأنه يأتي في الحلبة ورأسه عند صلا السابق ، فاشتقت منه الصلاة لأنها ثانية للإيمان فشبهت بالمصلي من الخيل. وإما لأن الراكع يثنى صلويه ، والصلا مغرز الذنب من الفرس والاثنان صلوان ، والمصلي تالي السابق لأن رأسه عند صلوه. ذكر هذا القرطبي في تفسيره. وقد ذكر المعنى الثاني في الكشاف ، هذا المعنى اللغوي. وأما المعنى الشرعي : فهو هذه الصلاة التي هي ذات الأركان والأذكار. وقد اختلف أهل العلم هل هي مبقاة على أصلها اللغوي أو موضوعة وضعا شرعيا ابتدائيا. فقيل بالأوّل ، وإنما جاء الشرع بزيادات هي الشروط والفروض الثابتة فيها. وقال قوم بالثاني. والرزق عند الجمهور : ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراما خلافا للمعتزلة. فقالوا : إن الحرام ليس برزق ، وللبحث في هذه المسألة موضع غير هذا. والإنفاق : إخراج المال من اليد ، وفي المجيء بمن التبعيضية هاهنا نكتة سرية هي الإرشاد إلى ترك الإسراف. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس في قوله : (يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) قال : الصلوات الخمس (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قال : زكاة أموالهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أن إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قال : أنفقوا في فرائض الله التي افترض عليهم في طاعته وسبيله. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قال : هي نفقة الرجل على أهله. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : كانت النفقات قربات يتقربون بها إلى الله عزوجل على قدر

٤٢

ميسورهم وجهدهم حتى نزلت فرائض الصدقات في سورة براءة هنّ الناسخات المبيّنات. واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات ، وهو الحق من غير فرق بين النفقة على الأقارب وغيرهم ، وصدقة الفرض والنفل ، وعدم التصريح بنوع من الأنواع التي يصدق عليها مسمّى الإنفاق يشعر أتمّ إشعار بالتعميم.

(وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤))

قيل هم مؤمنو أهل الكتاب ، فإنهم جمعوا بين الإيمان بما أنزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزله على من قبله وفيهم نزلت. وقد رجّح هذا ابن جرير ، ونقله السدي في تفسيره عن ابن عباس وابن مسعود وأناس من الصحابة ، واستشهد له ابن جرير بقوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) (١) وبقوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ. وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) (٢) الآية. والآية الأولى نزلت في مؤمني العرب. وقيل الآيتان جميعا في المؤمنين على العموم. وعلى هذا فهذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى صفة للمتقين بعد صفة ، ويجوز أن تكون مرفوعة على الاستئناف ، ويجوز أن تكون معطوفة على المتقين ، فيكون التقدير : هدى للمتقين والذين يؤمنون بما أنزل إليك. والمراد بما أنزل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو القرآن ، وما أنزل من قبله : هو الكتب السالفة. والإيقان : إيقان العلم بانتفاء الشك والشبهة عنه ، قاله في الكشاف. والمراد أنهم يوقنون بالبعث والنشور وسائر أمور الآخرة من دون شك. والآخرة تأنيث الآخر الذي هو نقيض الأول ، وهي صفة الدار كما في قوله تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً) (٣) وفي تقديم الظرف مع بناء الفعل على الضمير المذكور إشعار بالحصر ، وأن ما عدا هذا الأمر الذي هو أساس الإيمان ورأسه ليس بمستأهل للإيقان به والقطع بوقوعه. وإنما عبر بالماضي مع أنه لم ينزل إذ ذاك إلا البعض لا الكل تغليبا للموجود على ما لم يوجد ، أو تنبيها على تحقق الوقوع كأنه بمنزلة النازل قبل نزوله. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ) أي يصدقونك بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين ، لا يفرّقون بينهم ، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم ، (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) إيمانا بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان : أي لا هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان قبلك ويكفرون بما جاء من ربك. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه.

والحق أن هذه الآية في المؤمنين كالتي قبلها ، وليس مجرد ذكر الإيمان بما أنزل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما أنزل إلى من قبله بمقتض لجعل ذلك وصفا لمؤمني أهل الكتاب ، ولم يأت ما يوجب المخالفة لهذا ، ولا في النظم القرآني ما يقتضي ذلك. وقد ثبت الثناء على من جمع بين الأمرين من المؤمنين في غير آية. فمن ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ) (٤) وكقوله : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) (٥) وقوله : (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ

__________________

(١). آل عمران : ١١٩.

(٢). القصص : ٥٢ ـ ٥٤.

(٣). القصص : ٨٣.

(٤). النساء : ١٣٦.

(٥). العنكبوت : ٤٦.

٤٣

مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (١) وقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) (٢)

(أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

هذا كلام مستأنف استئنافا بيانيا ، كأنه قيل : كيف حال هؤلاء الجامعين بين التقوى والإيمان بالغيب والإتيان بالفرائض والإيمان بما أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى من قبله من الأنبياء عليه الصلاة والسلام فقيل : (أُولئِكَ عَلى هُدىً) ويمكن أن يكون هذا خبرا عن الذين يؤمنون بالغيب إلخ ، فيكون متصلا بما قبله. قال في الكشاف : ومعنى الاستعلاء في قوله : (عَلى هُدىً) مثل لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به ، شبهت حالهم بحال من اعتلى الشيء وركبه ، ونحوه : هو على الحق وعلى الباطل. وقد صرّحوا بذلك في قوله : جعل الغواية مركبا ، وامتطى الجهل ، واقتعد غارب الهوى ، انتهى. وقد أطال المحققون الكلام على هذا بما لا يتسع له المقام ، واشتهر الخلاف في ذلك بين المحقق السعد والمحقق الشريف. واختلف من بعدهم في ترجيح الراجح من القولين ، وقد جمعت في ذلك رسالة سميتها «الطود المنيف في ترجيح ما قاله السعد على ما قاله الشريف» فليرجع إليها من أراد أن يتضح له المقام ، ويجمع بين أطراف الكلام على التمام. قال ابن جرير : إن معنى (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) على نور من ربهم وبرهان واستقامة وسداد بتسديد الله إياهم وتوفيقه لهم ، و (الْمُفْلِحُونَ) أي المنجحون المدركون ما طلبوا عند الله بأعمالهم وإيمانهم بالله وكتبه ورسله. هذا معنى كلامه. والفلاح أصله في اللغة : الشقّ والقطع ، قاله أبو عبيد : ويقال للذي شقت شفته : أفلح ، ومنه سمي الأكّار فلّاحا لأنه شقّ الأرض بالحرث ، فكأن المفلح قد قطع المصاعب حتى نال مطلوبه. قال القرطبي : وقد يستعمل في الفوز والبقاء وهو أصله أيضا في اللغة ، فمعنى (أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بالجنة والباقون. وقال في الكشاف : المفلح الفائز بالبغية ، كأنه الذي انفتحت له وجوه الظفر ولم تستغلق عليه ، انتهى. وقد استعمل الفلاح في السحور ، ومنه الحديث الذي أخرجه أبو داود : «حتى كاد يفوتنا الفلاح مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قلت : وما الفلاح؟ قال : السحور». فكأن معنى الحديث : أن السحور به بقاء الصوم ، فلهذا سمي فلاحا. وفي تكرير اسم الإشارة دلالة على أن كلا من الهدى والفلاح مستقلّ بتميزهم به عن غيرهم ، بحيث لو انفرد أحدهما لكفى تميزا على حياله. وفائدة ضمير الفصل الدلالة على اختصاص المسند إليه بالمسند دون غيره. وقد روى السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس ، وعن مرّة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن أناس من الصحابة : أن الذين يؤمنون بالغيب : هم المؤمنون من العرب ، الذين يؤمنون بما أنزل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما أنزل إلى من قبله : هم ، والمؤمنون من أهل الكتاب ، ثم جمع الفريقين فقال : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وقد قدّمنا الإشارة إلى هذا وإلى ما هو أرجح منه ، كما هو منقول عن مجاهد وأبي العالية والربيع بن أنس وقتادة. وأخرج ابن أبي حاتم من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : قيل يا رسول الله! إنا نقرأ من القرآن فنرجو ، ونقرأ فنكاد أن

__________________

(١). البقرة : ٢٨٥.

