فتح القدير - ج ١

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ١

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

وقوله : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) هو على ظاهره ، أي : إنما نحن ابتلاء واختبار من الله لعباده ؛ وقيل : إنه استهزاء منهما ، لأنهما إنما يقولانه لمن قد تحققا ضلاله ، وفي قولهما : (فَلا تَكْفُرْ) أبلغ إنذار وأعظم تحذير ، أي : أن هذا ذنب يكون من فعله كافرا فلا تكفر ، وفيه دليل على أن تعلّم السحر كفر ، وظاهره عدم الفرق بين المعتقد وغير المعتقد ، وبين من تعلّمه ليكون ساحرا ومن تعلّمه ليقدر على دفعه. وقوله : (فَيَتَعَلَّمُونَ) فيه ضمير يرجع إلى قوله : (مِنْ أَحَدٍ) قال سيبويه : التقدير فهم يتعلمون ، قال : ومثله (كُنْ فَيَكُونُ) وقيل : هو معطوف على موضع ما يعلمان ، لأنه وإن كان منفيا فهو يتضمن الإيجاب. وقال الفرّاء : هي مردودة على قوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) أي : يعلمون الناس فيتعلمون ، وقوله : (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) في إسناد التفريق إلى السحرة وجعل السحر سببا لذلك دليل على أن للسحر تأثيرا في القلوب بالحبّ والبغض ، والجمع والفرقة ، والقرب والبعد. وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أن الساحر لا يقدر على أكثر مما أخبر الله به من التفرقة ، لأن الله ذكر ذلك في معرض الذمّ للسحر وبيّن ما هو الغاية في تعليمه ، فلو كان يقدر على أكثر من ذلك لذكره. وقالت طائفة أخرى : إن ذلك خرج مخرج الأغلب ، وأن الساحر يقدر على غير ذلك المنصوص عليه ؛ وقيل : ليس للسحر تأثير في نفسه أصلا ، لقوله تعالى : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) والحق أنه لا تنافي بين قوله : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) وبين قوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) فإن المستفاد من جميع ذلك أن للسحر تأثيرا في نفسه ، ولكنه لا يؤثر ضررا إلا فيمن أذن الله بتأثيره فيه. وقد أجمع أهل العلم على أن له تأثيرا في نفسه وحقيقة ثابتة ، ولم يخالف في ذلك إلا المعتزلة وأبو حنيفة كما تقدم ، وقوله : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) فيه تصريح بأن السحر لا يعود على صاحبه بفائدة ، ولا يجلب إليه منفعة ، بل هو ضرر محض ، وخسران بحت ، واللام في قوله : (وَلَقَدْ) جواب قسم محذوف ، وفي قوله : (لَمَنِ اشْتَراهُ) للتأكيد و «من» موصولة ، وهي في محل رفع على الابتداء ، والخبر قوله : (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) وقال الفرّاء : إنها شرطية للمجازاة. وقال الزجّاج : ليس هذا بموضع شرط ، ورجّح أنها موصولة كما ذكرنا. والمراد بالشراء هنا : الاستبدال ، أي : من استبدل ما تتلو الشياطين على كتاب الله. والخلاق : النصيب عند أهل اللغة ، كذا قال الزجّاج. والمراد بقوله (ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي : باعوها. وقد أثبت لهم العلم في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) ونفاه عنهم في قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) واختلفوا في توجيه ذلك ، فقال قطرب والأخفش : إن المراد بقوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) الشياطين ، والمراد بقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) الإنس. وقال الزجّاج : إن الأول للملكين ، وإن كان بصيغة الجمع فهو مثل قولهم : الزيدان قاموا. والثاني المراد به علماء اليهود ، وإنما قال : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لأنهم تركوا العمل بعلمهم. وقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) أي : بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما جاء به من القرآن (وَاتَّقَوْا) ما وقعوا فيه من السحر والكفر ، واللام في قوله : (لَمَثُوبَةٌ) جواب لو ، والمثوبة : الثواب. وقال الأخفش : إن الجواب محذوف ، والتقدير : ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا ، فحذف لدلالة قوله : (لَمَثُوبَةٌ) عليه ، وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)

١٤١

هو إما للدلالة على أنه لا علم لهم ، أو لتنزيل علمهم مع عدم العمل منزلة العدم.

وقد أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس «قال ابن صوريا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد! ما جئتنا بشيء يعرف ، وما أنزل الله عليك من آية بينة ، فأنزل الله تعالى في ذلك (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) وقال مالك بن الصيف ، حين بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذكّرهم ما أخذ عليهم من الميثاق ، وما عهد إليهم في محمد : والله ما عهد إلينا في محمد ، ولا أخذ علينا شيئا ، فأنزل الله : (أَوَكُلَّما عاهَدُوا) الآية. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (آياتٍ بَيِّناتٍ) يقول : فأنت تتلوه عليهم وتخبرهم به غدوة وعشية وبين ذلك ، وأنت عندهم أمّي لم تقرأ الكتاب ، وأنت تخبرهم بما في أيديهم على وجهه ، ففي ذلك عبرة لهم وحجة عليهم (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ). وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (نَبَذَهُ) قال : نقضه. وأخرج أيضا عن السدي في قوله : (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) قال : لما جاءهم محمد عارضوه بالتوراة ، واتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت ، كأنهم لا يعلمون بما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتصديقه. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه عن ابن عباس قال : إن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ، فإذا سمع أحدهم بكلمة حقّ كذب معها ألف كذبة ، فأشربتها قلوب الناس ، واتخذوها دواوين ، فأطلع الله على ذلك سليمان بن داود ، فأخذها فدفنها تحت الكرسي ، فلما مات سليمان قام شيطان بالطريق فقال : ألا أدلكم على كنز سليمان الذي لا كنز لأحد مثل كنزه الممنع؟ قالوا : نعم ، فأخرجوه فإذا هو سحر ، فتناسختها الأمم. وأنزل الله عذر سليمان فيما قالوا من السحر فقال : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) الآية. وأخرج النسائي وابن أبي حاتم عنه قال : كان آصف كاتب سليمان ، وكان يعلم الاسم الأعظم ، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ؛ فلما مات سليمان أخرجته الشياطين ، فكتبوا بين كل سطرين سحرا وكفرا ، وقالوا : هذا الذي كان سليمان يعمل به ، فأكفره جهال الناس ، وسبّوه ، ووقف علماؤهم ، فلم يزل جهالهم يسبّونه حتى أنزل الله على محمد : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) الآية ، وأخرج ابن جرير عنه قال : كان سليمان إذا أراد أن يدخل الخلاء أو يأتي شيئا من شأنه أعطى الجرادة ـ وهي امرأته ـ خاتمه ، فلما أراد الله أن يبتلي سليمان بالذي ابتلاه به أعطى الجرادة ذات يوم خاتمه ، فجاء الشيطان في صورة سليمان فقال لها : هاتي خاتمي ، فأخذه فلبسه ، فلما لبسه دانت له الشياطين والجنّ والإنس ، فجاء سليمان فقال : هاتي خاتمي ، فقالت : كذبت لست سليمان ، فعرف أنه بلاء ابتلي به ، فانطلقت الشياطين ، فكتبت في تلك الأيام كتبا فيها سحر وكفر ، ثم دفنوها تحت كرسي سليمان ، ثم أخرجوها فقرؤوها على الناس وقالوا : إنما كان سليمان يغلب الناس بهذه الكتب ، فبرئ الناس من سليمان وأكفروه ، حتى بعث الله محمدا وأنزل عليه : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا). وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (ما تَتْلُوا) قال : ما تتبع. وأخرج أيضا عن عطاء في قوله : (ما تَتْلُوا) قال : نراه ما تحدث. وأخرج أيضا عن ابن جريج في قوله : (عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) يقول : في ملك سليمان.

