فتح القدير - ج ١

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ١

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

المسألة كانوا أقدم من الإخوة لأبوين أو لأب ، وذلك في المسألة المسماة بالحمارية ، وهي : إذا تركت الميتة زوجا وأما وأخوين لأمّ وإخوة لأبوين ، فإن للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين لأم الثلث ولا شيء للإخوة لأبوين. ووجه ذلك أنه قد وجد الشرط الذي يرث عنده الإخوة من الأم وهو كون الميت كلالة ، ويؤيد هذا حديث «ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما بقي فلأولى رجل ذكر» وهو في الصحيحين وغيرهما ، وقد قررنا دلالة الآية والحديث على ذلك في الرسالة التي سميناها «المباحث الدرية في المسألة الحمارية». وفي هذه المسألة خلاف بين الصحابة فمن بعدهم معروف. قوله : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ) الكلام فيه كما تقدم. قوله : (غَيْرَ مُضَارٍّ) أي : يوصي حال كونه غير مضار لورثته بوجه من وجوه الضرار ، كأن يقرّ بشيء ليس عليه ، أو يوصي بوصية لا مقصد له فيها إلا الإضرار بالورثة. أو يوصي لوارث مطلقا ، أو لغيره بزيادة على الثلث ولم تجزه الورثة ، وهذا القيد ، أي قوله : (غَيْرَ مُضَارٍّ) راجع إلى الوصية والدين المذكورين فهو قيد لهما ، فما صدر من الإقرارات بالديون عنه أو الوصايا المنهي عنها ، أو التي لا مقصد لصاحبها إلّا المضارة لورثته ؛ فهو باطل مردود لا ينفذ منه شيء ، لا الثلث ولا دونه. قال القرطبي : وأجمع العلماء : على أن الوصية للوارث لا تجوز. انتهى. وهذا القيد ، أعني : عدم الضرار ، هو قيد لجميع ما تقدّم من الوصية والدين. قال أبو السعود في تفسيره : وتخصيص القيد بهذا المقام : لما أن الورثة مظنة لتفريط الميت في حقهم. قوله : (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) نصب على المصدر ، أي : يوصيكم بذلك وصية من الله كقوله : (فَرِيضَةً مِنَ اللهِ) قال ابن عطية : ويصح أن يعمل فيها : مضار. والمعنى : أن يقع الضرر بها أو بسببها فأوقع عليها تجوزا ، فتكون : وصية ، على هذا مفعولا بها ، لأن الاسم الفاعل قد اعتمد على ذي الحال ، أو لكونه منفيا معنى ، وقرأ الحسن : (وَصِيَّةً مِنَ اللهِ) : بالجرّ ، على إضافة اسم الفاعل إليها ، كقوله : يا سارق الليلة أهل الدار. وفي كون هذه الوصية من الله سبحانه دليل : على أنه قد وصى عباده بهذه التفاصيل المذكورة في الفرائض ، وأن كل وصية من عباده تخالفها ؛ فهي مسبوقة بوصية الله ، وذلك كالوصايا المتضمنة لتفضيل بعض الورثة على بعض ، أو المشتملة على الضرار بوجه من الوجوه ، والإشارة بقوله : (تِلْكَ) إلى الأحكام المتقدمة ، وسماها حدودا : لكونها لا تجوز مجاوزتها ، ولا يحلّ تعديها (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في قسمة المواريث وغيرها من الأحكام الشرعية ، كما يفيده عموم اللفظ (يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) وهكذا قوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) قرأ نافع ، وابن عامر : ندخله بالنون. وقرأ الباقون : بالياء التحتية. قوله : (وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ) أي : وله بعد إدخاله النار عذاب لا يعرف كنهه.

وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن جابر قال : عادني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله! فنزلت [(يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)] (١). وقد قدّمنا أن سبب النزول : سؤال امرأة سعد بن الربيع. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي

__________________

(١). ما بين حاصرتين استدرك من الدر المنثور [٢ / ٤٤٤].

٥٠١

قال : كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري ولا الضعفاء من الغلمان ، لا يرث الرجل من ولده إلّا من أطاق القتال. فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر ، وترك امرأة يقال لها : أم كجّة ، وترك خمس جوار ، فأخذ الورثة ماله ، فشكت ذلك أمّ كجّة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله هذه الآية : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) ثم قال في أمّ كجّة : (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ). وأخرج سعيد بن منصور ، والحاكم ، والبيهقي عن ابن مسعود قال : كان عمر بن الخطاب إذا سلك بنا طريقا فاتبعناه وجدناه سهلا ، وأنه سئل عن امرأة وأبوين فقال للمرأة الربع ، وللأم ثلث ما بقي ، وما بقي فللأب. وأخرج عبد الرزاق ، والبيهقي عن زيد بن ثابت نحوه. وأخرج ابن جرير ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس : أنه دخل على عثمان فقال : إن الأخوين لا يردان الأمّ عن الثلث. قال الله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) والأخوان ليسا بلسان قومك إخوة ، فقال عثمان : لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي ومضى في الأمصار ، وتوارث به الناس. وأخرج الحاكم ، والبيهقي في سننه عن زيد بن ثابت أنه قال : إن العرب تسمي الأخوين : إخوة. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن الجارود ، والدارقطني ، والبيهقي في سننه عن علي قال : إنكم تقرؤون هذه الآية : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ) وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وأن أعيان بني الأمّ يتوارثون دون بني العلات. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) يقول : أطوعكم لله من الآباء والأبناء أرفعكم درجة عند الله يوم القيامة ، لأن الله سبحانه شفع المؤمنين بعضهم في بعض. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) قال : في الدنيا. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والدارمي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يقرأ : وله أخ أو أخت من أمّ. وأخرج البيهقي عن الشعبي قال : ما ورث أحد من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإخوة من الأمّ مع الجدّ شيئا قط. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال : قضى عمر أن ميراث الإخوة لأمّ بينهم للذكر مثل الأنثى ، قال : ولا أرى عمر قضى بذلك حتى علمه من رسول الله ، ولهذه الآية التي قال الله : (فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ). وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس قال : الإضرار في الوصية من الكبائر ، ثم قرأ : (غَيْرَ مُضَارٍّ). وقد رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عنه مرفوعا. وفي إسناده عمر بن المغيرة أبو حفص المصيصي. قال أبو القاسم بن عساكر : ويعرف بمفتي المساكين ، وروى عنه غير واحد من الأئمة ، قال فيه أبو حاتم الرازي : هو شيخ. قال : وعلي بن المديني هو مجهول لا أعرفه. قال ابن جرير : والصحيح الموقوف. انتهى. ورجال إسناد هذا الموقوف رجال الصحيح ، فإن النسائي رواه في سننه عن علي بن حجر ، عن علي بن مسهر ، عن داود بن أبي هند ، عن عكرمة ، عنه. وأخرج أحمد ، وعبد ابن حميد ، وأبو داود ، والترمذي ، وحسنه ، وابن ماجة ، واللفظ له ، والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال

٥٠٢

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى حاف في وصيّته فيختم له بشرّ عمله فيدخل النّار ، وإنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الشرّ سبعين سنة ، فيعدل في وصيّته ، فيختم له بخير عمله ، فيدخل الجنّة» ثم يقول أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) إلى قوله : (عَذابٌ مُهِينٌ) وفي إسناده شهر ابن حوشب ، وفيه مقال معروف. وأخرج ابن ماجة عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قطع ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنّة يوم القيامة». وأخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة مرفوعا. وأخرجه ابن أبي شيبة ، وسعيد بن منصور ، عن سليمان بن موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكره نحوه. وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث سعد بن أبي وقاص «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتاه يعوده في مرضه فقال : إنّ لي مالا كثيرا وليس يرثني إلّا ابنة لي أفأتصدق بالثلثين؟ فقال : لا ، قال : فالشّطر؟ قال : لا ، قال : فالثلث؟ قال : الثلث ، والثلث كثير ، إنّك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون النّاس». وأخرج ابن أبي شيبة عن معاذ بن جبل قال : إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم زيادة في حسناتكم ، يعني : الوصية. وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : وددت أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الثّلث كثير». وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عمر قال : ذكر عند عمر الثلث في الوصية فقال : الثلث وسط لا بخس ولا شطط. وأخرج ابن أبي شيبة عن علي قال : لأن أوصى بالخمس أحبّ إليّ من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحبّ إليّ من أن أوصي بالثلث ، ومن أوصى بالثلث لم يترك.

