فتح القدير - ج ١

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ١

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال لهم الله موتوا فماتوا ، فمر عليهم نبيّ من الأنبياء ، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه ، فأحياهم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عنه : أن القرية التي خرجوا منها داوردان. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم هذه القصة مطوّلة عن أبي مالك ، وفيها : أنهم بضعة وثلاثون ألفا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن عبد العزيز : أن ديارهم هي أذرعات. وأخرج أيضا عن أبي صالح قال : كانوا تسعة آلاف. وأخرج جماعة من محدثي المفسرين هذه القصة على أنحاء ، ولا يأتي الاستكثار من طرقها بفائدة. وقد ورد في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم النهي عن الفرار من الطاعون ، وعن دخول الأرض التي هو بها من حديث عبد الرحمن بن عوف. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن سعد ، والبزار ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن ابن مسعود قال : «لما نزلت (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله! إن الله ليريد منا القرض؟ قال : نعم يا أبا الدحداح ، قال : أرني يدك يا رسول الله! فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ، وله فيه ستّمائة نخلة». وقد أخرج هذه القصة عبد الرزاق ، وابن جرير من طريق زيد بن أسلم ، زاد الطبراني عن أبيه عن عمر بن الخطاب ، وابن مردويه عن أبي هريرة وابن إسحاق ، وابن المنذر عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير عن السدي في قوله : (أَضْعافاً كَثِيرَةً) قال : هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو. وأخرج أحمد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن أبي عثمان النهدي قال : بلغني عن أبي هريرة حديث أنه قال : «إن الله ليكتب لعبده المؤمن بالحسنة الواحدة ألف ألف حسنة» فحججت ذلك العام ولم أكن أريد أن أحج إلا لألقاه في هذا الحديث ، فلقيت أبا هريرة فقلت له ، فقال : ليس هذا قلت ، ولم يحفظ الذي حدثك ، إنما قلت : «إن الله ليعطي العبد المؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة» ثم قال أبو هريرة : أو ليس تجدون هذا في كتاب الله؟ (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) فالكثيرة عند الله أكثر من ألف ألف وألفي ألف ، والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة». وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان في صحيحه ، وابن مردويه ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر قال : «لما نزلت : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) (١) إلى آخره ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : رب زد أمتي فنزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) قال : ربّ زد أمتي فنزلت (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢). وأخرج ابن المنذر عن سفيان قال : «لما نزلت (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (٣) قال : ربّ زد أمتي ، فنزلت : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) قال : ربّ زد أمتي ، فنزلت : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ) قال : رب زد أمتي ، فنزلت : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ)». وفي الباب أحاديث هذه أحسنها وستأتي عند تفسير قوله تعالى : (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) فابحثها. وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) قال : يقبض : الصدقة ، ويبسط : قال يخلف (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) قال : من التراب وإلى التراب تعودون. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في الآية قال :

__________________

(١). البقرة : ٢٦١.

(٢). الزمر : ١٠.

(٣). الأنعام : ١٦٠.

٣٠١

علم الله أن فيمن يقاتل في سبيل الله من لا يجد قوّة ، وفيمن لا يقاتل في سبيل الله من يجد غني ، فندب هؤلاء إلى القرض فقال : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ) قال : يبسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده ، ويقبض عن هذا وهو يطيب نفسا بالخروج ويخفّ له ، فقوّه مما بيدك يكن لك الحظ.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢))

قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ) الكلام فيه كالكلام في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) وقد قدمناه ، والملأ : الأشراف من الناس ، كأنهم ملئوا شرفا. وقال الزجاج : سموا بذلك : لأنهم ملئون بما يحتاج إليه منهم ، وهو اسم جمع كالقوم والرهط. ذكر الله سبحانه في التحريض على القتال قصة أخرى جرت في بني إسرائيل بعد القصة المتقدمة وقوله : (مِنْ بَعْدِ مُوسى) من ابتدائية وعاملها مقدر ، أي : كائنين من بعد موسى : أي : بعد وفاته. وقوله : (لِنَبِيٍّ لَهُمُ) قيل : هو شمويل بن يار بن علقمة ويعرف بابن العجوز ، ويقال فيه : شمعون ، وهو من ولد يعقوب ؛ وقيل : من نسل هارون ؛ وقيل : هو يوشع بن نون ، وهذا ضعيف جدا لأن يوشع هو فتى موسى ، ولم يوجد داود إلا بعد ذلك بدهر طويل ؛ وقيل : اسمه

٣٠٢

إسماعيل. وقوله : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً) أي : أميرا نرجع إليه ونعمل على رأيه. وقوله : (نُقاتِلْ) بالنون والجزم على جواب الأمر ، وبه قرأ الجمهور. وقرأ الضحاك ، وابن أبي عبلة : بالياء ورفع الفعل ، على أنه صفة للملك. وقرئ : بالنون والرفع ، على أنه حال أو كلام مستأنف. وقوله : (هَلْ عَسَيْتُمْ) بالفتح للسين وبالكسر لغتان ، وبالثانية قرأ نافع ، وبالأولى قرأ الباقون. قال في الكشاف : وقراءة الكسر ضعيفة. وقال أبو حاتم : ليس للكسر وجه. انتهى. وقال أبو علي : وجه الكسر قول العرب ، هو عس بذلك ، مثل حر وشج ، وقد جاء فعل وفعل في نحو نقم ونقم ، فكذلك عسيت وعسيت ، وكذا قال مكي. وقد قرأ بالكسر أيضا الحسن وطلحة ، فلا وجه لتضعيف ذلك ، وهو من أفعال المقاربة ، أي : هل قاربتم ألا تقاتلوا ، وإدخال حرف الاستفهام على فعل المقاربة لتقرير ما هو متوقع عنده ، والإشعار بأنه كائن ، وفصل بين عسى وخبرها بالشرط للدلالة على الاعتناء به. قال الزجاج : أن لا تقاتلوا في موضع نصب : أي : هل عسيتم مقاتلة. قال الأخفش : «أن» في قوله : (وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ) زائدة. وقال الفراء : هو محمول على المعنى ، أي : وما منعنا؟ كما تقول : ا لك ألا تصلي؟ وقيل : المعنى ، وأي شيء لنا في أن لا نقاتل. قال النحاس : وهذا أجودها. وقوله : (وَقَدْ أُخْرِجْنا) تعليل ، والجملة حالية ، وإفراد الأولاد بالذكر لأنهم الذين وقع عليهم السبي ، أو لأنهم بمكان فوق مكان سائر القرابة (فَلَمَّا كُتِبَ) أي : فرض ، أخبر سبحانه أنهم تولوا لاضطراب نياتهم وفتور عزائمهم. واختلف في عدد القليل الذين استثناهم الله سبحانه ، وهم الذين اكتفوا بالغرفة. وقوله : (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) شروع في تفصيل ما جرى بينهم وبين نبيهم من الأقوال والأفعال. وطالوت : اسم أعجمي ، وكان سقاء ؛ وقيل : مكاريا ، ولم يكن من سبط النبوة ، وهم بنو لاوي ، ولا من سبط الملك ، وهم بنو يهوذا ، فلذلك : (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا) أي : كيف ذلك؟ ولم يكن من بيت الملك ، ولا هو ممن أوتي سعة من المال حتى نتبعه لشرفه أو لماله ، وهذه الجملة ، أعني قوله : (وَنَحْنُ أَحَقُ) حالية ، وكذلك الجملة المعطوفة عليها. وقوله : (اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) أي : اختاره الله هو الحجة القاطعة. ثم بين لهم مع ذلك وجه الاصطفاء : بأن الله زاده بسطة في العلم ، الذي هو ملاك الإنسان ، ورأس الفضائل ، وأعظم وجوه الترجيح ، وزاده بسطة في الجسم الذي يظهر به الأثر في الحروب ونحوها ، فكان قويا في دينه وبدنه ، وذلك هو المعتبر ، لا شرف النسب. فإن فضائل النفس مقدّمة عليه : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) فالملك ملكه ، والعبيد عبيده ، فما لكم والاعتراض على شيء ليس هو لكم ولا أمره إليكم؟ وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن قوله : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) من قول نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وقيل : هو من قول نبيهم وهو الظاهر. وقوله : (واسِعٌ) أي : واسع الفضل ، يوسع على من يشاء من عباده (عَلِيمٌ) بمن يستحق الملك ، ويصلح له. والتابوت : فعلوت من التوب وهو الرجوع لأنهم يرجعون إليه ، أي : علامة ملكه إتيان التابوت الذي أخذ منهم ، أي : رجوعه إليكم وهو صندوق التوراة. والسكينة فعيلة ، مأخوذة من السكون والوقار والطمأنينة ، أي : فيه سبب سكون قلوبكم فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت. قال ابن عطية : الصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة من بقايا الأنبياء وآثارهم ، فكانت النفوس