(٢). النساء : ١٥٢.

٤٤

نيأس ، أو كما قال ، فقال : «ألا أخبركم عن أهل الجنة وأهل النار؟ قالوا : بلى يا رسول الله! قال : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) إلى قوله : (الْمُفْلِحُونَ) هؤلاء أهل الجنة ، قالوا : إنا نرجو أن نكون هؤلاء ، ثم قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ) إلى قوله : (عَظِيمٌ) هؤلاء أهل النار ، قالوا : ألسنا هم يا رسول الله؟! قال : أجل» (١).

وقد ورد في فضل هذه الآيات الشريفة أحاديث ، منها : ما أخرجه عبد الله بن أحمد في زوائد المسند والحاكم والبيهقي عن أبيّ بن كعب قال : «كنت عند النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء أعرابيّ فقال : يا نبيّ الله! إن لي أخا وبه وجع فقال : وما وجعه؟ قال : به لمم ، قال : فائتني به. فوضعه بين يديه ، فعوّذه النبيّ بفاتحة الكتاب وأربع آيات من أوّل سورة البقرة ، وهاتين الآيتين : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وآية الكرسي ، وثلاث آيات من آخر سورة البقرة ، وآية من آل عمران (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ، وآية من الأعراف (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) ، وآخر سورة المؤمنين (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ) ، وآية من سورة الجنّ (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) ، وعشر آيات من أوّل الصافّات ، وثلاث آيات من آخر سورة الحشر ، وقل هو الله أحد ، والمعوّذتين ، فقام الرجل كأنه لم يشتك قطّ». وأخرج نحوه ابن السني في عمل اليوم والليلة من طريق عبد الرحمن بن أبي يعلى عن رجل عن أبيّ مثله. وأخرج الدارمي وابن الضريس عن ابن مسعود قال : من قرأ أربع آيات من أوّل سورة البقرة ، وآية الكرسي ، وآيتين بعد آية الكرسي ، وثلاثا من آخر سورة البقرة ، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان ، ولا شيء يكرهه في أهله ولا ماله ، ولا تقرأ على مجنون إلا أفاق. وأخرج الدارميّ وابن المنذر والطبراني عنه قال : من قرأ عشر آيات من سورة البقرة في ليلة لم يدخل ذلك البيت شيطان تلك الليلة حتى يصبح : أربع من أوّلها ، وآية الكرسي ، وآيتان بعدها ، وثلاث خواتمها وأوّلها (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ). وأخرج سعيد ابن منصور والدارمي والبيهقي عن المغيرة بن سبيع ، وكان من أصحاب عبد الله ابن مسعود بنحوه. وأخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا مات أحدكم فلا تحبسوه ، وأسرعوا به إلى قبره ، وليقرأ عند رأسه بفاتحة البقرة ، وعند رجليه بخاتمة سورة البقرة». وقد ورد في ذلك غير هذا.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

ذكر سبحانه فريق الشرّ بعد الفراغ من ذكر فريق الخير قاطعا لهذا الكلام عن الكلام الأوّل ، معنونا له بما يفيد أن شأن جنس الكفرة عدم إجداء الإنذار لهم ، وأنه لا يترتب عليهم ما هو المطلوب منهم من الإيمان ، وأن وجود ذلك كعدمه. و (سَواءٌ) اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر ، والهمزة وأم مجرّدتان لمعنى الاستواء غير مراد بهما ما هو أصلهما من الاستفهام ، وصحّ الابتداء بالفعل والإخبار عنه بقوله : سواء ،

__________________

(١). الإجابة ب «أجل» تثبت النفي ، فيكون المعنى : لستم هم.

٤٥

هجرا لجانب اللفظ إلى جانب المعنى ، كأنه قال : الإنذار وعدمه سواء ، كقولهم : تسمع بالمعيديّ خير من أن تراه : أي سماعك. وأصل الكفر في اللغة : الستر والتغطية ، قال الشاعر :

في ليلة كفر النجوم غمامها

أي سترها ، ومنه سمي الكافر كافرا لأنه يغطي بكفره ما يجب أن يكون عليه من الإيمان. والإنذار : الإبلاغ والإعلام.

قال القرطبي : واختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، فقيل : هي عامة ومعناها الخصوص فيمن سبقت عليه كلمة العذاب ، وسبق في علم الله أنه يموت على كفره. أراد الله تعالى أن يعلم الناس أن فيهم من هذا حاله دون أن يعين أحدا. وقال ابن عباس والكلبي : نزلت في رؤساء اليهود حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف ونظرائهما. وقال الربيع بن أنس : نزلت فيمن قتل يوم بدر من قادة الأحزاب ، والأول أصحّ ، فإنّ من عيّن أحدا فإنما مثّل بمن كشف الغيب بموته على الكفر ، انتهى. وقوله : (لا يُؤْمِنُونَ) خبر مبتدأ محذوف : أي هم لا يؤمنون ، وهي جملة مستأنفة لأنها جواب سؤال مقدر ، كأنه قيل : هؤلاء الذين استوى حالهم مع الإنذار وعدمه ماذا يكون منهم؟ فقيل لا يؤمنون : أي هم لا يؤمنون. وقال في الكشاف : إنها جملة مؤكدة للجملة الأولى ، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض. انتهى. والأولى ما ذكرناه ، لأن المقصود الإخبار عن عدم الاعتداد بإنذارهم ، وأنه لا يجدي شيئا بل بمنزلة العدم ، فهذه الجملة هي التي وقعت خبرا ل (إن) ، وما بعدها من عدم الإيمان متسبب عنها لا أنه المقصود. وقد قال بمثل قول الزمخشري القرطبي. وقال ابن كيسان : إن خبر إن : سواء ، وما بعده يقوم مقام الصلة. وقال محمد بن يزيد المبرد : سواء رفع بالابتداء ، وخبره أأنذرتهم أم لم تنذرهم ، والجملة خبر إن. والختم : مصدر ختمت الشيء ، ومعناه : التغطية على الشيء والاستيثاق منه حتى لا يدخله شيء ، ومنه ختم الكتاب والباب وما يشبه ذلك حتى لا يوصل إلى ما فيه ولا يوضع فيه غيره. والغشاوة : الغطاء ، ومنه غاشية السرج ، والمراد بالختم والغشاوة هنا هما المعنويان لا الحسيّان ؛ أي لما كانت قلوبهم غير واعية لما وصل إليها ، والأسماع غير مؤدية لما يطرقها من الآيات البينات إلى العقل على وجه مفهوم ، والأبصار غير مهدية للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته جعلت بمنزلة الأشياء المختوم عليها ختما حسيّا ، والمستوثق منها استيثاقا حقيقيا ، والمغطاة بغطاء مدرك استعارة أو تمثيلا ، وإسناد الختم إلى الله قد احتجّ به أهل السنة على المعتزلة ، وحاولوا دفع هذه الحجة بمثل ما ذكره صاحب الكشاف ، والكلام على مثل هذا متقرّر في مواطنه.