[فائدة] ورد في الترغيب في تعلم الفرائض وتعليمها : ما أخرجه الحاكم ، والبيهقي في سننه عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعلّموا الفرائض وعلّموه الناس ، فإني امرؤ مقبوض ، وإنّ العلم سيقبض ، وتظهر الفتن ، حتى يختلف الاثنان في الفريضة ، لا يجدان من يقضي بها». وأخرجاه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تعلّموا الفرائض وعلّموه ، فإنّه نصف العلم ، وإنّه ينسى ، وهو أوّل ما ينزع من أمتي». وقد روي عن عمر ، وابن مسعود ، وأنس آثار في الترغيب في الفرائض ، وكذلك روي عن جماعة من التابعين ومن بعدهم.

(وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨))

لما ذكر سبحانه في هذه السورة الإحسان إلى النساء ، وإيصال صدقاتهنّ إليهنّ ، وميراثهنّ مع الرجال ،

٥٠٣

ذكر التغليظ عليهنّ فيما يأتين به من الفاحشة ، لئلا يتوهمن أنه يسوغ لهنّ ترك التعفف (وَاللَّاتِي) جمع التي بحسب المعنى دون اللفظ ، وفيه لغات : اللاتي بإثبات التاء والياء ، واللات بحذف الياء وإبقاء الكسرة لتدل عليها ، واللائي بالهمزة والياء ، واللاء بكسر الهمزة وحذف الياء ، ويقال في جمع الجمع : اللواتي ، واللوائي ، واللوات ، واللواء. والفاحشة : الفعلة القبيحة ، وهي مصدر ، كالعافية ، والعاقبة ، وقرأ ابن مسعود : (بالفاحشة). والمراد بها هنا : الزنا خاصة ، وإتيانها : فعلها ، ومباشرتها. والمراد بقوله : (مِنْ نِسائِكُمْ) المسلمات ، وكذا (مِنْكُمْ) المراد به المسلمون. قوله : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ) كان هذا في أول الإسلام ، ثم نسخ بقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) (١) ، وذهب بعض أهل العلم إلى أن الحبس المذكور وكذلك الأذى باقيان مع الجلد ، لأنه لا تعارض بينها بل الجمع ممكن. قوله : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً) هو ما في حديث عبادة الصحيح من قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خذوا عني قد جعل الله لهنّ سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» الحديث. قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) اللذان : تثنية الذي ، وكان القياس أن يقال : اللذيان ، كرحيان. قال سيبويه : حذفت الياء ليفرق بين الأسماء الممكنة وبين الأسماء المبهمة. وقال أبو علي : حذفت الياء تخفيفا. وقرأ ابن كثير : (اللّذانّ) بتشديد النون وهي لغة قريش ، وفيه لغة أخرى وهي : (اللّذا) بحذف النون. وقرأ الباقون : بتخفيف النون. قال سيبويه : المعنى وفيما يتلى عليكم اللذان يأتيانها ، أي : الفاحشة منكم ، ودخلت الفاء في الجواب : لأن في الكلام معنى الشرط. والمراد باللذان هنا : الزاني والزانية تغليبا ؛ وقيل : الآية الأولى : في النساء خاصة محصنات وغير محصنات ، والثانية ، في الرجال خاصة ، وجاء بلفظ التثنية لبيان صنفي الرجال ، من أحصن ومن لم يحصن ، فعقوبة النساء الحبس ، وعقوبة الرجال الأذى ، واختار هذا النحاس ، ورواه عن ابن عباس ، ورواه القرطبي عن مجاهد وغيره ، واستحسنه. وقال السدي ، وقتادة ، وغيرهما : الآية الأولى في النساء المحصنات ، ويدخل معهنّ الرجال المحصنون ، والآية الثانية : في الرجل والمرأة البكرين ، ورجحه الطبري ، وضعفه النحاس ، وقال : تغليب المؤنث على المذكر بعيد. وقال ابن عطية : إن معنى هذا القول تام إلّا أن لفظ الآية يقلق عنه ، وقيل : كان الإمساك للمرأة الزانية دون الرجل ، فخصت المرأة بالذكر في الإمساك ، ثم جمعا في الإيذاء ، قال قتادة : كانت المرأة تحبس ويؤذيان جميعا. واختلف المفسرون في تفسير الأذى ، فقيل : التوبيخ والتعبير ؛ وقيل : السبّ والجفاء من دون تعيير ؛ وقيل : النيل باللسان والضرب بالنعال ، وقد ذهب قوم إلى أن الأذى منسوخ كالحبس ؛ وقيل : ليس بمنسوخ كما تقدّم في الحبس. قوله : (فَإِنْ تابا) أي : من الفاحشة (وَأَصْلَحا) العمل فيما بعد (فَأَعْرِضُوا عَنْهُما) أي : اتركوهما ، وكفوا عنهما الأذى ، وهذا كان قبل نزول الحدود على ما تقدّم من الخلاف. قوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) استئناف لبيان : أن التوبة ليست بمقبولة على الإطلاق ، كما ينبئ عنه قوله : (تَوَّاباً رَحِيماً) بل إنما تقبل من البعض دون البعض ، كما بينه النظم القرآني هاهنا ، فقوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ) مبتدأ خبره قوله : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ). وقوله : (عَلَى اللهِ) متعلق بما تعلق به الخبر من الاستقرار ، أو متعلق بمحذوف وقع حالا عند من يجوز تقديم الحال التي

__________________

(١). النور : ٢.

٥٠٤

هي ظرف على عاملها المعنوي ؛ وقيل : المعنى : إنما التوبة على فضل الله ورحمته بعباده ؛ وقيل : المعنى : إنما التوبة واجبة على الله ، وهذا على مذهب المعتزلة لأنهم يوجبون على الله عزوجل واجبات من جملتها قبول توبة التائبين ؛ وقيل : على ، هنا : بمعنى عند ؛ وقيل : بمعنى من.

وقد اتفقت الأمة : على أن التوبة فرض على المؤمنين ، لقوله تعالى : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) (١) وذهب الجمهور ؛ إلى أنها تصح من ذنب دون ذنب خلافا للمعتزلة ؛ وقيل : إن قوله : (عَلَى اللهِ) هو الخبر. وقوله : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ) متعلق بما تعلق به الخبر ، أو بمحذوف وقع حالا. والسوء هنا : العمل السيئ. وقوله : (بِجَهالَةٍ) متعلق بمحذوف وقع صفة أو حالا. أي : يعملونها متصفين بالجهالة ، أو جاهلين. وقد حكى القرطبي عن قتادة أنه قال : أجمع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على أن كل معصية فهي بجهالة عمدا كانت أو جهلا. وحكي عن الضحاك ومجاهد : أن الجهالة هنا العمد ، وقال عكرمة : أمور الدنيا كلها جهالة ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) (٢) وقال الزجاج : معناه : بجهالة اختيارهم اللذة الفانية على اللذة الباقية ؛ وقيل : معناه : أنهم لا يعلمون كنه العقوبة ، ذكره ابن فورك ، وضعفه ابن عطية. قوله : (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) معناه : قبل أن يحضرهم الموت ، كما يدل عليه قوله : (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) وبه قال أبو مجلز ، والضحاك ، وعكرمة ، وغيرهم ، والمراد : قبل المعاينة للملائكة وغلبة المرء على نفسه ، و «من» في قوله : (مِنْ قَرِيبٍ) للتبعيض ، أي : يتوبون بعد زمان قريب ، وهو ما عدا وقت حضور الموت ؛ وقيل : معناه : قبل المرض ، وهو ضعيف ، بل باطل لما قدمنا ، ولما أخرجه أحمد ، والترمذي ، وحسنه ، وابن ماجة ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» وقيل : معناه : يتوبون على قرب عهد من الذنب من غير إصرار. قوله : (فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ) هو وعد منه سبحانه بأنه يتوب عليهم ، بعد بيانه : أن التوبة لهم مقصورة عليهم. وقوله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) تصريح بما فهم من حصر التوبة فيما سبق على من عمل السوء بجهالة ثم تاب من قريب قوله : (حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) حتى : حرف ابتداء ، والجملة المذكورة بعدها : غاية لما قبلها ، وحضور الموت : حضور علاماته ، وبلوغ المريض إلى حالة السياق ، ومصيرة مغلوبا على نفسه ، مشغولا بخروجها من بدنه ، وهو وقت الغرغرة المذكورة في الحديث السابق ، وهي بلوغ روحه حلقومه ، قاله الهروي. وقوله : (قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) أي : وقت حضور الموت. قوله : (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) معطوف على الموصول في قوله : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) أي : ليست التوبة لأولئك ولا للذين يموتون وهم كفار ، مع أنه لا توبة لهم رأسا (٣) ، وإنما ذكروا مبالغة في بيان عدم قبول توبة من حضرهم الموت ، وأن وجودها كعدمها.