٣٠٣

تسكن إلى ذلك وتأنس به وتتقوى. وقد اختلف في السكينة على أقوال سيأتي بيان بعضها ، وكذلك اختلف في البقية. فقيل : هي عصا موسى ورضاض الألواح ؛ وقيل : غير ذلك. قيل : المراد بآل موسى وهارون : هما أنفسهما ، أي : مما ترك هارون وموسى ، ولفظ آل : مقحمة لتفخيم شأنهما ؛ وقيل : المراد : الأنبياء من بني يعقوب ، لأنهما من ذرية يعقوب ، فسائر قرابته ومن تناسل منه آل لهما. وفصل : معناه : خرج بهم ، فصلت الشيء فانفصل ، أي : قطعته فانقطع ، وأصله متعد ، يقال فصل نفسه ثم استعمل استعمال اللازم كانفصل ؛ وقيل : إن فصل يستعمل لازما ومتعديا ، يقال : فصل عن البلد فصولا ، وفصل نفسه فصلا. والابتلاء : الاختبار. والنهر : قيل هو بين الأردن وفلسطين ، وقرأه الجمهور : بنهر بفتح الهاء. وقرأ حميد ، ومجاهد والأعرج بسكون الهاء. والمراد بهذا الابتلاء اختبار طاعتهم ، فمن أطاع في ذلك الماء أطاع فيما عداه ، ومن عصى في هذا وغلبته نفسه فهو بالعصيان في سائر الشدائد أحرى ، ورخص لهم في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع ، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال ، وفيه أن الغرفة تكف سورة العطش عند الصابرين على شظف العيش ، الدافعين أنفسهم عن الرفاهية. فالمراد بقوله : (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ) أي : كرع ولم يقتصر على الغرفة ، «ومن» ابتدائية. ومعنى قوله : (فَلَيْسَ مِنِّي) أي : ليس من أصحابي ، من قولهم : فلان من فلان ، كأنه بعضه لاختلاطهما وطول صحبتهما ، وهذا مهيع في كلام العرب معروف ، ومنه قول الشاعر :

إذا حاولت في أسد فجورا

فإنّي لست منك ولست منّي

وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) يقال : طعمت الشيء ، أي : ذقته ، وأطعمته الماء ، أي : أذقته ، وفيه دليل على أن الماء يقال له : طعام ، والاغتراف : الأخذ من الشيء باليد أو بآلة ، والغرف : مثل الاغتراف ، والغرفة : المرة الواحدة. وقد قرئ بفتح الغين وضمها ، فالفتح للمرة ، والضم اسم للشيء المغترف ؛ وقيل : بالفتح : الغرفة بالكف الواحدة ، وبالضم : الغرفة بالكفين ؛ وقيل : هما لغتان بمعنى واحد ، ومنه قول الشاعر :

لا يدلفون إلى ماء بآنية

إلا اغترافا من الغدران بالرّاح

قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) سيأتي بيان عددهم ، وقرئ : إلا قليل ولا وجه له إلا ما قيل من أنه من هجر اللفظ إلى جانب المعنى ، أي : لم يطعه إلا قليل ، وهو تعسف. قوله : (فَلَمَّا جاوَزَهُ) أي : جاوز النهر طالوت (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وهم القليل الذين أطاعوه ، ولكنهم اختلفوا في قوّة اليقين ، فبعضهم قال قوله : (لا طاقَةَ لَنَا) و (قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) أي : يتيقنون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ). والفئة : الجماعة ، والقطعة منهم ، من فأوت رأسه بالسيف ، أي : قطعته ، وقوله : (بَرَزُوا) أي : صاروا في البراز ، وهو المتسع من الأرض. وجالوت : أمير العمالقة. قالوا : أي : جميع من معه من المؤمنين ، والإفراغ : يفيد معنى الكثرة. وقوله : (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) هذا عبارة عن القوّة وعدم الفشل ، يقال : ثبت قدم فلان على كذا ؛

٣٠٤

إذا استقرّ له ولم يزل عنه ، وثبت قدمه في الحرب : إذا كان الغلب له والنصر معه قوله : (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) هم جالوت وجنوده. ووضع الظاهر موضع المضمر إظهارا لما هو العلة الموجبة للنصر عليهم ، وهي كفرهم ، وذكر النصر بعد سؤال تثبيت الأقدام : لكون الثاني هو غاية الأوّل. قوله : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) الهزم : الكسر ، ومنه سقاء منهزم ، أي : انثنى بعضه على بعض مع الجفاف ؛ ومنه ما قيل في زمزم : إنها هزمة جبريل ، أي : هزمها برجله فخرج الماء ، والهزم : ما يكسر من يابس الحطب ؛ وتقدير الكلام : فأنزل الله عليهم النصر : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ) أي : بأمره وإرادته. قوله : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) هو داود بن إيشا ، بكسر الهمزة ثم تحتية ساكنة بعدها معجمة ؛ ويقال : داود بن زكريا ابن بشوى ، من سبط يهوذا بن يعقوب ، جمع الله له بين النبوة والملك بعد أن كان راعيا ، وكان أصغر إخوته ، اختاره طالوت لمقاتلة جالوت فقتله. والمراد بالحكمة هنا : النبوّة ، وقيل : هي تعليمه صنعة الدروع ومنطق الطير ؛ وقيل : هي إعطاؤه السلسلة التي كانوا يتحاكمون إليها. قوله : (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) قيل : إن المضارع هنا موضوع موضع الماضي ، وفاعل هذا الفعل هو الله تعالى ؛ وقيل : داود ، وظاهر هذا التركيب أن الله سبحانه علمه مما قضت به مشيئته ، وتعلقت به إرادته ؛ وقد قيل : إن من ذلك ما قدّمنا من تعليمه صنعة الدروع وما بعده. قوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) قرأه الجماعة : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ) وقرأ نافع : دفاع وهما مصدران لدفع ، كذا قال سيبويه. وقال أبو حاتم : دافع ودفع واحد مثل : طرقت نعلي وطارقته. واختار أبو عبيدة قراءة الجمهور وأنكر قراءة دفاع ، قال : لأن الله عزوجل لا يغالبه أحد ، قال مكي : يوهم أبو عبيدة أن هذا من باب المفاعلة وليس به ، وعلى القراءتين فالمصدر مضاف إلى الفاعل : أي : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) وبعضهم : بدل من الناس ، وهم الذين يباشرون أسباب الشرّ والفساد ببعض آخر منهم ، وهم الذين يكفونهم عن ذلك ، ويردونهم عنه (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) لتغلب أهل الفساد عليها وإحداثهم للشرور التي تهلك الحرث والنسل ، وتنكير فضل للتعظيم. وآيات الله : هي ما اشتملت عليه هذه القصة من الأمور المذكورة. والمراد (بِالْحَقِ) هنا : الخبر الصحيح الذي لا ريب فيه عند أهل الكتاب والمطلعين على أخبار العالم. وقوله : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) إخبار من الله سبحانه بأنه من جملة رسل الله سبحانه ، تقوية لقلبه ، وتثبيتا لجنانه ، وتشييدا لأمره.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) قال : هذا حين رفعت النبوّة واستخرج أهل الإيمان ، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ) وذلك حين أتاهم التابوت ، قال : وكان من إسرائيل سبطان : سبط نبوّة ، وسبط خلافة ، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة ، ولا تكون النبوّة إلا في سبط النبوّة ؛ (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً ، قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) وليس من أحد السبطين لا من سبط النبوّة ولا من سبط الخلافة (قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) فأبوا أن يسلموا له الرياسة حتى قال لهم : (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ) وكان موسى حين ألقى الألواح