وقد اختلف في قوله تعالى : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) هل هو داخل في حكم الختم فيكون معطوفا على القلوب أو في حكم التغشية ، فقيل : إن الوقف على قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) تام ، وما بعده كلام مستقلّ ، فيكون الطبع على القلوب والأسماع ، والغشاوة على الأبصار كما قاله جماعة ، وقد قرئ «غشاوة» بالنصب. قال ابن جرير : يحتمل أنه نصبها بإضمار فعل تقديره : وجعل على أبصارهم غشاوة ، ويحتمل أن يكون نصبها

٤٦

على الإتباع على محلّ وعلى سمعهم ، كقوله تعالى : (وَحُورٌ عِينٌ) (١) وقول الشاعر :

علفتها تبنا وماء باردا

وإنما وحّد السمع مع جمع القلوب والأبصار ، لأنه مصدر يقع على القليل والكثير. والعذاب : هو ما يؤلم ، وهو مأخوذ من الحبس والمنع ، يقال في اللغة أعذبه عن كذا : حبسه ومنعه ، ومنه عذوبة الماء لأنها حبست في الإناء حتى صفت. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الكبير وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ، ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأوّل. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضا في تفسير الآية : أنهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك ، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق ، فكيف يسمعون منك إنذارا وتحذيرا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ). وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب ، وهم الذين ذكرهم الله في هذه الآية (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) (٢) قال : فهم الذين قتلوا يوم بدر ، ولم يدخل القادة في الإسلام إلا رجلان : أبو سفيان ، والحكم ابن العاص. وأخرج ابن المنذر عن السدي في قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) قال : أوعظتهم أم لم تعظهم. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في هذه الآية قال : أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم ، فختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة فهم لا يبصرون هدى ، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، قال : الختم على قلوبهم وعلى سمعهم والغشاوة على أبصارهم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم فلا يعقلون ولا يسمعون. وجعل على أبصارهم : يعني أعينهم غشاوة فهم لا يبصرون. وروى ذلك السدي عن جماعة من الصحابة ، وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : الختم على القلب والسمع ، والغشاوة على البصر ، قال الله تعالى : (فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ) (٣) وقال : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (٤). قال ابن جرير في معنى الختم : والحق عندي في ذلك ما صحّ نظيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ذكر إسنادا متصلا بأبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ المؤمن إذا أذنب ذنبا كان نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تغلق قلبه» فذلك الران الذي قال الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٥). وقد رواه من هذا الوجه الترمذي وصحّحه والنسائي. ثم قال ابن جرير : فأخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذ الختم من قبل الله سبحانه والطبع ، فلا يكون إليها مسلك ولا للكفر منها مخلص ، فذلك هو الختم الذي ذكره الله في قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) نظير الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظروف التي لا يوصل إلى ما فيها إلا بفضّ ذلك عنها ثم حلّها ، فلذلك لا يصل الإيمان إلى قلوب من وصف الله أنه ختم على قلوبهم إلا بعد فضّ

__________________

(١). الواقعة : ٢٢.

(٢). إبراهيم : ٢٨.

(٣). الشورى : ٢٤.

(٤). الجاثية : ٢٣.

(٥). المطففين : ١٤.

٤٧

خاتمه ، وحلّ رباطه عنها.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩))

ذكر سبحانه في أول هذه السورة المؤمنين الخلّص ، ثم ذكر بعدهم الكفرة الخلّص ، ثم ذكر ثالثا المنافقين ، وهم الذين لم يكونوا من إحدى الطائفتين ، بل صاروا فرقة ثالثة لأنهم وافقوا في الظاهر الطائفة الأولى وفي الباطن الطائفة الثانية ، ومع ذلك فهم أهل الدرك الأسفل من النار. وأصل ناس أناس حذفت همزته تخفيفا ، وهو من النوس وهو الحركة ، يقال : ناس ينوس : أي تحرّك ، وهو من أسماء الجموع جمع إنسان وإنسانة على غير لفظه ، واللام الداخلة عليه للجنس ، ومن تبعيضية : أي بعض الناس ، ومن موصوفة : أي ومن الناس ناس يقول. والمراد باليوم الآخر : الوقت الذي لا ينقطع ، بل هو دائم أبدا. والخداع في أصل اللغة : الفساد ، حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي ، وأنشد :

أبيض اللّون رقيق (١) طعمه

طيّب الرّيق إذا الرّيق خدع

وقيل : أصله الإخفاء ، ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء ، حكاه ابن فارس وغيره.

والمراد من مخادعتهم لله أنهم صنعوا معه صنع المخادعين ، وإن كان العالم الذي لا يخفى عليه شيء لا يخدع.

وصيغة فاعل تفيد الاشتراك في أصل الفعل ، فكونهم يخادعون الله والذين آمنوا يفيد أن الله سبحانه والذين آمنوا يخادعونهم. والمراد بالمخادعة من الله ؛ أنه لما أجرى عليهم أحكام الإسلام مع أنهم ليسوا منه في شيء ، فكأنّه خادعهم بذلك كما خادعوه بإظهار الإسلام وإبطان الكفر مشاكلة لما وقع منهم بما وقع منه. والمراد بمخادعة المؤمنين لهم : هو أنهم أجروا عليهم ما أمرهم الله به من أحكام الإسلام ظاهرا وإن كانوا يعلمون فساد بواطنهم ، كما أن المنافقين خادعوهم بإظهار الإسلام وإبطان الكفر. والمراد بقوله تعالى : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) الإشعار بأنهم لما خادعوا من لا يخدع كانوا مخادعين أنفسهم ، لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن. وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه وما يشعر بذلك ، ومن هذا قول من قال : من خادعته فانخدع لك فقد خدعك. وقد قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (يُخادِعُونَ) في الموضعين ، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي وابن عامر في الثاني (يَخْدَعُونَ). والمراد بمخادعتهم أنفسهم : أنهم يمنونها الأمانيّ الباطلة وهي كذلك تمنيهم. (وَما يَشْعُرُونَ) قال أهل اللغة : شعرت بالشيء فطنت. قال في الكشاف : والشعور علم الشيء علم حس ، من الشعار. ومشاعر الإنسان : حواسه. والمعنى : أن لحوق ضرر ذلك لهم كالمحسوس ، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حسّ له. والمراد بالأنفس هنا ذواتهم ، لا

__________________

(١). في القرطبي «لذيذ» والبيت قاله سويد بن أبي كاهل يصف ثغر امرأة.