وقد أخرج البزار ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن عباس في قوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ

__________________

(١). النور : ٣١.

(٢). محمد : ٣٦.

(٣). أي : أصلا ، أو : أساسا.

٥٠٥

الْفاحِشَةَ) قال كانت المرأة إذا فجرت حبست في البيوت ، فإن ماتت ماتت ، وإن عاشت عاشت ، حتى نزلت الآية في سورة النور (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) (١) فجعل الله لهنّ سبيلا. فمن عمل شيئا جلد وأرسل ، وقد روي هذا عنه من وجوه. وأخرج أبو داود في سننه عنه والبيهقي في قوله : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ) إلى قوله : (سَبِيلاً) ثم جمعهما جميعا ، فقال : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) ثم نسخ ذلك بآية الجلد ، وقد قال بالنسخ جماعة من التابعين ، أخرجه أبو داود ، والبيهقي عن مجاهد. وأخرجه عبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة ، وأخرجه البيهقي في سننه عن الحسن ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، وأخرجه ابن جرير عن السدي. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) قال : كان الرجل إذا زنا أوذي بالتعيير وضرب بالنعال ، فأنزل الله بعد هذه الآية : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (٢) فإن كانا محصنين رجما في سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) قال : الرجلان الفاعلان. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) يعني : البكرين. وأخرج ابن جرير عن عطاء قال : الرجل والمرأة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ). الآية. قال : هذه للمؤمنين وفي قوله : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) قال : هذه لأهل النفاق (وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) قال : هذه لأهل الشرك. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن قتادة قال : اجتمع أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرأوا أن كل شيء عصي به فهو جهالة عمدا كان أو غيره. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن أبي العالية أن أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة. وأخرج ابن جرير من طريق الكلبي عن صالح ، عن ابن عباس في قوله : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ) الآية ، قال : من عمل السوء فهو جاهل ، من جهالته عمل السوء. (ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) قال : في الحياة والصحة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : القريب ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك الموت. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، والبيهقي في الشعب عن الضحاك قال : كل شيء قبل الموت فهو قريب ، له التوبة ما بينه وبين أن يعاين ملك الموت ، فإذا تاب حين ينظر إلى ملك الموت فليس له ذلك. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : القريب : ما لم يغرغر. وقد وردت أحاديث كثيرة في قبول توبة العبد ما لم يغرغر ، ذكرها ابن كثير في تفسيره ، ومنها الحديث الذي قدّمنا ذكره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ

__________________

(١). النور : ٢.

(٢). النور : ٢.

٥٠٦

أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢))

هذا متصل بما تقدّم من ذكر الزوجات ، والمقصود نفي الظلم عنهن ، والخطاب للأولياء ، ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها ، وهو ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحقّ بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاؤوا زوجوها ، وإن شاؤوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت. وفي لفظ لأبي داود عنه في هذه الآية : كان الرجل يرث امرأة ذي قرابته ، فيعضلها حتى تموت ، أو تردّ إليه صداقها. وفي لفظ لابن جرير وابن أبي حاتم عنه : فإن كانت جميلة تزوجها ، وإن كانت دميمة حبسها حتى تموت فيرثها. وقد روي هذا السبب بألفاظ ، فمعنى قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) أي : لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق الإرث ، فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم ، وتحبسونهن لأنفسكم (وَلا) يحل لكم أن (تَعْضُلُوهُنَ) عن أن يتزوجن غيركم ، لتأخذوا ميراثهن إذا متن ، أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن بالنكاح. قال الزهري وأبو مجلز : كان من عاداتهم إذا مات الرجل وله زوجة ألقى ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة ، فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها ، فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا ، وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثت من الميت أو تموت فيرثها ، فنزلت الآية. وقيل : الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهنّ مع سوء العشرة طمعا في إرثهنّ ، أو يفتدين ببعض مهورهنّ ، واختاره ابن عطية. قال : ودليل ذلك قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ) إذا أتت بفاحشة فليس للوليّ حبسها حتى تذهب بمالها ، إجماعا من الأمة ، وإنما ذلك للزوج. قال الحسن : إذا زنت البكر فإنها تجلد مائة ، وتنفى ، وتردّ إلى زوجها ما أخذت منه. وقال أبو قلابة : إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارّها ويشقّ عليها حتى تفتدي منه. وقال السدي : إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن. وقال قوم : الفاحشة : البذاءة باللسان ، وسوء العشرة قولا وفعلا. وقال مالك وجماعة من أهل العلم : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك. هذا كله على أن الخطاب في قوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) للأزواج ، وقد عرفت مما قدمنا في سبب النزول أن الخطاب في قوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) لمن خوطب بقوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) فيكون المعنى : ولا يحلّ لكم أن تمنعوهنّ من الزواج (لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ) أي : ما آتاهنّ من ترثونه (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) جاز لكم حبسهنّ عن الأزواج ، ولا يخفى ما في هذا من التعسف مع عدم جواز حبس من أتت بفاحشة عن أن تتزوج وتستعفّ من الزنا ، وكما أن جعل قوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) خطابا للأولياء فيه هذا التعسف ، كذلك جعل قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) خطابا للأولياء فيه هذا التعسف ، كذلك جعل قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) خطابا للأزواج فيه تعسف ظاهر ، مع مخالفته لسبب نزول الآية الذي ذكرناه ، والأولى أن يقال : إن الخطاب في قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ) للمسلمين ، أي : لا يحل لكم معاشر المسلمين أن ترثوا النساء كرها كما كانت تفعله الجاهلية ، ولا يحلّ لكم معاشر المسلمين

٥٠٧

أن تعضلوا أزواجكم : أي تحبسوهن عندكم مع عدم رغوبكم (١) فيهنّ ، بل لقصد أن تذهبوا ببعض ما آتيتموهنّ من المهر ، يفتدين به من الحبس والبقاء تحتكم ، وفي عقدتكم مع كراهتكم لهنّ (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) جاز لكم مخالعتهن ببعض ما آتيتموهنّ. قوله : (مُبَيِّنَةٍ) قرأ نافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، وحفص وحمزة ، والكسائي : بكسر الياء. وقرأ الباقون : بفتحها. وقرأ ابن عباس : (مُبَيِّنَةٍ) بكسر الباء وسكون الياء ، من أبان الشيء فهو مبين. قوله : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي : بما هو معروف في هذه الشريعة وبين أهلها من حسن المعاشرة ، وهو خطاب للأزواج أو لما هو أعم ، وذلك يختلف باختلاف الأزواج في الغنى ، والفقر ، والرفاعة ، والوضاعة (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ) لسبب من الأسباب من غير ارتكاب فاحشة ولا نشوز (فَعَسى) أن يؤول الأمر إلى ما تحبونه من ذهاب الكراهة وتبدلها بالمحبة ، فيكون في ذلك خير كثير من استدامة الصحبة وحصول الأولاد ، فيكون الجزاء على هذا محذوفا مدلولا عليه بعلته ، أي : فإن كرهتموهنّ فاصبروا (فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (٢). قوله : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) قد تقدم بيانه في آل عمران ، والمراد به هنا : المال الكثير ، فلا تأخذوا منه شيئا. قيل : هي محكمة ؛ وقيل : هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة : (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) (٣) والأولى : أن الكل محكم ، والمراد هنا : غير المختلعة لا يحل لزوجها أن يأخذ مما آتاها شيئا. قوله : (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الاستفهام للإنكار والتقريع. والجملة مقررة للجملة الأولى المشتملة على النهي. وقوله : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ) إنكار بعد إنكار مشتمل على العلة التي تقتضي منع الأخذ : وهي الإفضاء. قال الهروي : وهو إذا كانا في لحاف واحد ، جامع أو لم يجامع ، وقال الفراء : الإفضاء : أن يخلو الرجل والمرأة وإن لم يجامعها. وقال ابن عباس ومجاهد والسدي : الإفضاء في هذه الآية : الجماع ، وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة ، يقال للشيء المختلط : فضاء ، ويقال : القوم فوضى وفضاء ، أي : مختلطون لا أمير عليهم. قوله : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) معطوف على الجملة التي قبله ، أي : والحال أن قد أفضى بعضكم إلى بعض ، وقد أخذن منكم ميثاقا غليظا وهو عقد النكاح ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإنّكم أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله» وقيل : هو قوله تعالى : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) (٤) وقيل : هو الأولاد. قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) نهي عما كانت عليه الجاهلية من نكاح نساء آبائهم إذا ماتوا ، وهو شروع في بيان من يحرم نكاحه من النساء ومن لا يحرم. ثم بين سبحانه وجه النهي عنه فقال : (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) هذه الصفات الثلاث تدل : على أنه من أشدّ المحرمات وأقبحها ، وقد كانت الجاهلية تسميه نكاح المقت. قال ثعلب : سألت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال : هو أن يتزوج الرجل امرأة أبيه إذا طلقها ، أو مات عنها ، ويقال لهذا : الضيزن ، وأصل

__________________

(١). الأولى أن يقول : عدم رغبتكم فيهن ، حيث لم نجد هذا المصدر «رغوب» فيما راجعناه من معاجم اللغة ، انظر مصادر فعل «رغب» في لسان العرب وتاج العروس وغيرهما.

