فتح القدير - ج ١

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ١

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

الَّذِينَ آمَنُوا) من جملة العلل ، معطوف على ما قبله. والتمحيص : الاختبار ؛ وقيل : التطهير ، على حذف مضاف ، أي : ليمحص ذنوب الذين آمنوا ، قاله الفراء ؛ وقيل : يمحص : يخلص ، قاله الخليل والزجاج ، أي : ليخلص المؤمنين من ذنوبهم. وقوله : (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) أي : يستأصلهم بالهلاك ، وأصل التمحيق : محو الآثار ، والمحق : نقصها. قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) كلام مستأنف لبيان ما ذكر من التمييز ، وأم هي المنقطعة ، والهمزة للإنكار ، أي : بل أحسبتم ، والواو في قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ) واو الحال. والجملة حالية ، وفيه تمثيل كالأوّل ، أو علم يقع عليه الجزاء. وقوله : (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) منصوب بإضمار أن ، كما قال الخليل وغيره على أن الواو للجمع. وقال الزجاج : الواو بمعنى : حتى ، وقرأ الحسن ، ويحيى بن يعمر : «ويعلم الصّابرين» بالجزم ، عطفا على : (وَلَمَّا يَعْلَمِ) وقرئ بالرفع ، على القطع ؛ وقيل : إن قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ) كناية عن نفي المعلوم ، وهو الجهاد. والمعنى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ، والحال أنه لم يتحقق منكم الجهاد والصبر ، أي : الجمع بينهما ، ومعنى : (لَمَّا) معنى : «لم» عند الجمهور ، وفرّق سيبويه بينهما فجعل لم : لنفي الماضي ، ولما : لنفي الماضي والمتوقع. قوله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) هو خطاب لمن كان يتمنى القتال والشهادة في سبيل الله ممن لم يحضر يوم بدر ، فإنهم كانوا يتمنون يوما يكون فيه قتال ، فلما كان يوم أحد انهزموا مع أنهم الذين ألحوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالخروج ، ولم يصبر منهم إلا نفر يسير ، مثل أنس بن النضر عمّ أنس بن مالك. وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) أي : القتال أو الشهادة التي هي سبب الموت. وقرأ الأعمش «من قبل أن تلاقوه» وقد ورد النهي عن تمني الموت ، فلا بد من حمله هنا على الشهادة. قال القرطبي : وتمني الموت من المسلمين يرجع إلى تمني الشهادة المبنية على الثبات والصبر على الجهاد لا إلى قتل الكفار لهم ، لأنه معصية وكفر ، ولا يجوز إرادة المعصية ، وعلى هذا يحمل سؤال المسلمين من الله أن يرزقهم الشهادة ، فيسألون الصبر على الجهاد وإن أدّى إلى القتل. قوله : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) أي : القتال أو ما هو سبب للموت ، ومحل قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) النصب على الحال ، وقيد الرؤية بالنظر مع اتحاد معناهما : للمبالغة ، أي : قد رأيتموه معاينين له حين قتل من قتل منكم. قال الأخفش : إن التكرير بمعنى التأكيد ، مثل قوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (١) وقيل : معناه : بصراء ليس في أعينكم علل ؛ وقيل : معناه : وأنتم تنظرون إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ). سبب نزول هذه ما سيأتي : من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أصيب في يوم أحد صاح الشيطان قائلا : قد قتل محمد ، ففشل بعض المسلمين حتى قال قائل : قد أصيب محمد فأعطوا بأيديكم فإنما هم إخوانكم ، وقال آخر : لو كان رسولا ما قتل ، فردّ الله عليهم ذلك وأخبرهم : بأنه رسول قد خلت من قبله الرسل وسيخلو كما خلوا ، فجملة قوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) صفة لرسول. والقصر قصر إفراد ، كأنهم استبعدوا هلاكه فأثبتوا له صفتين : الرسالة ، وكونه لا يهلك ؛ فردّ الله عليهم ذلك بأنه رسول لا يتجاوز ذلك إلى صفة عدم الهلاك ؛ وقيل : هو قصر قلب. وقرأ ابن عباس : «قد خلت من قبل رسل» ثم أنكر الله عليهم بقوله : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي : كيف ترتدّون وتتركون دينه إذا مات أو قتل مع علمكم أن الرسل تخلو ،

__________________

(١). الأنعام : ٣٨.

٤٤١

ويتمسك أتباعهم بدينهم ، وإن فقدوا بموت أو قتل. وقيل : الإنكار لجعلهم خلوّ الرسل قبله سببا لانقلابهم بموته أو قتله. وإنما ذكر القتل مع علمه سبحانه أنه لا يقتل : لكونه مجوّزا عند المخاطبين. قوله : (وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ) أي : بإدباره عن القتال ، أو بارتداده عن الإسلام (فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) من الضرر ، وإنما يضرّ نفسه (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) أي : الذين صبروا وقاتلوا واستشهدوا ، لأنهم بذلك شكروا نعمة الله عليهم بالإسلام. ومن امتثل ما أمر به فقد شكر النعمة التي أنعم الله بها عليه. قوله : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) هذا كلام مستأنف ، يتضمّن الحثّ على الجهاد ، والإعلام بأن الموت لا بدّ منه. ومعنى : (بِإِذْنِ اللهِ) : بقضاء الله وقدره ، وقيل : إن هذه الجملة متضمنة للإنكار على من فشل بسبب ذلك الإرجاف بقتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فبين لهم : أن الموت بالقتل أو بغيره منوط بإذن الله ، وإسناده إلى النفس مع كونها غير مختارة له : للإيذان بأنه لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلّا بإذن الله. وقوله : (كِتاباً) مصدر مؤكد لما قبله ، لأن معناه : كتب الله الموت كتابا ، والمؤجل : المؤقت الذي لا يتقدم على أجله ولا يتأخر. قوله : (وَمَنْ يُرِدْ) أي : بعمله (ثَوابَ الدُّنْيا) كالغنيمة ونحوها ، واللفظ يعمّ كل ما يسمى ثواب الدنيا ، وإن كان السبب خاصا (نُؤْتِهِ مِنْها) أي : من ثوابها ، على حذف المضاف (وَمَنْ يُرِدْ) بعمله (ثَوابَ الْآخِرَةِ) وهو الجنة ، نؤته من ثوابها ، ونضاعف له الحسنات أضعافا كثيرة (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) بامتثال ما أمرناهم به كالقتال ، ونهيناهم عنه كالفرار وقبول الإرجاف. وقوله : (وَكَأَيِّنْ) قال الخليل وسيبويه : هي : أي ، دخلت عليها كاف التشبيه ، وثبتت معها ، فصارت بعد التركيب بمعنى : كم ، وصوّرت في المصحف نونا ، لأنها كلمة نقلت عن أصلها فغير لفظها لتغيير معناها ، ثم كثر استعمالها فتصرّفت فيها العرب بالقلب والحذف ، فصار فيها أربع لغات قرئ بها : أحدها : كائن ، مثل : كاعن ، وبها قرأ ابن كثير ، ومثله قول الشاعر :

وكائن بالأباطح من صديق

يراني لو أصبت هو المصابا

وقال آخر :

وكائن رددنا عنكم من مدجّج

يجيء أمام الرّكب يردى مقنّعا (١)

وقال زهير :

وكائن ترى من معجب لك شخصه

زيادته أو نقصه في التّكلّم

وكأين : بالتشديد ، مثل : كعين ، وبه قرأ الباقون ، وهو الأصل. والثالثة : كأين ، مثل : كعين مخففا. والرابعة : كيئن ، بياء بعدها همزة مكسورة ، ووقف أبو عمرو بغير نون ، فقال : كأي ، لأنه تنوين ، ووقف

__________________

(١). يردى : يمشي الرّديان ، وهو ضرب من المشي فيه تبختر.

والمقنّع : الذي تقنّع بالسّلاح ؛ كالبيضة والمغفر.