٣٠٥

تكسرت ورفع منها وجمع ما بقي فجعله في التابوت ، وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت ، والعمالقة : فرقة من عاد كانوا بأريحاء ، فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض ؛ وهم ينظرون إليه ؛ حتى وضعته عند طالوت ؛ فلما رأوا ذلك قالوا : نعم ، فسلموا له وملكوه ، وكانت الأنبياء إذا حضروا قتالا قدّموا التابوت بين أيديهم ويقولون : إن آدم نزل بذلك التابوت : وبالركن ، وبعصا موسى من الجنة. وبلغني : أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية ، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة. وقد ورد هذا المعنى مختصرا ومطولا عن جماعة من السلف فلا يأتي التطويل بذكر ذلك بفائدة يعتد بها. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك عن ابن عباس : (وَزادَهُ بَسْطَةً) يقول : فضيلة (فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) يقول : كان عظيما جسيما يفضل بني إسرائيل بعنقه. وأخرج أيضا عن وهب بن منبه (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ) قال : العلم بالحرب. وأخرج ابن المنذر عنه : أنه سئل أنبيا كان طالوت؟ قال : لا ، لم يأته وحي. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه : أنه سئل عن تابوت موسى ما سعته؟ قال : نحو من ثلاثة أذرع في ذراعين. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : السكينة : الرحمة. وأخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ عنه قال : السكينة : الطمأنينة. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه قال : السكينة دابة قدر الهرّ لها عينان لهما شعاع ، وكان إذا التقى الجمعان أخرجت يديها ونظرت إليهم فيهزم الجيش من الرعب. وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن علي قال : السكينة : ريح خجوج ولها رأسان. وأخرج عبد الرزاق ، وأبو عبيد ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن عليّ قال : السكينة لها وجه كوجه الإنسان ، ثم هي بعد ريح هفافة. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن مجاهد قال : السكينة من الله كهيئة الريح ، لها وجه كوجه الهرّ ، وجناحان ، وذنب مثل ذنب الهرّ. وأخرج سعيد ابن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير عن ابن عباس قال : (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قال : طست من ذهب من الجنة كان يغسل بها قلوب الأنبياء ألقى الألواح فيها. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن وهب بن منبه أنه قال : هي روح من الله يتكلم ، إذا اختلفوا في شيء ؛ تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : هي شيء تسكن إليه قلوبهم. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال فيه سكينة ، أي : وقار.

وأقول : هذه التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلى هؤلاء الأعلام من جهة اليهود أقمأهم الله ، فجاؤوا بهذه الأمور لقصد التلاعب بالمسلمين رضي الله عنهم والتشكيك عليهم ، وانظر إلى جعلهم لها تارة حيوانا وتارة جمادا وتارة شيئا لا يعقل ، كقول مجاهد : كهيئة الريح لها وجه كوجه الهرّ ، وجناحان وذنب مثل ذنب الهرّ. وهكذا كل منقول عن بني إسرائيل يتناقض ويشتمل على ما لا يعقل في الغالب ، ولا يصح أن يكون مثل هذه التفاسير المتناقضة مرويا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا رأيا رآه قائله ، فهم أجلّ قدرا من التفسير بالرأي وبما لا مجال للاجتهاد فيه. إذا تقرّر لك هذا عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك إلى معنى السكينة لغة وهو معروف ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة ، فقد جعل الله عنها سعة ، ولو ثبت لنا في السكينة تفسير عن النبي

٣٠٦

صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوجب علينا المصير إليه والقول به ، ولكنه لم يثبت من وجه صحيح بل ثبت أنها تنزلت على بعض الصحابة عند تلاوته للقرآن كما في صحيح مسلم عن البراء قال : كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط ، فتغشّته سحابة فجعلت تدور وتدنو ، وجعل فرسه ينفر منها : فلما أصبح أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ، فقال : «تلك السكينة نزلت للقرآن». وليس في هذا إلا أن هذه التي سمّاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سكينة سحابة دارت على ذلك القارئ فالله أعلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى) قال : عصاه ورضاض الألواح. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي صالح قال : كان في التابوت عصا موسى ، وعصا هارون ، وثياب موسى ، وثياب هارون ، ولوحان من التوراة والمنّ ، وكلمة الفرج : «لا إله إلا الله الحليم الكريم وسبحان الله ربّ السموات السبع ورب العرش العظيم والحمد لله رب العالمين». وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة في قوله : (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) قال : أقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في بيت طالوت فأصبح في داره. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) قال : علامة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : (إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) يقول : بالعطش ، فلما انتهى إلى النهر ـ وهو نهر الأردن ـ كرع فيها عامة الناس فشربوا منه ، فلم يزد من شرب منه إلا عطشا ، وأجزأ من اغترف غرفة بيده وانقطع الظمأ عنه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) قال : القليل ثلاثمائة وبضعة عشر ، عدة أهل بدر. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والبخاري ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن البراء قال : كنا أصحاب محمد نتحدّث أن أصحاب بدر على عدّة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، ولم يجاوز معه إلا مؤمن ، بضعة عشر وثلاثمائة. وقد أخرج ابن جرير عن قتادة قال : ذكر لنا أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأصحابه يوم بدر : «أنتم بعدّة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت». وأخرج ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال : كانوا ثلاثمائة ألف وثلاثة آلاف وثلاثمائة وثلاثة عشر ، فشربوا منه كلهم إلا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا عدّة أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بدر ، فردّهم طالوت ومضى في ثلاثمائة وثلاثة عشر. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ) قال : الذين يستيقنون. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان طالوت أميرا على الجيش ، فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته ، فقال داود لطالوت : ماذا لي وأقتل جالوت؟ فقال : لك ثلث ملكي وأنكحت ابنتي ، فأخذ مخلاة فجعل فيها ثلاث مروات ، ثم سمى إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ثم أدخل يده فقال : بسم الله إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، فخرج على إبراهيم فجعله في مرجمته ، فرمى بها جالوت فخرق ثلاثة وثلاثين بيضة عن رأسه وقتلت ما وراءه ثلاثين ألفا. وقد ذكر المفسرون أقاصيص كثيرة من هذا الجنس والله أعلم. وأخرج ابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) قال : يدفع الله بمن يصلي عمن لا يصلي ، وبمن يحج عمن لا يحج ، وبمن يزكي عمن لا يزكي. وأخرج ابن عدي ، وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله ليدفع بالمسلم الصّالح

٣٠٧

عن مائة أهل بيت من جيرانه البلاء» ثم قرأ ابن عمر : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) الآية ، وفي إسناده يحيى ابن سعيد العطار الحمصي وهو ضعيف جدا.

