فتح القدير - ج ١

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ١

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

قوله : (وَأَقامَ الصَّلاةَ) يعني وأتمّ الصّلاة المكتوبة (وَآتَى الزَّكاةَ) يعني الزكاة المفروضة. وأخرج الترمذي ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن عديّ ، والدارقطني ، وابن مردويه عن فاطمة بنت قيس قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «في المال حقّ سوى الزكاة ، ثم قرأ : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) الآية». وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) قال : فمن أعطى عهد الله ثم نقضه فالله ينتقم منه ، ومن أعطى ذمة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم غدر بها فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم خصمه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا) يعني : فيما بينهم وبين الناس. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ والحاكم وصححه عن ابن مسعود في الآية قال : (الْبَأْساءِ) : الفقر (وَالضَّرَّاءِ) : السقم (وَحِينَ الْبَأْسِ) : حين القتال. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) قال : فعلوا ما ذكر الله في هذه الآية. وأخرج ابن جرير عن الربيع في قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) قال : تكلموا بكلام الإيمان ، فكانت حقيقة العمل صدقوا الله. قال : وكان الحسن يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل ، فإن لم يكن مع القول عمل فلا شيء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

قوله : (كُتِبَ) معناه : فرض ، وأثبت ، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة :

كتب القتل والقتال علينا

وعلى الغانيات جرّ الذّيول

وهذا إخبار من الله سبحانه لعباده بأنه شرع لهم ذلك ، وقيل : إن (كُتِبَ) هنا إشارة إلى ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ. و (الْقِصاصُ) أصله : قصّ الأثر : أي : اتباعه ، ومنه : القاصّ ، لأنه يتتبع الآثار ، وقصّ الشعر : اتباع أثره ، فكأن القاتل يسلك طريقا من القتل ، يقصّ أثره فيها ، ومنه قوله تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) (١) وقيل : إن القصاص مأخوذ من القص وهو القطع ، يقال : قصصت ما بينهما : أي : قطعته. وقد استدلّ بهذه الآية القائلون بأن الحرّ لا يقتل بالعبد ، وهم الجمهور. وذهب أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، وابن أبي ليلى ، وداود إلى أنه يقتل به. قال القرطبي : وروي ذلك عن عليّ ، وابن مسعود. وبه قال سعيد بن المسيب ، وإبراهيم النخعي ، وقتادة ، والحكم بن عتيبة ، واستدلوا بقوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) (٢) وأجاب الأولون عن هذا الاستدلال بأن قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) مفسر لقوله تعالى : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وقالوا أيضا : إن قوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها) يفيد : أن ذلك حكاية عما شرعه لبني إسرائيل في التوراة. ومن جملة ما استدل به الآخرون قوله

__________________

(١). الكهف : ٦٤.

(٢). المائدة : ٤٥.

٢٠١

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المسلمون تتكافأ دماؤهم» ويجاب عنه بأنه مجمل والآية مبينة ، ولكنه يقال : إن قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) إنما أفاد بمنطوقه أن الحرّ يقتل بالحرّ ، والعبد يقتل بالعبد ، وليس فيه ما يدل على أن الحرّ لا يقتل بالعبد إلا باعتبار المفهوم ، فمن أخذ بمثل هذا المفهوم لزمه القول به هنا ، ومن لم يأخذ بمثل هذا المفهوم لم يلزمه القول به هنا ، والبحث في هذا محرر في علم الأصول. وقد استدل بهذه الآية القائلون بأن المسلم يقتل بالكافر ، وهم الكوفيون والثوري ، لأن الحرّ يتناول الكافر كما يتناول المسلم ، وكذا العبد والأنثى يتناولان الكافر كما يتناولان المسلم. واستدلوا أيضا بقوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) لأن النفس تصدق على النفس الكافرة ، كما تصدق على النفس المسلمة. وذهب الجمهور إلى أنه لا يقتل المسلم بالكافر ، واستدلوا بما ورد من السنة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه لا يقتل مسلم بكافر ، وهو مبين لما يراد في الآيتين ، والبحث في هذا يطول. واستدل بهذه الآية القائلون : بأن الذكر لا يقتل بالأنثى ، وقرروا الدلالة على ذلك بمثل ما سبق ؛ إلا إذا سلّم أولياء المرأة الزيادة على ديتها من دية الرجل. وبه قال مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والثوري ، وأبو ثور. وذهب الجمهور إلى أنه يقتل الرجل بالمرأة ولا زيادة ، وهو الحق. وقد بسطنا البحث في شرح المنتقى فليرجع إليه. قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) «من» هنا عبارة عن القاتل. والمراد بالأخ : المقتول ، أو الوليّ ، والشيء : عبارة عن الدم ، والمعنى : أن القاتل أو الجاني إذا عفي له من جهة المجني عليه ، أو الوليّ ، دم أصابه منه على أن يأخذ منه شيئا من الدية أو الأرش ، فليتبع المجني عليه أو الولي من عليه الدم ؛ فيما يأخذه منه من ذلك اتباعا بالمعروف ، وليؤد الجاني ما لزمه من الدّية أو الأرش إلى المجني عليه ، أو إلى الوليّ أداء بإحسان ؛ وقيل : إن «من» عبارة عن الوليّ ، والأخ : يراد به القاتل ، والشيء : الدية ؛ والمعنى : أن الوليّ إذا جنح إلى العفو عن القصاص إلى مقابل الدية ، فإن القاتل مخير بين أن يعطيها أو يسلم نفسه للقصاص ، كما روي عن مالك أنه يثبت الخيار للقاتل في ذلك ؛ وذهب من عداه إلى أنه لا يخير ، بل إذا رضي الأولياء بالدية ؛ فلا خيار للقاتل ، بل يلزمه تسليمها ؛ وقيل : معنى : (عُفِيَ) بذل. أي : من بذل له شيء من الدية ، فليقبل وليتبع بالمعروف ؛ وقيل : إن المراد بذلك : أن من فضل له من الطائفتين على الأخرى شيء من الديات ، فيكون عفي بمعنى : فضل ، وعلى جميع التقادير فتنكير شيء للتقليل ، فيتناول العفو عن الشيء اليسير من الدية ، والعفو الصادر عن فرد من أفراد الورثة. وقوله : (فَاتِّباعٌ) مرتفع بفعل محذوف ؛ أي : فليكن منه اتباع ، أو على أنه : خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالأمر اتباع ، وكذا قوله : (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ). قوله : (ذلِكَ تَخْفِيفٌ) إشارة إلى العفو والدية ، أي : أن الله شرع لهذه الأمة العفو من غير عوض أو بعوض ، ولم يضيق عليهم كما ضيق على اليهود ، فإنه أوجب عليهم القصاص ، ولا عفو ؛ وكما ضيق على النصارى ؛ فإنه أوجب عليهم العفو ولا دية. قوله : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد التخفيف ، نحو : أن يأخذ الدية ثم يقتل القاتل ، أو يعفو ثم يستقص. وقد اختلف أهل العلم فيمن قتل القاتل بعد أخذ الدية. فقال جماعة منهم مالك والشافعي : إنه كمن قتل ابتداء ، إن شاء الوليّ قتله وإن شاء عفا عنه. وقال قتادة وعكرمة والسدي وغيرهم ؛ عذابه أن يقتل ألبتة ، ولا يمكن الحاكم الوليّ من العفو. وقال

٢٠٢

الحسن : عذابه أن يرد الدية فقط ، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة. وقال عمر بن عبد العزيز : أمره إلى الإمام يصنع فيه ما رأى. قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) أي : لكم في هذا الحكم الذي شرعه الله لكم حياة ، لأن الرجل إذا علم أنه يقتل قصاصا إذا قتل آخر ؛ كفّ عن القتل ، وانزجر عن التسرع إليه والوقوع فيه ، فيكون ذلك بمنزلة الحياة للنفوس الإنسانية. وهذا نوع من البلاغة بليغ ، وجنس من الفصاحة رفيع ، فإنه جعل القصاص الذي هو مات حياة باعتبار ما يؤول إليه من ارتداع الناس عن قتل بعضهم بعضا ، إبقاء على أنفسهم واستدامة لحياتهم ؛ وجعل هذا الخطاب موجها إلى أولي الألباب. لأنهم هم الذين ينظرون في العواقب ويتحامون ما فيه الضرر الآجل ؛ وأما من كان مصابا بالحمق والطيش والخفة فإنه لا ينظر عند سورة غضبه وغليان مراجل طيشه إلى عاقبة ولا يفكر في أمر مستقبل ، كما قال بعض فتاكهم :

