فتح القدير - ج ١

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ١

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

أحسن لقوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ونحو ذلك ، فينبغي أن يقصر جوازه على المواطن التي تكون المصلحة في فعله أكثر من المفسدة ، أو على المواطن التي المجادلة فيها بالمحاسنة لا بالمخاشنة. قوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ) أي : كل شيء فيدخل في ذلك ما حاججوا به. وقد تقدّم تفسير الحنيف. قوله : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ) أي : أحقهم به وأخصهم للذين اتبعوا ملته واقتدوا بدينه (وَهذَا النَّبِيُ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أفرده بالذكر تعظيما وتشريفا ، وأولويته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإبراهيم من جهة كونه من ذريته ، ومن جهة موافقته لدينه في كثير من الشريعة المحمدية (وَالَّذِينَ آمَنُوا) من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : اجتمعت نصارى نجران ، وأحبار يهود عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا ، فنزل فيهم : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ) الآية. وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) يقول : فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) يقول : فيما لم تشهدوا ولم تروا ولم تعاينوا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في الآية قال : أما الذي لهم به علم فما حرّم عليهم وما أمروا به ، وأما الذي ليس لهم به علم فشأن إبراهيم. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : يعذر من حاجّ بعلم ولا يعذر من حاجّ بالجهل. وأخرج ابن جرير عنه عن الشعبي في قوله : (ما كانَ إِبْراهِيمُ) قال : أكذبهم الله وأدحض حجتهم. وأخرج أيضا عن الربيع مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حبان نحوه. وأخرج عبد بن حميد من طريق شهر بن حوشب : حدّثني ابن غنم أنه لما خرج أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاشي ، فذكر قصتهم معه ، وما قالوه له لما قال له عمرو بن العاص : إنهم يشتمون عيسى ، وهي قصة مشهورة ؛ ثم قال : فأنزلت ذلك اليوم خصومتهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو بالمدينة (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) الآية. وأخرج سعيد ابن منصور ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه عن ابن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن لكل نبي ولاة من النبيين ، وإن وليّي منهم أبي خليل ربي ثم قرأ : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ) الآية». وأخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن ميناء أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يا معشر قريش إنّ أولى النّاس بالنبيّ المتقون ، فكونوا أنتم سبيل ذلك ، فانظروا أن لا يلقاني النّاس يحملون الأعمال ، وتلقوني بالدنيا تحملونها ، فأصدّ عنكم بوجهي ، ثم قرأ عليهم : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : كل مؤمن وليّ إبراهيم ؛ ممن مضى ، وممن بقي.

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ

٤٠١

وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤))

الطائفة من أهل الكتاب هم : يهود بني النضير ، وقريظة ، وبني قينقاع ، حين دعوا جماعة من المسلمين إلى دينهم وسيأتي ، وقيل : هم جميع أهل الكتاب ، فتكون : من ، لبيان الجنس. وقوله : (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) جملة حالية ، للدلالة على ثبوت قدم المؤمنين في الإيمان ، فلا يعود وبال من أراد فتنتهم إلا عليه. والمراد بآيات الله : ما في كتبهم من دلائل نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) ما في كتبكم من ذلك ، أو تشهدون بمثلها من آيات الأنبياء الذين تقرّون بنبوّتهم ، أو المراد ، كتم كل الآيات عنادا وأنتم تعلمون أنها حق. ولبّس الحق بالباطل : خلطه بما يعتمدونه من التحريف (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية. قوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) هم رؤساؤهم وأشرافهم ، قالوا للسفلة من قومهم هذه المقالة. ووجه النهار : أوّله ، وسمي : وجها ، لأنه أحسنه ، قال :

وتضيء في وجه النّهار منيرة

كجمانة البحريّ سلّ نظامها

وهو منصوب على الظرف ، أمروهم بذلك لإدخال الشك على المؤمنين ، لكونهم يعتقدون أن أهل الكتاب لديهم علم ، فإذا كفروا بعد الإيمان وقع الريب لغيرهم ، واعتراه الشك ، وهم لا يعلمون أن الله قد ثبت قلوب المؤمنين ، ومكن أقدامهم ، فلا تزلزلهم أراجيف أعداء الله ، ولا تحركهم ريح المعاندين. قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) هذا من كلام اليهود بعضهم لبعض ، أي : قال ذلك الرؤساء للسفلة : لا تصدقوا تصديقا صحيحا إلا لمن تبع دينكم من أهل الملة التي أنتم عليها ، وأما غيرهم ممن قد أسلم فأظهروا لهم ذلك خداعا (وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) ليفتتنوا ، ويكون قوله : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) على هذا : متعلقا بمحذوف ، أي : فعلتم ذلك لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، يعني : أن ما بكم من الحسد والبغي ؛ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب ؛ دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم. وقوله : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) معطوف على : أن يؤتى ، أي : لا تؤمنوا إيمانا صحيحا ، وتقروا بما في صدوركم إقرارا صادقا لغير من تبع دينكم ، إن فعلتم ذلك ودبرتموه فإن المسلمين يحاجوكم يوم القيامة عند الله بالحق. وقوله : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) جملة اعتراضية. وقال الأخفش : المعنى : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ولا تصدقوا أن يحاجوكم ، فذهب إلى أنه معطوف ؛ وقيل : المراد : لا تؤمنوا وجه النهار وتكفروا آخره إلا لمن تبع دينكم ، أي : لمن دخل في الإسلام وكان من أهل دينكم قبل إسلامه ، لأن إسلام من كان منهم هو الذي قتلهم غيظا وأماتهم حسرة وأسفا ، ويكون قوله : (أَنْ يُؤْتى) على هذا : متعلقا بمحذوف كالأوّل ؛ وقيل : إن قوله : (أَنْ يُؤْتى) متعلق بقوله : (لا تُؤْمِنُوا) أي : لا تظهروا إيمانكم ب (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) أي : أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلا لأتباع دينكم ؛

٤٠٢

وقيل : المعنى : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، آن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، بالمدّ على الاستفهام ، تأكيدا للإنكار الذي قالوه أنه لا يؤتى أحد مثل ما أوتوه ، فتكون على هذا : أن وما بعدها : في محل رفع على الابتداء ، والخبر محذوف تقديره تصدّقون بذلك ، ويجوز أن تكون : في محل نصب على إضمار فعل تقديره : تقرون أن يؤتى ، وقد قرأ «آن يؤتى» بالمدّ ابن كثير وابن محيصن ، وحميد. وقال الخليل : أن في موضع خفض ، والخافض محذوف. وقال ابن جريج : المعنى : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى ؛ وقيل : المعنى : لا تخبروا بما في كتابكم من صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا من تبع دينكم ، لئلا يكون ذلك سببا لإيمان غيرهم بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال الفراء : يجوز أن يكون قد انقطع كلام اليهود عند قوله : (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) ثم قال الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) أي : إن البيان الحق بيان الله ، بين أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، على تقدير : لا ، كقوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (١) أي : لئلا تضلوا ، و «أو» في قوله : (أَوْ يُحاجُّوكُمْ) بمعنى : حتى ، وكذلك قال الكسائي ، وهي عند الأخفش : عاطفة ، كما تقدم. وقيل : إن هدى الله بدل من الهدى ، وأن يؤتى خبر إن ، على معنى : قل : إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم. وقد قيل : إن هذه الآية أعظم آي هذه السورة إشكالا وذلك صحيح. وقرأ الحسن : يؤتي ، بكسر التاء الفوقية. وقرأ سعيد بن جبير : إن يؤتى ، بكسر الهمزة على أنها النافية. وقوله : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) قيل : هي النبوّة ؛ وقيل : أعم منها ، وهو ردّ عليهم ودفع لما قالوه ودبروه.

وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سفيان قال : كل شيء في آل عمران من ذكر أهل الكتاب فهو في النصارى ، ويدفع هذا : أن كثيرا من خطابات أهل الكتاب المذكورة في هذه السورة لا يصحّ حملها على النصارى ألبتة ، ومن ذلك هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها ، فإن الطائفة التي ودّت إضلال المسلمين وكذلك الطائفة القائلة : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) وهي من اليهود خاصة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) قال : تشهدون أن نعت نبيّ الله محمد في كتابكم ، ثم تكفرون به ، وتنكرونه ، ولا تؤمنون به ، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل : النبيّ الأمّي. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الربيع مثله. وأخرجا أيضا عن السدي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن جريج : (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) على أن الدين عند الله الإسلام ليس لله دين غيره. وأخرجا عن الربيع في قوله : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) يقول : لم تخلطون اليهودية والنصرانية بالإسلام ، وقد علمتم أن دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره : الإسلام (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَ) يقول : تكتمون شأن محمد ، وأنتم تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة مثله. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن الصيف ، وعديّ ابن زيد ، والحارث بن عوف بعضهم لبعض : تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ، ونكفر به عشية ، حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع ، فيرجعون عن دينهم ، فأنزل الله فيهم : (يا أَهْلَ الْكِتابِ

__________________

(١). النساء : ١٧٦.

٤٠٣

لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) إلى قوله : (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة من طريق أبي ظبيان عن ابن عباس في قوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ) الآية ، قال : كانوا يكونون معهم أول النهار ، ويجالسونهم ، ويكلمونهم ، فإذا أمسوا وحضرت الصلاة كفروا به وتركوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة في قوله : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) قال : هذا قول بعضهم لبعض. وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله. وأخرج أيضا عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) حسدا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم ، وإرادة أن يتابعوا على دينهم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي مالك وسعيد بن جبير : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) قال : أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي قال الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) يا أمة محمد (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) يقول اليهود : فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة ، حتى أنزل علينا المنّ والسلوى ، فإن الذي أعطيتكم أفضل فقولوا : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) يقول : لما أنزل الله كتابا مثل كتابكم ، وبعث نبيا كنبيكم حسدتموه على ذلك (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ). وأخرج ابن جرير عن الربيع مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) يقول : هذا الأمر الذي أنتم عليه (مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) قال : قال بعضهم لبعض : لا تخبروهم بما بين الله لكم في كتابه (لِيُحَاجُّوكُمْ) قال : ليخاصموكم (بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) فتكون لهم حجة عليكم (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) قال : الإسلام (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) قال : القرآن والإسلام. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد : (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) قال : النبوة. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : رحمته الإسلام يختص بها من يشاء.

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧))

هذا شروع في بيان خيانة اليهود في المال بعد بيان خيانتهم في الدين ، والجار والمجرور في قوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) : في محل رفع على الابتداء ، على ما مرّ في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) (١) وقد تقدم تفسير القنطار. وقوله : (تَأْمَنْهُ) هذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن وثاب ، والأشهب العقيلي : (تيمنه) بكسر

__________________

(١). البقرة : ٨.

٤٠٤

التاء الفوقية على لغة بكر وتميم ، ومثله : قراءة من قرأ : نستعين بكسر النون. وقرأ نافع والكسائي : (يُؤَدِّهِ) بكسر الهاء في الدرج. قال أبو عبيد : واتفق أبو عمرو ، والأعمش ، وحمزة ، وعاصم في رواية أبي بكر : على إسكان الهاء. قال النحاس : إسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين ، وبعضهم لا يجيزه ألبتة ، ويرى أنه غلط من قرأ به ، ويوهم أن الجزم يقع على الهاء وأبو عمرو أجلّ من أن يجوز عليه شيء من هذا ، والصحيح عنه : أنه كان يكسر الهاء. وقال الفراء : مذهب بعض العرب يسكنون الهاء إذا تحرك ما قبلها ، فيقولون : ضربته ضربا شديدا ، كما يسكنون ميم أنتم وقمتم ، وأنشد :

لمّا رأى أن لا دعه ولا شبع

مال إلى أرطاة (١) حقف فاضطجع

وقرأ أبو المنذر سلام ، والزهري : يؤده بضم الهاء بغير واو. وقرأ قتادة وحمزة ومجاهد : يؤدّ هو بواو في الإدراج ، ومعنى الآية : أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدي أمانته وإن كانت كثيرة ، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة ، ومن كان أمينا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى ، ومن كان خائنا في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى. وقوله : (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) استثناء مفرغ ، أي : لا يؤده إليك في حال من الأحوال إلا ما دمت عليه قائما مطالبا له ، مضيقا عليه ، متقاضيا لردّه ، والإشارة بقوله : ذلك ، إلى ترك الأداء المدلول عليه بقوله : (لا يُؤَدِّهِ). والأميون : هم العرب الذين ليسوا أهل كتاب ، أي : ليس علينا في ظلمهم حرج لمخالفتهم لنا في ديننا ، وادّعوا ـ لعنهم الله ـ أن ذلك في كتابهم ، فردّ الله سبحانه عليهم بقوله : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ـ بَلى) أي : بلى عليهم سبيل لكذبهم ، واستحلالهم أموال العرب ، فقوله : (بَلى) إثبات لما نفوه من السبيل. قال الزجاج : تمّ الكلام بقوله : (بَلى) ثم قال : (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى) وهذه جملة مستأنفة : أي : من أوفى بعهده واتقى فليس من الكاذبين. أو فإن الله يحبه ، والضمير في قوله : (بِعَهْدِهِ) راجع إلى : من ، أو إلى : الله تعالى ، وعموم المتقين قائم مقام العائد إلى : من ، أي : فإن الله يحبه. قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ) أي : يستبدلون ، كما تقدّم تحقيقه غير مرة. وعهد الله : هو ما عاهدوه عليه من الإيمان بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأيمان : هي التي كانوا يحلفون أنهم يؤمنون به وينصرونه ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية : (أُولئِكَ) أي : الموصوفون بهذه الصفة (لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ) أي : لا نصيب (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) بشيء أصلا ، كما يفيده حذف المتعلق من التعميم ، أو لا يكلمهم بما يسرهم (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) نظر رحمة ، بل يسخط عليهم ، ويعذبهم بذنوبهم ، كما يفيده قوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وقد أخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عن عكرمة في قوله : (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) قال : هذا من النصارى (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) قال : هذا من اليهود (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) قال : إلا ما طلبته واتبعته. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة في قوله : (ذلِكَ

__________________

(١). الأرطاة : واحدة الأرط ، وهو شجر من شجر الرمل ، والحقف : بالكسر ، ما اعوجّ من الرمل.

٤٠٥

بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قال : قالت اليهود : ليس علينا فيما أصبنا من مال العرب سبيل. وأخرج ابن جرير عن السدّي نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كذب أعداء الله ، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ هاتين ، إلا الأمانة فإنها مؤدّاة إلى البرّ والفاجر». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن صعصعة : أنه سأل ابن عباس فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ، قال ابن عباس : فتقولون ماذا؟ قال : نقول ليس علينا في ذلك من بأس ، قال : هذا كما قال أهل الكتاب : (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم إلا بطيب نفوسهم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى) يقول : اتقى الشرك (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) يقول : الذين يتقون الشرك. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وأهل السنن ، وغيرهم عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان». فقال الأشعث بن قيس : فيّ والله كان ذلك ، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني ، فقدّمته إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألك بينة؟ قلت لا ، قال لليهودي : احلف ، فقلت : يا رسول الله! إذن يحلف فيذهب مالي ، فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) إلى آخر الآية». وقد روي : أن سبب نزول الآية : أن رجلا كان يحلف بالسوق : لقد أعطي بسلعته ما لم يعط بها. وأخرجه البخاري وغيره. وروي أن سبب نزولها : مخاصمة كانت بين الأشعث وامرئ القيس ورجل من حضرموت. وأخرجه النسائي وغيره.