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣))

قوله : (تِلْكَ الرُّسُلُ) قيل : هو إشارة إلى جميع الرسل ، فتكون الألف واللام للاستغراق ، وقيل : هو إشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة ؛ وقيل : إلى الأنبياء الذين بلغ علمهم إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والمراد بتفضيل بعضهم على بعض : أن الله سبحانه جعل لبعضهم من مزايا الكمال فوق ما جعله للآخر ، فكان الأكثر مزايا فاضلا والآخر مفضولا. وكما دلت هذه الآية على : أن بعض الأنبياء أفضل من بعض ، كذلك دلت الآية الأخرى ، وهي قوله تعالى : (وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (١) وقد استشكل جماعة من أهل العلم الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ : «لا تفضّلوني على الأنبياء» وفي لفظ آخر : «لا تفضّلوا بين الأنبياء» وفي لفظ : «لا تخيّروا بين الأنبياء» فقال قوم : إن هذا القول منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل ، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل ؛ وقيل : إنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك على سبيل التواضع كما قال : «لا يقل أحدكم أنا خير من يونس بن متّى» تواضعا ، معه علمه أنه أفضل الأنبياء ، كما يدلّ عليه قوله : «أنا سيد ولد آدم» ؛ وقيل : إنما نهى عن ذلك قطعا للجدال والخصام في الأنبياء ، فيكون مخصوصا بمثل ذلك ، إلا إذا كان صدور ذلك مأمونا ؛ وقيل : إن النهي إنما هو من جهة النبوة فقط ، لأنها خصلة واحدة لا تفاضل فيها ، ولا نهي عن التفاضل بزيادة الخصوصيات والكرامات ؛ وقيل : إن المراد : النهي عن التفضيل لمجرد الأهواء والعصبية. وفي جميع هذه الأقوال ضعف. وعندي أنه لا تعارض بين القرآن والسنة ، فإن القرآن دلّ على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض ، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض ، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله لا تخفى عليه منها خافية ؛ وليست بمعلومة عند البشر ، فقد يجهل أتباع نبيّ من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته فضلا عن مزايا غيره ، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلا وهذا مفضولا ، لا قبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلها ، فإن ذلك تفضيل بالجهل ، وإقدام على أمر لا يعلمه الفاعل له وهو ممنوع منه ، فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن في الإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء ، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك؟ وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه ، فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض ، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه ، فمن تعرّض للجمع بينهما زاعما أنهما

__________________

(١). الإسراء : ٥٥.

٣٠٨

متعارضان فقد غلط غلطا بينا. قوله : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) وهو موسى ، ونبينا سلام الله عليهما. وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في آدم : «إنه نبي مكلم». وقد ثبت ما يفيد ذلك في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر. قوله : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت منزلته عند الله سبحانه من الأنبياء ، ويحتمل أن يراد به نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله ، ويحتمل أن يراد به إدريس ؛ لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكانا عليا ؛ وقيل : إنهم أولو العزم ؛ وقيل : إبراهيم ، ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع ، فلا يجوز لنا التعرّض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه ، أو من أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، ولم يرد ما يرشد إلى ذلك ، فالتعرّض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي ، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء وقد نهينا عنه ؛ وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأطالوا في ذلك ، واستدلوا لما خصه الله به من المعجزات ، ومزايا الكمال ، وخصال الفضل ، وهم ـ بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب ـ قد وقعوا في خطرين ، وارتكبوا نهيين ، وهما : تفسير القرآن بالرأي ، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء ، وإن لم يكن ذلك تفضيلا صريحا ؛ فهو ذريعة إليه بلا شك ولا شبهة ، ، لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبيّ الفلاني انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهيّ عنه ، وقد أغنى الله نبينا المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل والفواضل ، فإياك أن تتقرّب إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها فتعصيه ، وتسيء ، وأنت تظن أنك مطيع محسن. قوله : (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) أي : الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من إحياء الأموات وإبراء المرضى وغير ذلك. قوله : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) هو جبريل ، وقد تقدّم الكلام على هذا. قوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد الرسل ؛ وقيل : من بعد موسى وعيسى ومحمد ، لأن الثاني مذكور صريحا ، والأول والثالث وقعت الإشارة إليهما بقوله : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) أي : لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا ، فمفعول المشيئة محذوف على القاعدة (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) استثناء من الجملة الشرطية ، أي : ولكن الاقتتال ناشئ عن اختلافهم اختلافا عظيما ، حتى صاروا مللا مختلفة (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ) عدم اقتتالهم بعد هذا الاختلاف (مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) لا رادّ لحكمه ، ولا مبدّل لقضائه ، فهو يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى : (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) قال : اتخذ الله إبراهيم خليلا ، وكلم موسى تكليما ، وجعل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ، وهو عبد الله وكلمته وروحه ، وآتى داود زبورا ، وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وغفر لمحمد ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن مجاهد في قوله : (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) قال : كلم الله موسى ، وأرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الناس كافة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عامر الشعبي في قوله : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) قال : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) يقول : من بعد موسى وعيسى. وأخرج ابن عساكر عن

٣٠٩

ابن عباس قال : كنت عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وعنده أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، ومعاوية ، إذ أقبل عليّ ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لمعاوية : «أتحبّ عليا؟ قال : نعم قال : إنها ستكون بينكم فتنة هنيهة ، قال معاوية : فما بعد ذلك يا رسول الله؟ قال : عفو الله ورضوانه ، قال : رضينا بقضاء الله ، فعند ذلك نزلت هذه الآية : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)» قال السيوطي : وسنده واه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

ظاهر الأمر في قوله : (أَنْفِقُوا) الوجوب ، وقد حمله جماعة على صدقة الفرض لذلك ولما في آخر الآية من الوعيد الشديد. وقيل : إن هذه الآية تجمع زكاة الفرض والتطوّع. قال ابن عطية : وهذا صحيح ، ولكن ما تقدّم من الآيات في ذكر القتال ؛ وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين ؛ يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله. قال القرطبي : وعلى هذا التأويل يكون إنفاق المال مرة واجبا ، ومرة ندبا ، بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه. قوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) أي : أنفقوا ما دمتم قادرين (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ) ما لا يمكنكم الإنفاق فيه وهو (يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) أي : لا يتبايع الناس فيه. والخلة : خالص المودّة ، مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين. أخبر سبحانه أنه لا خلة في يوم القيامة نافعة ولا شفاعة مؤثرة إلّا لمن أذن الله له. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بنصب لا بيع ولا خلة ولا شفاعة ، من غير تنوين. وقرأ الباقون برفعها منوّنة ، وهما لغتان مشهورتان للعرب ، ووجهان معروفان عند النحاة ، فمن الأوّل قول حسان :

ألا طعان ولا فرسان عادية

إلا تجشّؤكم حول التنانير (١)

ومن الثاني قول الراعي :

وما صرمتك حتّى قلت معلنة

لا ناقة لي في هذا ولا جمل

ويجوز في غير القرآن : التغاير برفع البعض ، ونصب البعض ، كما هو مقرر في علم الإعراب. قوله : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) فيه دليل على أن كل كافر ظالم لنفسه ، ومن جملة من يدخل تحت هذا العموم مانع الزكاة منعا يوجب كفره ، لوقوع ذلك في سياق الأمر بالإنفاق.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن جريج في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) قال : من الزكاة والتطوّع. وأخرج ابن المنذر عن سفيان قال : يقال نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن ، ونسخ شهر رمضان كل صوم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : قد علم الله أن ناسا يتخاللون في الدنيا ويشفع بعضهم لبعض ؛ فأما يوم القيامة فلا خلة إلا

__________________

(١). ورد في ديوان حسان : (ألا طعان ألا فرسان عادية)

٣١٠

خلة المتقين. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عطاء قال : الحمد لله الذي قال : (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ولم يقل والظالمون هم الكافرون.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥))

قوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : لا معبود بحق إلا هو ، وهذه الجملة خبر المبتدأ. والحيّ : الباقي ؛ وقيل : الذي لا يزول ولا يحول ؛ وقيل : المصرّف للأمور ، والمقدّر للأشياء. قال الطبري عن قوم : إنه يقال : حيّ ، كما وصف نفسه ، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه ، وهو خبر ثان أو مبتدأ خبره محذوف. والقيوم : القائم على كل نفس بما كسبت ، وقيل : القائم بذاته المقيم لغيره ؛ وقيل : القائم بتدبير الخلق وحفظه ؛ وقيل : هو الذي لا ينام ؛ وقيل : الذي لا بديل له. وأصل قيوم : قيووم اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء. وقرأ ابن مسعود ، وعلقمة ، والنخعي ، والأعمش : «الحي القيام» بالألف ، وروي ذلك عن عمر ، ولا خلاف بين أهل اللغة أن : القيوم ، أعرف عند العرب وأصح بناء ، وأثبت علة. والسّنة : النعاس في قول الجمهور ، والنعاس : ما يتقدّم النوم من الفتور وانطباق العينين ، فإذا صار في القلب صار نوما. وفرّق المفضل بين السنة والنعاس والنوم فقال : السنة من الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب. انتهى. والذي ينبغي التعويل عليه في الفرق بين السنة والنوم أن السنة لا يفقد معها العقل ، بخلاف النوم فإنه استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبات الأبخرة حتى يفقد معه العقل ، بل وجميع الإدراكات بسائر المشاعر ؛ والمراد : أنه لا يعتريه سبحانه شيء منهما ، وقدّم السنة على النوم ، لكونها تتقدّمه في الوجود. قال الرازي في تفسيره : إن السنة ما تتقدم النوم ، فإذا كانت عبارة عن مقدّمة النوم ، فإذا قيل لا تأخذه سنة دلّ على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى ، فكان ذكر النوم تكرارا ، قلنا : تقدير الآية لا تأخذه سنة فضلا عن أن يأخذه نوم ، والله أعلم بمراده. انتهى. وأقول : إن هذه الأولوية التي ذكرها غير مسلمة ، فإن النوم قد يرد ابتداء من دون ما ذكر من النعاس. وإذا ورد على القلب والعين دفعة واحدة فإنه يقال له : نوم ، ولا يقال له : سنة ، فلا يستلزم نفي السنة نفي النوم. وقد ورد عن العرب نفيهما جميعا ، ومنه قول زهير :