سأغسل عني العار بالسّيف جالبا

عليّ قضاء الله ما كان جالبا

ثم علّل سبحانه هذا الحكم الذي شرعه لعباده بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أي : تتحامون القتل بالمحافظة على القصاص ؛ فيكون ذلك سببا للتقوى. وقرأ أبو الجوزاء : ولكم في القصص حياة قيل : أراد بالقصص القرآن ، أي : لكم في كتاب الله الذي شرع فيه القصاص حياة ، أي : نجاة ، وقيل : أراد حياة القلوب ؛ وقيل : هو مصدر بمعنى القصاص ، والكل ضعيف ، والقراءة به منكرة.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال : إن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء ؛ ولم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا ، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا ألّا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحرّ منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن الشعبي نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس قال : كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل ، والمرأة بالمرأة ، فأنزل الله : (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم في العمد رجالهم ونساءهم في النفس وفيما دون النفس ، وجعل العبيد مستوين في العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساءهم. وأخرج ابن جرير ، وابن مردويه عن أبي مالك قال : كان بين حيين من الأنصار قتال كان لأحدهما على الآخر الطول فكأنهم طلبوا الفضل ، فجاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصلح بينهم ، فنزلت هذه الآية : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) قال ابن عباس : فنسختها (النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير والحاكم وصحّحه والبيهقي في سننه عن ابن عباس (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) قال : هو العمد رضي أهله بالعفو. (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) أمر به الطالب (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) من القابل ، قال : يؤدي المطلوب بإحسان. (ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) مما كان على بني إسرائيل. وأخرج نحوه ابن أبي حاتم عنه من وجه آخر. وأخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال : كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن الدية فيهم ، فقال الله لهذه الأمة : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) إلى قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فالعفو : أن تقبل الدية في العمد (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ

٢٠٣

مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) مما كتب على من كان قبلكم (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ) قيل : بعد قبول الدية (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) وأخرج ابن جرير عن قتادة قال : كان في أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو ليس بينهما أرش ، وكان أهل الإنجيل إنما هو العفو أمروا به ، وجعل الله لهذه الأمة القتل والعفو والدية إن شاؤوا ، أحلّها لهم ولم تكن لأمة قبلهم. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وأحمد وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن أبي شريح الخزاعي ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث : إمّا أن يقتصّ ، وإمّا أن يعفو ، وإمّا أن يأخذ الدّية ؛ فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنّم خالدا فيها أبدا». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة : أنه إذا قتل بعد أخذ الدية فله عذاب عظيم قال : فعليه القتل لا تقبل منه الدية. قال وذكر لنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية» وأخرج سمويه في فوائده ، عن سمرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكر مثله. وأخرج ابن أبي شيبة عن عكرمة أنه قال : يقتل. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) قال : جعل الله في القصاص حياة ، ونكالا ، وعظة ؛ إذا ذكره الظالم المعتدي كفّ عن القتل. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قال : لعلك تتقي أن تقتله فتقتل به. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (يا أُولِي الْأَلْبابِ) قال : من كان له لبّ يذكر القصاص ؛ فيحجزه خوف القصاص عن القتل (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قال : لكي تتقوا الدماء مخافة القصاص.

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

قد تقدّم معنى : (كُتِبَ) قريبا ، وحضور الموت : حضور أسبابه ، وظهور علاماته ، ومنه قول عنترة :

وإنّ الموت طوع يدي إذا ما

وصلت بنانها بالهندوان

وقال جرير :

أنا الموت الذي حدّثت عنه

فليس لهارب منّي نجاء

وإنما لم يؤنث الفعل المسند إلى الوصية ، وهو (كُتِبَ) لوجود الفاصل بينهما ـ وقيل : لأنها بمعنى الإيصاء ، وقد روي جواز إسناد ما لا تأنيث فيه إلى المؤنث مع عدم الفصل. وقد حكى سيبويه : قام امرأة ، وهو خلاف ما أطبق عليه أئمة العربية ، وشرط سبحانه ما كتبه من الوصية بأن يترك الموصي خيرا. واختلف في جواب هذا الشرط ما هو؟ فروي عن الأخفش وجهان :

أحدهما أن التقدير : إن ترك خيرا فالوصية ، ثم حذفت الفاء كما قال الشاعر :

٢٠٤

من يفعل الحسنات الله يشكرها

والشّرّ بالشّرّ عند الله مثلان

والثاني : أن جوابه مقدّر قبله. أي : كتب الوصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرا. واختلف أهل العلم في مقدار الخير ، فقيل : ما زاد على سبعمائة دينار ، وقيل : ألف دينار ؛ وقيل : ما زاد على خمسمائة دينار. والوصية في الأصل : عبارة عن الأمر بالشيء ، والعهد به في الحياة وبعد الموت ، وهي هنا : عبارة عن الأمر بالشيء لبعد الموت. وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوصية على من عليه دين أو عنده وديعة أو نحوها. وأما من لم يكن كذلك فذهب أكثرهم إلى أنها غير واجبة عليه سواء كان فقيرا أو غنيا ؛ وقال طائفة : إنها واجبة. ولم يبين الله سبحانه هاهنا القدر الذي كتب الوصية به للوالدين والأقربين ؛ فقيل : الخمس ؛ وقيل : الربع ؛ وقيل : الثلث. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة؟ فذهب جماعة إلى أنها محكمة ، قالوا : وهي وإن كانت عامة فمعناها الخصوص. والمراد بها من الوالدين من لا يرث كالأبوين الكافرين ومن هو في الرقّ ، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم. قال ابن المنذر : أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين الذين لا يرثان ، والأقرباء الذين لا يرثون جائزة. وقال كثير من أهل العلم : إنها منسوخة بآية المواريث مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا وصيّة لوارث» وهو حديث صححه بعض أهل الحديث ، وروي من غير وجه. وقال بعض أهل العلم : إنه نسخ الوجوب ونفى الندب ، وروي عن الشعبي والنخعي ومالك. قوله : (بِالْمَعْرُوفِ) أي : العدل ، لا وكس فيه ولا شطط. وقد أذن الله للميت بالثلث دون ما زاد عليه. قوله : (حَقًّا) مصدر معناه : الثبوت والوجوب. قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) هذا الضمير عائد إلى الإيصاء المفهوم من الوصية ، وكذلك الضمير في قوله : (سَمِعَهُ) والتبديل : التغيير ، والضمير في قوله : (فَإِنَّما إِثْمُهُ) راجع إلى التبديل المفهوم من قوله : (بَدَّلَهُ) وهذا وعيد لمن غير الوصية المطابقة للحقّ التي لا جنف فيها ولا مضارة ، وأنه يبوء بالإثم ، وليس على الموصي من ذلك شيء ، فقد تخلص مما كان عليه بالوصية به. قال القرطبي : ولا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز ، مثل أن يوصي بخمر ؛ أو خنزير ؛ أو شيء من المعاصي ؛ أنه يجوز تبديله ، ولا يجوز إمضاؤه كما لا يجوز إمضاء ما زاد على الثلث. قاله أبو عمر. انتهى. والجنف : المجاوزة ، من جنف يجنف : إذا جاوز ، قاله النحاس ؛ وقيل : الجنف : الميل ، ومنه قول الأعشى :

تجانف عن حجر (١) اليمامة ناقتي

وما قصدت من أهلها لسوائكا

قال في الصّحاح : الجنف : الميل ، وكذا في الكشاف. وقال لبيد :

إنّي امرؤ منعت أرومة عامر

ضيمي وقد جنفت عليّ خصومي

وقوله : (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) أي : أصلح ما وقع بين الورثة من الشقاق والاضطراب بسبب الوصية ؛

__________________

(١). في لسان العرب : «عن جوّ».