(٢). البقرة : ٢٢٩.

٥٠٨

المقت : البغض ، من : مقته ، يمقته ، مقتا ، فهو : ممقوت ، ومقيت. قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) هو استثناء منقطع ، أي : لكن ما قد سلف فاجتنبوه ودعوه ؛ وقيل : إلا : بمعنى بعد ، أي : بعد ما سلف ؛ وقيل : المعنى : ولا ما سلف ؛ وقيل : هو استثناء متصل من قوله : (ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) يفيد المبالغة في التحريم ، بإخراج الكلام مخرج التعلق بالمحال ، يعني : إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوا ، فلا يحلّ لكم غيره. قوله : (وَساءَ سَبِيلاً) هي جارية مجرى بئس في الذم والعمل ، والمخصوص بالذم محذوف ، أي : ساء سبيلا سبيل ذلك النكاح ؛ وقيل : إنها جارية مجرى سائر الأفعال ، وفيها ضمير يعود إلى ما قبلها.

وقد أخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي أمامة بن حنيف قال : لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته ، وقد كان لهم ذلك في الجاهلية ، فأنزل الله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن عكرمة قال : نزلت هذه الآية : في كبيشة بنت معمر بن عاصم من الأوس ، كانت عند أبي قيس بن الأسلت ، فتوفي عنها ، فجنح عليها ابنه ، فجاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : لا أنا ورثت زوجي ، ولا أنا تركت فأنكح ، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، عن عبد الرحمن بن البيلماني في قوله : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَ) قال : نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية ، والأخرى في أمر الإسلام. قال ابن المبارك : (أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) في الجاهلية ، (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) في الإسلام. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) قال : لا تضر بامرأتك لتفتدي منك. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد : (وَلا تَعْضُلُوهُنَ) يعني : أن ينكحن أزواجهن ، كالعضل في سورة البقرة. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : كان العضل في قريش بمكة : ينكح الرجل المرأة الشريفة فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن تتزوج إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد ، فإذا خطبها خاطب فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها ، وقد قدمنا عن ابن عباس في بيان السبب ما عرفت. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قال : البغض والنشوز ، فإذا فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن الضحاك نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير عن الحسن قال : الفاحشة هنا : الزنا. وأخرج ابن جرير عن الضحاك نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) قال : خالطوهنّ. قال ابن جرير : صحفه بعض الرواة وإنما هو خالقوهنّ. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة قال. حقها عليك الصحبة الحسنة ، والكسوة ، والرزق المعروف. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) يعني : صحبتهن بالمعروف (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً) فيطلقها ، فتتزوج من بعده رجلا ، فيجعل الله له منها ولدا ، ويجعل الله في تزويجها خيرا كثيرا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الخير الكثير : أن يعطف عليها ، فترزق ولدها ، ويجعل الله في ولدها خيرا كثيرا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي نحوه. وأخرج عبد ابن حميد عن الحسن نحو ما قال مقاتل. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ

٥٠٩

زَوْجٍ) الآية ، قال : إن كرهت امرأتك وأعجبك غيرها ؛ فطلقت هذه وتزوجت تلك ؛ فأعط هذه مهرها ؛ وإن كان قنطارا. وأخرج سعيد بن منصور ، وأبو يعلى. قال السيوطي بسند جيد : أن عمر نهى الناس أن يزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فاعترضت له امرأة من قريش فقالت : أما سمعت ما أنزل الله يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً) فقال : اللهم غفرا كل الناس أفقه من عمر ، فركب المنبر فقال : يا أيها الناس! إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهنّ على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحبّ. قال أبو يعلى : فمن طابت نفسه فليفعل. قال ابن كثير : إسناده جيد قوي ، وقد رويت هذه القصة بألفاظ مختلفة ، هذا أحدها. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الإفضاء : هو الجماع ، ولكن الله يكني. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) قال : الغليظ : إمساك بمعروف ؛ أو تسريح بإحسان. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة نحوه وقال : وقد كان ذلك يؤخذ عند عقد النكاح : آلله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحنّ بإحسان. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن المنذر عن ابن أبي مليكة أن ابن عمر كان إذا نكح قال : أنكحتك على ما أمر الله به ، إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وأخرج ابن أبي شيبة عن أنس بن مالك نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة ومجاهد في قوله : (وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) قال : أخذتموهنّ بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : هو قول الرجل : ملكت. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كلمة النكاح التي تستحلّ بها فروجهنّ. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، والبيهقي في سننه في قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) أنها نزلت لما أراد ابن أبي قيس بن الأسلت أن يتزوج امرأة أبيه بعد موته. وأخرج ابن المنذر عن الضحاك : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) إلا ما كان في الجاهلية. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه عن البراء قال : لقيت خالي ومعه الراية قلت : أين تريد؟ قال : بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده ، فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله.

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ

٥١٠

الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨))

قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) أي : نكاحهنّ ، وقد بيّن الله سبحانه في هذه الآية ما يحلّ وما يحرم من النساء فحرّم سبعا من النسب ، وستا من الرضاع والصهر ، وألحقت السنة المتواترة تحريم الجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، ووقع عليه الإجماع. فالسبع المحرمات من النسب : الأمهات ، والبنات ، والأخوات ، والعمات ، والخالات ، وبنات الأخ ، وبنات الأخت. والمحرمات بالصهر والرضاع : الأمهات من الرضاعة ، والأخوات من الرضاعة ، وأمهات النساء ، والربائب ، وحلائل الأبناء ، والجمع بين الأختين ، فهؤلاء ست ، والسابعة : منكوحات الآباء ، والثامنة : الجمع بين المرأة وعمتها. قال الطحاوي : وكل هذا من المحكم المتفق عليه ، وغير جائز نكاح واحدة منهنّ بالإجماع إلا أمهات النساء اللواتي لم يدخل بهنّ أزواجهنّ ، فإن جمهور السلف ذهبوا إلى أن الأم تحرم بالعقد على الابنة ، ولا تحرم الابنة إلا بالدخول بالأم. وقال بعض السلف : الأم والربيبة سواء لا تحرم منهما واحدة إلا بالدخول بالأخرى. قالوا : ومعنى قوله : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) أي : اللاتي دخلتم بهن ، وزعموا : أن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب جميعا ، رواه خلاس عن عليّ بن أبي طالب. وروي عن ابن عباس ، وجابر ، وزيد بن ثابت ، وابن الزبير ، ومجاهد. قال القرطبي : ورواية خلاس عن عليّ لا تقوم بها حجة ، ولا تصح روايته عند أهل الحديث ، والصحيح عنه مثل قول الجماعة. وقد أجيب عن قولهم : إن قيد الدخول راجع إلى الأمهات والربائب : بأن ذلك لا يجوز من جهة الإعراب ، وبيانه : أن الخبرين إذا اختلفا في العامل لم يكن نعتهما واحدا ، فلا يجوز عند النحويين مررت بنسائك وهويت نساء زيد الظريفات ، على أن يكون الظريفات نعتا للجميع ، فكذلك في الآية لا يجوز أن يكون اللاتي دخلتم بهنّ نعتا لهما جميعا ، لأن الخبرين مختلفان. قال ابن المنذر : والصحيح : قول الجمهور : لدخول جميع أمهات النساء في قوله : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ). ومما يدل على ما ذهب إليه الجمهور : ما أخرجه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه من طريقين : عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحلّ له أن يتزوّج أمّها دخل بالابنة أو لم يدخل ، وإذا تزوّج الأمّ فلم يدخل بها ثم طلّقها ، فإن شاء تزوّج الابنة» قال ابن