ولا سنة طوال الدّهر تأخذه

ولا ينام وما في أمره فند

فلم يكتف بنفي السنة ، وأيضا فإن الإنسان يقدر على أن يدفع عن نفسه السنة ، ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه النوم ، فقد يأخذه النوم ولا تأخذه السنة ؛ فلو وقع الاقتصار في النظم القرآني على نفي السنة لم يفد ذلك نفي النوم ، وهكذا لو وقع الاقتصار على نفي النوم لم يفد نفي السنة ، فكم من ذي سنة غير نائم ؛ وكرّر حرف النفي للتنصيص على شمول النفي لكل واحد منهما. قوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) في هذا الاستفهام من الإنكار على من يزعم أن أحدا من عباده يقدر على أن ينفع أحدا منهم بشفاعة

٣١١

أو غيرها ، والتقريع والتوبيخ له ما لا مزيد عليه ، وفيه من الدفع في صدور عبّاد القبور ، والصدّ في وجوههم ، والفت في أعضادهم ، ما لا يقادر قدره ، ولا يبلغ مداه ، والذي يستفاد منه فوق ما يستفاد من قوله تعالى : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (١) وقوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى) (٢) وقوله تعالى : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) (٣) بدرجات كثيرة. وقد بينت الأحاديث الصحيحة الثابتة في دواوين الإسلام صفة الشفاعة ، ولمن هي؟ ومن يقوم بها؟. قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) الضميران لما في السموات والأرض بتغليب العقلاء على غيرهم ، وما بين أيديهم وما خلفهم : عبارة عن المتقدّم عليهم والمتأخر عنهم ، أو عن الدنيا والآخرة وما فيهما. قوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) قد تقدّم معنى الإحاطة ، والعلم هنا : بمعنى المعلوم ، أي : لا يحيطون بشيء من معلوماته. قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) الكرسي : الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته ، كما سيأتي بيان ذلك. وقد نفى وجوده جماعة من المعتزلة ؛ وأخطئوا في ذلك خطأ بينا ، وغلطوا غلطا فاحشا. وقال بعض السلف : إن الكرسي هنا : عبارة عن العلم. قالوا : ومنه قيل للعلماء : الكراسي ، ومنه : الكراسة التي يجمع فيها العلم ، ومنه قول الشاعر :

يحفّ بهم بيض الوجوه وعصبة

كراسيّ بالأحداث حين تنوب

ورجّح هذا القول ابن جرير الطبري ؛ وقيل : كرسيه : قدرته التي يمسك بها السموات والأرض ، كما يقال : اجعل لهذا الحائط كرسيا ، أي : ما يعمده ؛ وقيل : إن الكرسيّ هو العرش ، وقيل : هو تصوير لعظمته ولا حقيقة له ، وقيل : هو عبارة عن الملك. والحق القول الأوّل ، ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلّا مجرد خيالات تسببت عن جهالات وضلالات ، والمراد بكونه وسع السموات والأرض أنها صارت فيه ، وأنه وسعها ، ولم يضق عنها ؛ لكونه بسيطا واسعا. وقوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) معناه : لا يثقله ، يقال : آدني الشيء ، بمعنى : أثقلني وتحملت منه مشقة. وقال الزجاج : يجوز أن يكون الضمير في قوله : (يَؤُدُهُ) لله سبحانه ، ويجوز أن يكون للكرسي لأنه من أمر الله و (الْعَلِيُ) يراد به : علوّ القدرة والمنزلة. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : هو العليّ عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية : وهذه أقوال جهلة مجسمين ، وكان الواجب أن لا تحكى. انتهى. والخلاف في إثبات الجهة معروف في السلف والخلف ، والنزاع فيه كائن بينهم ، والأدلة من الكتاب والسنة معروفة ، ولكن الناشئ على مذهب يرى غيره خارجا عن الشرع ولا ينظر في أدلته ولا يلتفت إليها ، والكتاب والسنة هما المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل ، ويتبين به الصحيح من الفاسد : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (٤) ولا شك أن هذا اللفظ يطلق على الظاهر الغالب كما في قوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) (٥) وقال الشاعر :

فلمّا علونا واستوينا عليهم

تركناهم صرعى لنسر وكاسر

والعظيم : بمعنى : عظم شأنه وخطره. قال في الكشاف : إن الجملة الأولى : بيان لقيامه بتدبير الخلق

__________________

(١). الأنبياء : ٢٨.

(٢). النجم : ٢٦.

(٣). النبأ : ٢٨.

(٤). المؤمنون : ٧١.

(٥). القصص : ٤.

٣١٢

وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه. والثانية : بيان لكونه مالكا لما يدبره. والجملة الثالثة : بيان لكبرياء شأنه. والجملة الرابعة : بيان لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى. والجملة الخامسة : بيان لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها ، أو لجلاله وعظم قدره.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم في قوله : (الْحَيُ) أي : حيّ لا يموت و (الْقَيُّومُ) القائم الذي لا بديل له. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، والبيهقي عن مجاهد في قوله : (الْقَيُّومُ) قال : القائم على كل شيء. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : القيوم الذي لا زوال له. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) قال : السنّة : النعاس ، والنوم : هو النوم. وأخرجوا إلا البيهقي عن السدّي قال : السنة : ريح النوم الذي تأخذه في الوجه فينعس الإنسان. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قال : ما مضى من الدنيا (وَما خَلْفَهُمْ) من الآخرة. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : ما قدّموا من أعمالهم (وَما خَلْفَهُمْ) : ما أضاعوا من أعمالهم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) قال : علمه ، ألا ترى إلى قوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما). وأخرج الدارقطني في الصفات ، والخطيب في تاريخه عنه قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قول الله (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ) قال : كرسيه موضع قدمه ، والعرش لا يقدّر قدره إلا الله عزوجل». وأخرجه الحاكم وصححه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهنّ إلى بعض ما كنّ في سعته : يعني : الكرسي ، إلا بمنزلة الحلقة في المفازة. وأخرج ابن جرير ، وأبو الشيخ في العظمة ، وابن مردويه ، والبيهقي عن أبي ذرّ الغفاري : أنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الكرسي ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ما السّموات السبع عند الكرسيّ إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإنّ فضل العرش على الكرسيّ كفضل الفلاة على تلك الحلقة». وأخرج عبد بن حميد ، والبزار ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وأبو الشيخ ، والطبراني والضياء المقدسي في المختارة عن عمر قال : «أتت امرأة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقالت : ادع الله أن يدخلني الجنّة ، فعظّم الرّبّ سبحانه وقال : إنّ كرسيّه وسع السموات والأرض ، وإنّ له أطيطا كأطيط (١) الرحل الجديد من ثقله» وفي إسناده عبد الله بن خليفة ، وليس بالمشهور. وفي سماعه من عمر نظر ، ومنهم من يرويه عن عمر موقوفا. وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا : أنه موضع القدمين. وفي إسناده الحكم بن ظهير الفزاري الكوفي وهو متروك. وقد ورد عن جماعة من السلف من الصحابة وغيرهم في وصف الكرسي آثار لا حاجة في بسطها. وقد روى أبو داود في كتاب السنة من سننه من حديث جبير بن مطعم حديثا في صفته ، وكذلك أورد ابن مردويه عن

__________________

(١). الأطيط : صوت الأقتاب التي توضع على ظهر البعير.