٢٠٥

بإبطال ما فيه ضرار ومخالفة لما شرعه الله ؛ وإثبات ما هو حق كالوصية في قربة لغير وارث ، والضمير في قوله : (بَيْنَهُمْ) راجع إلى الورثة ، وإن لم يتقدّم لهم ذكر ، لأنه قد عرف أنهم المرادون من السياق ؛ وقيل : راجع إلى الموصى لهم ، وهم الأبوان والقرابة.

وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) قال : مالا. وأخرج ابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس قال : من لم يترك ستين دينارا لم يترك خيرا. وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم ، والبيهقي في سننه عن عروة ، أن علي بن أبي طالب دخل على مولى لهم في الموت وله سبعمائة درهم أو ستّمائة درهم فقال : ألا أوصي؟ قال لا؟ إنما قال الله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وليس لك كثير مال ؛ فدع مالك لورثتك. وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، والبيهقي عن عائشة ، أن رجلا قال لها : أريد أو أوصي قالت : كم مالك؟ قال : ثلاثة آلاف ، قالت : كم عيالك؟ قال : أربعة ، قالت : قال الله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) وإن هذا شيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل. وأخرج عبد الرزاق ، وسعيد بن منصور ، والبيهقي عن ابن عباس قال : إذا ترك الميت سبعمائة درهم فلا يوصي. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، عن الزهري ، قال : جعل الله الوصية حقا مما قل منه ومما كثر. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد عن قتادة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وذكر حديثا وفيه : «انظر قرابتك الذين يحتاجون ولا يرثون ، فأوص لهم من مالك بالمعروف» وأخرجا أيضا عن طاوس قال : من أوصى لقوم وسمّاهم وترك ذوي قرابته محتاجين انتزعت منهم وردت على قرابته. وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو داود في الناسخ ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، عن محمد بن بشير عن ابن عباس قال : نسخت هذه الآية. وأخرج عنه من وجه آخر أبو داود في ناسخه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، أن هذه الآية نسخها قوله تعالى : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) (١) الآية. وأخرج عنه من وجه آخر ابن جرير ، وابن أبي حاتم ؛ أنها منسوخة بآية الميراث. وأخرج عنه أبو داود في سننه ، والبيهقي مثله. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : في الآية نسخ من يرث ، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن ابن عمر أنه قال : هذه الآية نسختها آية الميراث. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : (فَمَنْ بَدَّلَهُ) الآية ، قال : وقد وقع أجر الموصي على الله وبرىء من إثمه ، وقال في قوله : (جَنَفاً) يعني : إثما (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) قال : إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها فليس على الأولياء حرج أن يردوا خطأه إلى الصواب. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير نحوه لكنه فسر الجنف بالميل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله :

(جَنَفاً أَوْ إِثْماً) قال : خطأ أو عمدا. وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في سننه عنه قال : الجنف في الوصية والإضرار فيها من الكبائر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ

__________________

(١). النساء : ٧.

٢٠٦

(١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤))

قد تقدّم معنى (كُتِبَ) ، ولا خلاف بين المسلمين أجمعين أن صوم رمضان فريضة افترضها الله سبحانه على هذه الأمة. والصيام أصله في اللغة : الإمساك ، وترك التنقل من حال إلى حال ، ويقال للصمت : صوم ، لأنه إمساك عن الكلام ، ومنه : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) (١) أي : إمساكا عن الكلام ، ومنه قول النابغة :

خيل صيام وخيل غير صائمة

تحت العجاج وخيل تعلك اللجما

أي : خيل ممسكة عن الجري والحركة. وهو في الشرع : الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وقوله : (كَما كُتِبَ) أي : صوما كما كتب ، على أن الكاف في موضع نصب على النعت ، أو : كتب عليكم الصيام مشبها ما كتب ، على أنه في محل نصب على الحال. وقال بعض النحاة : إن الكاف في موضع رفع نعتا للصيام ، وهو ضعيف ؛ لأن الصيام معرّف باللام ، والضمير المستتر في قوله : (كَما كُتِبَ) راجع إلى ما. واختلف المفسرون في وجه التشبيه ما هو؟ فقيل : هو قدر الصوم ووقته ، فإن الله كتب على اليهود والنصارى صوم رمضان فغيّروا ؛ وقيل : هو الوجوب ، فإن الله أوجب على الأمم الصيام ؛ وقيل : هو الصفة ، أي : ترك الأكل والشرب ونحوهما في وقت ؛ فعلى الأوّل معناه : أن الله كتب على هذه الأمة صوم رمضان كما كتبه على الذين من قبلهم ؛ وعلى الثاني : أن الله أوجب على هذه الأمة الصيام كما أوجبه على الذين من قبلهم ؛ وعلى الثالث : أن الله سبحانه أوجب على هذه الأمة الإمساك عن المفطرات كما أوجبه على الذين من قبلهم. وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) بالمحافظة عليها ؛ وقيل : تتقون المعاصي بسبب هذه العبادة ، لأنها تكسر الشهوة ؛ وتضعف دواعي المعاصي ، كما ورد في الحديث أنه جنّة وأنه وجاء. وقوله : (أَيَّاماً) منتصب على أنه مفعول ثان لقوله : (كُتِبَ) ، قاله الفراء : وقيل : إنه منتصب على أنه ظرف ، أي : كتب عليكم الصيام في أيام. وقوله : (مَعْدُوداتٍ) أي : معينات بعدد معلوم ، ويحتمل أن يكون في هذا الجمع ـ لكونه من جموع القلة ـ إشارة إلى تقليل الأيام. وقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) قيل : للمريض حالتان : إن كان لا يطيق الصوم كان الإفطار عزيمة ، وإن كان يطيقه مع تضرّر ومشقة كان رخصة ، وبهذا قال الجمهور ، وقوله : (عَلى سَفَرٍ) اختلف أهل العلم في السفر المبيح للإفطار ؛ فقيل : مسافة قصر الصلاة ، والخلاف في قدرها معروف ، وبه قال الجمهور ، وقال غيرهم بمقادير لا دليل عليها. والحقّ أن ما صدق عليه مسمّى السفر ؛ فهو الذي يباح عنده الفطر ، وهكذا ما صدق عليه مسمّى المرض ؛ فهو الذي يباح عنده الفطر. وقد وقع الإجماع على الفطر في سفر الطاعة. واختلفوا في الأسفار المباحة ، والحق أن الرخصة ثابتة فيه ، وكذا اختلفوا في سفر المعصية. وقوله : (فَعِدَّةٌ) أي : فعليه عدّة ، أو فالحكم عدّة ، أو فالواجب عدّة ؛ والعدّة : فعلة من العدد ، وهو بمعنى المعدود. وقوله : (مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قال سيبويه : ولم ينصرف لأنه معدول به عن الآخر ، لأن سبيل هذا الباب أن يأتي بالألف

__________________

(١). مريم : ٢٦.