٤٨

سائر المعاني التي تدخل في مسمّى النفس ، كالروح والدم والقلب.

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس : أنهم المنافقون من الأوس والخزرج ومن كان على أمرهم. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال : والمراد بهذه الآية المنافقون. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين قال : لم يكن عندهم شيء أخوف من هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ). وأخرج ابن سعد عن حذيفة أنه قيل له : ما النفاق؟ قال : أن يتكلّم بالإسلام ولا يعمل به. وأخرج أحمد بن منيع في مسنده بسند ضعيف عن رجل من الصحابة : أن قائلا من المسلمين قال : يا رسول الله! ما النجاة غدا؟ قال : لا تخادع الله. قال : وكيف نخادع الله؟ قال : أن تعمل بما أمرك الله به تريد به غيره ، فاتّقوا الرياء فإنه الشرك بالله ، فإن المرائي ينادى يوم القيامة على رؤوس الخلائق بأربعة أسماء : يا كافر ، يا فاجر ، يا خاسر ، يا غادر ، ضلّ عملك وبطل أجرك ، فلا خلاق لك اليوم عند الله ، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له يا مخادع ، وقرأ آيات من القرآن (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) (١) الآية ، و (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ) (٢) الآية ، وأخرج ابن جرير عن ابن وهب قال : سألت ابن زيد عن قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) قال : هؤلاء المنافقون يخادعون الله ورسوله ، والذين آمنوا : أنهم مؤمنون بما أظهروه. وعن قوله : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ). أنهم ضرّوا أنفسهم بما أضمروا من الكفر والنفاق. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) قال : يظهرون لا إله إلّا الله يريدون أن يحرزوا بذلك دماءهم وأموالهم وفي أنفسهم غير ذلك.

(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠))

المرض : كل ما يخرج به الإنسان عن حدّ الصّحة من علة أو نفاق أو تقصير في أمر ، قاله ابن فارس. وقيل : هو الألم ، فيكون على هذا مستعارا للفساد الذي في عقائدهم إما شكا ونفاقا ، أو جحدا وتكذيبا ؛ وتقديم الخبر للإشعار بأن المرض مختص بها ، مبالغة في تعلّق هذا الداء بتلك القلوب لما كانوا عليه من شدّة الحسد وفرط العداوة. والمراد بقوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) الإخبار بأنهم كذلك بما يتجدد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من النعم ، ويتكرّر له من منن الله الدنيوية والدينية. ويحتمل أن يكون دعاء عليهم بزيادة الشك وترادف الحسرة وفرط النفاق. والأليم المؤلم : أي الموجع ، و «ما» في قوله : (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) مصدرية : أي بتكذيبهم وهو قولهم : (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) والقرّاء مجمعون على فتح الراء في قوله : مرض ، إلا ما رواه الأصمعيّ عن أبي عمرو أنه قرأ بإسكان الراء ، وقرأ حمزة وعاصم والكسائي (يَكْذِبُونَ) بالتخفيف ، والباقون بالتشديد.

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال : شكّ (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) قال : شكّا. وأخرج عنه ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ

__________________

(١). الكهف : ١١٠.

(٢). النساء : ١٤٢.

٤٩

مَرَضٌ) قال : النفاق (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) قال : نكال موجع (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) قال : يبدّلون ويحرّفون. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود مثل ما قاله ابن عباس أوّلا. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كل شيء في القرآن أليم فهو الموجع. وأخرج أيضا عن أبي العالية مثله. وأخرج ابن جرير عن الضحّاك مثله أيضا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي ريبة وشكّ في أمر الله (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) ريبة وشكّا (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) قال : إيّاكم والكذب فإنه باب النفاق. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : هذا مرض في الدين وليس مرضا في الأجساد وهم المنافقون ، والمرض : الشك الذي دخلهم في الإسلام. وروي عن عكرمة وطاوس أن المرض : الرياء.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢))

(وَإِذا) في موضع نصب على الظرف والعامل فيه قالوا المذكور بعده. وفيه معنى الشرط. والفساد ضد الصلاح ، وحقيقته العدول عن الاستقامة إلى ضدها. فسد الشيء يفسد فسادا وفسودا فهو فاسد وفسيد. والمراد في الآية : لا تفسدوا في الأرض بالنفاق وموالاة الكفرة وتفريق الناس عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن ، فإنكم إذا فعلتم ذلك فسد ما في الأرض بهلاك الأبدان وخراب الديار وبطلان الذرائع ، كما هو مشاهد عند ثوران الفتن والتنازع. و (إِنَّما) من أدوات القصر كما هو مبيّن في علم المعاني. والصّلاح ضد الفساد. لما نهاهم الله عن الفساد الذي هو دأبهم أجابوا بهذه الدعوى العريضة ، ونقلوا أنفسهم من الاتصاف بما هي عليه حقيقة وهو الفساد ، إلى الاتصاف بما هو ضدّ لذلك وهو الصلاح ، ولم يقفوا عند هذا الكذب البحت والزور المحض ، حتى جعلوا صفة الصلاح مختصة بهم خالصة لهم ، فردّ الله عليهم ذلك أبلغ ردّ لما يفيده حرف التنبيه من تحقق ما بعده ، ولما في إن من التأكيد ، وما في تعريف الخبر مع توسيط ضمير الفصل من الحصر المبالغ فيه بالجمع بين أمرين من الأمور المفيدة له ، وردّهم إلى صفة الفساد التي هم متصفون بها في الحقيقة ردّا مؤكدا مبالغا فيه بزيادة على ما تضمنته دعواهم الكاذبة من مجرد الحصر المستفاد من إنما. وأما نفي الشعور عنهم فيحتمل أنهم لمّا كانوا يظهرون الصلاح مع علمهم أنهم على الفساد الخالص ، ظنوا أن ذلك ينفق على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وينكتم عنه بطلان ما أضمروه ، ولم يشعروا بأنه عالم به ، وأن الخبر يأتيه بذلك من السماء ، فكان نفي الشعور عنهم من هذه الحيثية لا من جهة أنهم لا يشعرون بأنهم على الفساد. ويحتمل أن فسادهم كان عندهم صلاحا لما استقرّ في عقولهم من محبة الكفر وعداوة الإسلام.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن مسعود أنه قال : الفساد هنا : هو الكفر والعمل بالمعصية. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في تفسير هذه الآية قال : إذا ركبوا معصية فقيل لهم لا تفعلوا كذا ، قالوا : إنما نحن على الهدى. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم

٥٠

عن سلمان أنه قرأ هذه الآية فقال : لم يجيء أهل هذه الآية بعد. قال ابن جرير : يحتمل أن سلمان أراد بهذا أن الذين يأتون بهذه الصفة أعظم فسادا من الذين كانوا في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لا أنه عنى أنه لم يمض ممن تلك صفته أحد. انتهى. ويحتمل أن سلمان يرى أن هذه الآية ليست في المنافقين ، بل يحملها على مثل أهل الفتن التي يدين أهلها بوضع السيف في المسلمين ؛ كالخوارج وسائر من يعتقد في فساده أنه صلاح لما يطرأ عليه من الشبه الباطلة.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