٣١٣

بريدة وجابر وغيرهما. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) قال : لا يثقل عليه. وأخرج ابن أبي حاتم عنه : (وَلا يَؤُدُهُ) قال : ولا يكثره : وأخرج ابن جرير عنه قال : العظيم الذي قد كمل في عظمته.

واعلم أنه قد ورد في فضل هذه الآية أحاديث. وأخرج أحمد ، ومسلم واللفظ عن أبيّ بن كعب : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأله : أي آية من كتاب الله أعظم؟ قال : آية الكرسي ، قال : ليهنك العلم أبا المنذر». وأخرج النسائي ، وأبو يعلى ، وابن حبان ، وأبو الشيخ في العظمة ، والطبراني ، والحاكم وصححه عن أبيّ بن كعب : أنه كان له جرن فيه تمر ، فكان يتعاهده ، فوجده ينقص ، فحرسه ذات ليلة فإذا هو بدابة شبه الغلام المحتلم ، قال : فسلمت فردّ السلام ، فقلت : ما أنت ، جنّي أم إنسي؟ قال : جنّي ، قلت : ناولني يدك ، فناولني فإذا يده يد كلب وشعره شعر كلب ، فقلت : هكذا خلق الجنّ؟ قال : لقد علمت الجن أن ما فيهم من هو أشدّ مني ، قلت : ما حملك على ما صنعت؟ قال : بلغني أنك رجل تحبّ الصدقة فأحببنا أن نصيب من طعامك ، فقال له أبيّ : فما الذي يجيرنا منكم؟ قال : هذه الآية ، آية الكرسي التي في سورة البقرة ، من قالها حين يمسي أجير منّا حتى يصبح ، ومن قالها حين يصبح أجير منّا حتى يمسي ، فلما أصبح أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره فقال : «صدق الخبيث». وأخرج البخاري في تاريخه ، والطبراني ، وأبو نعيم في المعرفة بسند رجاله ثقات عن ابن الأسقع البكري «أن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاءهم في صفة المهاجرين ، فسأله إنسان أيّ آية في القرآن أعظم؟ فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) حتى انقضت الآية». وأخرج أحمد من حديث أبي ذرّ مرفوعا نحوه. وأخرج الخطيب البغدادي في تاريخه عن أنس مرفوعا نحوه أيضا. وأخرج الدارمي عن أيفع بن عبد الله الكلاعي نحوه. وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال : «وكلني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحثو وذكر قصة ، وفي آخرها أنه قال له : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها ، قلت : ما هي؟ قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح. فأخبر أبو هريرة بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أما إنه صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب يا أبا هريرة؟ قال : لا ، قال : «ذلك شيطان كذا». وأخرج نحو ذلك أحمد عن أبي أيوب. وأخرج الطبراني ، والحاكم ، وأبو نعيم والبيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعا نحوه. وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أعظم آية في كتاب الله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ). وأخرج نحوه أحمد ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي ذرّ مرفوعا. وأخرج نحوه أيضا أحمد ، والطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعا. وأخرج سعيد بن منصور ، والحاكم ، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن ، لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه : آية الكرسي». قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرج الحاكم من حديث زائدة مرفوعا : «لكل شيء سنام ، وسنام القرآن البقرة ، وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي» ، وقال : غريب لا نعرفه إلا من حديث حكيم بن جبير. وقد تكلم فيه شعبة

٣١٤

وضعفه ، وكذا ضعفه أحمد ، ويحيى بن معين ، وغير واحد ، وتركه ابن مهدي ، وكذبه السعدي. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في هاتين الآيتين : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) و (الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) «إن فيهما اسم الله الأعظم». وقد وردت أحاديث في فضلها غير هذه ، وورد أيضا في فضل قراءتها دبر الصلوات وفي غير ذلك ، وورد أيضا في فضلها مع مشاركة غيرها لها أحاديث ، وورد عن السلف في ذلك شيء كثير.

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧))

قد اختلف أهل العلم في قوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) على أقوال : الأوّل : أنها منسوخة لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام ، وقاتلهم ولم يرض منهم إلا بالإسلام ، والناسخ لها : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) (١) وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٢) وقال : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) (٣) ، وقد ذهب إلى هذا كثير من المفسرين. القول الثاني : أنها ليست بمنسوخة وإنما نزلت في أهل الكتاب خاصة ، وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدّوا الجزية ، بل الذين يكرهون هم أهل الأوثان ، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف ، وإلى هذا ذهب الشعبي ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك. القول الثالث : أن هذه الآية في الأنصار خاصة ، وسيأتي بيان ما ورد في ذلك. القول الرابع : أن معناها : لا تقولوا لمن أسلم تحت السيف : إنه مكره ، فلا إكراه في الدين. القول الخامس : أنها وردت في السبي متى كانوا من أهل الكتاب لم يجبروا على الإسلام. وقال ابن كثير في تفسيره : أي : لا تكرهوا أحدا على الدخول في دين الإسلام ، فإنه بيّن واضح ، جلّي دلائله ، وبراهينه لا تحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام ؛ وشرح صدره ؛ ونوّر بصيرته ؛ دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه ؛ وختم على سمعه وبصره ؛ فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسورا ، وهذا يصلح أن يكون قولا سادسا. وقال في الكشاف في تفسيره هذه الآية : أي : لم يجر الله أمر الإيمان على الإجبار والقسر ، ولكن على التمكين والاختيار ، ونحوه قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (٤) أي : لو شاء لقسرهم على الإيمان ، ولكن لم يفعل ، وبنى الأمر على الاختيار ، وهذا يصلح أن يكون قولا سابعا. والذي ينبغي اعتماده ويتعين الوقوف عنده : أنها في السبب الذي نزلت لأجله محكمة غير منسوخة ، وهو : أن المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد ، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده ، فلما أجليت يهود بني النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا. فنزلت. أخرجه أبو داود ، والنسائي ،

__________________

(١). التوبة : ٧٣.

(٢). التوبة : ١٢٣.

(٣). الفتح : ١٦.

(٤). يونس : ٩٩.