٢٠٧

واللام. وقال الكسائي : هو معدول به عن آخر ؛ وقيل : إنه جمع أخرى ، وليس في الآية ما يدل على وجوب التتابع في القضاء. وقوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) قراءة الجمهور بكسر الطاء وسكون الياء ، وأصله يطوقونه نقلت الكسرة إلى الطاء ، وانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وقرأ حميد على الأصل من غير إعلال. وقرأ ابن عباس بفتح الطاء مخففة وتشديد الواو ، أي : يكلّفونه. وروى ابن الأنباري عن ابن عباس : (يُطِيقُونَهُ) بفتح الياء وتشديد الطاء والياء مفتوحتين ، بمعنى : يطيقونه. وروي عن عائشة وابن عباس وعمرو بن دينار وطاوس أنهم قرءوا «يطّيّقونه» بفتح الياء وتشديد الطاء مفتوحة. وقرأ أهل المدينة والشام (فِدْيَةٌ طَعامُ) مضافا. وقرءوا أيضا مساكين وقرأ ابن عباس : (طَعامُ مِسْكِينٍ) وهي قراءة أبي عمرو وعاصم وحمزة والكسائي. وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية ، هل هي محكمة أو منسوخة ؛ فقيل : إنها منسوخة ، وإنما كانت رخصة عند ابتداء فرض الصيام لأنه شقّ عليهم ، فكان من أطعم كلّ يوم مسكينا ترك الصوم وهو يطيقه ، ثم نسخ ذلك ، وهذا قول الجمهور. وروي عن بعض أهل العلم أنها لم تنسخ ، وأنها رخصة للشيوخ والعجائز خاصة إذا كانوا لا يطيقون الصيام إلا بمشقة ، وهذا يناسب قراءة التشديد ، أي : يكلفونه كما مرّ. والناسخ لهذه الآية عند الجمهور قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) (١). وقد اختلفوا في مقدار الفدية ؛ فقيل : كل يوم صاع من غير البرّ ، ونصف صاع منه ؛ وقيل : مدّ فقط. وقوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ). قال ابن شهاب : معناه : من أراد الإطعام مع الصوم. وقال مجاهد : معناه : من زاد في الإطعام على المدّ ؛ وقيل : من أطعم مع المسكين مسكينا آخر. وقرأ عيسى ابن عمرو ، ويحيى بن وثاب ، وحمزة ، والكسائي «يطوّع» مشدّدا مع جزم الفعل على معنى يتطوّع ، وقرأ الباقون بتخفيف الطاء على أنه فعل ماض. وقوله : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) معناه : أن الصيام خير لهم من الإفطار مع الفدية ، وكان هذا قبل النسخ ؛ وقيل : معناه : وأن تصوموا في السفر والمرض غير الشاق.

وقد أخرج أحمد ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن حبان ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، عن معاذ بن جبل قال : أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال ، وأحيل الصيام ثلاثة أحوال ، فذكر أحوال الصلاة ثم قال : وأما أحوال الصيام ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قدم المدينة ، فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام ، وصام عاشوراء ، ثم إن الله سبحانه فرض عليه الصيام وأنزل عليه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) إلى قوله (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) فكان من شاء صام ، ومن شاء أطعم مسكينا فأجزأ ذلك عنه ، ثم إن الله أنزل الآية الأخرى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فأثبت الله صيامه على الصحيح المقيم ، ورخّص فيه للمريض والمسافر ، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام ، ثم ذكر تمام الحديث. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) قال : يعني بذلك أهل الكتاب. وأخرج البخاري في تاريخه ، والطبراني عن دغفل بن حنظلة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كان على النّصارى صوم شهر رمضان ، فمرض ملكهم فقالوا : لئن شفاه الله لنزيدنّ عشرا ، ثم كان آخر فأكل لحما فأوجع فاه فقال : لئن شفاه الله ليزيدنّ سبعة ، ثم كان عليهم ملك آخر فقال : ما ندع من هذه الثلاثة

__________________

(١). البقرة : ١٨٥.

٢٠٨

الأيام شيئا أن نتمّها ونجعل صومنا في الربيع ، ففعل فصارت خمسين يوما». وأخرج ابن جرير عن السدّي في قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قال : تتقون من الطعام والشراب والنساء مثل ما اتقوا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحو ما سبق عن معاذ. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم». وأخرج البخاري ومسلم عن عائشة قالت : كان عاشوراء صياما ، فلما أنزل رمضان ؛ كان من شاء صام ومن شاء أفطر. وأخرج عبد بن حميد أن ابن عباس قال : إن قوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) قد نسخت. وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه نحو ذلك ، وزاد أن الناسخ لها قوله تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) الآية. وأخرج نحو ذلك عنه أبو داود في ناسخه. وأخرج نحوه عنه أيضا سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وأبو داود ، وابن جرير ، وابن المنذر وغيرهم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث سلمة بن الأكوع قال : لما نزلت هذه الآية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ) كان من شاء صام ، ومن شاء أن يفطر ويفتدي فعل ، حتى نزلت هذه الآية بعدها فنسختها (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ). وأخرج البخاري عن ابن أبي ليلى قال : حدّثنا أصحاب محمد ، فذكر نحوه. وأخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ) قال : الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم فيفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينا. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والدارقطني ، والبيهقي ، أن أنس بن مالك ضعف عن الصوم عاما قبل موته ، فصنع جفنة من ثريد ودعا ثلاثين مسكينا فأطعمهم. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، والدارقطني وصحّحه عن ابن عباس ؛ أنه قال لأم ولد له حامل أو مرضعة : أنت بمنزلة الذين لا يطيقون الصيام ، عليك الطعام ، لا قضاء عليك. وأخرج عبد ابن حميد ، وابن أبي حاتم ، والدارقطني عن ابن عمر ، أن إحدى بناته أرسلت تسأله عن صوم رمضان وهي حامل ، قال : تفطر وتطعم كلّ يوم مسكينا. وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين. وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) قال : أطعم مسكينين. وأخرج عبد بن حميد عن طاوس في قوله : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) قال : إطعام مساكين. وأخرج ابن جرير عن ابن شهاب في قوله : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) أي : أن الصوم خير لكم من الفدية. وقد ورد في فضل الصوم أحاديث كثيرة جدا.

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥))

(رَمَضانَ) مأخوذ من : رمض الصائم يرمض : إذا احترق جوفه من شدة العطش ، والرمضاء ممدود : شدّة الحرّ ، ومنه : الحديث الثابت في الصحيح : «صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال» أي أحرقت الرمضاء أجوافها. قال الجوهري : وشهر رمضان يجمع على رمضانات وأرمضاء ـ يقال : إنهم لما نقلوا أسماء الشهور

٢٠٩

عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها ، فوافق هذا الشهر أيام الحرّ فسمي بذلك ، وقيل : إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب ، أي : يحرقها بالأعمال الصالحة. وقال الماوردي : إن اسمه في الجاهلية ناتق ، وأنشد للمفضّل :

وفي ناتق أجلت لدى حومة الوغى

وولّت على الأدبار فرسان خثعما

وإنما سمّوه بذلك ؛ لأنه كان ينتقهم لشدّته عليهم ، وشهر : مرتفع في قراءة الجماعة على أنه مبتدأ خبره (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف ، أي : المفروض عليكم صومه شهر رمضان ، ويجوز أن يكون بدلا من الصيام المذكور في قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ). وقرأ مجاهد ، وشهر ابن حوشب : بنصب الشهر ، ورواها هارون الأعور عن أبي عمرو ، وهو منتصب بتقدير : الزموا ، أو صوموا. قال الكسائي والفرّاء : إنه منصوب بتقدير فعل : كتب عليكم الصيام ، وأن تصوموا. وأنكر ذلك النحاس وقال : إنه منصوب على الإغراء. وقال الأخفش : إنه نصب على الظرف ، ومنع الصرف : للألف والنون الزائدتين. قوله : (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) قيل : أنزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ثم كان جبريل ينزل به نجما نجما. وقيل : أنزل فيه أوّله ؛ وقيل : أنزل في شأنه القرآن ، وهذه الآية أعمّ من قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) (٢) يعني ليلة القدر. والقرآن : اسم لكلام الله تعالى ، وهو بمعنى : المقروء ، كالمشروب سمي : شرابا ، والمكتوب سمي : كتابا ؛ وقيل : هو مصدر قرأ يقرأ ، ومنه قول الشاعر :

ضحّوا بأشمط عنوان السّجود به

يقطّع اللّيل تسبيحا وقرآنا

أي : قراءة ، ومنه قوله تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) (٣) أي : قراءة الفجر. وقوله : (هُدىً لِلنَّاسِ) منتصب على الحال ، أي : هاديا لهم. وقوله : (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) من عطف الخاص على العام ؛ إظهارا لشرف المعطوف بإفراده بالذكر ، لأن القرآن يشمل محكمه ومتشابهه ، والبينات تختصّ بالمحكم منه. والفرقان : ما فرق بين الحق والباطل ، أي : فصل ، قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) أي : حضر ولم يكن في سفر بل كان مقيما ، والشهر منتصب على أنه ظرف ، ولا يصح أن يكون مفعولا به. قال جماعة من السلف والخلف : إن من أدركه شهر رمضان مقيما غير مسافر لزمه صيامه ، سافر بعد ذلك أو أقام استدلالا بهذه الآية. وقال الجمهور : إنه إذا سافر أفطر ، لأن معنى الآية : إن حضر الشهر من أوّله إلى آخره ، لا إذا حضر بعضه وسافر ، فإنه لا يتحتم عليه إلا صوم ما حضره ، وهذا هو الحقّ ، وعليه دلت الأدلة الصحيحة من السنة. وقد كان يخرج صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رمضان فيفطر. وقوله : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) قد تقدّم تفسيره. وقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) فيه أن هذا مقصد من مقاصد الربّ سبحانه ، ومراد من مراداته في جميع أمور الدين ، ومثله قوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٤) وقد ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يرشد إلى التيسير ، وينهى عن التعسير ، كقوله

__________________

(١). القدر : ١.