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨))

أي : طائفة من اليهود يلوون ، أي : يحرّفون ويعدلون به عن القصد ، وأصل الليّ : الميل ، يقول لوى برأسه : إذا أماله. وقرئ : يلوّون بالتشديد ، ويلون بقلب الواو همزة ، ثم تخفيفها بالحذف ، والضمير في قوله : (لِتَحْسَبُوهُ) يعود إلى ما دل عليه (يَلْوُونَ) وهو المحرف الذي جاءوا به. قوله : (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) جملة حالية ، وكذلك قوله : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وكذلك قوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أي : أنهم كاذبون مفترون.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ) قال : هم اليهود ، كانوا يزيدون في الكتاب ما لم ينزل الله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : يحرّفونه.

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ

٤٠٦

وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠))

أي : ما كان ينبغي ولا يستقيم لبشر أن يقول هذه المقالة وهو متصف بتلك الصفة. وفيه بيان من الله سبحانه لعباده : أن النصارى افتروا على عيسى عليه‌السلام ما لم يصح عنه ، ولا ينبغي أن يقوله. والحكم : الفهم والعلم. قوله : (وَلكِنْ كُونُوا) أي : ولكن يقول النبي : كونوا ربانيين ، والرباني : منسوب إلى الرب ، بزيادة الألف والنون للمبالغة ، كما يقال لعظيم اللحية : لحياني ، ولعظيم الجمة : جماني ، ولغليظ الرقبة : رقباني. قيل : الرباني : الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، فكأنه يقتدي بالربّ سبحانه في تيسير الأمور. وقال المبرد : الربانيون : أرباب العلم ، واحدهم رباني ، من قوله : ربه ، يربه ، فهو ربان : إذا دبره وأصلحه ، والياء للنسب ، فمعنى الرباني : العالم بدين الربّ ، القويّ التمسك بطاعة الله ؛ وقيل : العالم الحكيم. قوله : (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ) أي : بسبب كونكم عالمين ، أي : كونوا ربانيين بهذا السبب ، فإن حصول العلم للإنسان والدراسة له يتسبب عنهما الربانية التي هي التعليم للعلم ، وقوة التمسك بطاعة الله. وقرأ ابن عباس وأهل الكوفة : «بما كنتم تعلّمون» بالتشديد. وقرأ أبو عمرو وأهل المدينة بالتخفيف ، واختار القراءة بالتخفيف ، واختار القراءة الأولى أبو عبيد. قال : لأنها لجمع المعنيين. قال مكي : التشديد أبلغ لأن العالم قد يكون عالما غير معلم ، فالتشديد يدل على العلم والتعليم ، والتخفيف إنما يدل على العلم فقط. واختار القراءة الثانية أبو حاتم. قال أبو عمرو : وتصديقها : تدرسون بالتخفيف دون التشديد. انتهى. والحاصل : أن من قرأ بالتشديد لزمه أن يحمل الرباني على أمر زائد على العلم والتعليم ، وهو أن يكون مع ذلك مخلصا أو حكيما أو حليما حتى تظهر السببية ؛ ومن قرأ بالتخفيف جاز له أن يحمل الرباني على العالم الذي يعلم الناس ، فيكون المعنى : كونوا معلمين بسبب كونكم علماء ، وبسبب كونكم تدرسون العلم. وفي هذه الآية أعظم باعث لمن علم أن يعمل ، وإن من أعظم العمل بالعلم تعليمه ، والإخلاص لله سبحانه. قوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) بالنصب عطفا على (ثُمَّ يَقُولَ وَلا) مزيدة لتأكيد النفي ، أي : ليس له أن يأمر بعبادة نفسه ، ولا يأمر باتخاذ الملائكة والنبيين أربابا ، بل ينتهي عنه ، ويجوز عطفه على أن يؤتيه ، أي : ما كان لبشر أن يأمركم بأن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ؛ وبالنصب قرأ ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، وقرأ الباقون : بالرفع على الاستئناف والقطع من الكلام الأوّل ، أي : ولا يأمركم الله أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ، ويؤيده أن في مصحف ابن مسعود : ولن يأمركم. والهمز في قوله : (أَيَأْمُرُكُمْ) لإنكار ما نفي عن البشر. وقوله : (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) استدل به من قال إن سبب نزول الآية استئذان من استأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من المسلمين في أن يسجدوا له.

وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد! أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «معاذ الله أن نعبد غير الله ، أو نأمر بعبادة غيره ، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ، فأنزل الله في ذلك :

٤٠٧

(ما كانَ لِبَشَرٍ) الآية». وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال : بلغني أن رجلا قال : يا رسول الله! نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال : «لا ، ولكن أكرموا نبيّكم ، واعرفوا الحقّ لأهله ، فإنّه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، فأنزل الله : (ما كانَ لِبَشَرٍ) الآية». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (رَبَّانِيِّينَ) قال : فقهاء ، علماء. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : حكماء ، علماء ، حلماء. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عنه قال : علماء ، فقهاء. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود قال : حكماء ، علماء. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي رزين في قوله : (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) قال : مذاكرة الفقه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج في قوله : (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا) قال : ولا يأمرهم النبيّ.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢))

قد اختلف في تفسير قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) فقال سعيد بن جبير ، وقتادة ، وطاوس ، والحسن ، والسدّي : إنه أخذ الله ميثاق الأنبياء أن يصدّق بعضهم بعضا بالإيمان ، ويأمر بعضهم بعضا بذلك ، فهذا معنى النصرة له والإيمان به ، وهو ظاهر الآية ، فحاصله : أن الله أخذ ميثاق الأول من الأنبياء أن يؤمن بما جاء به الآخر وينصره ، وقال الكسائي : يجوز أن يكون معنى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) بمعنى : وإذ أخذ الله ميثاق الذين مع النبيين ، ويؤيده قراءة ابن مسعود : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وقيل : في الكلام حذف. والمعنى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتعلمن الناس لما جاءكم من كتاب وحكمة ، ولتأخذن على الناس أن يؤمنوا ، ودلّ على هذا الحذف قوله : (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) وما في قوله : (لَما آتَيْتُكُمْ) بمعنى الذي. قال سيبويه : سألت الخليل عن قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ) فقال ما بمعني الذي. قال النحاس : التقدير في قول الخليل : الذي آتيتكموه ، ثم حذفت الهاء لطول الاسم ، واللام لام الابتداء ، بهذا قال الأخفش ، وتكون : ما ، في محل رفع على الابتداء ، وخبرها : من كتاب وحكمة. وقوله : (ثُمَّ جاءَكُمْ) وما بعده جملة معطوفة على الصلة ، والعائد محذوف ، أي : مصدّق به. وقال المبرد والزجاج والكسائي : ما شرطية دخلت عليها لام التحقيق ، كما تدخل على إن ، و (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) جواب القسم الذي هو أخذ الميثاق ، إذ هو بمنزلة الاستحلاف كما تقول : أخذت ميثاقك لتفعلنّ كذا ، وهو سادّ مسدّ الجزاء. وقال الكسائي : إن الجزاء قوله : (فَمَنْ تَوَلَّى). وقال في الكشاف : إن اللام في قوله : (لَما آتَيْتُكُمْ) لام التوطئة واللام في قوله : (لَتُؤْمِنُنَ) جواب القسم ، وما : يحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط ، ولتؤمنن سادّ جواب القسم والشرط جميعا ، وأن تكون موصولة بمعنى : للذي آتيتكموه لتؤمنن به. انتهى وقرأ حمزة : (لَما آتَيْتُكُمْ)