٣١٥

وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، وابن مردويه ، والبيهقي في السنن ، والضياء في المختارة عن ابن عباس. وقد وردت هذه القصة من وجوه ، حاصلها ما ذكره ابن عباس مع زيادات تتضمن أن الأنصار قالوا إنما جعلناهم على دينهم ، أي : دين اليهود ، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا ، وأن الله جاء بالإسلام فلنكرهنهم ؛ فلما نزلت خيّر الأبناء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكرههم على الإسلام. وهذا يقتضي أن أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا اختاروا البقاء على دينهم وأدّوا الجزية. وأما أهل الحرب فالآية وإن كانت تعمهم ، لأن النكرة في سياق النفي وتعريف الدين يفيدان ذلك ، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، لكن قد خص هذا العموم بما ورد من آيات في إكراه أهل الحرب من الكفار على الإسلام. قوله : (قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) الرشد هنا : الإيمان ، والغيّ : الكفر ، أي : قد تميز أحدهما من الآخر. وهذا استئناف يتضمن التعليل لما قبله. والطاغوت فعلوت من طغى يطغى ويطغو : إذا جاوز الحدّ. قال سيبويه : هو اسم مذكر مفرد ، أي : اسم جنس يشمل القليل والكثير ؛ وقال أبو علي الفارسي : إنه مصدر ، كرهبوت ، وجبروت ، يوصف به الواحد والجمع ، وقلبت لامه إلى موضع العين وعينه إلى موضع اللام كجبذ وجذب ، ثم تقلب الواو ألفا لتحركها وتحرك ما قبلها ، فقيل : طاغوت ، واختار هذا القول النحاس ؛ وقيل : أصل الطاغوت في اللغة مأخوذ من الطغيان يؤدي معناه من غير اشتقاق ، كما قيل : لآلئ من اللؤلؤ. وقال المبرد : هو جمع. قال ابن عطية : وذلك مردود. قال الجوهري : والطاغوت : الكاهن ، والشيطان ، وكل رأس في الضلال ، وقد يكون واحدا. قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) (١) وقد يكون جمعا. قال الله تعالى : (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) والجمع الطواغيت ، أي : فمن يكفر بالشيطان ؛ أو الأصنام ؛ أو أهل الكهانة ؛ ورؤوس الضلالة ، أو الجميع (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) عزوجل بعد ما تميز له الرشد من الغيّ ، فقد فاز وتمسك بالحبل الوثيق ، أي : المحكم. والوثقى : فعلى من الوثاقة ، وجمعها وثق مثل الفضلى والفضل. وقد اختلف المفسرون في تفسير العروة الوثقى بعد اتفاقهم على أن ذلك من باب التشبيه والتمثيل لما هو معلوم بالدليل ، بما هو مدرك بالحاسة ؛ فقيل : المراد بالعروة : الإيمان ، وقيل : الإسلام ، وقيل : لا إله إلا الله ، ولا مانع من الحمل على الجميع. والانفصام : الانكسار من غير بينونة. قال الجوهري : فصم الشيء : كسره من غير أن يبين. وأما القصم بالقاف فهو الكسر مع البينونة ، وفسر صاحب الكشاف الانفصام بالانقطاع. قوله : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الولي : فعيل بمعنى فاعل ، وهو الناصر. وقوله : (يُخْرِجُهُمْ) تفسير للولاية ، أو حال من الضمير في وليّ ، وهذا يدل على أن المراد بقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا) الذين أرادوا الإيمان ، لأن من قد وقع منه الإيمان قد خرج من الظلمات إلى النور إلا أن يراد بالإخراج : إخراجهم من الشبه التي تعرض للمؤمنين فلا يحتاج إلى تقدير الإرادة ، والمراد بالنور في قوله : (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) ما جاء به أنبياء الله من الدعوة إلى الدين ، فإن ذلك نور للكفار أخرجهم أولياؤهم عنه إلى ظلمة الكفر ، أي : قررهم أولياؤهم على ما هم عليه من الكفر بسبب صرفهم عن إجابة الداعي إلى الله من الأنبياء. وقيل : المراد بالذين كفروا هنا : الذين ثبت في علمه تعالى كفرهم ؛ يخرجهم أولياؤهم من

__________________

(١). النساء : ٦٠.

٣١٦

الشياطين ورؤوس الضلال من النور الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى ظلمات الكفر التي وقعوا فيها بسبب ذلك الإخراج.

وقد أخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر والبيهقي عن سعيد بن جبير نحو ما تقدّم عن ابن عباس من ذكر سبب نزول قوله تعالى : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) وزاد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خير الأبناء. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن الشعبي نحوه أيضا ، وقال : فلحق بهم : أي : ببني الأبناء. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن الشعبي نحوه أيضا ، وقال : فلحق بهم ، أي : ببني النضير من لم يسلم وبقي من أسلم. وأخرج سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة فثبتوا على دينهم ، فلما جاء الإسلام أراد أهلوهم أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت. وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير عن ابن عباس في قوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلا مسلما ، فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فنزلت. وأخرج عبد بن حميد عن عبد الله بن عبيدة نحوه. وكذلك أخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن المنذر عن السدي نحوه. وأخرج عبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير عن قتادة قال : كانت العرب ليس لها دين ، فأكرهوا على الدين بالسيف. قال : ولا تكرهوا اليهود ولا النصارى والمجوس إذا أعطوا الجزية. وأخرج سعيد بن منصور عن الحسن نحوه. وأخرج البخاري عن أسلم : سمعت عمر بن الخطاب يقول لعجوز نصرانية : أسلمي تسلمي ، فأبت ، فقال : اللهم اشهد ، ثم تلا : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ). وروى عنه سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم أنه قال لزنبق الرومي غلامه : لو أسلمت استعنت بك على أمانة المسلمين ، فأبى ، فقال : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ). وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن سليمان بن موسى في قوله : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) قال : نسختها (جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ) (١). وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب قال : الطاغوت : الشيطان. وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : الطاغوت : الكاهن. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال : الطاغوت : الساحر. وأخرج ابن أبي حاتم عن مالك بن أنس قال : الطاغوت : ما يعبد من دون الله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : العروة الوثقى : لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن أبي حاتم عن أنس بن مالك : أنها القرآن. وأخرج عبد ابن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد : أنها الإيمان. وعن سفيان : أنها كلمة الإخلاص. وقد ثبت في الصحيحين تفسير العروة الوثقى في غير هذه الآية بالإسلام مرفوعا في تعبيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم لرؤيا عبد الله ابن سلام. وأخرج ابن عساكر عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر فإنّهما حبل الله الممدود ، فمن تمسّك بهما فقد تمسّك بعروة الله الوثقى التي لا انفصام لها». وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : إذا وحد الله وآمن بالقدر فهي العروة الوثقى. وأخرج ابن المنذر ،

__________________

(١). التوبة : ٧٣.

٣١٧

وابن أبي حاتم عن معاذ أنه سئل عن قوله : (لَا انْفِصامَ لَها) قال : لا انقطاع لها دون دخول الجنة. وأخرج ابن المنذر ، والطبراني عن ابن عباس في قوله : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) الآية ، قال : هم قوم كانوا كفروا بعيسى فآمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) الآية ، قال : هم قوم آمنوا بعيسى فلما بعث محمد كفروا به. وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال : الظلمات الكفر. والنور : الإيمان. وأخرج أبو الشيخ عن السدي مثله.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨))

في هذه الآية استشهاد على ما تقدم ذكره من أن الكفرة أولياؤهم الطاغوت ، وهمزة الاستفهام لإنكار النفي والتقرير المنفي ، أي : ألم ينته علمك أو نظرك إلى هذا الذي صدرت منه هذه المحاجة؟ قال الفراء : ألم تر بمعنى : هل رأيت ، أي : هل رأيت الذي حاجّ إبراهيم؟ وهو : النمروذ بن كوس بن كنعان بن سلم ابن نوح ، وقيل : إنه النمروذ بن فالخ بن عامر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام. وقوله : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) أي : لأن آتاه الله ، أو من أجل أن آتاه الله ، على معنى : أن إيتاء الملك أبطره وأورثه الكبر والعتو ، فحاج لذلك ، أو على أنه وضع المحاجة التي هي أقبح وجوه الكفر موضع ما يجب عليه من الشكر ، كما يقال : عاديتني لأني أحسنت إليك ، أو وقت أن آتاه الله الملك. وقوله : (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) هو ظرف لحاج ؛ وقيل : بدل من قوله : (أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) على الوجه الأخير وهو بعيد. قوله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) بفتح ياء ربي ، وقرئ بحذفها. قوله : (أَنَا أُحْيِي) قرأ جمهور القراء : أنا أحيي بطرح الألف التي بعد النون من أنا في الوصل وأثبتها نافع وابن أبي أويس كما في قول الشاعر :

أنا شيخ العشيرة فاعرفوني

حميدا قد تذرّيت السّناما

أراد إبراهيم عليه‌السلام : أن الله هو الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد ، وأراد الكافر : أنه يقدر أن يعفو عن القتل فيكون ذلك إحياء ، وعلى أن يقتل فيكون ذلك إماتة ، فكان هذا جوابا أحمق ، لا يصح نصبه في مقابلة حجّة إبراهيم ، لأنه أراد غير ما أراد الكافر ، فلو قال له : ربه الذي يخلق الحياة والموت في الأجساد فهل تقدر على ذلك؟ لبهت الذي كفر بادئ بدء وفي أوّل وهلة ، ولكنه انتقل معه إلى حجة أخرى تنفيسا لخناقه ، وإرسالا لعنان المناظرة فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) لكون هذه الحجة لا تجري فيها المغالطة ، ولا يتيسر للكافر أن يخرج عنها بمخرج مكابرة ومشاغبة. قوله : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) بهت الرجل وبهت وبهت : إذا انقطع وسكت متحيرا. قال ابن جرير : وحكي عن بعض العرب في هذا المعنى : بهت بفتح الباء والهاء. قال ابن جني : قرأ أبو حيوة : فبهت بفتح الباء وضم الهاء ، وهي لغة في بهت بكسر الهاء ؛ قال : وقرأ ابن السميقع : فبهت بفتح الباء والهاء ، على معنى : فبهت إبراهيم الذي