(٢). الدخان : ٣.

(٣). الإسراء : ٧٨.

(٤). الحج : ٧٨.

٢١٠

صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يسّروا ولا تعسّروا وبشّروا ولا تنفّروا» وهو في الصحيح. واليسر السهل الذي لا عسر فيه. وقوله : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) الظاهر أنه معطوف على قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) أي : يريد بكم اليسر ، ويريد إكمالكم للعدّة ، وتكبيركم ؛ وقيل : إنه متعلق بمحذوف تقديره : رخّص لكم هذه الرخصة لتكملوا العدة ، وشرع لكم الصوم لمن شهد الشهر لتكملوا العدة. وقد ذهب إلى الأوّل البصريون قالوا : والتقدير : يريد لأن تكملوا العدّة ، ومثله : قول كثيّر أبو صخر :

أريد لأنسى ذكرها فكأنّما

تمثّل لي ليلى بكلّ سبيل

وذهب الكوفيون إلى الثاني ؛ وقيل : الواو مقحمة ، وقيل : إن هذه اللام لام الأمر ، والواو لعطف الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها. وقال في الكشاف : إن قوله : (لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) علة للأمر بمراعاة العدّة (وَلِتُكَبِّرُوا) علة ما علم من كيفية القضاء والخروج عن عهدة الفطر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) علة الترخيص والتيسير ، والمراد بالتكبير هنا : هو قول القائل : الله أكبر. قال الجمهور : ومعناه الحضّ على التكبير في آخر رمضان. وقد وقع الخلاف في وقته ، فروي عن بعض السلف أنهم كانوا يكبرون ليلة الفطر ، وقيل : إذا رأوا هلال شوال كبروا إلى انقضاء الخطبة ، وقيل : إلى خروج الإمام ؛ وقيل : هو التكبير يوم الفطر. قال مالك : هو من حين يخرج من داره إلى أن يخرج الإمام ، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة : يكبّر في الأضحى ؛ ولا يكبّر في الفطر. وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) قد تقدّم تفسيره.

وقد أخرج ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عديّ ، والبيهقي في سننه عن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا : «لا تقولوا : رمضان ، فإنّ رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا شهر رمضان». وقد ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من صام رمضان إيمانا واحتسابا ؛ غفر له ما تقدّم من ذنبه». وثبت عنه أنه قال : «من قام رمضان إيمانا واحتسابا ، غفر له ما تقدّم من ذنبه». وثبت عنه أنه قال : «شهرا عيد لا ينقصان : رمضان وذو الحجّة». وقال : «إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة» وهذا كله في الصحيح. وثبت عنه في أحاديث كثيرة غير هذه أنه كان يقول : رمضان ، بدون ذكر الشهر. وأخرج ابن مردويه ، والأصبهاني في الترغيب عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّما سمّي رمضان ؛ لأنّ رمضان يرمض الذنوب». وأخرجا أيضا عن عائشة مرفوعا نحوه. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن ابن عمر نحوه. وقد ورد في فضل رمضان أحاديث كثيرة ، وأخرج أحمد ، وابن جرير ، ومحمد بن نصر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «أنزلت صحف إبراهيم في أوّل ليلة من رمضان ، وأنزل الزّبور لثماني عشرة خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان». وأخرج أبو يعلى ، وابن مردويه عن جابر مثله ، لكنه قال : «وأنزل الزّبور لاثني عشر» وزاد : «وأنزلت التوراة لست خلون من رمضان ، وأنزل الإنجيل لثماني عشرة خلت من رمضان». وأخرج محمد بن نصر عن عائشة نحو قول جابر ، إلا أنها لم تذكر نزول القرآن. وأخرج ابن جرير ، ومحمد بن نصر ، وابن أبي

٢١١

حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عن مقسم قال : سأل عطية بن الأسود ابن عباس فقال : إنه قد وقع في قلبي الشكّ في قول الله : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ). وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (١) وقوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) (٢) فقال ابن عباس : إنه أنزل في ليلة القدر وفي رمضان وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل بعد ذلك على مواقع النجوم في الشهور والأيام. وأخرج محمد بن نصر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي ، والضياء في المختارة عن ابن عباس قال : نزل القرآن جملة لأربعة وعشرين من رمضان ، فوضع في بيت العزّة في السماء الدنيا ، فجعل جبريل ينزله على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترتيلا. وأخرج ابن جرير عنه أنه قال : «ليلة القدر : هي اللّيلة المباركة ، وهي في رمضان ، أنزل القرآن جملة واحدة من الذكر إلى البيت المعمور». وأخرج ابن المنذر عن ابن جرير في قوله : (هُدىً لِلنَّاسِ) قال : يهتدون به (وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى) قال : فيه الحلال والحرام والحدود. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن ابن عباس في قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) قال : هو إهلاله بالدار. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن عليّ قال : من أدرك رمضان وهو مقيم ثم سافر فقد لزمه الصوم لأن الله يقول : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ). وأخرج سعيد بن منصور عن ابن عمر نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي عن ابن عباس في قوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) قال : اليسر : الإفطار في السفر ، والعسر : الصوم في السفر. وأخرج ابن جرير عن الضحاك ، أنه قال : عدة ما أفطر المريض في السفر. وقد صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم فأكملوا العدّة ثلاثين يوما». وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : حقّ على الصائمين إذا نظروا إلى شهر شوّال أن يكبّروا الله حتى يفرغوا من عيدهم ، لأن الله يقول : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ). وأخرج سعيد بن منصور ، وابن أبي شيبة عن ابن مسعود أنه كان يكبّر : الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ، الله أكبر ، ولله الحمد. وأخرج ابن أبي شيبة ، والبيهقي في سننه عن ابن عباس أنه كان يكبّر : الله أكبر كبيرا ، الله أكبر كبيرا ، الله أكبر وأجلّ ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا.

(وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦))

قوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) يحتمل أن السؤال عن : القرب والبعد ، كما يدل عليه قوله : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) ويحتمل أن السؤال عن : إجابة الدعاء ، كما يدلّ على ذلك قوله : (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) ويحتمل أن السؤال عما هو أعمّ من ذلك ، وهذا هو الظاهر مع قطع النظر عن السبب الذي سيأتي بيانه. وقوله : (فَإِنِّي قَرِيبٌ) قيل : بالإجابة ، وقيل : بالعلم ؛ وقيل : بالإنعام. وقال في الكشاف : إنه تمثيل لحاله في سهولة إجابته لمن دعاه ، وسرعة إنجاحه حاجة من سأله ؛ بمن قرب مكانه ، فإذا دعي أسرعت تلبيته. ومعنى

__________________

(١). القدر : ١.

(٢). الدخان : ٣.