٤٠٨

بكسر اللام ، وما بمعنى الذي ، وهي معلقة بأخذ. وقرأ أهل المدينة : آتيناكم على التعظيم. وقرأ الباقون : (آتَيْتُكُمْ) على التوحيد ؛ وقيل : إن ما في قراءة من قرأ بكسر اللام : مصدرية. ومعناه : لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة ، ثم لمجيء رسول الله مصدق لما معكم ، واللام لام التعليل : أي لأجل ذلك أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتؤمنن به. قوله : (أَقْرَرْتُمْ) هو من الإقرار. والإصر في اللغة : الثقل ، سمّي العهد إصرا لما فيه من التشديد. والمعنى : وأخذتم على ذلك عهدي. قوله : (قالُوا أَقْرَرْنا) جملة استئنافية كأنه قيل : ماذا قالوا عند ذلك؟ فقيل : قالوا : أقررنا ، وإنما لم يذكر أحدهم الإصر اكتفاء بذلك. قوله : (قالَ فَاشْهَدُوا) أي : قال الله سبحانه فاشهدوا ، أي : ليشهد بعضهم على بعض (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) أي : وأنا على إقراركم وشهادة بعضكم على بعض من الشاهدين. قوله : (فَمَنْ تَوَلَّى) أي : أعرض عما ذكر بعد ذلك الميثاق (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أي : الخارجون عن الطاعة.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : إن أصحاب عبد الله يقرءون : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لما آتيتكم من كتاب وحكمة ونحن نقرأ : ميثاق النبيين ، فقال ابن عباس : إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن طاوس في الآية ، قال : (أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) أن يصدق بعضهم بعضا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) قال : هي خطأ من الكتّاب ، وهي في قراءة ابن مسعود (مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وأخرج ابن جرير عن عليّ قال : لم يبعث الله نبيا آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد : لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرنه ، ويأمره فيأخذ العهد على قومه ، ثم تلا : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن السدي في الآية نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه في قوله : (إِصْرِي) قال : عهدي. وأخرج ابن جرير عن عليّ في قوله : (قالَ فَاشْهَدُوا) يقول : فاشهدوا على أممكم بذلك (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) عليكم وعليهم (فَمَنْ تَوَلَّى) عنك يا محمد بعد هذا العهد من جميع الأمم (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) هم العاصون في الكفر.

(أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥))

قوله : (أَفَغَيْرَ) عطف على مقدّر ، أي : أتتولون فتبغون غير دين الله ، وتقديم المفعول : لأنه المقصود بالإنكار. وقرأ أبو عمرو وحده (يَبْغُونَ) بالتحتية وترجعون بالفوقية ، قال : لأن الأوّل خاص والثاني عام ، ففرّق بينهما لافتراقهما في المعنى. وقرأ حفص بالتحتية في الموضعين. وقرأ الباقون : بالفوقية

٤٠٩

فيهما ، وانتصب : طوعا وكرها ، على الحال ، أي : طائعين ومكرهين. والطوع : الانقياد والاتباع بسهولة ، والكره : ما فيه مشقة ، وهو من أسلم مخافة القتل ، وإسلامه استسلام منه. قوله : (آمَنَّا) إخبار منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نفسه وعن أمته (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) كما فرّقت اليهود والنصارى ، فآمنوا ببعض ، وكفروا ببعض. وقد تقدّم تفسير هذه الآية. (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) أي : منقادون مخلصون. قوله : (دِيناً) مفعول للفعل ، أي : يبتغ دينا حال كونه غير الإسلام ، ويجوز أن ينتصب : غير الإسلام ، على أنه مفعول الفعل ، ودينا : إما تمييز ، أو حال ، إذا أوّل بالمشتق ، أو بدل من : غير. قوله : (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) إما في محل نصب على الحال ، أو جملة مستأنفة ، أي : من الواقعين في الخسران يوم القيامة.

وقد أخرج الطبراني بسند ضعيف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال : أما من في السموات : فالملائكة ، وأما من في الأرض : فمن ولد على الإسلام ، وأما كرها : فمن أتي به من سبايا الأمم في السلاسل والأغلال يقادون إلى الجنة وهم كارهون. وأخرج الديلمي عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الآية : «الملائكة أطاعوه في السّماء ، والأنصار ، وعبد القيس أطاعوه في الأرض». وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية : (أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حين أخذ عليهم الميثاق. وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَلَهُ أَسْلَمَ) قال : المعرفة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : أما المؤمن : فأسلم طائعا ، فنفعه ذلك وقبل منه ، وأما الكافر : فأسلم حين رأى بأس الله ، فلم ينفعه ذلك ، ولم يقبل منه (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا). وأخرج الطبراني في الأوسط عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ساء خلقه من الرقيق والدوابّ والصبيان فاقرؤوا في أذنه : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ)». وأخرج ابن السني في عمل اليوم والليلة عن يونس بن عبيد قال : ليس رجل يكون على دابة صعبة فيقرأ في أذنها : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) الآية ، إلا ذلت بإذن الله عزوجل. وأخرج أحمد ، والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصّلاة فتقول : يا ربّ! أنا الصّلاة ، فيقول : إنك على خير ، وتجيء الصّدقة فتقول : يا ربّ! أنا الصدقة ، فيقول : إنك على خير ، ويجيء الصّيام فيقول : أنا الصيام ، فيقول : إنّك على خير ، ثم تجيء الأعمال ، كل ذلك يقول الله : إنك على خير ، ثم يجيء الإسلام فيقول : يا ربّ! أنت السّلام وأنا الإسلام ، فيقول : إنك على خير ، بك اليوم آخذ وبك أعطي ، قال الله تعالى في كتابه : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)».

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ

٤١٠

(٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))

قوله : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) هذا الاستفهام معناه : الجحد ، أي : لا يهدي الله ، ونظيره : قوله تعالى : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ) أي : لا عهد لهم ، ومثله قول الشاعر :

كيف نومي على الفراش ولمّا

تشمل الشّام (١) غارة شعواء

أي : لا نوم لي. ومعنى الآية : لا يهدي الله قوما إلى الحق كفروا بعد إيمانهم ، وبعد ما شهدوا أن الرسول حق ، وبعد ما جاءتهم البينات من كتاب الله سبحانه ومعجزات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) جملة حالية ، أي : كيف يهدي المرتدّين ، والحال أنه لا يهدي من حصل منهم مجرد الظلم لأنفسهم ، ومنهم الباقون على الكفر؟ ولا ريب أن ذنب المرتدّ أشدّ من ذنب من هو باق على الكفر ، لأن المرتدّ قد عرف الحق ثم أعرض عنادا وتمرّدا. قوله : (أُولئِكَ) إشارة إلى القوم المتصفين بتلك الصفات السابقة ، وهو : مبتدأ ، خبره : الجملة التي بعده. وقد تقدّم تفسير اللعن. وقوله : (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) معناه : يؤخرون ويمهلون. ثم استثنى التائبين ، فقال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) ، أي : من بعد الارتداد (وَأَصْلَحُوا) بالإسلام ما كان قد أفسدوه من دينهم بالردّة. وفيه دليل : على قبول توبة المرتد إذا رجع إلى الإسلام ، مخلصا ، ولا خلاف في ذلك فيما أحفظ. قوله : (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً). قال قتادة وعطاء الخراساني والحسن : نزلت في اليهود والنصارى ، كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد إيمانهم بنعته وصفته (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بإقامتهم على كفرهم ؛ وقيل : ازدادوا كفرا بالذنوب التي اكتسبوها ، ورجحه ابن جرير الطبري ، وجعلها في اليهود خاصة. وقد استشكل جماعة من المفسرين قوله تعالى : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) (٢) مع كون التوبة مقبولة في الآية الأولى وكما في قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) (٣) غير ذلك ؛ فقيل : المعنى : لن تقبل توبتهم عند الموت. قال النحاس : وهذا قول حسن ، كما قال تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ) (٤) وبه قال الحسن ، وقتادة ، وعطاء ، ومنه الحديث : «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» ؛ وقيل : المعنى : لن تقبل توبتهم التي كانوا عليها قبل أن يكفروا ، لأن الكفر أحبطها ، وقيل : لن تقبل توبتهم إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر ، والأولى : أن يحمل عدم قبول توبتهم في هذه الآية على من مات كافرا غير تائب ، فكأنه عبر عن الموت على الكفر بعدم قبول التوبة ، وتكون الآية المذكورة بعد هذه الآية ، وهي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) في حكم البيان لها. قوله : (مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) الملء بالكسر : مقدار ما يملأ الشيء ، والملء بالفتح : مصدر ملأت الشيء ، وذهبا : تمييز ، قاله الفراء وغيره. وقال الكسائي : نصب