أي : وإذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المهاجرين والأنصار أجابوا بأحمق جواب وأبعده عن الحقّ والصواب ، فنسبوا إلى المؤمنين السفه استهزاء واستخفافا ، فتسبّبوا بذلك إلى تسجيل الله عليهم بالسفه بأبلغ عبارة وآكد قول. وحصر السفاهة وهي رقّة الحلوم وفساد البصائر وسخافة العقول فيهم ، مع كونهم لا يعملون أنهم كذلك إما حقيقة أو مجازا ، تنزيلا لإصرارهم على السفه منزلة عدم العلم بكونهم عليه ، وأنهم متصفون به ؛ ولما ذكر الله هنا السفه ناسبه نفي العلم عنهم لأنه لا يتسافه إلّا جاهل. والكاف في موضع نصب لأنها نعت لمصدر محذوف : أي إيمانا كإيمان الناس.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) أي صدّقوا كما صدّق أصحاب محمد أنّه نبيّ ورسول ، وأن ما أنزل عليه حق ، (قالُوا : أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) يعنون أصحاب محمد (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ) يقول : الجهّال (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) يقول : لا يعقلون. وروي عن ابن عساكر في تاريخه بسند واه أنه قال : آمنوا كما آمن النّاس أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : (كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) قال : يعنون أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج عن الربيع وابن زيد مثله. وروى الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في شأن اليهود : أي إذا قيل لهم ـ يعني اليهود ـ : (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) عبد الله بن سلام وأصحابه (قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ).

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥))

(لَقُوا) أصله لقيوا ، نقلت الضمة إلى القاف وحذفت الياء لالتقاء الساكنين. ومعنى لقيته ولاقيته : استقبلته قريبا. وقرأ محمد بن السّميقع اليماني وأبو حنيفة : لاقوا : وأصله لاقيوا تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا ، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين. وخلوت بفلان وإليه : إذا انفردت به. وإنما عدّي بإلى

٥١

وهو يتعدّى بالباء فيقال : خلوت به لا خلوت إليه ، لتضمنه معنى ذهبوا وانصرفوا. والشياطين جمع شيطان على التكسير. وقد اختلف كلام سيبويه في نون الشيطان فجعلها في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة ، فعلى الأوّل هو من شطن أي بعد عن الحق ، وعلى الثاني من شطّ : أي بعد. أو شاط : أي بطل ، وشاط : أي احترق ، وأشاط : إذا هلك قال :

وقد يشيط على أرماحنا البطل

أي يهلك. وقال آخر :

وأبيض ذي تاج أشاطت رماحنا

لمعترك بين الفوارس أقتما

أي أهلكت. وحكى سيبويه أن العرب تقول : تشيطن فلان : إذا فعل أفعال الشياطين. ولو كان من شاط لقالوا : تشيّط ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :

أيّما شاطن عصاه عكاه

ثم يلقى في السّجن والأغلال

وقوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) معناه مصاحبوكم في دينكم وموافقوكم عليه. والهزء : السخرية واللعب. قال الراجز :

قد هزئت منّي أمّ طيسله

قالت أراه معدما لا مال له

قال في الكشاف : وأصل الباب الخفة من الهزء وهو القتل السريع ، وهزأ يهزأ : مات على المكان. عن بعض العرب : مشيت فلغبت فظننت لأهزأنّ على مكاني ، وناقته تهزأ به : أي تسرع وتخفّ. انتهى. وقيل : أصله الانتقام ، قال الشاعر :

قد استهزءوا منهم بألفي مدجّج

سراتهم وسط الصّحاصح جثّم

فأفاد قولهم : (إِنَّا مَعَكُمْ) أنهم ثابتون على الكفر ، وأفاد قولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ردّهم للإسلام ودفعهم للحق ، وكأنه جواب سؤال مقدّر ناشئ من قولهم إنا معكم : أي إذا كنتم معنا فما بالكم إذا لقيتم المسلمين وافقتموهم؟ فقالوا : إنما نحن مستهزئون بهم في تلك الموافقة ، ولم تكن بواطننا موافقة لهم ولا مائلة إليهم ، فردّ الله ذلك عليهم بقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) أي ينزل بهم الهوان والحقارة وينتقم منهم ويستخفّ بهم انتصافا منهم لعباده المؤمنين ، وإنما جعل سبحانه ما وقع منه استهزاء مع كونه عقوبة ومكافأة مشاكلة. وقد كانت العرب إذا وضعت لفظا بإزاء لفظ جوابا وجزاء ذكرته بمثل ذلك اللفظ وإن كان مخالفا له في معناه. وورد ذلك في القرآن كثيرا ، ومنه : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (١) (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) (٢) والجزاء لا يكون سيئة. والقصاص لا يكون اعتداء لأنه حق ، ومنه : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (٣) و (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) (٤) (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) (٥) (يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (٦) (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) (٧). وهو في السنة كثير كقوله

__________________

(١). الشورى : ٤٠.

(٢). البقرة : ١٩٤.

(٣). آل عمران : ٥٤.

(٤). الطارق : ١٥ ـ ١٦.

(٥). البقرة : ٩.

(٦). النساء : ١٤٢.

(٧). المائدة : ١١٦.

٥٢

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله لا يملّ حتى تملّوا».

وإنما قال : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) لأنه يفيد التجدّد وقتا بعد وقت ، وهو أشدّ عليهم ، وأنكأ لقلوبهم ، وأوجع لهم من الاستهزاء الدائم الثابت المستفاد من الجملة الاسمية ، لما هو محسوس من أن العقوبة الحادثة وقتا بعد وقت ، والمتجددة حينا بعد حين ، أشدّ على من وقعت عليه من العذاب الدائم المستمرّ لأنه يألفه ويوطّن نفسه عليه. والمدّ : الزيادة قال يونس بن حبيب : يقال مدّ في الشرّ وأمدّ في الخير ، ومنه : (وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) (١) (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ) (٢). وقال الأخفش : مددت له : إذا تركته ، وأمددته : إذا أعطيته. وقال الفرّاء واللحياني : مددت فيما كانت زيادته من مثله ، يقال : مدّ النهر ، ومنه : (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) (٣) وأمددت فيما كانت زيادته من غيره ، ومنه : (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ) (٤) والطغيان مجاوزة الحدّ والغلوّ في الكفر ومنه : (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) (٥) أي تجاوز المقدار الذي قدّرته الخزان. وقوله في فرعون : (إِنَّهُ طَغى) (٦) أي أسرف في الدعوى حيث قال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٧).

والعمه والعامة : الحائر المتردد ، وذهبت إبله العمّهى : إذا لم يدر أين ذهبت ، والعمه في القلب كالعمى في العين. قال في الكشاف : العمه مثل العمى. إلا أن العمى في البصر والرأي ، والعمه في الرأي خاصة. انتهى. والمراد أن الله سبحانه يطيل لهم المدّة ويمهلهم كما قال : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) (٨). قال ابن جرير : (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) في ضلالهم وكفرهم الذي قد غمرهم يترددون حيارى ضلّالا لا يجدون إلى المخرج منه سبيلا ، لأن الله قد طبع على قلوبهم وختم عليها ، وأعمى أبصارهم عن الهدى وأغشاها ، فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلا.