١٤٢

وأخرج أيضا عن السدي في قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) قال : سحر آخر خاصموه به ، فإن كلام الملائكة فيما بينهم إذا علمته الإنس فصنع وعمل به كان سحرا. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) قال : لم ينزل الله السحر. وأخرج ابن أبي حاتم عن علي قال : هما ملكان من ملائكة السماء. وأخرج نحوه ابن مردويه من وجه آخر عنه مرفوعا. وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن المنذر عن ابن عباس (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) يعني : جبريل وميكائيل (بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) يعلمان الناس السحر. وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن أبزى أنه كان يقرؤها : وما أنزل على الملكين داود وسليمان وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحّاك قال : هما علجان من أهل بابل. وأخرج البيهقي في شعب الإيمان من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشرفت الملائكة على الدنيا ، فرأت بني آدم يعصون ، فقالت يا ربّ! ما أجهل هؤلاء ، ما أقلّ معرفة هؤلاء بعظمتك ، فقال الله : لو كنتم في محلّاتهم لعصيتموني ، قالوا : كيف يكون هذا ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك؟ قال : فاختاروا منكم ملكين ، فاختاروا هاروت وماروت ، ثم أهبطا إلى الأرض وركّبت فيهما شهوات بني آدم ، ومثّلت لهما امرأة فما عصما حتّى واقعا المعصية ، فقال الله : اختارا عذاب الدنيا أو عذاب الآخرة ، فنظر أحدهما لصاحبه قال ما تقول؟ قال : أقول إنّ عذاب الدنيا ينقطع وإن عذاب الآخرة لا ينقطع ، فاختارا عذاب الدنيا ، فهما اللذان ذكر الله في كتابه (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) الآية. وأخرج الحاكم وصحّحه عن ابن عمر أنه كان يقول : أطلعت الحمراء بعد؟ فإذا رآها قال : لا مرحبا ، ثم قال : إن ملكين من الملائكة هاروت وماروت سألا الله أن يهبطهما إلى الأرض ، فأهبطا إلى الأرض فكانا يقضيان بين الناس ، فإذا أمسيا تكلما بكلمات فعرجا بها إلى السماء ، فقيّض لهما امرأة من أحسن النساء وألقيت عليهما الشهوة فجعلا يؤخرانها وألقيت في أنفسهما ، فلم يزالا يفعلان حتى وعدتهما ميعادا ، فأتتهما للميعاد فقالت : علّماني الكلمة التي تعرجان بها ، فعلّماها الكلمة فتكلمت بها فعرجت إلى السماء فمسخت فجعلت كما ترون ، فلما أمسيا تكلما بالكلمة فلم يعرجا ، فبعث إليهما : إن شئتما فعذاب الآخرة وإن شئتما فعذاب الدنيا إلى أن تقوم الساعة على أن تلقيا الله ، فإن شاء عذّبكما وإن شاء رحمكما ، فنظر أحدهما إلى صاحبه فقال : بل نختار عذاب الدنيا ألف ألف ضعف ، فهما يعذّبان إلى يوم القيامة. وقد رويت هذه القصة عن ابن عمر بألفاظ ، وفي بعضها أنه يروي ذلك ابن عمر عن كعب الأحبار.

كما أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب من طريق الثوري ، عن موسى بن عقبة ، عن سالم ، عن ابن عمر ، عن كعب ، قال : ذكرت الملائكة أعمال بني آدم وما يأتون من الذنوب ، فقيل : لو كنتم مكانهم لأتيتم مثل ما يأتون ، فاختاروا منكم اثنين ، فاختاروا هاروت وماروت ، فقال لهما : إني أرسل إلى بني آدم رسلا فليس بيني وبينكم رسول ، انزلا ، لا تشركا بي شيئا ، ولا تزنيا ، ولا تشربا الخمر ، قال كعب : فو الله ما أمسيا من يومهما الذي أهبطا فيه حتّى استعملا جميع ما نهيا عنه. قال ابن كثير : وهذا أصحّ ، يعني من الإسنادين اللذين ذكرهما قبله. وأخرج

١٤٣

عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصحّحه عن عليّ بن أبي طالب قال : إن هذه الزهرة تسميها العرب الزهرة ، والعجم ناهيد ، وذكر نحو الرواية السابقة عن ابن عمر عند الحاكم. قال ابن كثير : وهذا الإسناد رجاله ثقات وهو غريب جدا. وقد أخرج عبد بن حميد والحاكم وصحّحه عن ابن عباس قال : كانت الزهرة امرأة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عنه : أن المرأة التي فتن بها الملكان مسخت ، فهي هذه الكوكبة الحمراء : يعني الزهرة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه والبيهقي في الشعب عنه فذكر قصة طويلة ، وفيها التصريح بأن الملكين شربا الخمر وزنيا بالمرأة وقتلاها. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وابن عباس هذه القصة وقالا : إنها أنزلت إليهما الزهرة في صورة امرأة وأنهما وقعا في الخطيئة. وقد روي في هذا الباب قصص طويلة وروايات مختلفة استوفاها السيوطي في الدرّ المنثور.