__________________

(١). في القرطبي (٤ / ١٢٩) : يشمل القوم.

(٢). آل عمران : ٩٠.

(٣). الشورى : ٢٥.

(٤). النساء : ١٨.

٤١١

على إضمار : من ذهب. كقوله : (أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً) (١) أي : من صيام. وقرأ الأعمش : ذهب بالرفع على أنه بدل من : ملء ، والواو في قوله : (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) قيل : هي مقحمة زائدة ، والمعنى : لو افتدى به ؛ وقيل : فيه حمل على الغنى كأنه قيل فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا ؛ وقيل : هو عطف على مقدر ؛ أي : لن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا لو تصدق به في الدنيا ، ولو افتدى به من العذاب ، أي : بمثله.

وقد أخرج النسائي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالمشركين ، ثم ندم فأرسل إلى قومه : أرسلوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هل لي من توبة؟ فنزلت : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) إلى قوله : (غَفُورٌ رَحِيمٌ) فأرسل إليه قومه فأسلم. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر عن مجاهد نحوه ، وقال : هو الحارث بن سويد. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن السدي نحوه ، وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر عن ابن عباس نحوه أيضا. وقد روي عن جماعة نحوه أيضا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) قال : هم أهل الكتاب من اليهود ، عرفوا محمدا ، ثم كفروا به. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن الحسن قال : هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وذكر نحو ما تقدّم عنه. وأخرج البزار عن ابن عباس : أن قوما أسلموا ، ثم ارتدوا ، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) قال السيوطي : هذا خطأ من البزار. وأخرج ابن جرير عن الحسن في الآية قال : اليهود والنصارى لن تقبل توبتهم عند الموت. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هم اليهود كفروا بالإنجيل وعيسى ، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في الآية قال : إنما نزلت في اليهود والنصارى ، كفروا بعد إيمانهم ، ثم ازدادوا كفرا بذنوب أذنبوها ، ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم ، ولو كانوا على الهدى قبلت توبتهم ، ولكنهم على الضلالة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد في قوله : (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) قال : نموا على كفرهم. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله : (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) قال : ماتوا وهم كفار (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) قال : إذا تاب عند موته لم تقبل توبته. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) قال : تابوا من الذنوب ؛ ولم يتوبوا من الأصل. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن الحسن في قوله : (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) قال : هو كل كافر. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أنس ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له أرأيت لو كان ملء الأرض ذهبا ، أكنت مفتديا به؟ فيقول : نعم ، فيقال له : لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك ، فذلك قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) الآية.

__________________

(١). المائدة : ٩٥.

٤١٢

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))

هذا كلام مستأنف ، خطاب للمؤمنين عقب ذكر ما لا ينفع الكفار. قوله : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) يقال : نالني من فلان معروف ينالني ، أي : وصل إليّ ، والنوال : العطاء ، من قولك : نولته تنويلا ، أعطيته. والبرّ : العمل الصالح ، وقال ابن مسعود ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وعمر بن ميمون ، والسدّي : هو الجنة ، فمعنى الآية : لن تنالوا العمل الصالح أو الجنة ، أي : تصلوا إلى ذلك ، وتبلغوا إليه حتى تنفقوا مما تحبون ، أي : حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها ، ومن تبعيضية ، ويؤيده قراءة ابن مسعود : حتّى تنفقوا بعض ما تحبّون وقيل : بيانية وما موصولة ، أو موصوفة ، والمراد : النفقة في سبيل الخير ، من صدقة ، أو غيرها من الطاعات ؛ وقيل المراد : الزكاة المفروضة. وقوله : (مِنْ شَيْءٍ) بيان لقوله : (ما تُنْفِقُوا) أي : ما تنفقوا من أي شيء سواء كان طيبا أو خبيثا (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) وما : شرطية جازمة. وقوله : (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) تعليل لجواب الشرط واقع موقعه.

وقد أخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أنس «أنّ أبا طلحة لما نزلت هذه الآية أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! إن أحبّ أموالي إليّ بيرحاء ، وإنها صدقة» الحديث. وقد روي بألفاظ. وأخرج عبد بن حميد ، والبزار عن ابن عمر قال : حضرتني هذه الآية : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فذكرت ما أعطاني الله ، فلم أجد شيئا أحبّ إلي من مرجانة ، جارية لي رومية ، فقلت : هي حرّة لوجه الله ، فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها ، فأنكحتها نافعا. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري : أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء ، فدعا بها عمر فقال : إن الله يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فأعتقها عمر. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد ابن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم : إنها لما نزلت الآية ، جاء زيد بن حارثة بفرس له يقال لها : سبل ، لم يكن له مال أحبّ إليه منها ، فقال : هي صدقة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن مسعود في قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) قال : الجنة. وأخرج ابن جرير عن عمرو بن ميمون والسدي مثله. وأخرج ابن المنذر عن مسروق مثله.

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥))

قوله : (كُلُّ الطَّعامِ) أي : المطعوم ، والحلّ : مصدر يستوي فيه المفرد والجمع والمذكر والمؤنث ، وهو الحلال ، وإسرائيل : هو يعقوب ، كما تقدم تحقيقه. ومعنى الآية : أن كل المطعومات كانت حلالا لبني يعقوب ، لم يحرّم عليهم شيء منها إلا ما حرم إسرائيل على نفسه. وسيأتي بيان ما هو الذي حرمه على نفسه ،

٤١٣

وهذا الاستثناء متصل من اسم كان. وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) متعلق بقوله : (كانَ حِلًّا) أي : أن كل المطعومات كانت حلالا (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي : كان ما عدا المستثنى حلالا لهم (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) مشتملة على تحريم ما حرمه عليهم لظلمهم ، وفيه ردّ على اليهود لما أنكروا ما قصه الله سبحانه على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من أن سبب ما حرمه الله عليهم هو ظلمهم وبغيهم ، كما في قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (١). الآية. وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) (٢) إلى قوله : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) (٣) وقالوا : إنها محرّمة على من قبلهم من الأنبياء ، يريدون بذلك تكذيب ما قصة الله على نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتابه العزيز ، ثم أمره سبحانه بأن يحاجهم بكتابهم ، ويجعل بينه وبينهم حكما ما أنزله عليهم ، لا ما أنزل عليه فقال : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) حتى تعلموا صدق ما قصه الله في القرآن ، من أنه لم يحرّم على بني إسرائيل شيء من قبل نزول التوراة إلا ما حرمه يعقوب على نفسه. وفي هذا من الإنصاف للخصوم ما لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه ، ثم قال : (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي : من بعد إحضار التوراة وتلاوتها (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي : المفرطون في الظلم المتبالغون فيه ، فإنه لا أظلم ممن حوكم إلى كتابه وما يعتقده شرعا صحيحا ، ثم جادل من بعد ذلك مفتريا على الله الكذب ؛ ثم لما كان ما يفترونه من الكذب بعد قيام الحجة عليهم بكتابهم باطلا مدفوعا ، وكان ما قصه الله سبحانه في القرآن وصدقته التوراة صحيحا صادقا ، وكان ثبوت هذا الصدق بالبرهان الذي لا يستطيع الخصم دفعه ، أمر الله سبحانه نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ينادي بصدق الله بعد أن سجل عليهم الكذب ، فقال : (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي : ملة الإسلام التي أنا عليها ، وقد تقدم بيان معنى الحنيف ، وكأنه قال لهم : إذا تبين لكم صدقي ، وصدق ما جئت به ، فادخلوا في ديني ، فإن من جملة ما أنزله الله عليّ : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (٤).