وقد أخرج الواحدي والثعلبي بسند واه ـ لأن فيه محمد بن مروان ، وهو متروك ـ عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه ، وذكر قصة وقعت لهم مع أبي بكر وعمر وعليّ رضي الله عنهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : كان رجال من اليهود إذا لقوا أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو بعضهم قالوا : إنا على دينكم : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) وهم إخوانهم قالوا : (إِنَّا مَعَكُمْ) على مثل ما أنتم عليه : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) بأصحاب محمد : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) قال : يسخر بهم للنقمة منهم : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) قال : في كفرهم ، (يَعْمَهُونَ) قال : يتردّدون. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عنه بمعناه وأطول منه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عنه بنحو الأوّل. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ) قال : رؤسائهم في الكفر. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : (وَإِذا خَلَوْا) أي مضوا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة نحو ما قاله ابن مسعود. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود في قوله : (وَيَمُدُّهُمْ) قال : يملي لهم. (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال : في كفرهم يتمادون. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما قاله ابن مسعود في تفسير يعمهون. وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن

__________________

(١). الإسراء : ٦.

(٢). الطور : ٢٢.

(٣). لقمان : ٢٧.

(٤). آل عمران : ١٢٥.

(٥). الحاقة : ١١.

(٦). النازعات : ١٧.

(٧). النازعات : ٢٤.

(٨). آل عمران : ١٧٨.

٥٣

المنذر عن مجاهد (يَمُدُّهُمْ) يزيدهم. (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) قال يلعبون ويتردّدون في الضّلالة. وأخرج أحمد في المسند عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعوذ بالله من شياطين الإنس والجنّ ، فقلت : يا رسول الله! وللإنس شياطين؟ قال : نعم».

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

قال سيبويه : ضمّت الواو في : (اشْتَرَوُا) فرقا بينها وبين الواو الأصلية في نحو : (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) (١). وقال الزجّاج : حرّكت بالضم كما يفعل في نحن. وقرأ يحيى بن يعمر بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين. وقرأ أبو السّمّال العدوي بفتحها لخفة الفتحة. وأجاز الكسائيّ همز الواو. والشراء هنا مستعار للاستبدال : أي استبدلوا الضلالة بالهدى كقوله تعالى : (فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٢) فأما أن يكون معنى الشراء المعاوضة كما هو أصله حقيقة فلا ، لأن المنافقين لم يكونوا مؤمنين فيبيعوا إيمانهم ، والعرب قد تستعمل ذلك في كل من استبدل شيئا بشيء. قال أبو ذؤيب :

فإن تزعميني كنت أجهل فيكم

فإنّي شريت (٣) الحلم بعدك بالجهل

وأصل الضلالة الحيرة والجور عن القصد وفقد الاهتداء ، وتطلق على النسيان ، ومنه قوله تعالى : (قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (٤) ، وعلى الهلاك كقوله : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) (٥) وأصل الربح الفضل. والتجارة : صناعة التاجر ، وأسند الربح إليها على عادة العرب في قولهم : ربح بيعك وخسرت صفقتك ، وهو من الإسناد المجازي ، وهو إسناد الفعل إلى ملابس للفاعل كما هو مقرّر في علم المعاني. والمراد : ربحوا وخسروا. والاهتداء قد سبق تحقيقه : أي وما كانوا مهتدين في شرائهم الضلالة ؛ وقيل في سابق علم الله. وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) أي الكفر بالإيمان. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود قال : أخذوا الضلالة وتركوا الهدى. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : آمنوا ثم كفروا. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة قال : استحبّوا الضلالة على الهدى ، قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السّنّة إلى البدعة.

(مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمت لا يبصرون (١٧) صم بكم عمي فهم لا يرجعون (١٨))

(مَثَلُهُمْ) مرتفع بالابتداء ، وخبره إما الكاف في قوله : (كَمَثَلِ) لأنها اسم : أي مثل مثل كما في

__________________

(١). الجن : ١٦.

(٢). فصلت : ١٧.

(٣). ويروى «اشتريت» كما في ديوان أبي ذؤيب.

(٤). الشعراء : ٢٠.

(٥). السجدة : ١٠.

٥٤

قول الأعشى :

أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط

كالطّعن يذهب فيه الزيت والفتل

وقول امرئ القيس :

ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا

تصوّب فيه العين طورا وترتقي

أراد مثل الطعن ، وبمثل ابن الماء ، ويجوز أن يكون الخبر محذوفا : أي مثلهم مستنير كمثل ، فالكاف على هذا حرف. والمثل : الشبه ، والمثلان : المتشابهان و (الَّذِي) موضوع موضع الذين : أي كمثل الذين ، أي كمثل الذين استوقدوا ، وذلك موجود في كلام العرب كقول الشاعر :

وإنّ الذي حانت بفلج دماؤهم

هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد

ومنه : (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) (١) ومنه : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (٢).

ووقود النار : سطوعها وارتفاع لهبها ، و (اسْتَوْقَدَ) بمعنى أوقد مثل استجاب بمعنى أجاب ، فالسين والتاء زائدتان ، قاله الأخفش. ومنه قول الشاعر :

وداع دعا يا من يجيب إلى النّدى

فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي يجبه. والإضاءة فرط الإنارة ، وفعلها يكون لازما ومتعديا. و (ما حَوْلَهُ) قيل ما زائدة ، وقيل هي موصولة في محل نصب على أنها مفعول أضاءت ، وحوله منصوب على الظرفية ، و (ذَهَبَ) من الذهاب ، وهو زوال الشيء. و (وَتَرَكَهُمْ) أي أبقاهم (فِي ظُلُماتٍ) جمع ظلمة. وقرأ الأعمش بإسكان اللام على الأصل. وقرأ أشهب العقيلي بفتح اللام ، وهي عدم النور. و (صُمٌ) وما بعده خبر مبتدأ محذوف : أي هم. وقرأ ابن مسعود : صما بكما عميا بالنصب على الذم ، ويجوز أن ينتصب بقوله تركهم. والصمم : الانسداد ، يقال قناة صماء : إذا لم تكن مجوّفة ، وصممت القارورة : إذا سددتها ، وفلان أصمّ : إذا انسدت خروق مسامعه. والأبكم : الذي لا ينطق ولا يفهم ، فإذا فهم فهو الأخرس. وقيل الأخرس والأبكم واحد. والعمى : ذهاب البصر. والمراد بقوله : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي إلى الحق ، وجواب لما في قوله فلما أضاءت ، قيل هو : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) وقيل : محذوف تقديره : طفئت فبقوا حائرين. وعلى الثاني فيكون قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) كلاما مستأنفا أو بدلا من المقدر.

ضرب الله هذا المثل للمنافقين لبيان أن ما يظهرونه من الإيمان مع ما يبطنونه من النّفاق لا يثبت لهم به أحكام الإسلام ، كمثل المستوقد الذي أضاءت ناره ثم طفئت ، فإنه يعود إلى الظلمة ولا تنفعه تلك الإضاءة اليسيرة ، فكان بقاء المستوقد في ظلمات لا يبصر كبقاء المنافق في حيرته وتردده. وإنما وصفت هذه النار بالإضاءة مع كونها نار باطل لأن الباطل كذلك تسطع ذوائب لهب ناره لحظة ثم تخفت. ومنه قولهم : «للباطل صولة ثم يضمحل» وقد تقرر عند علماء البلاغة أن لضرب الأمثال شأنا عظيما في إبراز خفيات المعاني ،

__________________

(١). التوبة : ٦٩.