وذكر ابن كثير في تفسيره بعضها ثم قال : وقد روي في قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين كمجاهد والسدّي والحسن البصري وقتادة وأبي العالية والزهري والربيع بن أنس ومقاتل بن حيّان وغيرهم وقصّها خلق من المفسرين من المتقدمين والمتأخرين. وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل ، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب فيها ، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى ، والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى.

وقال القرطبي بعد سياق بعض ذلك : قلنا هذا كله ضعيف وبعيد عن ابن عمر وغيره ، لا يصحّ منه شيء ، فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه ، وسفراؤه إلى رسله ، لا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، ثم ذكر ما معناه : أن العقل يجوّز وقوع ذلك منهم ، لكن وقوع هذا الجائز لا يدرى إلا بالسمع ، ولم يصحّ. انتهى.

وأقول : هذا مجرد استبعاد. وقد ورد الكتاب العزيز في هذا الموضع بما تراه ، ولا وجه لإخراجه عن ظاهره بهذه التكلفات ، وما ذكره من أن الأصول تدفع ذلك ، فعلى فرض وجود هذه الأصول فهي مخصصة بما وقع في هذه القصة ولا وجه لمنع التخصيص ، وقد كان إبليس يملك المنزلة العظيمة وصار شرّ البرية وأكفر العالمين.

وأخرج ابن جرير عن قتادة في قوله : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) قال : بلاء. وأخرج البزار بإسناد صحيح والحاكم وصحّحه عن ابن مسعود قال : «من أتى كاهنا أو ساحرا وصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد». وأخرج البزار عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تطيّر أو تطيّر له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له ، ومن عقد عقدة ، ومن أتى كاهنا فصدّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد». وأخرج عبد الرزاق عن صفوان بن سليم قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من تعلّم من السحر قليلا أو كثيرا كان آخر عهده من الله». وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (مِنْ خَلاقٍ) قال : قوام. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : (مِنْ خَلاقٍ) من نصيب ، وكذا روى ابن جرير عن مجاهد. وأخرج عبد الرزاق

١٤٤

وابن جرير عن الحسن (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) قال : ليس له دين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ) قال : باعوا. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة في قوله : (لَمَثُوبَةٌ) قال : ثواب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥))

قوله : (راعِنا) راقبنا ، واحفظنا ، وصيغة المفاعلة تدل على أن معنى (راعِنا) : ارعنا ونرعاك ، واحفظنا ونحفظك ، وارقبنا ونرقبك ؛ ويجوز أن يكون من أرعنا سمعك ، أي : فرغه لكلامنا ، وجه النهي عن ذلك أن هذا اللفظ كان بلسان اليهود سبّا ؛ قيل : إنه في لغتهم بمعنى اسمع لا سمعت ؛ وقيل : غير ذلك ، فلما سمعوا المسلمين يقولون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم راعنا طلبا منه أن يراعيهم من المراعاة اغتنموا الفرصة ، وكانوا يقولون للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذلك مظهرين أنهم يريدون المعنى العربي ، مبطنين أنهم يقصدون السبّ الذي معنى هذا اللفظ في لغتهم ، وفي ذلك دليل على أنه ينبغي تجنب الألفاظ المحتملة للسبّ والنقص ، وإن لم يقصد المتكلم بها ذلك المعنى المفيد للشتم ، سدّا للذريعة ودفعا للوسيلة ، وقطعا لمادة المفسدة والتطرق إليه ، ثم أمرهم الله بأن يخاطبوا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بما لا يحتمل النقص ولا يصلح للتعريض فقال : (وَقُولُوا انْظُرْنا) أي : أقبل علينا وانظر إلينا ، فهو من باب الحذف والإيصال ، كما قال الشاعر :

ظاهرات الجمال والحسن ينظر

ن كما ينظر الأراك الظّباء

أي : إلى الأراك ، وقيل : معناه انتظرنا وتأنّ بنا ، ومنه قول الشاعر :

فإنّكما إن تنظراني ساعة

من الدّهر ينفعني لدى أمّ جندب

وقرأ الأعمش (أنظرنا) بقطع الهمزة وكسر الظاء بمعنى : أخّرنا وأمهلنا حتى نفهم عنك ، ومنه قول الشاعر :

أبا هند فلا تعجل علينا

وأنظرنا نخبّرك اليقينا

وقرأ الحسن (راعِنا) بالتنوين ، وقال : الراعن من القول : السخريّ منه. انتهى. وأمرهم بعد هذا النهي والأمر بأمر آخر وهو قوله : (وَاسْمَعُوا) أي : اسمعوا ما أمرتم به ونهيتم عنه ، ومعناه : أطيعوا الله في ترك خطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك اللفظ ، وخاطبوه بما أمرتم به ، ويحتمل أن يكون معناه : اسمعوا ما يخاطبكم به الرسول من الشرع ، حتى يحصل لكم المطلوب بدون طلب للمراعاة ، ثم توعّد اليهود بقوله : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) ويحتمل أن يكون وعيدا شاملا لجنس الكفرة. قال ابن جرير : والصواب من القول عندنا