٤٤٢

الباقون بالنون. والمعنى : كثير من الأنبياء قتل معه ربيون. قرأ نافع ، وابن كثير وأبو عمرو ، ويعقوب ، قتل على البناء للمجهول وهي قراءة ابن عباس ، واختارها أبو حاتم ، وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون في قتل ضمير يعود إلى النبيّ ، وحينئذ يكون قوله : (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) : جملة حالية ، كما يقال : قتل الأمير معه جيش ، أي : ومعه جيش ، والوجه الثاني : أن يكون القتل واقعا على ربيون ، فلا يكون في قتل ضمير ، والمعنى : قتل بعض أصحابه ، وهم الربيون. وقرأ الكوفيون وابن عامر : «قاتل» ، وهي قراءة ابن مسعود ، واختارها أبو عبيد ، وقال : إن الله إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه ، وإذا حمد من قتل لم يدخل فيه من قاتل ولم يقتل ، فقاتل أعمّ وأمدح ، ويرجح هذه القراءة الأخرى. والوجه الثاني من القراءة الأولى : ما قتل نبيّ في حرب قط ، وكذا قال سعيد بن جبير. والربيون : بكسر الراء ، قراءة الجمهور ، وقرأ عليّ : بضمها ، وابن عباس : بفتحها ، وواحده : ربي بالفتح منسوب إلى الرب ، والربي : بضم الراء وكسرها ، منسوب إلى الربة ، بكسر الراء وضمها وهي الجماعة ، ولهذا فسرهم جماعة من السلف بالجماعات الكثيرة ؛ وقيل هم الأتباع ؛ وقيل : هم العلماء. قال الخليل : الربي الواحد من العباد الذين صبروا مع الأنبياء وهم الربانيون نسبوا إلى التأله والعبادة ومعرفة الربوبية. وقال الزجاج : الربيون بالضم الجماعات. قوله : (فَما وَهَنُوا) عطف على قاتل ، أو قتل. والوهن انكسار الجدّ بالخوف. وقرأ الحسن : «وهنوا» بكسر الهاء وضمها. قال أبو زيد : لغتان ، وهن الشيء يهن وهنا : ضعف ، أي : ما وهنوا لقتل نبيهم أو لقتل من قتل منهم (وَما ضَعُفُوا) أي : عن عدوّهم (وَمَا اسْتَكانُوا) لما أصابهم في الجهاد. والاستكانة : الذلة والخضوع وقرئ : «وما وهنوا وما ضعفوا» بإسكان الهاء والعين. وحكى الكسائي : ضعفوا ، بفتح العين ، وفي هذا توبيخ لمن انهزم يوم أحد ، وذلّ واستكان وضعف بسبب ذلك الإرجاف الواقع من الشيطان ، ولم يصنع كما صنع أصحاب من خلا من قبلهم من الرسل. قوله : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) أي : قول أولئك الذين كانوا مع الأنبياء إلا هذا القول ، وقولهم : منصوب على أنه خبر كان. وقرأ ابن كثير ، وعاصم في رواية عنهما : برفع قولهم. وقوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا) استثناء مفرغ ، أي : ما كان قولهم عند أن قتل منهم ربانيون ، أو قتل نبيهم (إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) قيل : هي الصغائر. وقوله : (وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) قيل : هي الكبائر ، والظاهر : أن الذنوب تعم كل ما يسمى ذنبا من صغيرة أو كبيرة. والإسراف : ما فيه مجاوزة للحدّ ، فهو من عطف الخاص على العام ، قالوا ذلك مع كونهم ربانيين : هضما لأنفسهم (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) في مواطن القتال (فَآتاهُمُ اللهُ) بسبب ذلك (ثَوابَ الدُّنْيا) من النصر والغنيمة والعزة ونحوها (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) من إضافة الصفة إلى الموصوف ، أي : ثواب الآخرة الحسن ، وهو نعيم الجنة ، جعلنا الله من أهلها.

وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) قال : تداول من الكفار والمؤمنين في الخير والشرّ. وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب المصاحف عن سعيد بن جبير قال : أوّل ما نزل من آل عمران : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) ثم أنزل بقيتها يوم أحد. وأخرج

٤٤٣

ابن جرير عن الحسن في قوله : (هذا بَيانٌ) يعني القرآن. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس قال : أقبل خالد بن الوليد يريد أن يعلو عليهم الجبل فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ لا يعلون علينا» فأنزل الله : (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج قال : انهزم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الشعب يوم أحد ، فسألوا : ما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما فعل فلان؟ فنعى بعضهم لبعض ، وتحدّثوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل ، فكانوا في همّ وحزن ، فبينما هم كذلك ، علا خالد بن الوليد بخيل المشركين فوقهم على الجبل. وكانوا على أحد مجنبتي المشركين ، وهم أسفل من الشعب ، فلما رأوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرحوا ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم لا قوّة لنا إلّا بك ، وليس أحد يعبدك بهذا البلد غير هؤلاء النّفر فلا تهلكهم» وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا فرموا خيل المشركين حتى هزمهم الله ، وعلا المسلمون الجبل ، فذلك قوله : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) قال : وأنتم الغالبون. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) قال : جراح وقتل. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) قال : إن يقتل منكم يوم أحد فقد قتل منهم يوم بدر. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) قال : كان يوم أحد بيوم بدر. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر من طريق ابن جريج عن ابن عباس في قوله : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) الآية ، قال : أدال المشركين على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، وبلغني أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد بضعة وسبعين رجلا عدد الأسارى الذين أسروا يوم بدر من المشركين ، وكان عدد الأسارى يوم بدر ثلاثة وسبعين رجلا. وأخرج ابن جريج ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) قال : إن المسلمين كانوا يسألون ربهم : اللهمّ ربنا أرنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ونبليك فيه خيرا ، ونلتمس فيه الشهادة ، فلقوا المشركين يوم أحد فاتخذ منهم شهداء. وأخرجا عنه في قوله : (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) قال : يبتليهم (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) قال : ينقصهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عنه : أن رجالا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقولون : ليتنا نقتل كما قتل أصحاب بدر ونستشهد ، أو ليت لنا يوما كيوم بدر نقاتل فيه المشركين ، ونبلي فيه خيرا ، ونلتمس الشهادة والجنة والحياة والرزق ، فأشهدهم الله أحدا ، فلم يثبتوا إلا من شاء الله منهم. فقال الله : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) الآية. وأخرج ابن المنذر عن كليب قال : خطبنا عمر بن الخطاب ، فكان يقرأ على المنبر : آل عمران ، ويقول : إنها أحدية ، ثم قال : تفرقنا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، فصعدت الجبل فسمعت يهوديا يقول : قتل محمد ، فقلت : لا أسمع أحدا يقول قتل محمد إلا ضربت عنقه ، فنظرت فإذا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والناس يتراجعون إليه ، فنزلت هذه الآية : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ). وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : نادى مناد يوم أحد : ألا إن محمدا قد قتل ، فارجعوا إلى دينكم الأوّل ، فأنزل الله : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ). أخرج أيضا عن مجاهد نحوه. وأخرج أيضا عن

٤٤٤

عليّ في قوله : (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) قال : الثابتين على دينهم أبا بكر وأصحابه ، فكان عليّ يقول : كان أبو بكر أمير الشاكرين. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والحاكم عنه : أنه كان يقول في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن الله يقول : (أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله ، والله لئن مات ، أو قتل ، لأقاتلنّ على ما قتل عليه حتى أموت. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن مسعود في قوله : (رِبِّيُّونَ) قال : ألوف. وأخرج سعيد بن منصور عن الضحاك قال : الربة الواحدة ألف. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس : (رِبِّيُّونَ) قال : جموع. وأخرج ابن جرير عنه قال : علماء كثير. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَمَا اسْتَكانُوا) قال : تخشعوا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) قال : خطايانا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣))

لما أمر الله سبحانه بالاقتداء بمن تقدّم من أنصار الأنبياء حذر عن طاعة الكفار ، وهم مشركوا العرب ؛ وقيل : اليهود والنصارى ؛ وقيل : المنافقون في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى دين آبائكم. وقوله : (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أي : يخرجونكم من دين الإسلام إلى الكفر (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أي : ترجعوا مغبونين. وقوله : (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) إضراب عن مفهوم الجملة الأولى ، أي : إن تطيعوا الكافرين يخذلوكم ، ولا ينصروكم ، بل الله ناصركم ، لا غيره ؛ وقرئ : «بل الله» بالنصب ، على تقدير : بل أطيعوا الله. قوله : (سَنُلْقِي) قرأ السختياني : بالياء التحتية ، وقرأ الباقون : بالنون. وقرأ ابن عامر والكسائي : (الرُّعْبَ) بضم العين. وقرأ الباقون بالسكون وهما لغتان ، يقال : رعبته رعبا ورعبا فهو مرعوب ، ويجوز أن يكون مصدرا ، والرعب بالضم : الاسم ، وأصله : الملء ، يقال : سيل راعب ، أي : يملأ الوادي ، ورعبت الحوض : ملأته ، فالمعنى : سنملأ قلوب الكافرين رعبا ، أي : خوفا وفزعا ، والإلقاء يستعمل حقيقة في الأجسام ، ومجازا في غيرها كهذه الآية ، وذلك أن المشركين بعد وقعة أحد ندموا أن لا يكونوا استأصلوا المسلمين ، وقالوا : بئسما صنعنا قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم ، ارجعوا فاستأصلوهم ،