٢١٢

الإجابة : هو معنى ما في قوله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (١) وقيل : معناه : أقبل عبادة من عبدني بالدعاء ، لما ثبت عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أن الدعاء هو العبادة ، كما أخرجه أبو داود وغيره من حديث النعمان بن بشير ، والظاهر أن الإجابة هي باقية على معناها اللغوي ؛ وكون الدعاء من العبادة لا يستلزم أن الإجابة هي القبول للدّعاء ، أي : جعله عبادة متقبلة ؛ فالإجابة أمر آخر غير قبول هذه العبادة. والمراد : أنه سبحانه يجيب بما شاء وكيف شاء ، فقد يحصل المطلوب قريبا ، وقد يحصل بعيدا ، وقد يدفع عن الداعي من البلاء ما لا يعلمه بسبب دعائه ، وهذا مقيد بعدم اعتداء الداعي في دعائه ، كما في قوله سبحانه : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٢) ومن الاعتداء : أن يطلب ما لا يستحقه ولا يصلح له ، كمن يطلب منزلة في الجنة مساوية لمنزلة الأنبياء أو فوقها. وقوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي : كما أجبتهم إذا دعوني ؛ فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعات ، وقيل : معناه : أنهم يطلبون إجابة الله سبحانه لدعائهم باستجابتهم له ، أي : القيام بما أمرهم به ، والترك لما نهاهم عنه. والرشد : خلاف الغيّ ، رشد يرشد رشدا ، ورشدا. قال الهروي : الرشد والرشد والرّشاد ، الهدى والاستقامة. قال : ومنه هذه الآية.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه من طريق الصلت بن حكيم عن رجل من الأنصار عن أبيه عن جدّه ، قال : جاء رجل إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله! أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن الحسن قال : سأل أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أين ربّنا؟ فأنزل الله هذه الآية. وأخرج ابن مردويه عن أنس أنه سأل أعرابيّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أين ربّنا؟ فنزلت. وأخرج ابن عساكر في تاريخه عن علي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تعجزوا عن الدعاء ، فإن الله أنزل عليّ : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)» فقال رجل : يا رسول الله! ربنا يسمع الدعاء أم كيف ذلك؟ فأنزل الله هذه الآية. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن عطاء أنه بلغه لما نزلت : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) قالوا : لو نعلم أيّ ساعة ندعو ، فنزلت. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجّل له دعوته ، وإمّا أن يدّخرها له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السّوء مثلها». وثبت في الصحيح أيضا من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يستجاب لأحدكم ما لم يعجّل ، يقول : دعوت فلم يستجب لي». وأخرج ابن أبي حاتم عن أنس في قوله : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) قال : ليدعوني (وَلْيُؤْمِنُوا بِي) أي : أنهم إذا دعوني استجبت لهم. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال : (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي) أي : فليطيعوني. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن الربيع بن أنس في قوله : (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) قال : يهتدون.

(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا

__________________

(١). غافر : ٦٠.

(٢). الأعراف : ٥٥.

٢١٣

وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧))

قوله : (أُحِلَّ لَكُمْ) فيه دلالة على أن هذا الذي أحلّه الله كان حراما عليهم ، وهكذا كان كما يفيده السبب لنزول الآية وسيأتي. والرفث : كناية عن الجماع. قال الزجّاج : الرّفث : كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته ، وكذا قال الأزهري ، ومنه قول الشاعر :

ويرين من أنس الحديث زوانيا

وبهنّ عن رفث الرّجال نفار

وقيل : الرفث : أصله قول الفحش ، رفث وأرفث : إذا تكلم بالقبيح ، وليس هو المراد هنا ، وعدّى الرفث بإلى لتضمينه معنى الإمضاء ، وجعل النساء لباسا للرجال ، والرجال لباسا لهنّ لامتزاج كل واحد منهما بالآخر عند الجماع ، كالامتزاج الذي يكون بين الثوب ولابسه. قال أبو عبيدة وغيره : يقال للمرأة : لباس وفراش وإزار. وقيل : إنما جعل كلّ واحد منهما لباسا للآخر ؛ لأنه يستره عند الجماع عن أعين الناس. وقوله : (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي : تخونونها بالمباشرة في ليالي الصوم ، يقال خان واختان بمعنى ، وهما من الخيانة. قال القتبي : أصل الخيانة : أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه. انتهى. وإنما سمّاهم : خائنين لأنفسهم ، لأن ضرر ذلك عائد عليهم وقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) يحتمل معنيين : أحدهما قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم ، والآخر التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة كقوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) (١) يعني : خفف عنكم ، وكقوله : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللهِ) (٢) يعني : تخفيفا ، وهكذا قوله : (وَعَفا عَنْكُمْ) يحتمل : العفو من الذنب ، ويحتمل : التوسعة والتسهيل. وقوله : (وَابْتَغُوا) قيل : هو الولد ، أي : ابتغوا بمباشرة نسائكم حصول ما هو معظم المقصود من النكاح وهو حصول النسل ، وقيل : المراد : ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه ، قاله الزجاج وغيره ؛ وقيل : ابتغوا الرخصة والتوسعة ؛ وقيل : المراد : ابتغوا ما كتب لكم من الإماء والزوجات ؛ وقيل غير ذلك مما لا يفيده النظم القرآني ، ولا دلّ عليه دليل آخر ، وقرأ الحسن البصري : واتبعوا بالعين المهملة من الإتباع ، وقوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) هو تشبيه بليغ ، والمراد هنا بالخيط الأبيض : هو المعترض في الأفق ، لا الذي هو كذنب السرحان ، فإنه الفجر الكذاب الذي لا يحلّ شيئا ولا يحرمه. والمراد بالخيط الأسود : سواد الليل ، والتبين : أن يمتاز أحدهما عن الآخر ، وذلك لا يكون إلا عند دخول وقت الفجر. وقوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) فيه التصريح بأن للصوم غاية هي الليل ، فعند إقبال الليل من المشرق ، وإدبار النهار من المغرب ، يفطر الصائم ويحلّ له الأكل والشرب وغيرهما. وقوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) قيل : المراد بالمباشرة هنا الجماع ؛ وقيل تشمل التقبيل واللمس إذا كان لشهوة ، لا إذا كانا لغير شهوة ، فهما جائزان كما قاله عطاء والشافعي وابن المنذر وغيرهم ، وعلى

__________________

(١). المزمل : ٢٠.

(٢). النساء : ٩٢.

٢١٤

هذا يحتمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبّل ، فتكون هذا الحكاية للإجماع مقيدة بأن يكونا لشهوة ، والاعتكاف في اللغة : الملازمة ، يقال : عكف على الشيء : إذا لازمه ، ومنه قول الشاعر :

وظلّ بنات اللّيل حولي عكّفا

عكوف البواكي حولهنّ (١) صريع

ولما كان المعتكف يلازم المسجد قيل له : عاكف في المسجد ، ومعتكف فيه ، لأنه يحبس نفسه لهذه العبادة في المسجد ، والاعتكاف في الشرع : ملازمة طاعة مخصوصة على شرط مخصوص. وقد وقع الإجماع على أنه ليس بواجب ، وعلى أنه لا يكون إلا في مسجد ، وللاعتكاف أحكام مستوفاة في كتب الفقه وشروح الحديث. وقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) أي : هذه الأحكام حدود الله ، وأصل الحدّ : المنع ، ومنه سمي البوّاب والسجّان : حدادا ، وسميت الأوامر والنواهي : حدود الله ، لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها ، وأن يخرج عنها ما هو منها ، ومن ذلك سميت الحدود : حدودا ؛ لأنها تمنع أصحابها من العود. ومعنى النهي عن قربانها : النهي عن تعدّيها بالمخالفة لها ؛ وقيل : إن حدود الله هي محارمه فقط ، ومنها المباشرة من المعتكف ، والإفطار في رمضان لغير عذر ، وغير ذلك مما سبق النهي عنه ، ومعنى النهي عن قربانها على هذا واضح. وقوله (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ) أي : كما بين لكم هذه الحدود يبين لكم العلامات الهادية إلى الحق. وقد أخرج البخاري ، وأبو داود ، والنسائي ، وغيرهم ، عن البراء بن عازب قال : كان أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي ، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما ، فكان يومه ذلك يعمل في أرضه ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام؟ قالت : لا ، ولكن أنطلق فأطلب لك ، فغلبته عينه فنام وجاءت امرأته ، فلما رأته نائما قالت : خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه ، فذكر ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت هذه الآية (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) إلى قوله (مِنَ الْفَجْرِ) ففرحوا بها فرحا شديدا. وأخرج البخاري أيضا من حديثه قال : لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كلّه ، فكان رجال يخونون أنفسهم ، فأنزل الله : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) الآية. وقد روي في بيان سبب نزول هذه الآية أحاديث عن جماعة من الصحابة نحو ما قاله البراء. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان الناس أوّل ما أسلموا إذا صام أحدهم يصوم يومه حتى إذا أمسى طعم من الطعام ، ثم قال : وإن عمر بن الخطاب أتى امرأته ، ثم أتى رسول الله فقال : يا رسول الله! إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي ، وذكر ما وقع منه ، فنزل قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عنه قال : إن المسلمين كانوا في شهر رمضان ، إذا صلّوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام والشراب إلى مثلها من القابلة ، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا النساء والطعام

__________________

(١). في القرطبي ٢ / ٣٣٢ : «بينهنّ».