١٤٥

في ذلك أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (راعِنا) لأنها كلمة كرهها الله أن يقولوا لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، نظير الذي ذكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا تقولوا للعنب : الكرم ولكن قولوا : الحبلة ، ولا تقولوا : عبدي ، ولكن قولوا : فتاي» وما أشبه ذلك. وقوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية ، فيه بيان شدة عداوة الكفار للمسلمين ، حيث لا يودّون إنزال الخير عليهم من الله سبحانه ، ثم ردّ الله سبحانه ذلك عليهم فقال : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) الآية. وقوله : (أَنْ يُنَزَّلَ) في محل نصب على المفعولية ، و «من» في قوله : (مِنْ خَيْرٍ) زائدة ، قاله النحاس ، وفي الكشاف أن «من» في قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) بيانية ، وفي قوله : (مِنْ خَيْرٍ) مزيدة لاستغراق الخير ، وفي قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) لابتداء الغاية ، وقد قيل : بأن الخير : الوحي ؛ وقيل : غير ذلك ، والظاهر أنهم لا يودّون أن ينزل على المسلمين أيّ خير كان ، فهو لا يختص بنوع معين ، كما يفيده وقوع هذه النكرة في سياق النفي ، وتأكيد العموم بدخول «من» المزيدة عليها ، وإن كان بعض أنواع الخير أعظم من بعض فذلك لا يوجب التخصيص. والرحمة قيل : هي القرآن ؛ وقيل : النبوّة ؛ وقيل : جنس الرحمة من غير تعيين ، كما يفيد ذلك الإضافة إلى ضميره تعالى (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي : صاحب الفضل العظيم ، فكيف لا تودون أن يختص برحمته من يشاء من عباده.

وقد أخرج سعيد بن منصور في سننه ، وأحمد في الزهد ، وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية ، والبيهقي في الشعب ، عن ابن مسعود : أن رجلا أتاه فقال : اعهد إليّ فقال : إذا سمعت الله يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأرعها سمعك ، فإنه خير يأمر به ، أو شرّ ينهى عنه. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال : (راعِنا) بلسان اليهود : السبّ القبيح ، وكان اليهود يقولون ذلك لرسول الله سرا ، فلما سمعوا أصحابه يقولون ذلك أعلنوا بها ، فكانوا يقولون ذلك ويضحكون فيما بينهم ، فأنزل الله الآية. وأخرج أبو نعيم في الدلائل عنه ، أنه قال المؤمنون بعد هذه الآية : من سمعتموه يقولها فاضربوا عنقه ، فانتهت اليهود بعد ذلك. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن السدي قال : كان رجلان من اليهود : مالك بن الصيف ، ورفاعة بن زيد ، إذا لقيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالا له وهما يكلمانه : راعنا سمعك واسمع غير مسمع ، فظنّ المسلمون أن هذا شيء كان أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم ، فقالوا للنبيّ : فأنزل الله الآية. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صخر قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا أدبر ناداه من كانت له حاجة من المؤمنين فقالوا : ارعنا سمعك ، فأعظم الله رسوله أن يقال له ذلك ، وأمرهم أن يقولوا : (انْظُرْنا) ليعزّروا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويوقّروه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم عن قتادة : أن اليهود كانت تقول ذلك استهزاء ، فكره الله للمؤمنين أن يقولوا كقولهم ، وأخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد قال : الرحمة : القرآن والإسلام.

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧))

١٤٦

النسخ في كلام العرب على وجهين : أحدهما : النقل ، كنقل كتاب من آخر ، وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخا ، أعني : من اللوح المحفوظ ، فلا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية ، ومنه (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١) أي : نأمر بنسخه. الوجه الثاني : الإبطال والإزالة ، وهو المقصود هنا. وهذا الوجه الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة : أحدهما : إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه ، ومنه : نسخت الشمس الظل : إذا أذهبته وحلت محله ، وهو معنى قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) وفي صحيح مسلم : «لم تكن نبوّة قط إلا تناسخت» أي : تحوّلت من حال إلى حال. والثاني : إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم : نسخت الريح الأثر ، ومن هذا المعنى (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي : يزيله. وروي عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانت تنزل عليه السورة فترفع ، فلا تتلى ولا تكتب. ومنه ما روي عن أبيّ وعائشة أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول. قال ابن فارس : النسخ نسخ الكتاب ، والنسخ أن تزيل أمرا كان من قبل يعمل به ثم تنسخه بحادث غيره ، كالآية تنزل بأمر ثم تنسخ بأخرى ، وكل شيء خلف شيئا فقد انتسخه ، يقال : نسخت الشمس الظل ، والشيب الشباب ، وتناسخ الورثة : أن يموت ورثة بعد ورثة ، وأصل الميراث قائم ، وكذا تناسخ الأزمنة والقرون. وقال ابن جرير : (ما نَنْسَخْ) ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره ، وذلك أن نحوّل الحلال حراما ، والحرام حلالا ، والمباح محظورا ، والمحظور مباحا ، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ؛ فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب ، وهو نقله من نسخة أخرى ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره ، وسواء نسخ حكمها أو خطها ، إذ هي في كلتي حالتيها منسوخة. انتهى. وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جملة مقاصد ذلك الفن فلا نطول بذكره ، بل نحيل من أراد الاستقصاء عليه. وقد اتفق أهل الإسلام على ثبوته سلفا وخلفا ، ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتدّ بخلافه ولا يؤبه لقوله. وقد اشتهر عن اليهود ـ أقمأهم الله ـ إنكاره ، وهم محجوجون بما في التوراة أن الله قال لنوح عليه‌السلام عند خروجه من السفينة : إني قد جعلت كل دابة مأكلا لك ولذريتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه ، ثم قد حرّم على موسى وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان. وثبت في التوراة أن آدم كان يزوّج الأخ من الأخت ، وقد حرّم الله ذلك على موسى عليه‌السلام وعلى غيره. وثبت فيها أن إبراهيم عليه‌السلام أمر بذبح ابنه ، ثم قال الله له لا تذبحه ، وبأن موسى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ، ثم أمرهم برفع السيف عنهم ، ونحو هذا كثيرا في التوراة الموجودة بأيديهم. وقوله : أو ننسأها قرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح النون والسين والهمز ، وبه قرأ عمر ، وابن عباس ، وعطاء ، ومجاهد ، وأبي بن كعب ، وعبيد بن عمير ، والنخعي ، وابن محيصن ، ومعنى هذه القراءة : نؤخرها عن النسخ من قولهم : نسأت هذا الأمر إذا أخرته. قال ابن فارس : ويقولون : نسأ الله في أجلك ، وأنسأ الله أجلك. وقد انتسأ القوم : إذا تأخروا وتباعدوا ، ونسأتهم إذا أخرتهم ؛ وقيل : معناه نؤخر نسخ لفظها ، أي : نتركه في أم الكتاب فلا يكون. وقيل : نذهبها عنكم حتى لا تقرأ ولا تذكر.