٤٤٥

فلما عزموا على ذلك ألقى الله في قلوبهم الرعب ، حتى رجعوا عما هموا به (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) متعلق بقوله : (سَنُلْقِي) وما : مصدرية ، أي : بسبب إشراكهم (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي : ما لم ينزل الله بجعله شريكا له حجة وبيانا وبرهانا ، والنفي يتوجه إلى القيد والمقيد ، أي : لا حجة ولا إنزال ، والمعنى : أن الإشراك بالله لم يثبت في شيء من الملل. والمثوى : المكان الذي يقام فيه ، يقال : ثوى ، يثوي ، ثواء. قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) نزلت لما قال بعض المسلمين : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ وذلك أنه كان الظفر لهم في الابتداء ، حتى قتلوا صاحب لواء المشركين وتسعة نفر بعده ؛ فلما اشتغلوا بالغنيمة ؛ وترك الرماة مركزهم طلبا للغنيمة ؛ كان ذلك سبب الهزيمة. والحسّ : الاستئصال بالقتل ، قاله أبو عبيد. يقال : جراد محسوس : إذا قتله البرد ، وسنة حسوس ، أي : جدبة تأكل كل شيء. قيل : وأصله من الحسّ الذي هو الإدراك بالحاسة ، فمعنى حسه : أذهب حسه بالقتل ، وتحسونهم : تقتلونهم وتستأصلونهم ، قال الشاعر :

حسسناهم بالسيف حسّا فأصبحت

بقيّتهم قد شرّدوا وتبدّدوا

وقال جرير :

تحسّهم السّيوف كما تسامى

حريق النّار في الأجم الحصيد

(بِإِذْنِهِ) أي : بعلمه ، أو بقضائه (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) أي : جبنتم وضعفتم ، قيل : جواب حتى محذوف ، تقديره : امتحنتم ، وقال الفراء : جواب حتى : قوله : (وَتَنازَعْتُمْ) والواو مقحمة زائدة ، كقوله : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) (١) وقال أبو علي : يجوز أن يكون الجواب صرفكم عنهم ؛ وقيل : فيه تقديم وتأخير ، أي : حتى إذا تنازعتم وعصيتم فشلتم ؛ وقيل : إن الجواب : عصيتم ، والواو مقحمة. وقد جوّز الأخفش مثله في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ) (٢) ؛ وقيل : حتى : بمعنى إلى ، وحينئذ لا جواب لها ، والتنازع المذكور هو ما وقع من الرماة حين قال بعضهم : نلحق الغنائم ، وقال بعضهم : نثبت في مكاننا كما أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومعنى قوله : (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) ما وقع لهم من النصر في الابتداء في يوم أحد ، كما تقدّم ، (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) يعني : الغنيمة (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) أي : الأجر بالبقاء في مراكزهم امتثالا لأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) أي : ردّكم الله عنهم بالانهزام بعد أن استوليتم عليهم ليمتحنكم (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) لما علم من ندمكم ، فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة ، والخطاب لجميع المنهزمين ، وقيل : للرماة فقط. قوله : (إِذْ تُصْعِدُونَ) متعلق بقوله : (صَرَفَكُمْ) أو بقوله : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) أو بقوله : (لِيَبْتَلِيَكُمْ) وقرأه الجمهور : بضمّ التاء وكسر العين ، وقرأ أبو رجاء العطاردي ، وأبو عبد الرحمن السلمي ، والحسن ، وقتادة : بفتح التاء والعين. وقرأ ابن محيصن وقنبل : «يصعدون» بالتحتية. قال أبو حاتم : أصعدت : إذا مضيت حيال وجهك ، وصعدت : إذا ارتقيت في جبل ، فالإصعاد : السير في مستوى الأرض وبطون الأودية ، والصعود : الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدرج ، فيحتمل أن يكون صعودهم في الجبل

__________________

(١). الصافات : ١٠٣.

(٢). التوبة : ١١٨.

٤٤٦

بعد إصعادهم في الوادي ، فيصح المعنى على القراءتين. وقال القتبي : أصعد : إذا أبعد في الذهاب وأمعن فيه ، ومنه قول الشاعر :

ألا أيّهذا السّائلي أين أصعدت

فإنّ لها من بطن يثرب موعدا

وقال الفراء : الإصعاد : الابتداء في السفر ، والانحدار : الرجوع منه ، يقال : أصعدنا من بغداد إلى مكة ، وإلى خراسان ، وأشباه ذلك : إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر ، وانحدرنا : إذا رجعنا. وقال المفضل : صعد وأصعد بمعنى واحد. ومعنى : (تَلْوُونَ) : تعرجون وتقيمون ، أي : لا يلتفت بعضكم إلى بعض هربا ، فإن المعرج إلى الشيء يلوي إليه عنقه أو عنق دابته (عَلى أَحَدٍ) أي : على أحد ممن معكم ؛ وقيل : على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقرأ الحسن : «تلون» بواو واحدة ، وقرأ عاصم في رواية عنه : بضم التاء ، وهي لغة. قوله : (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) أي : في الطائفة المتأخرة منكم ، يقال : جاء فلان في آخر الناس ، وآخرة الناس ، وأخرى الناس ، وأخريات الناس. وكان دعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أي عباد الله ارجعوا». قوله : (فَأَثابَكُمْ) عطف على صرفكم ، أي : فجازاكم الله غما حين صرفكم عنه بسبب غمّ أذقتموه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعصيانكم ، أو غما موصولا بغمّ بسبب ذلك الإرجاف والجرح والقتل وظفر المشركين ، والغمّ في الأصل : التغطية ، غميت الشيء : غطيته ، ويوم غمّ ، وليلة غمة : إذا كانا مظلمين ، ومنه : غمّ الهلال ؛ وقيل : الغمّ الأول : الهزيمة ، والثاني : إشراف أبي سفيان وخالد بن الوليد عليهم في الجبل. قوله : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) اللام متعلقة بقوله : (فَأَثابَكُمْ) أي : هذا الغمّ بعد الغمّ ، لكيلا تحزنوا على ما فات من الغنيمة ، ولا ما أصابكم من الهزيمة ، تمرينا لكم على المصائب ، وتدريبا لاحتمال الشدائد. وقال المفضل : معنى (لِكَيْلا تَحْزَنُوا) لكي تحزنوا ، ولا زائدة كقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) أي : أن تسجد ، وقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ) أي : ليعلم.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) قال : لا تنتصحوا اليهود والنصارى على دينكم ، ولا تصدقوهم بشيء في دينكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدّي يقول : إن تطيعوا أبا سفيان بن حرب يردّكم كفارا. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) نحو ما قدّمناه في سبب نزول الآية. وأخرج البيهقي في الدلائل عن عروة في قوله : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) قال : كان الله وعدهم على الصبر والتقوى : أن يمدّهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ، وكان قد فعل ، فلما عصوا أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتركوا مصافهم ، وتركت الرماة عهد الرسول إليهم أن لا يبرحوا منازلهم ، وأرادوا الدنيا رفع عنهم مدد الملائكة. وقصة أحد مستوفاة في السير والتواريخ فلا حاجة إلى إطالة الشرح هنا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن عبد الرحمن بن عوف في قوله : (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) قال : الحسّ : القتل. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه. قال : الفشل : الجبن. وأخرج ابن المنذر عن البراء بن عازب في قوله : (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) قال : الغنائم وهزيمة القوم. وأخرج ابن جرير عن الحسن في قوله :

٤٤٧

(وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) قال : يقول الله قد عفوت عنكم أن لا أكون استأصلتكم. وأخرج أيضا عن ابن جريج نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس (إِذْ تُصْعِدُونَ) قال : أصعدوا في أحد فرارا والرسول يدعوهم في أخراهم : «إليّ عباد الله ارجعوا ، إليّ عباد الله ارجعوا». وأخرج ابن مردويه عن عبد الرحمن ابن عوف : (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) قال : الغمّ الأوّل : بسبب الهزيمة ، والثاني : حين قيل : قتل محمد ، وكان ذلك عندهم أعظم من الهزيمة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (غَمًّا بِغَمٍ) قال : فرّة بعد الفرّة ، الأولى : حين سمعوا الصوت أن محمدا قد قتل. [والثانية حين رجع الكفار فضربوهم مدبرين حتى قتلوا منهم سبعين رجلا] (١). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم قال : الغم الأوّل : الجراح والقتل ، والغم الآخر : حين سمعوا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد قتل. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله.

(ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥))

الأمنة والأمن سواء ، وقيل : الأمنة إنما تكون مع أسباب الخوف ، والأمن مع عدمه ، وهي : منصوبة بأنزل. ونعاسا : بدل منها ، أو عطف بيان ، أو مفعول له ؛ وأما ما قيل من أن أمنة : حال من نعاسا مقدّمة عليه ، أو حال من المخاطبين ، أو مفعول له ، فبعيد. وقرأ ابن محيصن : «أمنة» بسكون الميم. قوله : (يَغْشى) قرئ : بالتحتية ، على أن الضمير للنعاس ، وبالفوقية ، على أن الضمير لأمنة ، والطائفة : تطلق على الواحد والجماعة ، والطائفة الأولى : هم المؤمنون الذين خرجوا للقتال طلبا للأجر ، والطائفة الأخرى : هم معتب بن قشير وأصحابه ، وكانوا خرجوا طمعا في الغنيمة ، وجعلوا يناشدون على الحضور ، ويقولون الأقاويل. ومعنى : (أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) حملتهم على الهمّ ، أهمني الأمر : اقلقني ، والواو في قوله : (وَطائِفَةٌ) للحال ، وجاز الابتداء بالنكرة لاعتمادها على واو الحال ، وقيل : إن معنى (أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) صارت همهم ، لا همّ لهم غيرها (يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِ) هذه الجملة في محل نصب على الحال ، أي : يظنون بالله غير الحق الذي يجب أن يظن به ، وظنّ الجاهلية : بدل منه. وهو الظنّ المختص بملة الجاهلية ، أو ظن أهل الجاهلية ، وهو ظنهم : أن أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم باطل ، وأنه لا ينصر ولا يتمّ ما دعا إليه من دين الحق.

__________________

(١). ما بين حاصرتين من تفسير ابن جرير الطبري [٤ / ٨٨].

٤٤٨

وقوله : (يَقُولُونَ) بدل من «يظنون» ، أي : يقولون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) أي : هل لنا من أمر الله نصيب ، وهذا الاستفهام معناه : الجحد ، أي : ما لنا شيء من الأمر. وهو النصر والاستظهار على العدوّ ؛ وقيل : هو الخروج ، أي : إنما خرجنا مكرهين ، فردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) وليس لكم ولا لعدوّكم منه شيء ، فالنصر بيده والظفر منه. وقوله : (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) أي : يضمرون في أنفسهم النفاق ولا يبدون لك ذلك ، بل يسألونك سؤال المسترشدين. وقوله : (يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) استئناف ، كأنه قيل : ما هو الأمر الذي يخفون في أنفسهم؟ فقيل : يقولون فيما بينهم ، أو في أنفسهم (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) أي : ما قتل من قتل منا في هذه المعركة ، فردّ الله سبحانه ذلك عليهم بقوله : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) أي : لو كنتم قاعدين في بيوتكم لم يكن بدّ من خروج من كتب عليه القتل إلى هذه المصارع الي صرعوا فيها ، فإن قضاء الله لا يردّ. وقوله : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) علة لفعل مقدّر قبلها ، معطوفة على علل له أخرى مطوية للإيذان بكثرتها ، كأنه قيل : فعل ما فعل لمصالح جمة (وَلِيَبْتَلِيَ) إلخ ؛ وقيل : إنه معطوف على علة مطوية لبرز ، والمعنى : ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص ، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي : انهزموا يوم أحد ، وقيل المعنى : إن الذين تولوا المشركين يوم أحد (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ) استدعى زللهم بسبب بعض ما كسبوا من الذنوب التي منها مخالفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) لتوبتهم واعتذارهم.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية قال : أمنهم الله يومئذ بنعاس غشاهم ، وإنما ينعس من يأمن. وقد ثبت في صحيح البخاري وغيره أن أبا طلحة قال : غشينا ونحن في مصافنا يوم أحد ، فجعل سيفي يسقط من يدي ، وآخذه ويسقط ، وآخذه فذلك قوله : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) الآية. وأخرج الترمذي ، وصححه ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في الدلائل عن الزبير بن العوّام قال : رفعت رأسي يوم أحد ، فجعلت أنظر ، وما منهم من أحد إلا وهو يميل تحت حجفته من النعاس ، وتلا هذه الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج قال : إن المنافقين قالوا لعبد الله بن أبيّ ، وكان سيد المنافقين : قتل اليوم بنو الخزرج ، فقال : وهل لنا من الأمر شيء ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. وأخرج ابن جرير عن قتادة والربيع في قوله : (ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) قال : ظنّ أهل الشرك. وأخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : معتب هو الذي قال يوم أحد : لو كان لنا من الأمر شيء. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أن الذي قال ذلك : عبد الله بن أبيّ. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن عوف في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) قال : هم ثلاثة واحد من المهاجرين ، واثنان من الأنصار. وأخرج ابن مندة ، وابن عساكر عن ابن عباس في الآية قال : نزلت في عثمان ورافع بن المعلى وخارجة ابن زيد. وقد روي في تعيين «من» في الآية روايات كثيرة.

٤٤٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤))

قوله : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) هم المنافقون الذين قالوا : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا. قوله : (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) في النفاق أو في النسب ، أي : قالوا لأجلهم (إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) إذا ساروا فيها للتجارة أو نحوها ؛ قيل : إن إذا هنا المفيدة لمعنى الاستقبال : بمعنى إذ المفيدة لمعنى المضيّ ؛ وقيل : هي على معناها ، والمراد هنا حكاية الحال الماضية. وقال الزجاج : إذا هنا تنوب عن ما مضى من الزمان وما يستقبل (أَوْ كانُوا غُزًّى) جمع غاز ، كراكع وركع ، وغائب وغيب ، قال الشاعر :

قل للقوافل والغزيّ إذا غزوا (١)

(لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) اللام متعلقة بقوله : (قالُوا) أي : قالوا ذلك واعتقدوه ليكون حسرة في قلوبهم. والمراد : أنه صار ظنهم أنهم لو لم يخرجوا ما قتلوا حسرة ، أو متعلقة بقوله : (لا تَكُونُوا) أي : لا تكونوا مثلهم في اعتقاد ذلك ، ليجعله الله حسرة في قلوبهم فقط دون قلوبكم ؛ وقيل : المعنى : لا تلتفتوا إليهم ليجعل الله عدم التفاتكم إليهم حسرة في قلوبهم ؛ وقيل : المراد : حسرة في قلوبهم يوم القيامة لما فيه من الخزي والندامة (وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ) فيه ردّ على قولهم ، أي : ذلك بيد الله سبحانه يصنع ما يشاء ويحكم ما يريد ، فيحيي من يريد ، ويميت من يريد من غير أن يكون للسفر أو الغزو أثر في ذلك ، واللام في قوله : (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ) موطئة. وقوله : (لَمَغْفِرَةٌ) جواب القسم سادّ مسدّ جواب الشرط ، والمعنى : أن السفر والغزو ليسا مما يجلب الموت ، ولئن وقع ذلك فبأمر الله سبحانه (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) أي : الكفرة من منافع الدنيا وطيباتها مدّة أعمارهم ، على قراءة من قرأ : بالياء التحتية ، أو خير

__________________

(١). هو صدر بيت لزياد الأعجم ، وعجزه : والباكرين وللمجدّ الرّامح.