٢١٥

في رمضان بعد العشاء ، منهم عمر بن الخطاب ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) الآية. وأخرج ابن أبي شيبة ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال : الرفث : الجماع. وأخرج ابن المنذر عن ابن عمر مثله. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال : الدخول والتغشي والإفضاء والمباشرة والرّفث واللّمس والمسّ هذا الجماع ، غير أن الله حيي كريم يكنّى بما شاء عما شاء. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه عن ابن عباس في قوله : (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) قال : هنّ سكن لكم ، وأنتم سكن لهنّ. وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) قال : تظلمون أنفسكم. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) قال : انكحوهنّ. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه في قوله : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قال : الولد. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة والضحاك مثله. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى : (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) قال : ليلة القدر. وأخرج البخاري في تاريخه عن أنس مثله. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قال : (وَابْتَغُوا) الرخصة التي كتب الله لكم. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن سهل بن سعد. قال : أنزلت (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) ولم ينزل (مِنَ الْفَجْرِ) فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبيّن له رؤيتهما ، فأنزل الله (مِنَ الْفَجْرِ) فعلموا أنه يعني الليل والنهار. وفي الصحيحين وغيرهما عن عديّ بن حاتم ، أنه جعل تحت وساده خيطين أبيض وأسود ، وجعل ينظر إليهما فلا يتبين له الأبيض من الأسود ؛ فغدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبره ، فقال : «إنّ وسادك إذا لعريض ، إنّما ذلك بياض النّهار من سواد اللّيل». وفي رواية في البخاري وغيره. أنه قال له : «إنك لعريض القفا». وفي رواية عند ابن جرير وابن أبي حاتم : أنه ضحك منه. وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن الضحّاك قال : كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزلت : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير عن الربيع نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر عن ابن عباس قال : «إذا جامع المعتكف بطل اعتكافه ويستأنف». وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) قال : يعني طاعة الله. وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك قال (حُدُودُ اللهِ) معصية الله : يعني المباشرة في الاعتكاف. وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل أنها الجماع. وأخرج أيضا عن سعيد بن جبير في قوله : (كَذلِكَ) يعني : هكذا يبين الله.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨))

٢١٦

هذا يعمّ جميع الأمة وجميع الأموال ، لا يخرج عن ذلك إلا ما ورد دليل الشرع بأنه يجوز أخذه ، فإنه مأخوذ بالحق لا بالباطل ، ومأكول بالحلّ لا بالإثم ، وإن كان صاحبه كارها كقضاء الدين إذا امتنع منه من هو عليه ، وتسليم ما أوجبه الله من الزكاة ونحوها ، ونفقة من أوجب الشرع نفقته. والحاصل : أن ما لم يبح الشرع أخذه من مالكه ؛ فهو مأكول بالباطل ، وإن طابت به نفس مالكه ، كمهر البغيّ ، وحلوان الكاهن ، وثمن الخمر. والباطل في اللغة : الذاهب الزائل. وقوله : (وَتُدْلُوا) مجزوم عطفا على تأكلوا ، فهو من جملة المنهي عنه ، يقال : أدلى الرجل بحجته ؛ أو بالأمر الذي يرجو النجاح به ؛ تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر ، يقال : أدلى دلوه : أرسلها ، والمعنى : أنكم لا تجمعوا بين أكل الأموال بالباطل وبين الإدلاء بها إلى الحكام بالحجج الباطلة ، وفي هذه الآية دليل أن حكم الحاكم لا يحلل الحرام ، ولا يحرم الحلال ، من غير فرق بين الأموال والفروج ، فمن حكم له القاضي بشيء ؛ مستندا في حكمه إلى شهادة زور ؛ أو يمين فجور ؛ فلا يحلّ له أكله ، فإن ذلك من أكل أموال الناس بالباطل ، وهكذا إذا رشى الحاكم فحكم له بغير الحق ؛ فإنه من أكل أموال الناس بالباطل. ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم الحاكم لا يحلّل الحرام ولا يحرّم الحلال. وقد روي عن أبي حنيفة ما يخالف ذلك ، وهو مردود ، لكتاب الله تعالى ولسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما في حديث أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّكم تختصمون إليّ ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع ، فمن قضيت له من حقّ أخيه بشيء فلا يأخذه فإنّما أقطع له قطعة من النار» وهو في الصحيحين وغيرهما. وقوله : (فَرِيقاً) أي : قطعة أو جزءا أو طائفة ، فعبّر بالفريق عن ذلك ، وأصل الفريق : القطعة من الغنم تشذ عن معظمها. وقيل : في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : لتأكلوا أموال فريق من الناس بالإثم ، وسمي الظلم والعدوان : إثما ، باعتبار تعلقه بفاعله. وقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : حال كونكم عالمين أن ذلك باطل ليس من الحق في شيء ، وهذا أشدّ لعقابهم وأعظم لجرمهم.

وقد أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) الآية ، قال : هذا في الرجل يكون عليه مال وليس عليه بينة ، فيجحد المال ، ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه. وروى سعيد بن منصور ، وعبد بن حميد عن مجاهد قال : معناها : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم. وأخرج ابن المنذر عن قتادة نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أن امرأ القيس بن عابس وعبدان بن أشوع الحضرمي اختصما في أرض ، وأراد امرؤ القيس أن يحلف ، فنزلت : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) الآية.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩))

قوله : (يَسْئَلُونَكَ) سيأتي بيان من هم السائلون له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والأهلة : جمع هلال ، وجمعها : باعتبار هلال كل شهر ، أو كل شهر ، قال الأصمعي : هو هلال حتى يستدير ـ وقيل : هو هلال حتى ينير

٢١٧

بضوئه السماء وذلك ليلة السابع. وإنما قيل له : هلال ، لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه عند رؤيته ، ومنه استهلّ الصبي : إذا صاح ، واستهلّ وجهه وتهلّل : إذا ظهر فيه السرور. قوله : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) فيه بيان وجه الحكمة في زيادة الهلال ونقصانه ، وأن ذلك لأجل بيان المواقيت التي يوقت الناس عباداتهم ؛ ومعاملاتهم بها ، كالصوم ، والفطر ، والحج ، ومدّة الحمل ، والعدّة والإجارات ، والأيمان وغير ذلك ، ومثله قوله تعالى : (لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) (١) والمواقيت : جمع الميقات ، وهو الوقت. وقراءة الجمهور : (وَالْحَجِ) بفتح الحاء. وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها في جميع القرآن. قال سيبويه : الحج بالفتح كالردّ والشدّ ، وبالكسر كالذكر : مصدران بمعنى ؛ وقيل : بالفتح مصدر ، وبالكسر الاسم. وإنما أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت ، ولا يجوز فيه النسيء عن وقته ، ولعظم المشقة على من التبس عليه وقت مناسكه أو أخطأ وقتها أو وقت بعضها. وقد جعل بعض علماء المعاني هذا الجواب ، أعني قوله : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ) من الأسلوب الحكيم ، وهو تلقي المخاطب بغير ما يترقب ، تنبيها على أنه الأولى بالقصد ، ووجه ذلك : أنهم سألوا عن أجرام الأهلة باعتبار زيادتها ونقصانها ، فأجيبوا بالحكمة التي كانت تلك الزيادة والنقصان لأجلها ، لكون ذلك أولى بأن يقصد السائل ، وأحق بأن يتطلع لعلمه. وقوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) وجه اتصال هذا بالسؤال عن الأهلة والجواب بأنها مواقيت للناس والحج : أن الأنصار كانوا إذا حجّوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم إذا رجع أحدهم إلى بيته بعد إحرامه قبل تمام حجه ، لأنهم يعتقدون أن المحرم لا يجوز أن يحول بينه وبين السماء حائل ، وكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم. وقال أبو عبيدة : إن هذا من ضرب المثل ، والمعنى : ليس البرّ أن تسألوا الجهال ، ولكن البرّ التقوى ، واسألوا العلماء ، كما تقول : أتيت هذا الأمر من بابه ؛ وقيل : هو مثل في جماع النساء ، وأنهم أمروا بإتيانهنّ في القبل لا في الدبر ؛ وقيل غير ذلك. والبيوت : جمع بيت ؛ وقرئ بضم الباء وكسرها. وقد تقدّم تفسير التقوى والفلاح ، وسبق أيضا أن التقدير في مثل قوله : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) : ولكن البرّ برّ من اتقى.