__________________

(١). الجاثية : ٢٩.

١٤٧

وقرأ الباقون (نُنْسِها) بضم النون ، من النسيان الذي بمعنى الترك ، أي : نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها ، ومنه قوله تعالى (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ) (١) أي : تركوا عبادته فتركهم في العذاب. واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم. وحكى الأزهري أن معناه : نأمر بتركها ، يقال : أنسيته الشيء ، أي : أمرته بتركه ، ونسيته تركته ، ومنه قول الشاعر :

إنّ عليّ عقبة أقضيها

لست بناسيها ولا منسيها

أي : ولا آمر بتركها. وقال الزجّاج : إن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك ، لا يقال : أنسى ، بمعنى : ترك ؛ قال : وما روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس (أَوْ نُنْسِها) قال : نتركها لا نبدلها فلا يصح. والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى (أَوْ نُنْسِها) نبح لكم تركها ، من نسي ، إذا ترك ، ثم تعديه. ومعنى (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) نأت بما أنفع للناس منها في العاجل والآجل ، أو في أحدهما ، أو بما هو مماثل لها من غير زيادة ، ومرجع ذلك إلى إعمال في المنسوخ والناسخ ، فقد يكون الناسخ أخفّ ، فيكون أنفع لهم في العاجل ، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر ، فيكون أنفع لهم في الآجل ، وقد يستويان فتحصل المماثلة. وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يفيد أن النسخ من مقدوراته ، وإن إنكاره إنكار للقدرة الإلهية ، وهكذا قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي له التصرف في السموات والأرض بالإيجاد والاختراع ونفوذ الأمر في جميع مخلوقاته ، فهو أعلم بمصالح عباده وما فيه النفع لهم من أحكامه التي تعبدهم بها ، وشرعها لهم. وقد يختلف ذلك باختلاف الأحوال والأزمنة والأشخاص ، وهذا صنع من لا وليّ لهم غيره ولا نصير سواه ، فعليهم أن يتلقوه بالقبول والامتثال والتعظيم والإجلال.

وقد أخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم في الكنى ، وابن عديّ ، وابن عساكر عن ابن عباس قال : كان مما ينزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار ، فأنزل الله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وفي إسناده الحجاج الجزري ينظر فيه. وأخرج الطبراني عن ابن عمر قال : قرأ رجلان من الأنصار سورة أقرأهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكانا يقرآن ذات ليلة يصلّيان فلم يقدرا منها على حرف فأصبحا غاديين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إنها مما نسخ أو نسي فالهوا عنها» وفي إسناده سليمان بن أرقم وهو ضعيف. وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن عباس في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) يقول : ما نبدل من آية أو نتركها لا نبدلها (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) يقول : خير لكم في المنفعة ، وأرفق بكم. وأخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال : (نُنْسِها) نؤخرها. وأخرج أبو داود في ناسخه ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن ابن مسعود في قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) قال : نثبت خطها ، ونبدل حكمها (أَوْ نُنْسِها) قال نؤخرها. وأخرج عبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن جرير عن قتادة في قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) يقول : فيها تخفيف ، فيها رخصة ، فيها أمر ، فيها نهي. وأخرج أبو داود في ناسخه ،

__________________

(١). التوبة : ٦٧.

١٤٨

وابن المنذر ، وابن الأنباري في المصاحف ، وأبو ذرّ الهروي في فضائله ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف : أن رجلا كانت معه سورة ، فقام من الليل ، فقام بها ، فلم يقدر عليها ، وقام آخر يقرأ بها ، فلم يقدر عليها ، وقام آخر ، فلم يقدر عليها ، فأصبحوا فأتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاجتمعوا عنده فأخبروه ، فقال : «إنها نسخت البارحة» وقد روى نحوه عنه من وجه آخر. وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس : أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة «أن بلّغوا قومنا أن قد لقينا ربّنا فرضي عنّا وأرضانا» ثم نسخ ، وهكذا ثبت في مسلم وغيره عن أبي موسى : كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدّة ببراءة فأنسيتها ، غير أني حفظت منها : «لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوفه إلا التراب» وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ، أوّلها : «سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ» فأنسيناها ، غير أني حفظت منها : «يا أيّها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألوا عنها يوم القيامة» وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ، ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق ، وأحمد ، وابن حبان عن عمر.

(أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠))

(أَمْ) هذه هي المنقطعة التي بمعنى بل ، أي ، بل تريدون ، وفي هذا توبيخ وتقريع ، والكاف في قوله : (كَما سُئِلَ) في موضع نصب نعت لمصدر محذوف ، أي : سؤالا مثل ما سئل موسى من قبل ، حيث سألوه أن يريهم الله جهرة ، وسألوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتي بالله والملائكة قبيلا. وقوله : (سَواءَ) هو الوسط من كل شيء ، قاله أبو عبيدة ، ومنه قوله تعالى : (فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) (١) ومنه قول حسان يرثي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

يا ويح أصحاب النّبيّ ورهطه

بعد المغيّب في سواء الملحد

وقال الفرّاء : السواء القصد ، أي : ذهب عن قصد الطريق وسمته ، أي : طريق طاعة الله. وقوله تعالى : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) فيه إخبار المسلمين بحرص اليهود على فتنتهم وردّهم عن الإسلام ، والتشكيك عليهم في دينهم. وقوله : (لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) في محل نصب على أنه مفعول للفعل المذكور. وقوله : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) يحتمل أن يتعلق بقوله : (وَدَّ) أي : ودّوا ذلك من عند أنفسهم ، ويحتمل أن يتعلق بقوله : (حَسَداً) أي حسدا ناشئا من عند أنفسهم ، وهو علة لقوله : (وَدَّ). والعفو : ترك المؤاخذة بالذنب. والصفح : إزالة أثره من النفس ، صفحت عن فلان : إذا أعرضت عن ذنبه ، وقد ضربت عنه صفحا : إذا أعرضت عنه ، وفيه الترغيب في ذلك والإرشاد إليه ، وقد نسخ ذلك بالأمر بالقتال ، قاله أبو عبيدة.

__________________

(١). الصافات : ٥٥.