٤٥٠

مما تجمعون أيها المسلمون من الدنيا ومنافعها ، على قراءة من قرأ : بالفوقية. والمقصود في الآية : بيان مزية القتل أو الموت في سبيل الله ، وزيادة تأثيرهما في استجلاب المغفرة والرحمة. قوله : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ) على أيّ وجه ، حسب تعلق الإرادة الإلهية (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) هو جواب القسم المدلول عليه باللام الموطئة ، سادّ مسدّ جواب الشرط ، كما تقدم في الجملة الأولى : أي : إلى الربّ الواسع المغفرة تحشرون ، لا إلى غيره ، كما يفيده تقديم الظرف على الفعل ، مع ما في تخصيص اسم الله سبحانه بالذكر من الدلالة على كمال اللطف والقهر. وما في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) مزيدة للتأكيد ، قال سيبويه وغيره ؛ وقال ابن كيسان : إنها نكرة في موضع جرّ بالباء ، ورحمة : بدل منها ، والأوّل أولى بقواعد العربية ، ومثله : قوله تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ) والجار والمجرور متعلق بقوله : (لِنْتَ لَهُمْ) وقدّم عليه لإفادة القصر ، وتنوين رحمة للتعظيم ؛ والمعنى : أنّ لينه لهم ما كان إلا بسبب الرحمة العظيمة منه ؛ وقيل : إن : ما ، استفهامية ، والمعنى : فبأيّ رحمة من الله لنت لهم؟ وفيه معنى التعجيب وهو بعيد ، ولو كان كذلك لحذف الألف من ما ؛ وقيل : فبم رحمة من الله. والفظّ : الغليظ الجافي. وقال الراغب : الفظّ هو الكريه الخلق ، وأصله : فظظ ، كحذر. وغلظ القلب : قساوته ، وقلة إشفاقه ، وعدم انفعاله للخير. والانفضاض : التفرّق ، يقال : فضضتهم فانفضوا ، أي : فرّقتهم فتفرّقوا ، والمعنى : لو كنت فظا غليظ القلب لا ترفق بهم لتفرّقوا من حولك ، هيبة لك ، واحتشاما منك ، بسبب ما كان من توليهم ، وإذا كان الأمر كما ذكر (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يتعلق بك من الحقوق (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) الله سبحانه فيما هو إلى الله سبحانه (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) أي : الذي يرد عليك ، أيّ أمر كان مما يشاور في مثله ، أو في أمر الحرب خاصة ، كما يفيده السياق ، لما في ذلك من تطييب خواطرهم واستجلاب مودّتهم ، ولتعريف الأمة بمشروعية ذلك ، حتى لا يأنف منه أحد بعدك. والمراد هنا : المشاورة في غير الأمور التي يرد الشرع بها. قال أهل اللغة : الاستشارة مأخوذة من قول العرب : شرت الدابة وشورتها : إذا علمت خبرها ؛ وقيل : من قولهم : شرت العسل : إذا أخذته من موضعه. قال ابن خويز منداد : واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون ، وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا ، ومشاورة وجوه الجيش ، فيما يتعلق بالحرب ، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح ، ووجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها. وحكى القرطبي عن ابن عطية : أنه لا خلاف في وجوب عزل من لا يستشير أهل العلم والدين. قوله : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي : إذا عزمت عقب المشاورة على شيء ، واطمأنت به نفسك ، فتوكل على الله في فعل ذلك ، أي : اعتمد عليه وفوّض إليه ؛ وقيل : إن المعنى : فإذا عزمت على أمر أن تمضي فيه ، فتوكل على الله لا على المشاورة. والعزم في الأصل : قصد الإمضاء أي : فإذا قصدت إمضاء أمر فتوكل على الله. وقرأ جعفر الصادق ، وجابر بن زيد : «فإذا عزمت» : بضم التاء ، بنسبة العزم إلى الله تعالى ، أي : فإذا عزمت لك على شيء ، وأرشدتك إليه ، فتوكل على الله. وقوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ) جملة مستأنفة ، لتأكيد التوكل ، والحثّ عليه. والخذلان : ترك العون ، أي : وإن يترك الله عونكم (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) وهذا الاستفهام :

٤٥١

إنكاري. والضمير في قوله : (مِنْ بَعْدِهِ) راجع إلى الخذلان المدلول عليه بقوله : (وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) أو إلى الله ، ومن علم أنه لا ناصر له إلا الله سبحانه ، وأن من نصره الله لا غالب له ، ومن خذله لا ناصر له ، فوّض أموره إليه ، وتوكل عليه ، ولم يشتغل بغيره ، وتقديم الجار والمجرور على الفعل في قوله : (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) : لإفادة قصره عليه. قوله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) أي ما صح له ذلك لتنافي الغلول والنبوّة. قال أبو عبيد : الغلول : من المغنم خاصة ، ولا نراه من الخيانة ولا من الحقد ، ومما يبين ذلك أنه يقال من الخيانة : أغلّ يغلّ ، ومن الحقد : غلّ يغلّ بالكسر ، ومن الغلول : غلّ يغلّ بالضم ؛ يقال : غلّ المغنم غلولا ، أي : خان بأن يأخذ لنفسه شيئا يستره على أصحابه ؛ فمعنى الآية على القراءة بالبناء للفاعل : ما صح لنبيّ أن يخون شيئا من المغنم ، فيأخذه لنفسه من غير اطلاع أصحابه. وفيه تنزيه الأنبياء عن الغلول. ومعناها على القراءة بالبناء للمفعول : ما صحّ لنبيّ أن يغله أحد من أصحابه ، أي : يخونه في الغنيمة ، وهو على هذه القراءة الأخرى : نهي للناس عن الغلول في المغانم ؛ وإنما خص خيانة الأنبياء مع كون خيانة غيرهم من الأئمة والسلاطين والأمراء حراما ، لأن خيانة الأنبياء أشدّ ذنبا وأعظم وزرا (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يأت به حاملا له على ظهره ، كما صح ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيفضحه بين الخلائق ، وهذه الجملة تتضمن تأكيد تحريم الغلول ، والتنفير منه ، بأنه ذنب يختص فاعله بعقوبة على رؤوس الأشهاد ، يطلع عليها أهل المحشر ، وهي مجيئه يوم القيامة بما غله حاملا له ، قبل أن يحاسب عليه يعاقب عليه. قوله : (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) أي : تعطي جزاء ما كسبت وافيا من خير وشرّ ، وهذه الآية تعمّ كل من كسب خيرا أو شرا ، ويدخل تحتها الغالّ دخولا أوليا ، لكون السياق فيه. قوله : (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) الاستفهام للإنكار ، أي : ليس من اتبع رضوان الله في أوامره ونواهيه فعمل بأمره واجتنب نهيه كمن باء ، أي : رجع بسخط عظيم كائن من الله ، بسبب مخالفته لما أمر به ونهي عنه ، ويدخل تحت ذلك ، من اتبع رضوان الله بترك الغلول واجتنابه ، ومن باء بسخط من الله بسبب إقدامه على الغلول. ثم أوضح ما بين الطائفتين من التفاوت فقال : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) أي : متفاوتون في الدرجات ؛ والمعنى : هم ذوو درجات ، أو : لهم درجات ، فدرجات من اتبع رضوان الله ليست كدرجات من باء بسخط من الله ، فإن الأوّلين في أرفع الدرجات. والآخرين في أسفلها. قوله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) جواب قسم محذوف ، وخص المؤمنين لكونهم المنتفعين ببعثته. ومعنى : (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أنه عربيّ مثلهم ؛ وقيل : بشر مثلهم ، ووجه المنة على الأوّل : أنهم يفقهون عنه ، ويفهمون كلامه ، ولا يحتاجون إلى ترجمان. ومعناها على الثاني : أنهم يأنسون به بجامع البشرية ، ولو كان ملكا لم يحصل كمال الأنس به لاختلاف الجنسية ، وقرئ : (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) بفتح الفاء ، أي : من أشرفهم لأنه من بني هاشم ، وبنو هاشم أفضل قريش ، وقريش أفضل العرب ، والعرب أفضل من غيرهم ، ولعلّ وجه الامتنان على هذه القراءة : أنه لما كان من أشرفهم كانوا أطوع له وأقرب إلى تصديقه ، ولا بد من تخصيص المؤمنين في هذه الآية بالعرب على الوجه الأوّل ، وأما على الوجه الثاني : فلا حاجة إلى هذا التخصيص ،

٤٥٢

وكذا على قراءة من قرأ : بفتح الفاء ، لا حاجة إلى التخصيص ، لأن بني هاشم هم أنفس العرب والعجم في شرف الأصل وكرم النجاد ورفاعة المحتد. ويدل على الوجه الأوّل قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ) وقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ). قوله : (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) هذه منة ثانية ، أي : يتلو عليهم القرآن بعد أن كانوا أهل جاهلية ، لا يعرفون شيئا من الشرائع (وَيُزَكِّيهِمْ) أي : يطهرهم من نجاسة الكفر ، وهذه الجملة معطوفة على الجملة الأولى ، وهما : في محل نصب على الحال ، أو صفة لرسول ، وهكذا قوله : (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ) ، والمراد بالكتاب هنا : القرآن. والحكمة : السنة. وقد تقدّم في البقرة تفسير ذلك : (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل محمد ، أو : من قبل بعثته (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : واضح لا ريب فيه ، واللام للفرق بين إن المخففة من الثقيلة ، وبين النافية ، فهي تدخل في خبر المخففة لا النافية ، واسمها ضمير الشأن ، أي : وإن الشأن والحديث ؛ وقيل : إنها النافية ، واللام بمعنى : إلا ، أي : وما كانوا من قبل إلا في ضلال مبين ، وبه قال الكوفيون ، والجملة على التقديرين : في محل نصب على الحال.

وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ) الآية ، قال : هذا قول عبد الله بن أبيّ ابن سلول والمنافقين. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدّي نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) قال : يحزنهم قولهم ولا ينفعهم شيئا. وأخرجوا عن قتادة في قوله : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) يقول : فبرحمة من الله (لِنْتَ لَهُمْ). وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) قال : لانصرفوا عنك. وأخرج ابن عديّ ، والبيهقي في الشعب ، قال السيوطي بسند حسن عن ابن عباس قال : لما نزلت : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها ، ولكنّ الله جعلها رحمة لأمّتي ، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ، ومن تركها لم يعدم غيّا». وأخرج الحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ). قال : أبو بكر وعمر. وأخرج ابن مردويه عن عليّ قال : سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن العزم ، فقال : «مشاورة أهل الرأي ثم اتّباعهم». وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، والترمذي ، وحسنه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) في قطيفة حمراء افتقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخذها فنزلت. وأخرج البزار ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن ابن عباس : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) قال : ما كان لنبيّ أن يتهمه أصحابه. وقد ورد في تحريم الغلول أحاديث كثيرة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس : (هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) يقول : بأعمالهم. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان عن عائشة في قوله : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، قالت : هذه للعرب خاصة.

(أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ

٤٥٣

قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))

قوله : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) الألف للاستفهام بقصد التقريع ، والواو للعطف. والمصيبة : الغلبة والقتل الذي أصيبوا به يوم أحد ، (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) يوم بدر ، وذلك أن الذين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعون. وقد كانوا قتلوا من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين ، فكان مجموع القتلى والأسرى يوم بدر مثلي القتلى من المسلمين يوم أحد ؛ والمعنى : أحين أصابكم من المشركين نصف ما أصابهم منكم قبل ذلك جزعتم وقلتم من أين أصابنا هذا؟ وقد وعدنا بالنصر. وقوله : (أَنَّى هذا) أي : من أين أصابنا هذا الانهزام والقتل ونحن نقاتل في سبيل الله ومعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ وقد وعدنا الله بالنصر عليهم وقوله : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يجيب عن سؤالهم بهذا الجواب ، أي : هذا الذي سألتم عنه ، وهو من عند أنفسكم ، بسبب مخالفة الرماة لما أمرهم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من لزوم المكان الذي عينه لهم ، وعدم مفارقتهم له على كل حال وقيل : إن المراد بقوله : (هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) خروجهم من المدينة. ويردّه أن الوعد بالنصر إنما كان بعد ذلك ؛ وقيل : هو اختيارهم الفداء يوم بدر على القتل ، و (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) يوم أحد ؛ أي : ما أصابكم يوم أحد من القتل والجرح والهزيمة (فَبِإِذْنِ اللهِ) فبعلمه ، وقيل : بقضائه وقدره ؛ وقيل بتخليته بينكم وبينهم ، والفاء : دخلت في جواب الموصول لكونه يشبه الشرط كما قال سيبويه. وقوله : (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على قوله : (فَبِإِذْنِ اللهِ) عطف سبب على سبب. وقوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) عطف على ما قبله ، قيل : أعاد الفعل لقصد تشريف المؤمنين عن أن يكون الفعل المسند إليهم وإلى المنافقين واحدا ، والمراد بالعلم هنا : التمييز والإظهار ، لأن علمه تعالى ثابت قبل ذلك ؛ والمراد بالمنافقين هنا : عبد الله بن أبيّ وأصحابه. قوله : (وَقِيلَ لَهُمْ) هو معطوف على قوله : (نافَقُوا) أي : ليعلم الله الذين نافقوا والذين قيل لهم ؛ وقيل : هو كلام مبتدأ ، أي : قيل لعبد الله بن أبيّ وأصحابه : (تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إن كنتم ممن يؤمن بالله واليوم الآخر (أَوِ ادْفَعُوا) عن أنفسكم إن كنتم لا تؤمنون بالله واليوم الآخر ، فأبوا جميع ذلك وقالوا : لو نعلم أنه سيكون قتالا لاتبعناكم وقاتلنا معكم ، ولكنه لا قتال هنالك ؛ وقيل المعنى : لو كنا نقدر على القتال ونحسنه لاتبعناكم ، ولكنا لا نقدر على ذلك ولا نحسنه. وعبر عن نفي القدر على القتال : بنفي العلم به ، لكونها مستلزمة له ، وفيه بعد لا ملجئ إليه ، وقيل : معناه : لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لاتبعناكم ، ولكن ما أنتم بصدده ليس بقتال ، ولكنه إلقاء بالنفس إلى التهلكة ، لعدم القدرة منا ومنكم على دفع ما ورد من الجيش بالبروز إليهم ، والخروج من المدينة ، وهذا أيضا فيه بعد دون ما قبله ؛ وقيل : معنى الدفع هنا :

٤٥٤

تكثير سواد المسلمين ؛ وقيل : معناه : رابطوا ، والقائل للمنافقين هذه المقالة التي حكاها الله سبحانه هو : عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري والد جابر بن عبد الله. قوله : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) أي : هم في هذا اليوم الذي انخذلوا فيه عن المؤمنين إلى الكفر أقرب منهم إلى الإيمان عند من كان يظن أنهم مسلمون ، لأنهم قد بينوا حالهم ، وهتكوا أستارهم ، وكشفوا عن نفاقهم إذ ذاك ؛ وقيل : المعنى : أنهم لأهل الكفر يومئذ أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان. قوله : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) جملة مستأنفة ، مقررة لمضمون ما تقدّمها ، أي : أنهم أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ، وذكر الأفواه للتأكيد ، مثل قوله : (يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) (١). قوله : (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) إلخ ، أي : هم الذين قالوا لإخوانهم ، على أنه خبر مبتدأ محذوف ، ويجوز أن يكون بدلا من : واو يكتمون ، أو منصوبا على الذمّ ، أو وصف للذين نافقوا. وقد تقدم معنى (قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) أي : قالوا لهم ذلك ، والحال أن هؤلاء القائلين قد قعدوا عن القتال (لَوْ أَطاعُونا) بترك الخروج من المدينة ما قتلوا ، فردّ الله ذلك عليهم بقوله : (قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) والدرء : الدفع ، أي : لا ينفع الحذر من القدر ، فإن المقتول يقتل بأجله.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) الآية. يقول : إنكم قد أصبتم من المشركين يوم بدر مثلي ما أصابوا منكم يوم أحد ، وقد بين هذا عكرمة. فأخرج ابن جرير عنه قال : قتل المسلمون من المشركين يوم بدر سبعين وأسروا سبعين ، وقتل المشركون يوم أحد من المسلمين سبعين. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : لما رأوا من قتل منهم يوم أحد قالوا من أين هذا؟ ما كان للكفار أن يقتلوا منا ، فلما رأى الله ما قالوا من ذلك ، قال الله : هم بالأسرى الذين أخذتم يوم بدر. فردّهم الله بذلك ، وعجل لهم عقوبة ذلك في الدنيا ليسلموا منها في الآخرة ، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة ، والترمذي ، وحسنه ، والنسائي ، وابن جرير ، وابن مردويه عن عليّ قال : جاء جبريل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد! إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الأسارى ، وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين : إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم ، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم ، فدعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الناس فذكر ذلك لهم ، فقالوا : يا رسول الله! عشائرنا وإخواننا ، لا ، بل نأخذ فداءهم فنقوى به على قتال عدوّنا ويستشهد منا عدتهم ، فليس في ذلك ما نكره ، فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر. وهذا الحديث في سنن الترمذي ، والنسائي هو من طريق أبي داود الحفري عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، عن سفيان بن سعيد ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة عن عليّ : قال الترمذي بعد إخراجه : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي زائدة. وروى أبو أسامة عن هشام نحوه. وروي عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسلا ، وإسناد ابن جرير لهذا الحديث هكذا : حدثنا القاسم ، حدثنا الحسين ، حدثنا إسماعيل بن علية عن ابن عون قال سنيد : وهو حسين ، وحدثني حجاج عن جرير ، عن محمد ، عن عبيدة ، عن علي فذكره. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا قراد ابن نوح ، حدثنا عكرمة بن عمار ، حدثنا سماك الحنفي أبو زميل ، حدثني ابن عباس عن عمر بن الخطاب

__________________

(١). الأنعام : ٣٨.