٥١١

كثير في تفسيره مستدلا للجمهور : وقد روي في ذلك خبر غير أن في إسناده نظرا ، فذكر هذا الحديث ثم قال : وهذا الخبر وإن كان في إسناده ما فيه ، فإن إجماع الحجة على صحة القول به يغني عن الاستشهاد على صحته بغيره ، قال في الكشاف : وقد اتفقوا على أن تحريم أمهات النساء مبهم دون تحريم الربائب على ما عليه ظاهر كلام الله تعالى. انتهى. ودعوى الإجماع مدفوعة بخلاف من تقدم. واعلم : أنه يدخل في لفظ الأمهات : أمهاتهنّ ، وجداتهنّ ، وأمّ الأب ، وجدّاته ، وإن علون ، لأن كلهن أمهات لمن ولده من ولدته وإن سفل. ويدخل في لفظ البنات : بنات الأولاد وإن سفلن ، والأخوات ؛ تصدق على الأخت لأبوين ، أو لأحدهما ، والعمة : اسم لكل أنثى شاركت أباك أو جدّك في أصليه أو أحدهما. وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أب الأمّ. والخالة : اسم لكل أنثى شاركت أمك في أصليها أو في أحدهما ، وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك ، وبنت الأخ : اسم لكل أنثى لأخيك عليها ولادة بواسطة ومباشرة وإن بعدت ، وكذلك بنت الأخت. قوله : (وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) هذا مطلق مقيد بما ورد في السنة : من كون الرضاع في الحولين إلا في مثل قصة إرضاع سالم مولى أبي حذيفة ، وظاهر النظم القرآني : أنه يثبت حكم الرضاع بما يصدق عليه مسمى الرضاع لغة وشرعا ، ولكنه قد ورد تقييده بخمس رضعات في أحاديث صحيحة ، والبحث عن تقرير ذلك وتحقيقه يطول ، وقد استوفيناه في مصنفاتنا ، وقررنا ما هو الحق في كثير من مباحث الرضاع. قوله : (وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ) الأخت من الرضاع : هي التي أرضعتها أمك بلبان أبيك سواء أرضعتها معك أو مع من قبلك أو بعدك من الإخوة والأخوات ، والأخت من الأم : هي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر. قوله : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) قد تقدم الكلام على اعتبار الدخول وعدمه. والمحرمات بالمصاهرة أربع : أمّ المرأة ، وابنتها ، وزوجة الأب ، وزوجة الابن. قوله : (وَرَبائِبُكُمُ) الربيبة : بنت امرأة الرجل من غيره ؛ سميت بذلك لأنه يربيها في حجره ، فهي مربوبة ، فعيلة : بمعنى مفعولة. قال القرطبي : واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم ، وإن لم تكن الربيبة في حجره ، وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر ، فقالوا : لا تحرم الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج ، فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم فله أن يتزوج بها ، وقد روي ذلك عن عليّ. قال ابن المنذر ، والطحاوي : لم يثبت ذلك عن عليّ ، لأن راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عليّ ، وإبراهيم هذا لا يعرف. وقال ابن كثير في تفسيره بعد إخراج هذا عن علي : وهذا إسناد قوي ثابت إلى علي بن أبي طالب على شرط مسلم. والحجور : جمع حجر : والمراد : أنهنّ في حضانة أمهاتهنّ تحت حماية أزواجهن كما هو الغالب ـ وقيل : المراد بالحجور : البيوت ، أي : في بيوتكم ، حكاه الأثرم عن أبي عبيدة. قوله : (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) أي : في نكاح الربائب ، وهو تصريح بما دلّ عليه مفهوم ما قبله.

وقد اختلف أهل العلم في معنى الدخول الموجب لتحريم الربائب : فروي عن ابن عباس أنه قال : الدخول : الجماع ، وهو قول طاوس ، وعمرو بن دينار ، وغيرهما. وقال مالك ، والثوري ، وأبو حنيفة ، والأوزاعي ، والليث ، والزيدية : إن الزوج إذا لمس الأمّ لشهوة حرّمت عليه ابنتها ، وهو أحد قولي الشافعي. قال ابن

٥١٢

جرير الطبري : وفي إجماع الجميع : أن خلوة الرجل بامرأته لا تحرّم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها ، أو قبل النظر إلى فرجها ؛ لشهوة : ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع. انتهى. وهكذا حكى الإجماع القرطبي فقال : وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حلّ له نكاح ابنتها. واختلفوا في النظر ، فقال مالك : إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها. وقال الكوفيون : إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة ، وكذا قال الثوري ولم يذكر الشهوة. وقال ابن أبي ليلى : لا تحرم بالنظر حتى يلمس ، وهو قول الشافعي. والذي ينبغي التعويل عليه في مثل هذا الخلاف : هو النظر في معنى : الدخول ، شرعا أو لغة ، فإن كان خاصا بالجماع ؛ فلا وجه لإلحاق غيره به من لمس أو نظر أو غيرهما ، وإن كان معناه أوسع من الجماع ؛ بحيث يصدق على ما حصل فيه نوع استمتاع ؛ كان مناط التحريم هو ذلك. وأما الربيبة في ملك اليمين : فقد روي عن عمر بن الخطاب : أنه كره ذلك. وقال ابن عباس : أحلتهما آية ، وحرمتهما آية ، ولم أكن لأفعله. وقال ابن عبد البر : لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وابنتها من ملك اليمين ، لأن الله حرّم ذلك في النكاح قال : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ) وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس ، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم. انتهى. قوله : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) الحلائل : جمع حليلة وهي الزوجة ؛ سميت بذلك : لأنها تحلّ مع الزوج حيث حلّ ، فهي : فعيلة بمعنى فاعلة. وذهب الزجاج وقوم : إلى أنها من لفظة الحلال ، فهي حليلة بمعنى محللة. وقيل : لأن كل واحد منهما يحلّ إزار صاحبه. وقد أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء ، وما عقد عليه الأبناء على الآباء ، سواء كان مع العقد وطء أو لم يكن ، لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) وقوله : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ).

واختلف الفقهاء في العقد إذا كان فاسدا : هل يقتضي التحريم أم لا؟ كما هو مبين في كتب الفروع. قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار : أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده. وأجمع العلماء : على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرّمها على أبيه وابنه ، فإذا اشترى جارية فلمس ، أو قبل ، حرمت على أبيه وابنه ، لا أعلمهم يختلفون فيه ، فوجب تحريم ذلك تسليما لهم. ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم قال : ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خلاف ما قلناه. قوله : (الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ) وصف للأبناء ، أي : دون من تبنيتم من أولاد غيركم كما كانوا يفعلونه في الجاهلية ، ومنه قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) (١) ومنه قوله تعالى : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) (٢) ومنه : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) (٣) وأما زوجة الابن من الرضاع ، فقد ذهب الجمهور : إلى أنها تحرم على أبيه ، وقد قيل : إنه إجماع ، مع أن الابن من الرضاع ليس من أولاد الصلب. ووجهه ما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» ولا خلاف أن أولاد

__________________

(١). الأحزاب : ٣٧.

(٢). الأحزاب : ٤.

(٣). الأحزاب : ٤٠.

٥١٣

الأولاد وإن سفلوا بمنزلة أولاد الصلب في تحريم نكاح نسائهم على آبائهم.

وقد اختلف أهل العلم في وطء الزنا : هل يقتضي التحريم أو لا؟ فقال أكثر أهل العلم : إذا أصاب رجل امرأة بزنا لم يحرم عليه نكاحها بذلك ، وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنا بأمها أو بابنتها ، وحسبه أن يقام عليه الحدّ ، وكذلك يجوز له عندهم أن يتزوّج بأم من زنى بها وبابنتها. وقالت طائفة من أهل العلم : إن الزنا يقتضي التحريم. حكي ذلك عن عمران بن حصين ، والشعبي ، وعطاء ، والحسن ، وسفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي ، وحكي ذلك عن مالك ، والصحيح عنه : كقول الجمهور. احتج الجمهور بقوله تعالى : (وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ) وبقوله : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) والموطوءة بالزنا لا يصدق عليها أنها من نسائهم ، ولا من حلائل أبنائهم.