وقد أخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس «أنّ اليهود قالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فأخبرنا ما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال : كان يسكن البدو ، فاشتكى عرق النّسا ، فلم يجد شيئا يلائمه إلا تحريم الإبل وألبانها ، فلذلك حرّمها ، قالوا : صدقت» وذكر الحديث. وأخرجه أيضا أحمد ، والنسائي. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم ، وصححه عن ابن عباس في الآية قال : العرق أجده عرق النساء ، فكان يبيت له زق ، يعني : صياح ، فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل لحما فيه عرق ، فحرمته اليهود. وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس من قوله : ما أخرجه الترمذي سابقا عنه مرفوعا. وأخرج ابن إسحاق ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس أنه كان يقول : الذي حرم إسرائيل على نفسه زائدتا الكبد ، والكليتان ، والشحم ، إلا ما كان على الظهر. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : قالت اليهود للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت التوراة بتحريم الذي حرّم إسرائيل ، فقال الله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وكذبوا ليس في التوراة.

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ

__________________

(١). النساء : ١٦٠.

(٢). الأنعام : ١٤٦.

(٣). الأنعام : ١٤٦.

(٤). آل عمران : ٨٥.

٤١٤

وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))

هذا شروع في بيان شيء آخر مما جادلت فيه اليهود بالباطل ، وذلك أنهم قالوا : إن بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة ، لكونه : مهاجر الأنبياء ، وفي الأرض المقدسة. فرد الله ذلك عليهم بقوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) الآية ، فقوله : (وُضِعَ) صفة لبيت ، وخبر إن : قوله : (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) فنبه تعالى بكونه : أول متعبد على أنه أفضل من غيره ، وقد اختلف في الباني في الابتداء : فقيل : الملائكة ، وقيل : آدم ، وقيل : إبراهيم ، ويجمع بين ذلك : بأول من بناه الملائكة ، جدده آدم ، ثم إبراهيم. وبكة : علم للبلد الحرام ، وكذا مكة ، وهما لغتان ، وقيل : إن بكة : اسم لموضع البيت ، ومكة : اسم للبلد الحرام ؛ وقيل : بكة : للمسجد ، ومكة : للحرم كله ؛ قيل : سميت بكة لازدحام الناس في الطواف ، يقال : بك القوم : ازدحموا ؛ وقيل : البك : دق العنق ، سميت بذلك لأنها كانت تدق أعناق الجبابرة. وأما تسميتها : بمكة ، فقيل : سميت بذلك : لقلة ما بها ؛ وقيل : لأنها تمك المخ من العظم ، بما ينال ساكنها من المشقة ، ومنه مككت العظم : إذا أخرجت ما فيه ، وأمكته : إذا امتصه ، وقيل : سميت بذلك : لأنها تمك من ظلم فيها ، أي : تهلكه. قوله : (مُبارَكاً) حال من الضمير في وضع ، أو من متعلق الظرف ، لأن التقدير : للذي استقر ببكة مباركا ، والبركة : كثرة الخير الحاصل لمن يستقر فيه أو يقصده ، أي : الثواب المتضاعف. والآيات البينات : الواضحات ، منها : الصفا والمروة ، ومنها : أثر القدم في الصخرة الصماء ، ومنها : أن الغيث إذا كان بناحية الركن اليماني كان الخصب في اليمن ، وإن كان بناحية الشامي كان الخصب بالشام ، وإذا عمّ البيت كان الخصب في جميع البلدان ، ومنها : انحراف الطيور عن أن تمر على هوائه في جميع الأزمان ، ومنها : هلاك من يقصده من الجبابرة وغير ذلك. وقوله : (مَقامُ إِبْراهِيمَ) بدل من آيات ، قاله محمد بن يزيد المبرد. وقال في الكشاف : إنه عطف بيان. وقال الأخفش : إنه مبتدأ ، وخبره : محذوف ، والتقدير : منها مقام إبراهيم ؛ وقيل : هو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هي مقام إبراهيم ، وقد استشكل صاحب الكشاف بيان الآيات ـ وهي جمع ـ : بالمقام ـ وهو فرد ـ وأجاب : بأن المقام جعل وحده بمنزلة آيات ، لقوّة شأنه ، أو : بأنه مشتمل على آيات. قال : ويجوز أن يراد (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) مقام إبراهيم ، وأمن من دخله ، لأن الاثنين نوع من الجمع. قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) جملة مستأنفة ، لبيان حكم من أحكام الحرم ، وهو : أن من دخله كان آمنا. وبه استدل من قال : إن من لجأ إلى الحرم وقد وجب عليه حدّ من الحدود فإنه لا يقام عليه الحدّ حتى يخرج منه ، وهو قول أبي حنيفة ومن تابعه ، وخالفه الجمهور ، فقالوا : تقام عليه الحدود في الحرم. وقد قال جماعة : إن الآية خبر في معنى الأمر ، أي : ومن دخله فأمنوه كقوله : (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ) (١) أي : لا ترفثوا ، ولا تفسقوا ، ولا تجادلوا. قوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) اللام في قوله : (لِلَّهِ) هي التي يقال لها : لام الإيجاب والإلزام ، ثم زاد هذا المعنى تأكيدا حرف (عَلَى) ، فإنه من أوضح الدلالات على الوجوب

__________________

(١). البقرة : ١٩٧.