(٢). الزمر : ٣٣.

٥٥

ورفع أستار محجبات الدقائق ، ولهذا استكثر الله من ذلك في كتابه العزيز ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكثر من ذلك في مخاطباته ومواعظه.

قال ابن جرير : إن هؤلاء المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقت من الأوقات ، واحتج بقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (١). وقال ابن كثير : إن الصواب أن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم ، وهذا لا ينفي أنه كان حصل لهم إيمان قبل ذلك ، ثم سلبوه وطبع على قلوبهم كما يفيده قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) (٢). قال ابن جرير : وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال : (رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (٣) أي كدوران عيني الذي يغشى عليه من الموت ، وقال تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) (٤).

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) قال : هذا مثل ضربه الله للمنافقين ، كانوا يعتزّون بالإسلام ، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء ، فلما ماتوا سلبهم الله العزّ كما سلب صاحب النار ضوءه : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) يقول : في عذاب : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) فهم لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) قالوا : إن ناسا دخلوا في الإسلام عند مقدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ثم نافقوا ، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا فأضاءت ما حوله من قذى وأذى ، فأبصره حتى عرف ما يتقي ، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى. فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشرّ ، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشرّ. فهم (صُمٌّ بُكْمٌ) هم الخرس ، (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) إلى الإسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) قال : ضربه الله مثلا للمنافق ، وقوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) قال : أما النور فهو إيمانهم الذي يتكلمون به ، وأما الظلمة فهو ضلالهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس مثله. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرجا أيضا عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة والحسن والسدي والربيع بن أنس نحو ما تقدم.

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

عطف هذا المثل على المثل الأول بحرف الشك لقصد التخيير بين المثلين : أي مثلوهم بهذا أو هذا ، وهي

__________________

(١). البقرة : ٨.

(٢). المنافقون : ٣.

(٣). الأحزاب : ١٩.

(٤). الجمعة : ٥.

٥٦

وإن كانت في الأصل للشك فقد توسع فيها حتى صارت لمجرّد التساوي من غير شك ، وقيل إنها بمعنى الواو ، قاله الفراء وغيره ، وأنشد :

وقد زعمت ليلى بأنّي فاجر

لنفسي تقاها أو عليها فجورها

وقال آخر :

نال الخلافة أو كانت له قدرا

كما أتى ربّه موسى على قدر

والمراد بالصيب : المطر ، واشتقاقه من صاب يصوب : إذا نزل. قال علقمة :

فلا تعدلي بيني وبين مغمّر

سقتك روايا المزن حيث تصوب

وأصله صيوب ، اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت ، كما فعلوا في ميت وسيد. والسماء في الأصل : كل ما علاك فأظلك. ومنه قيل لسقف البيت سماء. والسماء أيضا : المطر سمي بها لنزوله منها ، وفائدة ذكر نزوله من السماء مع كونه لا يكون إلا منها أنه لا يختص نزوله بجانب منها دون جانب ، وإطلاق السماء على المطر واقع كثير في كلام العرب ، فمنه قول حسان :

ديار من بني الحسحاس قفر

تعفّيها الرّوامس والسّماء

وقال آخر :

إذا نزل السماء بأرض قوم

 ..... والظلمات قد تقدّم تفسيرها ، وإنما جمعها إشارة إلى أنه انضمّ إلى ظلمة الليل ظلمة الغيم. والرعد : اسم لصوت الملك الذي يزجر السّحاب.

وقد أخرج الترمذي من حديث ابن عباس قال : «سألت اليهود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرعد ما هو؟ قال : ملك من الملائكة بيده مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله ، قالوا : فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال : زجره بالسّحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر. قالت : صدقت» الحديث بطوله ، وفي إسناده مقال. قال القرطبي : وعلى هذا التفسير أكثر العلماء. وقيل : هو اضطراب أجرام السحاب عند نزول المطر منها ، وإلى هذا ذهب جمع من المفسرين تبعا للفلاسفة وجهلة المتكلمين ، وقيل غير ذلك ، والبرق ؛ مخراق حديد بيد الملك الذي يسوق السحاب ، وإليه ذهب كثير من الصحابة وجمهور علماء الشريعة للحديث السابق. وقال بعض المفسرين تبعا للفلاسفة : إن البرق ما ينقدح من اصطكاك أجرام السحاب المتراكمة من الأبخرة المتصعدة المشتملة على جزء ناري يتلهب عند الاصطكاك.

وقوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) جملة مستأنفة لا محل لها كأنّ قائلا قال : فكيف حالهم عند ذلك الرعد؟ فقيل : يجعلون أصابعهم في آذانهم. وإطلاق الأصبع على بعضها مجاز مشهور ، والعلاقة الجزئية والكلية لأن الذي يجعل في الأذن إنما هو رأس الأصبع لا كلها. والصواعق ويقال الصواقع : هي قطعة نار

٥٧

تنفصل من مخراق الملك الذي يزجر السحاب عند غضبه وشدة ضربه لها ، ويدلّ على ذلك ما في حديث ابن عباس الذي ذكرنا بعضه قريبا ، وبه قال كثير من علماء الشريعة. ومنهم من قال : إنها نار تخرج من فم الملك. وقال الخليل : هي الواقعة الشديدة من صوت الرعد ، يكون معها أحيانا قطعة نار تحرق ما أتت عليه. وقال أبو زيد : الصاعقة : نار تسقط من السماء في رعد شديد. وقال بعض المفسرين تبعا للفلاسفة ومن قال بقولهم : إنها نار لطيفة تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامها. وسيأتي في سورة الرعد إن شاء الله في تفسير الرعد والبرق والصواعق ما له مزيد فائدة وإيضاح. ونصب : (حَذَرَ الْمَوْتِ) على أنه مفعول لأجله. وقال الفرّاء : منصوب على التمييز. والموت : ضدّ الحياة. والإحاطة : الأخذ من جميع الجهات حتى لا تفوت المحاط به بوجه من الوجوه. وقوله : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) جملة مستأنفة كأنه قيل : فكيف حالهم مع ذلك البرق؟ ويكاد : يقارب. والخطف : الأخذ بسرعة ، ومنه سمي الطير خطّافا لسرعته. وقرأ مجاهد : (يَخْطَفُ) بكسر الطاء والفتح أفصح.

وقوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) كلام مستأنف كأنه قيل : كيف تصنعون في تارتي خفوق البرق وسكونه ، وهو تمثيل لشدّة الأمر على المنافقين بشدّته على أهل الصيب : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) بالزيادة في الرعد والبرق : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهذا من جملة مقدوراته سبحانه.

وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : (أَوْ كَصَيِّبٍ) هو المطر ضرب مثله في القرآن : (فِيهِ ظُلُماتٌ) يقول ابتلاء : (وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) تخويف (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) يقول : يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) يقول : كلما أصاب المنافقون من الإسلام عزّا اطمأنوا ، فإن أصاب الإسلام نكبة قالوا ارجعوا إلى الكفر [يقول (وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا)] (١) كقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) (٢) الآية.

وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة قالوا : كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المشركين ، فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله فيه رعد شديد وصواعق وبرق ، فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما ، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا قاما مكانهما لا يمشيان ، فجعلا يقولان : ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمدا فنضع أيدينا في يده ، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما ، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة ، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكروا بشيء فيقتلوا ، كما كان ذلك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما ، وإذا أضاء لهم مشوا فيه : أي فإذا كثرت أموالهم وأولادهم وأصابوا غنيمة وفتحا مشوا فيه وقالوا : إن دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم دين صدق واستقاموا عليه ، كما كان ذانك المنافقان

__________________

(١). مستدرك من تفسير الطبري (١ / ١٢٠)

(٢). الحج : ١١.

٥٨

يمشيان إذا أضاء لهم البرق ، وإذا أظلم عليهم قاموا فكانوا إذا هلكت أموالهم وأولادهم وأصابهم البلاء قالوا : هذا من أجل دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وارتدوا كفارا كما قام المنافقان حين أظلم البرق عليهما.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : (أَوْ كَصَيِّبٍ) قال : هو المطر وهو مثل للمنافق في ضوئه يتكلم بما معه من كتاب الله مراءاة الناس ، فإذا خلا وحده عمل بغيره فهو في ظلمة ما أقام على ذلك. وأما الظلمات : فالضلالات. وأما البرق : فالإيمان ، وهم أهل الكتاب ، وإذا أظلم عليهم : فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أيضا نحو ما سلف. وقد روي تفسيره بنحو ذلك عن جماعة من التابعين.

واعلم أن المنافقين أصناف ، فمنهم من يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، ومنهم من قال فيه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ثبت في الصحيحين وغيرهما : «ثلاث من كنّ فيه كان منافقا خالصا ، ومن كانت فيه واحدة منهنّ كان فيه خصلة من النّفاق حتى يدعها : من إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان» وورد بلفظ أربع وزاد «وإذا خاصم فجر». وورد بلفظ «وإذا عاهد غدر». وقد ذكر ابن جرير ومن تبعه من المفسرين أن هذين المثلين لصنف واحد من المنافقين.

لما فرغ سبحانه من ذكر المؤمنين والكافرين والمنافقين أقبل عليهم بالخطاب التفاتا للنكتة السابقة في الفاتحة ، ويا : حرف نداء ، والمنادى أيّ ، وهو اسم مفرد مبني على الضم ؛ وها حرف تنبيه مقحم بين المنادى وصفته. قال سيبويه : كأنك كرّرت : «يا» مرتين ، وصار الاسم بينهما كما قالوا : ها هو ذا. وقد تقدّم الكلام في تفسير الناس والعبادة. وإنما خصّ نعمة الخلق وامتنّ بها عليهم ، لأن جميع النعم مترتبة عليها. وهي أصلها الذي لا يوجد شيء منها بدونها. وأيضا فالكفار مقرّون بأن الله هو الخالق (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (١) فامتنّ عليهم بما يعترفون به ولا ينكرونه. وفي أصل معنى الخلق وجهان : أحدهما التقدير. يقال خلقت الأديم للسقاء : إذا قدّرته قبل القطع. قال زهير :

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثمّ لا يفري

الثاني : الإنشاء والاختراع والإبداع. ولعل : أصلها الترجّي والطمع والتوقع والإشفاق ، وذلك مستحيل على الله سبحانه ، ولكنه لما كانت المخاطبة منه سبحانه للبشر كانت بمنزلة قوله لهم : افعلوا ذلك على الرجاء منكم والطمع ، وبهذا قال جماعة من أئمة العربية منهم سيبويه. وقيل : إن العرب استعملت لعل مجردة من الشك بمعنى لام كي. والمعنى هنا : لتتقوا ، وكذلك ما وقع هذا الموقع ، ومنه قول الشاعر :

__________________

(١). الزخرف : ٨٧.

٥٩

وقلتم لنا كفّوا الحروب لعلّنا

نكفّ ووثّقتم لنا كلّ موثق

فلمّا كففنا الحرب كانت عهودكم

كشبه (١) سراب في الملا متألّق

أي كفّوا عن الحرب لنكفّ ، ولو كانت لعل للشك لم يوثقوا لهم كل موثق ، وبهذا قال جماعة منهم قطرب. وقيل إنها بمعنى التعرّض للشيء ، كأنه قال : متعرّضين للتقوى. وجعل هنا بمعنى صيّر لتعدّيه إلى المفعولين ، ومنه قول الشاعر :

وقد جعلت أرى الاثنين أربعة

والواحد اثنين لمّا هدّني الكبر

و (فِراشاً) أي وطاء يستقرون عليها. لما قدّم نعمة خلقهم أتبعه بنعمة خلق الأرض فراشا لهم ، لما كانت الأرض التي هي مسكنهم ومحل استقرارهم من أعظم ما تدعو إليه حاجتهم ، ثم أتبع ذلك بنعمة جعل السماء كالقبة المضروبة عليهم ، والسقف للبيت الذي يسكنونه كما قال : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) (٢). وأصل البناء : وضع لبنة على أخرى ، ثم امتنّ عليهم بإنزال الماء من السماء. وأصل ماء موه ، قلبت الواو لتحركها وانفتاح ما قبلها ألفا فصار ماه ، فاجتمع حرفان خفيفان فقلبت الهاء همزة. والثمرات جمع ثمرة. أخرجنا لكم ألوانا من الثمرات وأنواعا من النبات ليكون ذلك متاعا لكم إلى حين. والأنداد جمع ندّ ، وهو المثل والنظير. وقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية والخطاب للكفار والمنافقين. فإن قيل : كيف وصفهم بالعلم وقد نعتهم بخلاف ذلك حيث قال : (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ). (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ). (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ). (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). فيقال : إن المراد أن جهلهم وعدم شعورهم لا يتناول هذا : أي كونهم يعلمون أنه المنعم دون غيره من الأنداد ، فإنهم كانوا يعلمون هذا ولا ينكرونه كما حكاه الله عنهم في غير آية. وقد يقال : المراد وأنتم تعلمون وحدانيته بالقوّة والإمكان لو تدبرتم ونظرتم. وفيه دليل على وجوب استعمال الحجج وترك التقليد. قال ابن فورك : المراد وتجعلون لله أندادا بعد علمكم الذي هو نفي الجهل بأن الله واحد انتهى. وحذف مفعول تعلمون للدلالة على عدم اختصاص ما هم عليه من العلم بنوع واحد من الأنواع الموجبة للتوحيد.

وقد أخرج البزّار والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال : ما كان (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهو أنزل بالمدينة ، وما كان : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو أنزل بمكة. وروي نحو ذلك عن ابن أبي شيبة وعبد بن حميد والطبراني في الأوسط والحاكم وصحّحه ، وروى نحوه أبو عبيد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر من قول علقمة. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن مردويه وابن المنذر عن الضحّاك مثله. وكذا أخرج أبو عبيد عن ميمون بن مهران. وأخرج نحوه أيضا ابن أبي شيبة وابن مردويه عن عروة وعكرمة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) قال : هي للفريقين جميعا من الكفار والمؤمنين. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : (لَعَلَّكُمْ) يعني كي. وأخرج ابن أبي

__________________

(١). في القرطبي : كلمع.

(٢). الأنبياء : ٣٢.

٦٠