وقد أخرج الدارقطني عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوّجها أو ابنتها ، فقال : «لا يحرّم الحرام الحلال». واحتج المحرّمون : بما روي في قصة جريج الثابتة في الصحيح أنه قال : يا غلام من أبوك؟ فقال : فلان الراعي ، فنسب الابن نفسه إلى أبيه من الزنا ، وهذا احتجاج ساقط ، واحتجوا أيضا بقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها» ولم يفصل بين الحلال والحرام. ويجاب عنه بأن هذا مطلق ؛ مقيد بما ورد من الأدلة الدالة : على أن الحرام لا يحرّم الحلال.

واختلفوا في اللواط هل يقتضي التحريم أم لا؟ فقال الثوري : إذا لاط بالصبيّ حرمت عليه أمه ، وهو قول أحمد بن حنبل قال : إذا تلوّط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عليه امرأته. وقال الأوزاعي : إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت ؛ لم يجز للفاجر أن يتزوجها ؛ لأنها بنت من قد دخل به. ولا يخفى ما في قول هؤلاء من الضعف والسقوط النازل عن قول القائلين : بأن وطء الحرام يقتضي التحريم بدرجات ، لعدم صلاحية ما تمسك به أولئك من الشبه ، على ما زعمه هؤلاء من اقتضاء اللواط للتحريم. قوله : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) أي : وحرّم عليكم أن تجمعوا بين الأختين ، فهو في محل رفع عطفا على المحرمات السابقة ، وهو يشمل الجمع بينهما بالنكاح والوطء بملك اليمين. وقيل : إن الآية خاصة بالجمع في النكاح ، لا في ملك اليمين ، وأما في الوطء بالملك فلا حق بالنكاح ، وقد أجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد نكاح.

واختلفوا في الأختين بملك اليمين : فذهب كافة العلماء : إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما في الوطء بالملك ، وأجمعوا على أنه يجوز الجمع بينهما في الملك فقط. وقد توقف بعض السلف في الجمع بين الأختين في الوطء بالملك ، وسيأتي بيان ذلك. واختلفوا في جواز عقد النكاح على أخت الجارية التي توطأ بالملك : فقال الأوزاعي : إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوّج أختها. وقال الشافعي : ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت. وقد ذهبت الظاهرية : إلى جواز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما يجوز الجمع بينهما في الملك. قال ابن عبد البرّ بعد أن ذكر ما روي عن عثمان بن عفان من جواز الجمع بين الأختين في الوطء بالملك : وقد روي مثل قول عثمان عن طائفة من السلف منهم ابن عباس ، ولكنهم اختلف عليهم ، ولم يلتفت

٥١٤

إلى ذلك أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز ، ولا بالعراق ، ولا ما وراءها من المشرق ، ولا بالشام ، ولا المغرب ، إلا من شذّ عن جماعتهم باتباع الظاهر ، ونفي القياس. وقد ترك من تعمد ذلك. وجماعة الفقهاء متفقون : على أنه لا يحلّ الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ، كما لا يحلّ ذلك في النكاح. وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) إلى آخر الآية ، أن النكاح بملك اليمين في هؤلاء كلهنّ سواء ، فكذلك يجب أن يكون قياسا ونظرا الجمع بين الأختين ، وأمهات النساء ، والربائب ، وكذا هو عند جمهورهم ، وهي الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها ، والله المحمود. انتهى.

وأقول : هاهنا إشكال ، وهو : أنه قد تقرّر أن النكاح يقال على العقد فقط ، وعلى الوطء فقط ، والخلاف في كون أحدهما حقيقة والآخر مجازا ، أو كونهما حقيقتين معروف ، فإن حملنا هذا التحريم المذكور في هذه الآية وهي قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) إلى آخرها ، على أن المراد تحريم العقد عليهنّ لم يكن في قوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) دلالة على تحريم الجمع بين المملوكتين في الوطء بالملك ، وما وقع من إجماع المسلمين على أن قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) إلى آخره ، يستوي فيه الحرائر والإماء ، والعقد والملك لا يستلزم أن يكون محل الخلاف ، وهو الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين مثل محل الإجماع ، ومجرد القياس في مثل هذا الموطن لا تقوم به الحجة لما يرد عليه من النقوض ، وإن حملنا التحريم المذكور في الآية على الوطء فقط ؛ لم يصح ذلك للإجماع على تحريم عقد النكاح على جميع المذكورات من أوّل الآية إلى آخرها ، فلم يبق إلا حمل التحريم في الآية على تحريم عقد النكاح ، فيحتاج القائل بتحريم الجمع بين الأختين في الوطء بالملك إلى دليل ولا ينفعه أن ذلك قول الجمهور ، فالحق لا يعرف بالرجال ، فإن جاء به خالصا عن شوب الكدر فبها ونعمت ، وإلا كان الأصل الحل ، ولا يصح حمل النكاح في الآية على معنييه جميعا أعني العقد والوطء ، لأنه من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو ممنوع ، أو من باب الجمع بين معنيي المشترك ، وفيه الخلاف المعروف في الأصول ، فتدبر هذا.

وقد اختلف أهل العلم إذا كان الرجل يطأ مملوكته بالملك ثم أراد أن يطأ أختها بالملك ، فقال عليّ وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز له وطء الثانية حتى يحرّم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق ، أو بأن يزوّجها. قال ابن المنذر : وفيه قول ثان لقتادة : وهو أن ينوي تحريم الأولى على نفسه وأن لا يقربها ، ثم يمسك عنهما حتى تستبرئ المحرمة ثم يغشى الثانية. وفيه قول ثالث : وهو أنه لا يقرب واحدة منهما ، هكذا قال الحكم وحماد. وروي معنى ذلك عن النخعي. وقال مالك : إذا كان عنده أختان بملك فله أن يطأ أيتهما شاء ، والكفّ عن الأخرى موكول إلى أمانته ، فإن أراد وطء الأخرى ؛ فيلزمه أن يحرّم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله ، من إخراج عن الملك ، أو تزويج ، أو بيع ، أو عتق ، أو كتابة ، أو إخدام طويل ، فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرّم الأولى ؛ وقف عنهما ، ولم يجز له قرب إحداهما ؛ حتى يحرّم الأخرى ، ولم يوكل ذلك إلى أمانته ، لأنه متهم. قال القرطبي : وقد أجمع العلماء : على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها حتى تنقضي

٥١٥

عدّة المطلقة. واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها ؛ فقالت طائفة : ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدّة التي طلق. روي ذلك عن عليّ ، وزيد بن ثابت ، ومجاهد ، وعطاء ، والنخعي ، والثوري ، وأحمد بن حنبل ، وأصحاب الرأي. وقالت طائفة : له أن ينكح أختها ؛ وينكح الرابعة ؛ لمن كان تحته أربع وطلق واحدة منهنّ طلاقا بائنا. روي ذلك عن سعيد بن المسيب ، والحسن ، والقاسم ، وعروة بن الزبير ، وابن أبي ليلى ، والشافعي ، وأبي ثور ، وأبي عبيد. قال ابن المنذر : ولا أحسبه إلا قول مالك. وهو أيضا إحدى الروايتين عن زيد بن ثابت وعطاء. قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) يحتمل أن يكون معناه معنى ما تقدّم من قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) ويحتمل معنى آخر ، وهو جواز ما سلف ، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا ، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين. والصواب الاحتمال الأوّل. قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) (١) عطف على المحرّمات المذكورات. وأصل التحصن : التمنع ، ومنه قوله تعالى : (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي : لتمنعكم ، ومنه : الحصان ، بكسر الحاء للفرس ، لأنه يمنع صاحبه من الهلاك. والحصان بفتح الحاء : المرأة العفيفة لمنعها نفسها ، ومنه قول حسان :

حصان رزان ما تزنّ بريبة

وتصبح غرثى من لحوم الغوافل (٢)

والمصدر : الحصانة بفتح الحاء. والمراد بالمحصنات هنا : ذوات الأزواج. وقد ورد الإحصان في القرآن لمعان ، هذا أحدها. والثاني : يراد به الحرّة ، ومنه قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ) (٣) وقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (٤). والثالث : يراد به العفيفة ، ومنه قوله تعالى : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) (٥) ، (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) (٦). والرابع : المسلمة ، ومنه قوله تعالى : (فَإِذا أُحْصِنَ) (٧).

وقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية ، أعني قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) فقال ابن عباس ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو قلابة ، ومكحول ، والزهري : المراد بالمحصنات هنا : المسبيات ذوات الأزواج خاصة ، أي : هنّ محرّمات عليكم إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من أرض الحرب ، فإن تلك حلال وإن كان لها زوج ، وهو قول الشافعي ، أي : أن السباء يقطع العصمة ، وبه قال ابن وهب ، وابن عبد الحكم ، وروياه عن مالك ، وبه قال أبو حنيفة ، وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور. واختلفوا في استبرائها بما ذا يكون؟ كما هو مدوّن في كتب الفروع. وقالت طائفة : المحصنات في هذه الآية : العفائف ، وبه قال أبو العالية ، وعبيدة السلماني ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، ورواه عبيدة عن عمر. ومعنى الآية عندهم : كل النساء حرام إلا ما ملكت أيمانكم ، أي : تملكون عصمتهنّ بالنكاح ، وتملكون الرقبة

__________________

(١). الأنبياء : ٨٠.

(٢). تزن : تتّهم. وغرثى : جائعة. والمراد أنها لا تغتاب غيرها.

(٣). النساء : ٢٥.

(٤). المائدة : ٥.

(٥). النساء : ٢٥.

٥١٦

بالشراء. وحكى ابن جرير الطبري : أن رجلا قال لسعيد بن جبير : أما رأيت ابن عباس حين سئل عن هذه الآية فلم يقل فيها شيئا؟ فقال : كان ابن عباس لا يعلمها. وروى ابن جرير أيضا عن مجاهد أنه قال : لو أعلم من يفسر لي هذه الآية لضربت إليه أكباد الإبل. انتهى. ومعنى الآية والله أعلم واضح لا سترة به ، أي : وحرّمت عليكم المحصنات من النساء ، أي : المزوجات ، أعمّ من أن يكنّ مسلمات أو كافرات ، إلا ما ملكت أيمانكم منهنّ ، إما بسبي : فإنها تحلّ ولو كانت ذات زوج ، أو بشراء : فإنها تحلّ ولو كانت مزوّجة ، وينفسخ النكاح الذي كان عليها بخروجها عن ملك سيدها الذي زوّجها ، وسيأتي ذكر سبب نزول الآية إن شاء الله ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد قرئ : «المحصنات» بفتح الصاد وكسرها ، فالفتح : على أن الأزواج أحصنوهنّ ؛ والكسر : على أنهنّ أحصنّ فروجهن عن غير أزواجهنّ ، أو أحصنّ أزواجهنّ. قوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) منصوب على المصدرية ، أي : كتب الله ذلك عليكم كتابا. وقال الزجاج والكوفيون : إنه منصوب على الإغراء ، أي : الزموا كتاب الله ، أو عليكم كتاب الله ، واعترضه أبو عليّ الفارسي : بأن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب ، وهذا الاعتراض إنما يتوجه على قول من قال : إنه منصوب بعليكم المذكور في الآية ، وروي عن عبيدة السلماني أنه قال : إن قوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) إشارة إلى قوله تعالى : (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (١) وهو بعيد ، بل هو إشارة إلى التحريم المذكور في قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) إلى آخر الآية. قوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) قرأ حمزة ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص : وأحلّ ، على البناء للمجهول ، وقرأ الباقون : على البناء للمعلوم ، عطفا على الفعل المقدّر في قوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وقيل : على قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) ولا يقدح في ذلك اختلاف الفعلين ، وفيه دلالة : على أنه يحل لهم نكاح ما سوى المذكورات ، وهذا عام مخصوص بما صح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تحريم الجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها. وقد أبعد من قال : إن تحريم الجمع بين المذكورات مأخوذ من الآية هذه ، لأنه حرّم الجمع بين الأختين ، فيكون ما في معناه في حكمه ، وهو الجمع بين المرأة وعمتها ، وبين المرأة وخالتها ، وكذلك تحريم نكاح الأمة لمن يستطيع نكاح حرّة كما سيأتي ، فإنه يخصص هذا العموم. قوله : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) في محل نصب على العلة ؛ أي : حرّم عليكم ما حرّم ، وأحلّ لكم ما أحلّ لأجل أن تبتغوا بأموالكم النساء اللاتي أحلهنّ الله لكم ، ولا تبتغوا بها الحرام ، فتذهب حال كونكم (مُحْصِنِينَ) أي : متعففين عن الزنا (غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي : غير زانين. والسفاح : الزنا ، وهو مأخوذ من : سفح الماء : أي : صبه وسيلانه ، فكأنه سبحانه أمرهم بأن يطلبوا بأموالهم النساء على وجه النكاح ، لا على وجه السفاح ؛ وقيل : إن قوله : (أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ) بدل من «ما» في قوله : (ما وَراءَ ذلِكُمْ) أي : وأحلّ لكم الابتغاء بأموالكم. والأوّل أولى ، وأراد سبحانه بالأموال المذكورة : ما يدفعونه في مهور الحرائر وأثمان الإماء. قوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) «ما» موصولة فيها معنى الشرط ، والفاء في قوله : (فَآتُوهُنَ) لتضمن الموصول معنى الشرط ، والعائد محذوف ، أي : فآتوهنّ أجورهنّ عليه.

__________________

(١). النساء : ٣.

٥١٧

وقد اختلف أهل العلم في معنى الآية : فقال الحسن ومجاهد وغيرهما : المعنى : فما انتفعتم وتلذذتم بالجماع من النساء بالنكاح الشرعي (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : مهورهنّ. وقال الجمهور : إن المراد بهذه الآية : نكاح المتعة الذي كان في صدر الإسلام ، ويؤيد ذلك قراءة أبيّ بن كعب ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير : فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى فآتوهنّ أجورهنّ ثم نهى عنها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما صح ذلك من حديث عليّ قال : نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، وهو في الصحيحين وغيرهما. وفي صحيح مسلم من حديث سبرة بن معبد الجهني عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال يوم فتح مكة : «يا أيّها النّاس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء ، والله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهنّ شيء فليخلّ سبيلها ، ولا تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئا». وفي لفظ لمسلم : أن ذلك كان في حجة الوداع ، فهذا هو الناسخ. وقال سعيد بن جبير : نسخها آيات الميراث ، إذ المتعة لا ميراث فيها. وقالت عائشة ، والقاسم بن محمد : تحريمها ونسخها في القرآن ، وذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ـ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (١) وليست المنكوحة بالمتعة من أزواجهم ، ولا مما ملكت أيمانهم ، فإن من شأن الزوجة أن ترث وتورث ، وليست المستمتع بها كذلك. وقد روي عن ابن عباس أنه قال : بجواز المتعة وأنها باقية لم تنسخ. وروي عنه : أنه رجع عن ذلك عند أن بلغه الناسخ. وقد قال بجوازها جماعة من الروافض ، ولا اعتبار بأقوالهم. وقد أتعب نفسه بعض المتأخرين بتكثير الكلام على هذه المسألة ، وتقوية ما قاله المجوّزون لها ، وليس هذا المقام مقام بيان بطلان كلامه.

وقد طوّلنا البحث ؛ ودفعنا الشبه الباطلة التي تمسك بها المجوّزون لها ؛ في شرحنا للمنتقى فليرجع إليه. قوله : (فَرِيضَةً) منتصب على المصدرية المؤكدة أو على الحال ، أي : مفروضة. قوله : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ) أي : من زيادة أو نقصان في المهر ، فإن ذلك سائغ عند التراضي ، هذا عند من قال : بأن الآية في النكاح الشرعي ؛ وأما عند الجمهور القائلين : بأنها في المتعة ، فالمعنى : التراضي في زيادة المتعة أو نقصانها ، أو في زيادة ما دفعه إليها إلى مقابل الاستمتاع بها أو نقصانه. قوله : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ) الطول : الغنى والسعة ، قاله ابن عباس ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، والسدّي ، وابن زيد ، ومالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبو ثور ، وجمهور أهل العلم. ومعنى الآية : فمن لم يستطع منكم غنى وسعة في ماله يقدر بها على نكاح المحصنات المؤمنات فلينكح من فتياتكم المؤمنات ، يقال : طال ، يطول ، طولا : في الإفضال والقدرة ، وفلان ذو طول : أي : ذو قدرة في ماله. والطول بالضم : ضدّ القصر. وقال قتادة ، والنخعي ، وعطاء ، والثوري : إن الطول : الصبر. ومعنى الآية عندهم : أن من كان يهوى أمة حتى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج غيرها ، فإن له أن يتزوجها ؛ إذا لم يملك نفسه ؛ وخاف أن يبغي بها ، وإن كان يجد سعة في المال لنكاح حرة. وقال أبو حنيفة وهو مرويّ عن مالك : إن الطول المرأة الحرّة ، فمن كان تحته حرة لم يحل له أن ينكح الأمة ، ومن لم يكن تحته حرة جاز له أن يتزوج أمة ولو كان غنيا ، وبه قال أبو يوسف ، واختاره ابن جرير واحتج له. والقول الأوّل هو المطابق

__________________

(١). المعارج : ٢٩.