٤١٥

عند العرب ، كما إذا قال القائل : لفلان عليّ كذا ، فذكر الله سبحانه الحج بأبلغ ما يدل على الوجوب ، تأكيدا لحقه وتعظيما لحرمته ، وهذا الخطاب شامل لجميع الناس لا يخرج عنه إلا من خصصه الدليل ، كالصبي والعبد. وقوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) في محل جرّ على أنه بدل بعض من الناس. وبه قال أكثر النحويين. وأجاز الكسائي : أن يكون في موضع رفع بحج. والتقدير : أن يحج البيت من استطاع إليه سبيلا ؛ وقيل : إن : من ، حرف شرط ، والجزاء محذوف ، أي : من استطاع إليه سبيلا فعليه الحج ، وقد اختلف أهل العلم في الاستطاعة ماذا هي؟ فقيل : الزاد والراحلة ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة ، وحكاه الترمذي عن أكثر أهل العلم ، وهو الحق. قال مالك : إن الرجل إذا وثق بقوّته لزمه الحج ، وإن لم يكن له زاد وراحلة ، إذا كان يقدر على التكسب ، وبه قال عبد الله بن الزبير ، والشعبي ، وعكرمة. وقال الضحاك : إن كان شابا قويا صحيحا وليس له مال فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه ، ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة دخولا أوليا : أن تكون الطريق إلى الحج آمنة ، بحيث يأمن الحاج على نفسه وماله الذي لا يجد زادا غيره ، أما لو كانت غير آمنة فلا استطاعة ، لأن الله سبحانه يقول : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) وهذا الخائف على نفسه أو ماله لم يستطع إليه سبيلا بلا شك ولا شبهة. وقد اختلف أهل العلم إذا كان في الطريق من الظلمة من يأخذ بعض الأموال على وجه لا يجحف بزاد الحاج ؛ فقال الشافعي : لا يعطي حبة ، ويسقط عنه فرض الحج ، ووافقه جماعة ، وخالفه آخرون. والظاهر : أن من تمكن من الزاد والراحلة ، وكانت الطريق آمنة ، بحيث يتمكن من مرورها ، ولو بمصانعة بعض الظلمة لدفع شيء من المال ، يتمكن منه الحاج ، ولا ينقص من زاده ولا يجحف به ، فالحج غير ساقط عنه ، بل واجب عليه ، لأنه قد استطاع السبيل بدفع شيء من المال ، ولكنه يكون هذا المال المدفوع في الطريق من جملة ما تتوقف عليه الاستطاعة ، فلو وجد الرجل زادا وراحلة ولم يجد ما يدفعه لمن يأخذ المكس في الطريق لم يجب عليه الحج لأنه لم يستطع إليه سبيلا ، وهذا لا بد منه ، ولا ينافي تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فإنه قد تعذر المرور في طريق الحج لمن وجد الزاد والراحلة إلا بذلك القدر الذي يأخذه المكاسون ، ولعل وجه قول الشافعي إنه سقط الحج : أن أخذ هذا المكس منكر ، فلا يجب على الحاج أن يدخل في منكر ، وأنه بذلك غير مستطيع. ومن جملة ما يدخل في الاستطاعة : أن يكون الحاج صحيح البدن على وجه يمكنه الركوب ، فلو كان زمنا بحيث لا يقدر على المشي ، ولا على الركوب ، فهذا وإن وجد الزاد والراحلة فهو لم يستطيع السبيل. قوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) قيل : إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج ، تأكيدا لوجوبه ، وتشديدا على تاركه ؛ وقيل : المعنى : ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجبا ، وقيل : إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر ، وفي قوله : (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) من الدلالة على مقت تارك الحج مع الاستطاعة ، وخذلانه ، وبعده من الله سبحانه ، ما يتعاظمه سامعه ، ويرجف له قلبه ، فإن الله سبحانه إنما شرع لعباده هذه الشرائع لنفعهم ومصلحتهم ، وهو تعالى شأنه ، وتقدس سلطانه ، غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع.

وقد أخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) الآية ، قال :

٤١٦

كانت البيوت قبله ، ولكنه كان أوّل بيت وضع لعبادة الله. وأخرج البخاري ، ومسلم ، وغيرهما عن أبي ذر قال : «قلت يا رسول الله! أيّ مسجد وضع أوّل؟ قال : المسجد الحرام ، قلت : ثم أيّ؟ قال : المسجد الأقصى ، قلت : كم بينهما؟ قال : أربعون سنة». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر ، قال : «خلق الله البيت قبل الأرض بألفي سنة ، وكان إذ كان عرشه على الماء زبدة بيضاء ، وكانت الأرض تحته كأنّها حشفة دحيت الأرض من تحته». وأخرج نحوه ابن المنذر عن أبي هريرة. وأخرج ابن المنذر ، والأزرقي عن ابن جريج قال : بلغنا أن اليهود قالت : بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ، ولأنه في الأرض المقدسة ، فقال المسلمون : بل الكعبة أعظم ، فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) الآية إلى قوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) وليس ذلك في بيت المقدس (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) وليس ذلك في بيت المقدس (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) وليس ذلك في بيت المقدس. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عبد الله بن الزبير قال : إنما سميت : بكة ، لأن الناس يجيئون إليها من كل جانب حجاجا. وروى سعيد بن منصور ، وابن جرير ، والبيهقي عن مجاهد : إنما سميت : بكة ، لأن الناس يتباكون فيها ، أي : يزدحمون. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان في قوله : (مُبارَكاً) قال : جعل فيه الخير والبركة : (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) يعني : بالهدى قبلتهم. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) فمنهن : مقام إبراهيم والمشعر. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن الحسن في قوله : (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) قال : مقام إبراهيم (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ). وأخرج الأزرقي عن زيد بن أسلم نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قال : كان هذا في الجاهلية ، كان الرجل لو جر كل جريرة على نفسه ، ثم لجأ إلى الحرم لم يتناول ولم يطلب ، فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله ، من سرق فيه قطع ، ومن زنى فيه أقيم عليه الحدّ ، ومن قتل فيه قتل. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، والأزرقي عن عمر بن الخطاب قال : لو وجدت فيه قاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قال : من عاذ بالبيت أعاذه البيت ، ولكن لا يؤوى ، ولا يطعم ، ولا يسقى ، فإذا خرج أخذ بذنبه. وقد روي عنه هذا المعنى من طرق. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عنه قال : لو وجدت قاتل أبي في الحرم لم أعرض له. وأخرج ابن جرير عن ابن عمر قال : لو وجدت قاتل أبي في الحرم ما هجته. وأخرج الشيخان ، وغيرهما عن أبي شريح العدوي قال : قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغد من يوم الفتح فقال : «إن مكة حرّمها الله ولم يحرّمها الناس ، فلا يحلّ لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخّص لقتال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقولوا : إنّ الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنّما أذن لي ساعة من نهار ثم عادت حرمتها كحرمتها أمس». وأخرج الدارقطني ، والحاكم ، وصححه عن أنس «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن قوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) فقيل : ما السبيل؟ قال : الزّاد والرّاحلة».

٤١٧

وأخرج الشافعي ، وعبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عدي ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن ابن عمر مرفوعا : أنه قام رجل فقال : ما السبيل؟ فقال : الزاد والراحلة. وأخرج الدارقطني ، والبيهقي في سننهما من طريق الحسن عن أمه عن عائشة قالت : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما السّبيل إلى الحجّ؟ قال : الزّاد والرّاحلة». وأخرج الدارقطني في سننه عن ابن مسعود مرفوعا مثله. وأخرج الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه مرفوعا مثله. وأخرج الدارقطني عن جابر مرفوعا مثله. وقد روي هذا الحديث من طرق أقلّ أحواله أن يكون حسنا لغيره ، فلا يضره ما وقع من الكلام على بعض طرقه كما هو معروف. وأخرج الدارقطني عن علي مرفوعا في الآية : «أنه سئل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : تجد ظهر بعير». وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير عن عمر بن الخطاب في قوله : (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) قال : الزاد والراحلة. وأخرجا عن ابن عباس مثله. وأخرجه عنه مرفوعا ابن ماجة ، والطبراني ، وابن مردويه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عنه قال : السبيل : أن يصح بدن العبد ، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يجحف به. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد عنه قال : (سَبِيلاً) من وجد إليه سعة ، ولم يحل بينه وبينه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن عبد الله بن الزبير قال : الاستطاعة : القوّة. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم عن النخعي قال : إن المحرم للمرأة من السبيل الذي قال الله. وقد ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : النهي للمرأة أن تسافر بغير ذي محرم. واختلفت الأحاديث في قدر المدة ؛ ففي لفظ ثلاثة أيام ، وفي لفظ يوم وليلة ، وفي لفظ بريد.