وقد أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس في قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) قال : نزلت في معاذ بن جبل وثعلبة بن غنمة. وهما رجلان من الأنصار قالا : يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو ويطلع دقيقا مثل الخيط ، ثم يزيد حتى يعظم ويستوي ويستدير ، ثم لا يزال ينقص ويدقّ حتى يعود كما كان ؛ لا يكون على حال واحد؟ فنزلت : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ) في حلّ دينهم ، ولصومهم ، ولفطرهم ، وعدد نسائهم ، والشروط التي إلى أجل. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة قال : سألوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الأهلة لم جعلت؟ فأنزل الله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) الآية ، فجعلها لصوم المسلمين ، ولإفطارهم ، ولمناسكهم ، وحجهم ، وعدد نسائهم ، ومحل دينهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه. وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس نحوه ، وقد روى ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وأخرج الحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعل الله الأهلّة مواقيت

__________________

(١). الإسراء : ١٢.

٢١٨

للنّاس فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم فعدّوا ثلاثين يوما». فذكر نحو حديث ابن عمر. وأخرج البخاري وغيره عن البراء قال : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهورها فنزلت : (وَلَيْسَ الْبِرُّ) الآية. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه عن جابر قال : كانت قريش تدعى الحمس ، وكانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام ، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام ، فبينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بستان إذ خرج من بابه وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري ، فقالوا : يا رسول الله! إن قطبة بن عامر رجل فاجر ، وإنه خرج معك من الباب ، فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال : رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت ، فقال : إني رجل أحمسي ، قال : فإن ديني دينك ، فأنزل الله الآية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس نحوه. وقد ورد هذا المعنى عن جماعة من الصحابة والتابعين.

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣))

لا خلاف بين أهل العلم أن القتال كان ممنوعا قبل الهجرة لقوله تعالى : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) (١) وقوله : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (٢) وقوله : (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٣) وقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (٤) ونحو ذلك مما نزل بمكة ؛ فلما هاجر إلى المدينة أمره الله سبحانه بالقتال ، ونزلت هذه الآية ؛ وقيل إن أوّل ما نزل قوله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) (٥) فلما نزلت الآية كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقاتل من قاتله ، ويكفّ عمن كفّ عنه حتى نزل قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) (٦) وقوله تعالى : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) (٧). وقال جماعة من السلف : إن المراد بقوله : (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) من عدا النساء والصبيان والرهبان ونحوهم ، وجعلوا هذه الآية محكمة غير منسوخة ، والمراد بالاعتداء عند أهل القول الأوّل : هو مقاتلة من يقاتل من الطوائف الكفرية. والمراد به على القول الثاني : مجاوزة قتل من يستحق القتل إلى قتل من لا يستحقه ممن تقدّم ذكره. قوله : (حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) يقال : ثقف يثقف ثقفا ، ورجل ثقيف : إذا كان محكما لما يتناوله من الأمور. قال في الكشّاف : والثقف وجود على وجه الأخذ والغلبة ، ومنه رجل ثقف : سريع الأخذ لأقرانه. انتهى. ومنه قول حسان :

فإمّا يثقفنّ بني لؤيّ

جذيمة إنّ قتلهم دواء

قوله : (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) أي : مكة. قال ابن جرير : الخطاب للمهاجرين ، والضمير لكفار قريش. انتهى. وقد امتثل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر ربه ، فأخرج من مكة من لم يسلم عند أن فتحها الله عليه. قوله : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي : الفتنة التي أرادوا أن يفتنوكم ، وهي رجوعكم

__________________

(١). المائدة : ١٣.

(٢). المزمل : ١٠.

(٣). الغاشية : ٢٢.

(٤). المؤمنون : ٩٦.

(٥). الحج : ٣٩.

(٦). التوبة : ٩.

(٧). التوبة : ٣٦.

٢١٩

إلى الكفر أشدّ من القتل ؛ وقيل : المراد بالفتنة : المحنة التي تنزل بالإنسان في نفسه أو أهله أو ماله أو عرضه ؛ وقيل : إن المراد بالفتنة : الشرك الذي عليه المشركون ، لأنهم كانوا يستعظمون القتل في الحرم ، فأخبرهم الله أن الشرك الذي هم عليه أشدّ مما يستعظمونه ؛ وقيل : المراد : فتنتهم إياكم بصدّكم عن المسجد الحرام أشدّ من قتلكم إياهم في الحرم ، أو من قتلهم إياكم إن قتلوكم. والظاهر أن المراد : الفتنة في الدين بأيّ سبب كان ، وعلى أيّ صورة اتفقت ، فإنها أشدّ من القتل. قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الآية ، اختلف أهل العلم في ذلك ، فذهبت طائفة إلى أنها محكمة ، وأنه لا يجوز القتال في الحرم إلّا بعد أن يتعدّى بالقتال فيه ، فإنه يجوز دفعه بالمقاتلة له ، وهذا هو الحق. وقالت طائفة : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) ويجاب عن هذا الاستدلال : بأن الجمع ممكن ببناء العام على الخاص ، فيقتل المشرك حيث وجد إلا بالحرم ، ومما يؤيد ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّها لم تحلّ لأحد قبلي ، وإنّما أحلّت لي ساعة من نهار» وهو في الصحيح. وقد احتج القائلون بالنسخ : بقتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن خطل ، وهو متعلّق بأستار الكعبة ، ويجاب عنه بأنه وقع في تلك الساعة التي أحلّ الله لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله : (فَإِنِ انْتَهَوْا) أي : عن قتالكم ودخلوا في الإسلام. قوله : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) فيه الأمر بمقاتلة المشركين إلى غاية ، هي : أن لا تكون فتنة وأن يكون الدين لله ، وهو الدخول في الإسلام ، والخروج عن سائر الأديان المخالفة له ، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن الشرك لم يحلّ قتاله ، قيل : المراد بالفتنة هنا : الشرك ، والظاهر أنها الفتنة في الدين على عمومها كما سلف. قوله : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) أي : لا تعتدوا إلّا على من ظلم وهو من لم ينته عن الفتنة ، ولم يدخل في الإسلام ، وإنما سمي جزاء الظالمين : عدوانا مشاكلة كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٢) وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (٣).

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله تعالى : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية ، أنها أوّل آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله يقاتل من قاتله ، ويكفّ عمن كفّ عنه ، حتى نزلت سورة براءة. وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في هذه الآية قال : إن أصحاب محمد أمروا بقتال الكفار. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَعْتَدُوا) يقول : لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير ولا من ألقى السلام وكفّ يده ، فإن فعلتم فقد اعتديتم. وأخرج ابن أبي شيبة عن عمر بن عبد العزيز أنه قال : إن هذه الآية في النساء والذرية. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) يقول : الشرك أشدّ من القتل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في الآية قال : ارتداد المؤمن إلى الوثن أشدّ عليه من أن يقتل محقّا. وأخرج ابن أبي شيبة ، وأبو داود في ناسخه ، وابن جرير عن قتادة في قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ) قال : حتى يبدؤوا بالقتال ، ثم نسخ بعد ذلك ، فقال : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ). وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وأبو داود في ناسخه ، عن قتادة أن قوله : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) (٤) فكان كذلك حتى نسخ هاتين الآيتين

__________________

(١). التوبة : ٩.

(٢). الشورى : ٤٠.

(٣). البقرة : ١٩٤.

(٤). البقرة : ٢١٧.

٢٢٠