٤٥٥

قال : لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء ، فقتل منهم سبعون وفرّ أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنه ، وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله عزوجل : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ) الآية. وأخرج الإمام أحمد من طريق عبد الرحمن بن غزوان وهو قراد بن نوح ، به ، ولكن بأطول منه ، ولكنه يشكل على حديث التخيير السابق : ما نزل من المعاتبة منه سبحانه وتعالى لمن أخذ الفداء بقوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) (١) وما روي من بكائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وأبو بكر ندما على أخذ الفداء ، ولو كان أخذ ذلك بعد التخيير لهم من الله سبحانه لم يعاتبهم عليه ، ولا حصل ما حصل من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن معه من الندم والحزن ، ولا صوب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأي عمر رضي الله عنه ، حيث أشار بقتل الأسرى وقال ما معناه : لو نزلت عقوبة لم ينج منها إلا عمر ، والجميع في كتب الحديث والسير. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس : (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) ونحن مسلمون نقاتل غضبا لله وهؤلاء مشركون. فقال : (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) عقوبة لكم بمعصيتكم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين قال : لا تتبعوهم. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (أَوِ ادْفَعُوا) قال : كثروا بأنفسكم وإن لم تقاتلوا ، وأخرج أيضا عن الضحاك نحوه. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عون الأنصاري في قوله : (أَوِ ادْفَعُوا) قال : رابطوا. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن شهاب وغيره قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى أحد في ألف رجل من أصحابه ، حتى إذا كانوا بالشوط بين أحد والمدينة انخزل عنهم عبد الله بن أبيّ بثلث الناس ، وقال : أطاعهم وعصاني ، والله ما ندري على ما نقتل أنفسنا هاهنا؟ فرجع بمن اتبعه من أهل النفاق وأهل الريب ، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام من بني سلمة يقول : يا قوم! أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند ما حضرهم عدوهم ، قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولا نرى أن يكون قتال. وأخرجه ابن إسحاق قال : حدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، ومحمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحسن بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن معاذ ، وغيرهم من علمائنا ، فذكره ، وزاد : أنهم لما استعصوا عليه وأبو إلا الانصراف قال : أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) قال : لو نعلم أنا واجدون معكم مكان قتال لاتبعناكم.

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ

__________________

(١). الأنفال : ٦٧.

٤٥٦

مُؤْمِنِينَ (١٧٥))

لما بيّن الله سبحانه : أن ما جرى على المؤمنين يوم أحد كان امتحانا ليتميز المؤمن من المنافق ، والكاذب من الصادق ، بين هاهنا أن من لم ينهزم وقتل فله هذه الكرامة والنعمة ، وأن مثل هذا مما يتنافس فيه المتنافسون ، لا مما يخاف ويحذر ، كما قالوا من حكى الله عنهم : (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا) وقالوا : (لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا) فهذه الجملة مستأنفة لبيان هذا المعنى ، والخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لكل أحد ، وقرئ : بالياء التحتية ؛ أي : لا يحسبن حاسب.

وقد اختلف أهل العلم في الشهداء المذكورين في هذه الآية من هم؟ فقيل : في شهداء أحد ، وقيل : في شهداء بدر ، وقيل : في شهداء بئر معونة. وعلى فرض أنها نزلت في سبب خاص فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ومعنى الآية عند الجمهور : أنهم أحياء حياة محققة. ثم اختلفوا ؛ فمنهم من يقول أنها تردّ إليهم أرواحهم في قبورهم فيتنعمون. وقال مجاهد : يرزقون من ثمر الجنة ، أي : يجدون ريحها وليسوا فيها ، وذهب من عدا الجمهور : إلى أنها حياة مجازية ، والمعنى : أنهم في حكم الله مستحقون للتنعم في الجنة ، والصحيح الأوّل ، ولا موجب للمصير إلى المجاز. وقد وردت السنة المطهرة بأن أرواحهم في أجواف طيور خضر ، وأنهم في الجنة يرزقون ، ويأكلون ، ويتمتعون ، وقوله : (الَّذِينَ قُتِلُوا) هو المفعول الأوّل. والحاسب هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو كل أحد كما سبق ؛ وقيل : يجوز أن يكون الموصول هو فاعل الفعل ، والمفعول الأوّل محذوف ، أي : لا تحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا ، وهذا تكلف لا حاجة إليه ، ومعنى النظم القرآني في غاية الوضوح والجلاء. وقوله : (بَلْ أَحْياءٌ) خبر مبتدأ محذوف ، أي : بل هم أحياء. وقرئ بالنصب على تقدير الفعل ، أي : بل احسبهم أحياء. وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) إما خبر ثان ، أو صفة لأحياء ، أو في محل نصب على الحال ؛ وقيل : في الكلام حذف ، والتقدير : عند كرامة ربهم. قال سيبويه : هذه عندية الكرامة ، لا عندية القرب. وقوله : (يُرْزَقُونَ) يحتمل في إعرابه الوجوه التي ذكرناها في قوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) والمراد بالرزق هنا : هو الرزق المعروف في العادات على ما ذهب إليه الجمهور كما سلف ، وعند من عدا الجمهور المراد : الثناء الجميل ، ولا وجه يقتضي تحريف الكلمات العربية في كتاب الله تعالى وحملها على مجازات بعيدة ، لا لسبب يقتضي ذلك. وقوله : (فَرِحِينَ) حال من الضمير في يرزقون ، وبما آتاهم الله من فضله : متعلق به. وقرأ ابن السميقع : «فارحين» وهما لغتان ، كالفره والفاره ، والحذر والحاذر. والمراد : (بِما آتاهُمُ اللهُ) ما ساقه الله إليهم من الكرامة بالشهادة ، وما صاروا فيه من الحياة ، وما يصل إليهم من رزق الله سبحانه. (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) من إخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا إذ ذاك. فالمراد باللحوق هنا : أنهم لم يلحقوا بهم في القتل والشهادة ، بل سيلحقون بهم من بعد ، وقيل : المراد : يلحقوا بهم في الفضل وإن كانوا أهل فضل في الجملة ، والواو : في (وَيَسْتَبْشِرُونَ) ، عاطفة على (يُرْزَقُونَ) أي : يرزقون ويستبشرون ؛ وقيل : المراد بإخوانهم هنا : جميع المسلمين الشهداء وغيرهم ، لأنهم عاينوا ثواب الله ؛ وحصل لهم اليقين بحقية دين الإسلام ؛ استبشروا بذلك لجميع أهل الإسلام الذين

٤٥٧

هم أحياء لم يموتوا ، وهذا أقوى ، لأن معناه أوسع ، وفائدته أكثر ، واللفظ يحتمله ، بل هو الظاهر ، وبه قال الزجاج وابن فورك. وقوله : (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بدل من : الّذين ، أي يستبشرون بهذه الحالة الحاصلة لإخوانهم من أنه لا خوف عليهم ولا حزن ، وأن : هي المخففة من الثقيلة ، واسمها : ضمير الشأن المحذوف ، وكرر قوله : (يَسْتَبْشِرُونَ) لتأكيد الأوّل ولبيان أن الاستبشار ليس لمجرد عدم الخوف والحزن ، بل به وبنعمة الله وفضله. والنعمة : ما ينعم الله به على عباده. والفضل : ما يتفضل به عليهم ، وقيل : النعمة : الثواب. والفضل : الزائد ؛ وقيل : النعمة : الجنة ، والفضل داخل في النعمة ، ذكر بعدها لتأكيدها ؛ وقيل : إن الاستبشار الأوّل : متعلق بحال إخوانهم ، والاستبشار الثاني : بحال أنفسهم. قوله : (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) قرأ الكسائي : بكسر الهمزة من : أن ، وقرأ الباقون : بفتحها ، فعلى القراءة الأولى : هو مستأنف اعتراض. وفيه دلالة : على أن الله لا يضيع أجر شيء من أعمال المؤمنين ، ويؤيده قراءة ابن مسعود : والله لا يضيع أجر المؤمنين. وعلى القراءة الثانية : الجملة عطف على فضل ، داخلة في جملة ما يستبشرون به. وقوله : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) صفة للمؤمنين ، أو بدل منهم ، أو : من الذين لم يلحقوا بهم ، أو : هو مبتدأ ، خبره : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) بجملته ، أو : منصوب على المدح ، وقد تقدم تفسير القرح. قوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) المراد بالناس هنا : نعيم بن مسعود كما سيأتي بيانه ، وجاز إطلاق لفظ الناس عليه : لكونه من جنسهم ؛ وقيل : المراد بالناس : ركب عبد القيس الذين مروا بأبي سفيان ؛ وقيل : هم المنافقون. والمراد بقوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) أبو سفيان وأصحابه ، والضمير في قوله : (فَزادَهُمْ) راجع إلى القول المدلول عليه ، بقال ، أو إلى المقول ، وهو (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) أو إلى القائل ؛ والمعنى : أنهم لم يفشلوا لما سمعوا ذلك ولا التفتوا إليه ، بل أخلصوا لله ، وازدادوا طمأنينة ويقينا. وفيه دليل : على أن الإيمان يزيد وينقص. قوله : (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) حسب : مصدر حسبه ، أي : كفاه ، وهو بمعنى الفاعل ، أي : محسب : بمعنى كافي. قال في الكشاف : والدليل على أنه بمعنى المحسب : أنك تقول : هذا رجل حسبك ، فتصف به النكرة ، لأن إضافته لكونه بمعنى اسم الفاعل غير حقيقية. انتهى. والوكيل : هو من توكل إليه الأمور ، أي : نعم الموكول إليه أمرنا ، أو الكافي ، أو الكافل والمخصوص بالمدح محذوف ، أي : نعم الوكيل الله سبحانه. قوله : (فَانْقَلَبُوا) هو معطوف على محذوف ، أي : فخرجوا إليهم فانقلبوا بنعمة ، هو متعلق بمحذوف وقع حالا. والتنوين للتعظيم ، أي : رجعوا متلبسين (بِنِعْمَةٍ) عظيمة وهي السلامة من عدوهم وعافية (وَفَضْلٍ) أي : أجر تفضل الله به عليهم ؛ وقيل : ربح في التجارة ؛ وقيل : النعمة خاصة بمنافع الدنيا ، والفضل بمنافع الآخرة ، وقد تقدّم تفسيرهما قريبا بما يناسب ذلك المقام ، لكون الكلام فيه مع الشهداء الذين قد صاروا في الدار الآخرة ، والكلام هنا مع الأحياء. قوله : (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) في محل نصب على الحال ، أي : سالمين عن سوء ، لم يصبهم قتل ، ولا جرح ، ولا ما يخافونه (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) في ما يأتون ويذرون ، ومن ذلك : خروجهم لهذه الغزوة (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه ، ومن تفضله عليهم :