١٤٩

وقوله : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) هو غاية ما أمر الله سبحانه به من العفو والصفح ، أي : افعلوا ذلك إلى أن يأتي إليكم الأمر من الله سبحانه في شأنهم ، بما يختاره ويشاؤه ، وما قد قضى به في سابق علمه ، وهو قتل من قتل منهم ، وإجلاء من أجلي ، وضرب الجزية على من ضربت عليه ، وإسلام من أسلم. وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) حثّ من الله سبحانه لهم في الاشتغال بما ينفعهم ، ويعود عليهم بالمصلحة ، من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. وتقديم الخير الذي يثابون عليه حتى يمكن الله لهم ، وينصرهم على المخالفين لهم.

وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس أنه قال : قال رافع بن حريملة ووهب ابن زيد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد! ائتنا بكتاب ينزل علينا من السماء نقرؤه ، أو فجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك ، فأنزل الله في ذلك : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) إلى قوله (سَواءَ السَّبِيلِ) وكان حيي بن أخطب (وأبو ياسر بن أخطب) (١) من أشدّ اليهود حسدا للعرب إذ خصّهم الله برسوله ، وكانا جاهدين في ردّ الناس عن الإسلام ما استطاعا ، فأنزل الله فيهما : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية.

وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن السدي : قال : سألت العرب محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يأتيهم بالله ، فيروه جهرة ، فنزلت هذه الآية. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية قال : قال رجل : لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أعطاكم الله خير ، كانت بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفّارتها ، فإن كفرها كانت له خزايا في الدنيا ، وإن لم يكفرها كانت له خزايا في الآخرة. وقد أعطاكم الله خيرا من ذلك ، قال : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ) (٢) الآية ، والصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن ، فأنزل الله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) الآية. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال : سألت قريش محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهبا ، فقال : نعم ، وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم ، فأبوا ورجعوا ، فأنزل الله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) أن يريهم الله جهرة. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) قال : يتبدل الشدّة بالرخاء. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي في قوله : (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) قال : عدل عن السبيل. وأخرج أبو داود ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الدلائل عن كعب بن مالك قال : كان اليهود والمشركون من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه أشدّ الأذى ، فأمر الله بالصبر على ذلك ، والعفو عنهم ، وأنزل الله (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وفي الصحيحين وغيرهما عن أسامة بن زيد قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال الله تعالى : (وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) (٣) وقال : (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ) (٤) الآية ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتأوّل في العفو ما أمره الله به ، حتى

__________________

(١). ما بين قوسين سقط من المطبوع واستدركناه من الدر المنثور (١ / ٢٦٠)

(٢). النساء : ١١٠.

(٣). آل عمران : ١٨٦.

(٤). البقرة : ١٠٩.

١٥٠

أذن الله فيهم بقتل ، فقتل الله به من قتل من صناديد قريش. وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس في قوله : (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) قال : من قبل أنفسهم (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) يقول : إن محمدا رسول الله. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، عن قتادة نحوه. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) وقوله : (وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) ونحو هذا في العفو عن المشركين قال : نسخ ذلك كله بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (١) الآية ، وقوله (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (٢) وأخرج ابن جرير عن السدي نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) يعني : من الأعمال ، من الخير في الدنيا. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) قال تجدوا ثوابه.

(وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣))

قوله : (هُوداً) قال الفراء : يجوز أن يكون هودا بمعنى : يهوديا ، وأن يكون جمع هائد. وقال الأخفش : إن الضمير المفرد في كان هو باعتبار لفظ من ، والجمع في قوله : (هُوداً) باعتبار معنى من ؛ قيل : في هذا الكلام حذف ، وأصله : وقالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ، وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلّا من كان نصرانيا. هكذا قال كثير من المفسرين ، وسبقهم إلى ذلك بعض السلف. وظاهر النظم القرآني أن طائفتي اليهود والنصارى وقع منهم هذا القول ، وأنهم يختصون بذلك دون غيرهم ؛ ووجه القول : بأن في الكلام حذفا ، ما هو معلوم من أن كل طائفة من هاتين الطائفتين تضلّل الأخرى ، وتنفي عنها أنها على شيء من الدين ، فضلا عن دخول الجنة ، كما في هذا الموضع ، فإنه قد حكى الله عن اليهود أنها قالت : ليست النصارى على شيء ، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ، والأماني قد تقدّم تفسيرها ، والإشارة بقوله : تلك ، إلى ما تقدّم لهم من الأماني ، التي آخرها أنه لا يدخل الجنة غيرهم. وقيل : إن الإشارة إلى هذه الأمنية الآخرة ، والتقدير : أمثال تلك الأمنية أمانيهم ، على حذف المضاف ليطابق أمانيهم ، قوله : (هاتُوا) أصله : هاتيوا ، حذفت الضمة لثقلها ، ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين ، ويقال للمفرد المذكر : هات ، وللمؤنث : هاتي ، وهو صوت بمعنى أحضر. والبرهان : الدليل الذي يحصل عنده اليقين. قال ابن جرير : طلب الدليل هنا يقتضي إثبات النظر ، ويردّ على من ينفيه. وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : في تلك الأمانيّ المجردة والدعاوى الباطلة ، ثم ردّ عليهم فقال : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ) وهو إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة ، أي : ليس كما يقولون ، بل يدخلها من أسلم وجهه لله. ومعنى أسلم : استسلم ؛ وقيل : أخلص. وخصّ الوجه بالذكر لكونه أشرف ما يرى من الإنسان ، ولأنه موضع الحواس الظاهرة ، وفيه يظهر

__________________

(١). التوبة : ٢٩.

(٢). التوبة : ٥.