٣١٨

كفر ، فالذي في موضع نصب ؛ قال : وقد يجوز أن يكون بهت بفتحهما لغة في بهت. وحكى أبو الحسن الأخفش قراءة : (فَبُهِتَ) بكسر الهاء ، قال : والأكثر بالفتح في الهاء. قال ابن عطية : وقد تأول قوم في قراءة من قرأ فبهت بفتحهما أنه بمعنى : سب وقذف ، وأن النمروذ هو الذي سبّ حين انقطع ولم يكن له حيلة. انتهى. وقال سبحانه : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) ولم يقل فبهت الذي حاجّ ، إشعارا بأن تلك المحاجة كفر. وقوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تذييل مقرر لمضمون الجملة التي قبله.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب أن الذي حاج إبراهيم في ربه هو : نمروذ بن كنعان. وأخرجه ابن جرير عن مجاهد ، وقتادة والربيع والسدي. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن زيد بن أسلم : أن أول جبار كان في الأرض نمروذ ، وكان الناس يخرجون يمتارون من عنده الطعام ، فخرج إبراهيم عليه‌السلام يمتار مع من يمتار ، فإذا مرّ به ناس قال : من ربكم؟ قالوا : أنت ؛ حتى مرّ به إبراهيم ، فقال : من ربك؟ قال : الذي يحيي ويميت ، قال : أنا أحيي وأميت ، قال : فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب ، فبهت الذي كفر ، فردّه بغير طعام. فرجع إبراهيم إلى أهله فمرّ على كثيب من رمل أصفر فقال : ألا آخذ من هذا فآتي به أهلي ، فتطيب أنفسهم حين أدخل عليهم ، فأخذ منه فأتى أهله فوضع متاعه ثم نام ، فقامت امرأته إلى متاعه ففتحته فإذا هي بأجود طعام رآه آخذ. فصنعت له منه فقربته إليه ، وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام ، فقال : من أين هذا؟ قالت : من الطعام الذي جئت به ، فعرف أن الله رزقه فحمد الله. ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن وأتركك على ملكك. قال : فهل ربّ غيري؟ فجاءه الثانية فقال له ذلك ، فأبى عليه ، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، ثم أتاه الثالثة فأبى عليه ، فقال له الملك : فاجمع جموعك إلى ثلاثة أيام ، فجمع الجبار جموعه فأمر الله الملك ففتح عليه بابا من البعوض وطلعت الشمس فلم يروها من كثرتها ، فبعثها الله عليهم ، فأكلت شحومهم ، وشربت دماءهم ، فلم يبق إلا العظام ، والملك كما هو لا يصيبه من ذلك شيء ، فبعث الله عليه بعوضة فدخلت في منخره ، فمكث أربعمائة سنة يضرب رأسه بالمطارق ، وأرحم الناس به من جمع يديه ثم ضرب بهما رأسه ، وكان جبارا أربعمائة سنة ، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه ، ثم أماته الله ، وهو الذي كان بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في الآية ، قال : هو نمروذ بن كنعان ، يزعمون أنه أوّل من ملك في الأرض ، أتى برجلين ، قتل أحدهما وترك الآخر ، فقال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ). وأخرج أبو الشيخ عن السدي : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) قال : إلى الإيمان.

(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩))

٣١٩

قوله : (أَوْ كَالَّذِي) أو : للعطف حملا على المعنى ، والتقدير : هل رأيت كالذي حاجّ ، أو كالذي مرّ على قرية ، قاله الكسائي والفراء. وقال المبرد : إن المعنى : ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه؟ ألم تر من هو كالذي مرّ على قرية؟ فحذف قوله : من هو. وقد اختار جماعة أن الكاف زائدة ، واختار آخرون أنها اسمية. والمشهور أن القرية هي : بيت المقدس بعد تخريب بختنصر لها ؛ وقيل : المراد بالقرية : أهلها. وقوله : (خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي : ساقطة على عروشها ، أي : سقط السقف ، ثم سقطت الحيطان عليه ، قاله السدي واختاره ابن جرير ؛ وقيل : معناه : خالية من الناس والبيوت قائمة ؛ وأصل الخواء : الخلوّ ، يقال : خوت الدار ، وخويت ، تخوى خواء ممدود ، وخيّا وخويّا : أقفرت ، والخواء أيضا : الجوع لخلوّ البطن عن الغذاء. والظاهر : القول الأوّل بدلالة قوله : (عَلى عُرُوشِها) من خوى البيت : إذا سقط ، أو من خوت الأرض : إذا تهدمت ، وهذه الجملة حالية ، أي : من حال كونها كذلك. وقوله : (أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ) أي : متى يحيي؟ أو كيف يحيي؟ وهو استبعاد لإحيائها وهي على تلك الحالة المشابهة لحالة الأموات المباينة لحالة الأحياء ، وتقديم المفعول : لكون الاستبعاد ناشئا من جهته ، لا من جهة الفاعل. فلمّا قال المارّ هذه المقالة مستبعدا لإحياء القرية المذكورة بالعمارة لها ، والسكون فيها ، ضرب الله له المثل في نفسه بما هو أعظم مما سأل عنه (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ) وحكى الطبري عن بعضهم أنه قال : كان هذا القول شكا في قدرة الله على الإحياء ، فلذلك ضرب له المثل في نفسه. قال ابن عطية : ليس يدخل شكّ في قدرة الله سبحانه على إحياء قرية بجلب العمارة إليها ، وإنما يتصور الشك إذا كان سؤاله عن إحياء موتاها. وقوله : (مِائَةَ عامٍ) منصوب على الظرفية. والعام : السنة ، أصله مصدر كالعوم ، سمي به هذا القدر من الزمان. وقوله : (بَعَثَهُ) معناه أحياه. قوله : (قالَ كَمْ لَبِثْتَ) هو استئناف كأنّ سائلا سأله ماذا قال له بعد بعثه؟ واختلف في فاعل قال ؛ فقيل : هو الله عزوجل ؛ وقيل : ناداه بذلك ملك من السماء ؛ قيل : هو جبريل ؛ وقيل : غيره ؛ وقيل : إنه نبيّ من الأنبياء ؛ قيل : رجل من المؤمنين من قومه شاهده عند أن أماته الله وعمر إلى عند بعثه. والأولى أولى لقوله فيما بعد : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة إلّا عاصما : كم لبتّ بإدغام الثاء في التاء لتقاربهما في المخرج. وقرأ غيرهم : بالإظهار ، وهو أحسن ، لبعد مخرج الثاء من مخرج التاء. و (كَمْ) في موضع نصب على الظرفية ، وإنما قال : (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) بناء على ما عنده ، وفي ظنه ، فلا يكون كاذبا ، ومثله : قول أصحاب الكهف : (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ومثله : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قصة ذي اليدين : «لم تقصر ولم أنس» وهذا مما يؤيد قول من قال : إن الصدق : ما طابق الاعتقاد ، والكذب : ما خالفه. وقوله : (قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ) هو استئناف أيضا كما سلف ، أي : ما لبثت يوما أو بعض يوم بل لبثت مائة عام. وقوله : (فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) أمره سبحانه أن ينظر إلى هذا الأثر العظيم من آثار القدرة ، وهو عدم تغير طعامه وشرابه مع طول تلك المدة. وقرأ ابن مسعود : «وهذا طعامك وشرابك لم يتسنّه» وقرأ طلحة بن مصرف : «وانظر لطعامك وشرابك لمائة سنة». وروي عن طلحة أيضا أنه قرأ : «لم يسن» بإدغام التاء في السين وحذف

٣٢٠