٤٥٨

تثبيتهم ، وخروجهم للقاء عدوهم ، وإرشادهم إلى أن يقولوا هذه المقالة التي هي جالبة لكل خير ، ودافعة لكل شرّ. قوله : (إِنَّما ذلِكُمُ) أي : المثبط لكم أيها المؤمنون (الشَّيْطانُ) هو خبر اسم الإشارة ، ويجوز أن يكون الشيطان صفة لاسم الإشارة ، والخبر قوله : (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) ؛ فعلى الأول يكون قوله : (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) جملة مستأنفة ، أو حالية ، والظاهر أن المراد هنا : الشيطان نفسه ، باعتبار ما يصدر منه من الوسوسة المقتضية للتثبيط ؛ وقيل : المراد به : نعيم بن مسعود لما قال لهم تلك المقالة ؛ وقيل : أبو سفيان لما صدر منه الوعيد لهم ؛ والمعنى : أن الشيطان يخوف المؤمنين أولياءه ، وهم الكافرون ؛ وقيل : إن قوله : (أَوْلِياءَهُ) منصوب بنزع الخافض ، أي : يخوفكم بأوليائه أو من أوليائه ، قاله الفراء ، والزجاج ، وأبو علي الفارسي. ورده ابن الأنباري : بأن التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين فلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر. وعلى قول الفراء ومن معه : يكون مفعول يخوف محذوفا ، أي : يخوفكم. وعلى الأول : يكون المفعول الأوّل محذوفا ، والثاني مذكورا ، ويجوز أن يكون المراد : أن الشيطان يخوف أولياءه ، وهم القاعدون من المنافقين ، فلا حذف. قوله : (فَلا تَخافُوهُمْ) أي : أولياءه الذين يخوفكم بهم الشيطان ، أو : فلا تخافوا الناس المذكورين في قوله : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) نهاهم سبحانه عن أن يخافوهم ، فيجبنوا عن اللقاء ، ويفشلوا عن الخروج ، وأمرهم بأن يخافوه سبحانه فقال : (وَخافُونِ) فافعلوا ما آمركم به ، واتركوا ما أنهاكم عنه ، لأني الحقيق بالخوف مني ، والمراقبة لأمري ونهيي ، لكون الخير والشرّ بيدي ، وقيده بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) لأن الإيمان يقتضي ذلك.

وقد أخرج الحاكم ، وصححه عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) في حمزة وأصحابه. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد عن أبي الضحى : أنها نزلت في قتلى أحد وحمزة منهم. وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن جرير ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لمّا أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنّة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش ، فلمّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا» ، وفي لفظ : «قالوا من يبلّغ إخواننا أنّا أحياء في الجنّة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب ، فقال الله : أنا أبلّغهم عنكم ، فأنزل الله هؤلاء الآيات (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا) الآية وما بعدها». وأخرج الترمذي ، وحسنه ، وابن ماجة ، وابن خزيمة ، والطبراني ، والحاكم ، وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن جابر بن عبد الله : أن أباه سأل الله سبحانه أن يبلغ من وراءه ما هو فيه ، فنزلت هذه الآية ، وهو من قتلى أحد. وقد روي من وجوه كثيرة : أن سبب نزول الآية قتلى أحد. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن أنس : أن سبب نزول هذه الآية قتلى بئر معونة ، وعلى كل حال فالآية باعتبار عموم لفظها يدخل تحتها كل شهيد ، وقد ثبت في أحاديث كثيرة في الصحيح وغيره : أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر ، وثبت في فضل الشهداء ما يطول تعداده ، ويكثر إيراده ، مما هو معروف في كتب الحديث. وأخرج النسائي ، وابن

٤٥٩

ماجة ، وابن أبي حاتم ، والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس قال : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمدا قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم ، بئس ما صنعتم ، ارجعوا ، فسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فندب المسلمين ، فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد ، أو بئر أبي عتبة ، شكّ سفيان ، فقال المشركون : يرجع من قابل ، فرجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانت تعدّ غزوة ، فأنزل الله سبحانه : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) الآية. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما ، عن عائشة في قوله تعالى : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) الآية ، أنها قالت لعروة بن الزبير : يا ابن أختي! كان أبواك منهم ، الزبير وأبو بكر ، لما أصاب نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أصاب يوم أحد ؛ انصرف عنه المشركون ؛ خاف أن يرجعوا ، فقال : من يرجع في أثرهم؟ فانتدب منهم سبعون فيهم أبو بكر والزبير. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، والبيهقي في الدلائل عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحمراء الأسد ، وقد أجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه وقالوا : رجعنا قبل أن نستأصلهم ، لنكرّن على بقيتهم ، فبلغه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج في أصحابه يطلبهم ، فثنى ذلك أبا سفيان وأصحابه ، ومر ركب من عبد القيس ، فقال لهم أبو سفيان : بلغوا محمدا أنا قد أجمعنا الرجعة على أصحابه لنستأصلهم ؛ فلما مرّ الركب برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحمراء الأسد ؛ أخبروه بالذي قال أبو سفيان ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون معه : «حسبنا الله ونعم الوكيل» ، فأنزل الله في ذلك : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) الآيات. وأخرج موسى بن عقبة في مغازيه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن شهاب قال : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدرا. فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس ، فمشوا في الناس يخوفونهم ، وقالوا : إنا قد أخبرنا : أن قد جمعوا لكم من الناس مثل الليل ، يرجون أن يواقعوكم. والروايات في هذا الباب كثيرة ، قد اشتملت عليها كتب الحديث والسير. وأخرج ابن المنذر عن سعيد بن جبير قال : القرح : الجراحات. وأخرج ابن جرير عن السدي : أن أبا سفيان وأصحابه لقوا أعرابيا ، فجعلوا له جعلا على أن يخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أنهم قد جمعوا لهم ، فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فقال هو والصحابة : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، ثم رجعوا من حمراء الأسد ، فأنزل الله فيهم وفي الأعرابي (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) الآية. وأخرج ابن مردويه عن أبي رافع : أن هذا الأعرابي من خزاعة.

وقد ورد في فضل هذه الكلمة أعني : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، أحاديث منها : ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل» قال ابن كثير بعد إخراجه : هذا حديث غريب من هذا الوجه. وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حسبي الله ونعم الوكيل ، أمان كلّ خائف». وأخرج ابن أبي الدنيا في الذكر عن عائشة : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا اشتدّ غمّه مسح بيده على رأسه ولحيته ، ثم تنفّس الصعداء ، وقال : حسبي الله ونعم الوكيل». وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : حسبنا الله ونعم الوكيل ، قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد حين قالوا : (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ). وأخرج أحمد ، وأبو داود ، والنسائي عن عوف بن مالك أنه حدثهم «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى بين رجلين ، فقال المقضيّ عليه لما أدبر :

٤٦٠