١٥١

العزّ والذل ، وقيل : إن العرب تخبر بالوجه عن جملة الشيء ، وأن المعنى هنا : الوجه وغيره ؛ وقيل : المراد بالوجه هنا : المقصد ، أي : من أخلص مقصده وقوله (وَهُوَ مُحْسِنٌ) في محل نصب على الحال ، والضمير في قوله : (وَجْهَهُ) و (فَلَهُ) باعتبار لفظ من ، وفي قوله : (عَلَيْهِمْ) باعتبار معناها. وقوله : (مَنْ) إن كانت الموصولة فهي فاعل لفعل محذوف ، أي : بلى يدخلها من أسلم. وقوله : (فَلَهُ) معطوف على (مَنْ أَسْلَمَ) وإن كانت من شرطية ، فقوله : (فَلَهُ) هو الجزاء ، ومجموع الشرط والجزاء ردّ على أهل الكتاب وإبطال لتلك الدعوى. وقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ) وما بعده ، فيه أن كل طائفة تنفي الخير عن الأخرى ، ويتضمن ذلك إثباته لنفسها ، تحجرا لرحمة الله سبحانه. قال في الكشاف : إن الشيء هو الذي يصح ويعتدّ به ، قال : وهذه مبالغة عظيمة ، لأن المحال والمعدوم يقع عليهما اسم الشيء ، وإذا نفي إطلاق اسم الشيء عليه فقد بولغ في ترك الاعتداد به إلى ما ليس بعده ، وهكذا قولهم : أقلّ من لا شيء. وقوله : (وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) أي : التوراة والإنجيل ، والجملة حالية ؛ وقيل : المراد جنس الكتاب ، وفي هذا أعظم توبيخ وأشدّ تقريع ، لأن الوقوع في الدعاوي الباطلة ، والتكلم بما ليس عليه برهان ، وهو وإن كان قبيحا على الإطلاق ، لكنه من أهل العلم والدراسة لكتب الله أشدّ قبحا ، وأفظع جرما ، وأعظم ذنبا. وقوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) المراد بهم : كفار العرب الذين لا كتاب لهم ، قالوا : مثل مقالة اليهود ، اقتداء بهم ، لأنهم جهلة ، لا يقدرون على غير التقليد لمن يعتقدون أنه من أهل العلم ، وقيل : المراد بهم : طائفة من اليهود والنصارى ، وهم الذين لا علم عندهم ، ثم أخبرنا سبحانه ، بأنه المتولي لفصل هذه الخصومة التي وقع فيها الخلاف عند الرجوع إليه ، فيعذب من يستحق التعذيب ، وينجي من يستحق النجاة.

وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ) الآية ، قال : قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا ، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ، (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) قال : أمانيّ يتمنونها على الله بغير الحق (قُلْ : هاتُوا بُرْهانَكُمْ) قال : حجتكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بما تقولونه أنه كما تقولون (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) يقول : أخلص لله. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) قال : حجتكم. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله : (بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ) قال : أخلص دينه. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتتهم أحبار اليهود ، فتنازعوا عند رسول الله ، فقال رافع ابن حريملة : ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى والإنجيل ، فقال له رجل من أهل نجران : ما أنتم على شيء ، وجحد نبوّة موسى وكفر بالتوراة ، قال : فأنزل الله في ذلك : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) أي كلّ يتلو في كتابه تصديق من كفر به. وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : قلت لعطاء : من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال : هم أمم كانت قبل اليهود والنصارى. وأخرج ابن جرير عن السدي قال : هم العرب ، قالوا : ليس محمد على شيء.

١٥٢

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥))

هذا الاستفهام فيه أبلغ دلالة على أن هذا الظلم متناه ، وانه بمنزلة لا ينبغي أن يلحقه سائر أنواع الظلم ، أي : لا أحد أظلم ممن منع مساجد الله ، واسم الاستفهام في محل رفع على الابتداء ، وأظلم خبره. وقوله : (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) قيل : هو بدل من مساجد ، وقيل إنه مفعول له ؛ بتقدير كراهية أن يذكر ؛ وقيل : إن التقدير : من أن يذكر ، ثم حذف حرف الجر لطول الكلام ؛ وقيل : إنه مفعول ثان لقوله (مَنَعَ) والمراد بمنع المساجد أن يذكر فيها اسم الله منع من يأتي إليها للصلاة ، والتلاوة ، والذكر ، وتعليمه. والمراد بالسعي في خرابها : هو السعي في هدمها ، ورفع بنيانها ، ويجوز أن يراد بالخراب : تعطيلها عن الطاعات التي وضعت لها ، فيكون أعم من قوله : (أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) فيشمل جميع ما يمنع من الأمور التي بنيت لها المساجد ، كتعلم العلم وتعليمه ، والقعود للاعتكاف ، وانتظار الصلاة ؛ ويجوز أن يراد ما هو أعم من الأمرين ، من باب عموم المجاز ، كما قيل في قوله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ) (١) وقوله : (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) أي : ما كان ينبغي لهم دخولها إلا حال خوفهم ، وفيه إرشاد للعباد من الله عزوجل ؛ أنه ينبغي لهم أن يمنعوا مساجد الله من أهل الكفر ، من غير فرق بين مسجد ومسجد ، وبين كافر وكافر ، كما يفيد عموم اللفظ ، ولا ينافيه خصوص السبب ، وأن يجعلوهم بحالة إذا أرادوا الدخول كانوا على وجل وخوف من أن يفطن لهم أحد من المسلمين ؛ فينزلون بهم ما يوجب الإهانة والإذلال ، وليس فيه الإذن لنا بتمكينهم من ذلك حال خوفهم ، بل هو كناية عن المنع لهم منا عن دخول مساجدنا. والخزي : قيل : هو ضرب الجزية عليهم وإذلالهم ، وقيل غير ذلك ، وقد تقدّم تفسيره. والمشرق : موضع الشروق. والمغرب : موضع الغروب ، أي : هما ملك لله ، وما بينهما من الجهات والمخلوقات ، فيشمل الأرض كلها. وقوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) أي : أيّ جهة تستقبلونها فهناك وجه الله ، أي : المكان الذي يرتضي لكم استقباله ، وذلك يكون عند التباس جهة القبلة التي أمرنا بالتوجه إليها بقوله سبحانه : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (٢) قال في الكشاف : والمعنى : أنكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام ، أي : في بيت المقدس ، فقد جعلت لكم الأرض مسجدا ، فصلّوا في أيّ بقعة شئتم من بقاعها ، وافعلوا التولية فيها ، فإن التولية ممكنة في كل مكان ، لا تختص أماكنها في مسجد دون مسجد ، ولا في مكان دون مكان انتهى. وهذا التخصيص لا وجه له ؛ فإن اللفظ أوسع منه. وإن كان المقصود به بيان السبب فلا بأس. وقوله : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) فيه إرشاد إلى سعة رحمته. وأنه يوسع على عباده في دينهم ، ولا يكلّفهم ما ليس في وسعهم ، وقيل : واسع ، بمعنى : أنه يسع علمه كل شيء ، كما قال : (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٣) وقال الفرّاء : الواسع : الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء.