٥١٨

لمعنى الآية ، ولا يخلو ما عداه عن تكلف ، فلا يجوز للرجل أن يتزوج بالأمة إلا إذا كان لا يقدر على أن يتزوج بالحرة ، لعدم وجود ما يحتاج إليه في نكاحها من مهر وغيره. وقد استدل بقوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) : على أنه لا يجوز نكاح الأمة الكتابية ، وبه قال أهل الحجاز وجوّزه أهل العراق ، ودخلت الفاء في قوله : (فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) لتضمن المبتدأ معنى الشرط. وقوله : (مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ) في محل نصب على الحال ، فقد عرفت أنه لا يجوز للرجل الحرّ أن يتزوج بالمملوكة إلا بشرط عدم القدرة على الحرّة. والشرط الثاني : ما سيذكره الله سبحانه آخر الآية من قوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) فلا يحلّ للفقير أن يتزوج بالمملوكة إلا إذا كان يخشى على نفسه العنت. والمراد هنا : الأمة المملوكة للغير ، وأما أمة الإنسان نفسه فقد وقع الإجماع على أنه لا يجوز أن يتزوجها ، وهي تحت ملكه لتعارض الحقوق واختلافها. والفتيات : جمع فتاة ، والعرب تقول للمملوك : فتى ، وللمملوكة : فتاة. وفي الحديث الصحيح : «لا يقولنّ أحدكم عبدي وأمتي ، ولكن ليقل فتاي وفتاتي» قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ) فيه تسلية لمن ينكح الأمة إذا اجتمع فيه الشرطان المذكوران ، أي : كلكم بنو آدم ، وأكرمكم عند الله أتقاكم ، فلا تستنكفوا من الزواج بالإماء عند الضرورة ، فربما كان إيمان بعض الإماء أفضل من إيمان بعض الحرائر. والجملة اعتراضية. وقوله : (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) مبتدأ وخبر ومعناه : أنهم متصلون في الأنساب لأنهم جميعا بنو آدم ، أو متصلون في الدين لأنهم جميعا أهل ملة واحدة ، وكتابهم واحد ، ونبيهم واحد. والمراد بهذا : توطئة نفوس العرب ، لأنهم كانوا يستهجنون أولاد الإماء ، ويستصغرونهم ، ويغضون منهم (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) أي : بإذن المالكين لهنّ ، ولأن منافعهنّ لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له. قوله : (وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) أي : أدّوا مهورهنّ بما هو بالمعروف في الشرع ، وقد استدل بهذا من قال : إن الأمة أحق بمهرها من سيدها ، وإليه ذهب مالك ، وذهب الجمهور : إلى أن المهر للسيد ، وإنما أضافها إليهنّ : لأن التأدية إليهنّ تأدية إلى سيدهن لكونهنّ ماله. قوله : (مُحْصَناتٍ) أي : عفائف. وقرأ الكسائي : محصنات بكسر الصاد في جميع القرآن إلا في قوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) وقرأ الباقون : بالفتح في جميع القرآن. قوله : (غَيْرَ مُسافِحاتٍ) أي : غير معلنات بالزنا. والأخدان : الأخلاء ، والخدن ، والخدين : المخادن ، أي : المصاحب ـ وقيل : ذات الخدن : هي التي تزني سرّا ، فهو مقابل للمسافحة ، وهي التي تجاهر بالزنا ، وقيل : المسافحة : المبذولة ، وذات الخدن : التي تزني بواحد. وكانت العرب تعيب الإعلان بالزنا ، ولا تعيب اتخاذ الأخدان ، ثم رفع الإسلام جميع ذلك ، قال الله : (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) (١) قوله : (فَإِذا أُحْصِنَ) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : بفتح الهمزة. وقرأ الباقون : بضمها ، والمراد بالإحصان هنا : الإسلام. روي ذلك عن ابن مسعود ، وابن عمرو ، وأنس ، والأسود بن يزيد ، وزرّ بن حبيش ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، وإبراهيم النخعي ، والشعبي ، والسدّي ، وروي عن عمر بن الخطاب بإسناد منقطع ، وهو الذي نص عليه الشافعي ، وبه قال الجمهور. وقال ابن عباس ، وأبو الدرداء ، ومجاهد ، وعكرمة ، وطاوس ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم : إنه التزويج. وروي عن

__________________

(١). الأنعام : ١٥١.

٥١٩

الشافعي. فعلى القول الأوّل : لا حدّ على الأمة الكافرة. وعلى القول الثاني : لا حدّ على الأمة التي لم تتزوج. وقال القاسم وسالم : إحصانها : إسلامها وعفافها. وقال ابن جرير : إن معنى القراءتين مختلف ، فمن قرأ : أحصنّ ، بضم الهمزة ، فمعناه : التزويج. ومن قرأ : بفتح الهمزة ، فمعناه : الإسلام. وقال قوم : إن الإحصان المذكور في الآية هو التزوج ، ولكن الحدّ واجب على الأمة المسلمة إذا زنت قبل أن تتزوّج بالسنة ، وبه قال الزهري. قال ابن عبد البر : ظاهر قول الله عزوجل يقتضي أنه لا حدّ على الأمة وإن كانت مسلمة إلا بعد التزويج ، ثم جاءت السنة بجلدها وإن لم تحصن ، وكان ذلك زيادة بيان. قال القرطبي : ظهر المسلم حمى لا يستباح إلا بيقين ، ولا يقين مع الاختلاف لو لا ما جاء في صحيح السنة من الجلد. قال ابن كثير في تفسيره : والأظهر والله أعلم أن المراد بالإحصان هنا : التزويج ، لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه : (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً) إلى قوله : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) فالسياق كله في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : (فَإِذا أُحْصِنَ) أي : تزوجنّ ، كما فسره به ابن عباس ومن تبعه ، قال : وعلى كلّ من القولين إشكال على مذهب الجمهور ، لأنهم يقولون : إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة ، سواء كانت مسلمة ، أو كافرة ، مزوجة ، أو بكرا ، مع أن مفهوم الآية يقتضي : أنه لا حد على غير المحصنة من الإماء. وقد اختلف أجوبتهم عن ذلك ، ثم ذكر أن منهم من أجاب وهم الجمهور : بتقديم منطوق الأحاديث على هذا المفهوم ، ومنهم من عمل على مفهوم الآية ، وقال : إذا زنت ولم تحصن فلا حدّ عليها وإنما تضرب تأديبا. قال : وهو المحكي عن ابن عباس ، وإليه ذهب طاوس ، وسعيد بن جبير ، وأبو عبيد ، وداود الظاهري في رواية عنه ، فهؤلاء قدموا مفهوم الآية على العموم ، وأجابوا عن مثل حديث أبي هريرة ، وزيد بن خالد في الصحيحين وغيرهما : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال : إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها ، ثم بيعوها ولو بضفير» بأن المراد بالجلد هنا : التأديب ، وهو تعسف ، وأيضا قد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحدّ ولا يثرّب عليها. ثم إن زنت فليجلدها الحدّ». ولمسلم من حديث علي قال : «يا أيّها الناس أقيموا على أرقائكم الحدّ من أحصن ومن لم يحصن ، فإنّ أمة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زنت فأمرني أن أجلدها». وأما ما أخرجه سعيد بن منصور ، وابن خزيمة ، والبيهقي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس على الأمة حدّ حتّى تحصن بزوج ، فإذا أحصنت بزوج فعليها نصف ما على المحصنات من العذاب» فقد قال ابن خزيمة والبيهقي : إن رفعه خطأ ، والصواب وقفه. قوله : (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ) الفاحشة هنا : الزنا (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ) أي : الحرائر الأبكار ، لأن الثيب عليها الرجم ، وهو لا يتبعض ؛ وقيل : المراد بالمحصنات هنا : المزوّجات ، لأن عليهنّ الجلد والرجم ، والرجم لا يتبعض ، فصار عليهنّ نصف ما عليهنّ من الجلد. والمراد بالعذاب هنا : الجلد ، وإنما نقص حدّ الإماء عن حدّ الحرائر لأنهنّ أضعف ؛ وقيل : لأنهنّ لا يصلن إلى مرادهنّ كما تصل الحرائر ؛ وقيل : لأن العقوبة تجب على قدر النعمة ، كما في قوله تعالى : (يُضاعَفْ لَهَا

٥٢٠