وقد وردت أحاديث في تشديد الوعيد على من ملك زادا وراحلة ولم يحج. فأخرج الترمذي ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ملك زادا وراحلة تبلّغه إلى بيت الله ولم يحجّ بيت الله فلا عليه بأن يموت يهوديا أو نصرانيا» وذلك بأن الله يقول : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ، وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ). وفي إسناده هلال الخراساني ، أو هاشم. قال البخاري : منكر الحديث. وقيل مجهول. وقال ابن عدي : هذا الحديث ليس بمحفوظ ، وفي إسناده أيضا الحارث الأعور وفيه ضعف. وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد في كتاب الإيمان ، وأبو يعلى ، والبيهقي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من مات ولم يحجّ حجة الإسلام لم يمنعه مرض حابس أو سلطان جائر أو حاجة ظاهرة فليمت على أيّ حال شاء يهوديا أو نصرانيا». وأخرج ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن سابط مرفوعا مرسلا مثله. وأخرج سعيد بن منصور ، قال السيوطي : بسند صحيح عن عمر بن الخطاب قال : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار ، فلينظروا كل من كان له جدة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين ما هم بمسلمين. وأخرج الإسماعيلي عنه يقول : «من أطاق الحجّ ، فسواء عليه يهوديا مات أو نصرانيا» قال ابن كثير بعد أن ساق إسناده : وهذا إسناد صحيح. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة عنه نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن عمر : «من مات وهو موسر ، ولم يحجّ ، جاء يوم القيامة وبين عينيه مكتوب كافر».

٤١٨

وأخرج سعيد بن منصور عنه «من وجد إلى الحجّ سبيلا سنة ثم سنة ثم سنة ، ثم مات ولم يحجّ ، لم يصلّ عليه ولا يدرى مات يهوديا أو نصرانيا». وأخرج سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب قال : لو ترك النّاس الحج لقاتلتهم عليه كما نقاتلهم على الصّلاة والزكاة. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) قال : من زعم أنه ليس بفرض عليه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس في الآية قال : من كفر بالحج فلم ير حجه برا ولا تركه مأثما. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه عن عكرمة قال : لما نزلت (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) قالت اليهود : فنحن مسلمون ، فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله فرض على المسلمين حجّ البيت ، فقالوا : لم يكتب علينا ، وأبوا أن يحجّوا ، قال الله (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن عكرمة نحوه. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن الضحاك قال : «لمّا نزلت آية الحج (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) الآية ، جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أهل الملل مشركي العرب والنصارى واليهود والمجوس والصابئين فقال : إن الله فرض عليكم الحج فحجوا البيت ، فلم يقبله إلا المسلمون ، وكفرت به خمس ملل ، قالوا : لا نؤمن به ، ولا نصلّي إليه ، ولا نستقبله ، فأنزل الله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ). وأخرج عبد ابن حميد ، والبيهقي في سننه عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن أبي داود نفيع قال : «قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) الآية فقام رجل من هذيل فقال : يا رسول الله! من تركه كفر؟ فقال : من تركه لا يخاف عقوبته ، ومن حجّ لا يرجو ثوابه فهو ذاك». وأخرج ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح في الآية قال : من كفر بالبيت. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قول الله : (مَنْ كَفَرَ) قال : من كفر بالله واليوم الآخر. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد مثله من قوله. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أنه سئل عن ذلك ، فقرأ : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) إلى قوله : (سَبِيلاً) ثم قال : (وَمَنْ كَفَرَ) بهذه الآيات. وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود في الآية قال : (وَمَنْ كَفَرَ) فلم يؤمن به : فهو الكافر.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣))

٤١٩

قوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) خطاب لليهود والنصارى ، والاستفهام في قوله : (لِمَ تَكْفُرُونَ) : للإنكار والتوبيخ. وقوله : (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) جملة حالية ، مؤكدة للتوبيخ والإنكار ، وهكذا المجيء بصيغة المبالغة في : شهيد ، يفيد مزيد التشديد والتهويل ، والاستفهام في قوله : (لِمَ تَصُدُّونَ) يفيد ما أفاده الاستفهام الأول. وقرأ الحسن : تصدون من أصد ، وهما لغتان : مثل : صد اللحم ، وأصد : إذا تغير وأنتن ، وسبيل الله : دينه الذي ارتضاه لعباده ، وهو دين الإسلام ، والعوج : الميل والزيغ ، يقال : عوج بالكسر : إذا كان في الدين والقول والعمل ، وبالفتح : في الأجسام كالجدار ونحوه ، روي ذلك عن أبي عبيدة ، وغيره ، ومحل قوله : (تَبْغُونَها عِوَجاً) النصب على الحال. والمعنى : تطلبون لها اعوجاجا ، وميلا عن القصد والاستقامة ، بإبهامكم على الناس بأنها كذلك ، تثقيفا لتحريفكم ، وتقويما لدعاويكم الباطلة : وقوله : (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) جملة حالية ، أي : كيف تطلبون ذلك بملة الإسلام والحال أنكم تشهدون أنها دين الله الذي لا يقبل غيره كما عرفتم ذلك من كتبكم المنزلة على أنبيائكم؟ قيل : إن في التوراة : أن دين الله الذي لا يقبل غيره الإسلام ، وأن فيه نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقيل : المراد (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) أي : عقلاء ؛ وقيل : المعنى وأنتم شهداء بين أهل دينكم ، مقبولون عندهم ، فكيف تأتون بالباطل الذي يخالف ما أنتم عليه بين أهل دينكم؟ ثم توعدهم سبحانه بقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ثم خاطب سبحانه المؤمنين محذرا لهم عن طاعة اليهود والنصارى ، مبينا لهم أن تلك الطاعة تفضي إلى أن يردونهم بعد إيمانهم كافرين ، وسيأتي بيان سبب نزول الآية. والاستفهام في قوله : (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) للإنكار ، أي : من أين يأتيكم ذلك ولديكم ما يمنع منه ويقطع أثره ، وهو تلاوة آيات الله عليكم وكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهركم؟ ومحل قوله : (وَأَنْتُمْ) وما بعده : النصب على الحال. ثم أرشدهم إلى الاعتصام بالله ، ليحصل لهم بذلك الهداية إلى الصراط المستقيم ، الذي هو الإسلام ، وفي وصف الصراط بالاستقامة ردّ على ما ادعوه من العوج. قال الزجاج : يجوز أن يكون هذا الخطاب لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان فيهم وهم يشاهدونه ، ويجوز أن يكون هذا الخطاب لجميع الأمة ، لأن آثاره وعلامته والقرآن الذي أوتيه فينا ، فكأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فينا وإن لم نشاهد. انتهى. ومعنى الاعتصام بالله : التمسك بدينه وطاعته ، وقيل : بالقرآن ، يقال : اعتصم به واستعصم وتمسك واستمسك : إذا امتنع به من غيره ، وعصمه الطعام : منع الجوع منه. قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) أي : التقوى التي تحق له ، وهي : أن لا يترك العبد شيئا مما يلزمه فعله ، ولا يفعل شيئا مما يلزمه تركه ، ويبذل في ذلك جهده ومستطاعه. قال القرطبي : ذكر المفسرون : أنها لما نزلت هذه الآية قالوا : يا رسول الله! من يقوى على هذا؟ وشق عليهم ذلك ، فأنزل الله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فنسخت هذه الآية. روي ذلك عن قتادة ، والربيع ، وابن زيد. قال مقاتل : وليس في آل عمران من المنسوخ شيء إلا هذا. وقيل : إنّ قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) مبين بقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (١) والمعنى : اتقوا الله حق تقاته ما استطعتم. قال : وهذا أصوب ، لأن النسخ إنما يكون عند عدم الجمع ، والجمع ممكن ، فهو أولى. قوله : (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي : لا تكونن على حال

__________________

(١). التغابن : ١٦.

٤٢٠