وقد أخرج ابن إسحاق ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس ؛ أن قريشا منعوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصلاة عند الكعبة

__________________

(١). التوبة : ١٨.

(٢). البقرة : ١٤٤.

(٣). طه : ٩٨.

١٥٣

في المسجد الحرام فأنزل الله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه قال : هم النصارى ، وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد نحوه. وأخرج ابن جرير عن السدي قال : هم الروم ، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس. وفي قوله (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) قال : فليس في الأرض رومي يدخله اليوم إلا وهو خائف أن يضرب عنقه ، وقد أخيف بأداء الجزية فهو يؤديها. وفي قوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) قال : أما خزيهم في الدنيا ؛ فإنه إذا قام المهدي ؛ وفتحت القسطنطينية ؛ قتلهم ، فذلك الخزي. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة : أنهم الروم. وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب : أنهم النصارى ؛ لما أظهروا على بيت المقدس حرقوه. وأخرج ابن جرير عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم قال : هم المشركون حين صدّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البيت يوم الحديبية. وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي صالح قال : ليس للمشركين أن يدخلوا المسجد إلا خائفين. وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير عن قتادة في قوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) قال : يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وأخرج ابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في سننه ، عن ابن عباس قال : أوّل ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا والله أعلم شأن القبلة ، قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) الآية ، فاستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فصلّى نحو بيت المقدس ، وترك البيت العتيق ، ثم صرفه الله إلى البيت العتيق ، ونسخها ، فقال (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (١) وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود نحوه. وأخرج ابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، ومسلم ، والترمذي ، والنسائي ، وغيرهم عن ابن عمر قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي على راحلته تطوّعا أينما توجهت به ، ثم قرأ ابن عمر هذه الآية (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وقال في هذا أنزلت هذه الآية. وأخرج نحوه عن ابن جرير ، والدارقطني ، والحاكم وصحّحه. وقد ثبت في صحيح البخاري من حديث جابر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يصلّي على راحلته قبل المشرق ، فإذا أراد أن يصلّي المكتوبة نزل واستقبل القبلة وصلّى. وروي نحوه من حديث أنس مرفوعا ، أخرجه ابن أبي شيبة وأبو داود. وأخرج عبد بن حميد ، والترمذي ، وضعّفه ، وابن ماجة ، وابن جرير ، وغيرهم ، عن عامر بن ربيعة ، قال : كنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ليلة سوداء مظلمة ، فنزلنا منزلا ، فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا فيصلي فيه ، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلّينا على غير القبلة ؛ فقلنا : يا رسول الله! لقد صلّينا ليلتنا هذه لغير القبلة ، فأنزل الله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) الآية ، فقال : مضت صلاتكم. وأخرج الدارقطني ، وابن مردويه ، والبيهقي عن جابر مرفوعا نحوه ، إلّا أنه ذكر أنهم خطّوا خطوطا. وأخرج نحوه وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا. وأخرج نحوه أيضا سعيد بن منصور ، وابن المنذر عن عطاء يرفعه ، وهو مرسل. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) قال : قبلة لله أينما توجهت شرقا أو غربا. وأخرج ابن أبي شيبة ، والترمذي ، وصحّحه ، وابن ماجة ، عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما بين المشرق والمغرب قبلة». وأخرج ابن أبي شيبة ، والدارقطني ، والبيهقي عن ابن عمر مثله. وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن عمر نحوه.

__________________

(١). البقرة : ١٥٠.

١٥٤

(وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨))

قوله : (وَقالُوا) هم اليهود والنصارى ـ وقيل اليهود ، أي : قالوا ـ عزير ابن الله ـ وقيل : النصارى ، أي : قالوا : المسيح ابن الله ـ وقيل : هم كفار العرب ، أي : قالوا : الملائكة بنات الله. وقوله : (سُبْحانَهُ) قد تقدم تفسيره ، والمراد هنا : تبرؤ الله تعالى عما نسبوه إليه من اتخاذ الولد. وقوله : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ردّ على القائلين بأنه اتخذ ولدا ، أي : بل هو مالك لما في السموات والأرض ، وهؤلاء القائلون داخلون تحت ملكه ، والولد من جنسهم لا من جنسه ، ولا يكون الولد إلا من جنس الوالد. والقانت : المطيع الخاضع ، أي : كل من في السموات والأرض مطيعون له ، خاضعون لعظمته ، خاشعون لجلاله ، والقنوت في أصل اللغة أصله : القيام. قال الزجّاج : فالخلق قانتون ، أي : قائمون بالعبودية ، إما إقرارا وإما أن يكونوا على خلاف ذلك ، فأثر الصنعة بيّن عليهم ؛ وقيل : أصله الطاعة ، ومنه (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) (١) وقيل : السكون ، ومنه قوله : (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢) ولهذا قال زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام ؛ وقيل القنوت :

الصلاة ، ومنه قول الشاعر :

قانتا لله يتلو كتبه

وعلى عمد من النّاس اعتزل

والأولى : أن القنوت لفظ مشترك بين معان كثيرة ؛ قيل هي ثلاثة عشر معنى ، وهي مبينة. وقد نظمها بعض أهل العلم ، كما أوضحت ذلك في شرحي على المنتقى. وبديع : فعيل للمبالغة ، وهو خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو بديع سماواته وأرضه ، أبدع الشيء : أنشأه لا عن مثال ، وكل من أنشأ ما لم يسبق إليه قيل له : مبدع. وقوله : (وَإِذا قَضى أَمْراً) أي : أحكمه وأتقنه. قال الأزهري : قضى في اللغة على وجوه مرجعها إلى انقطاع الشيء وتمامه ، قيل : هو مشترك بين معان ، يقال : قضى ، بمعنى : خلق ، ومنه : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ) (٣) وبمعنى أعلم ، ومنه : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) (٤) وبمعنى : أمر ، ومنه : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٥) وبمعنى : ألزم ، ومنه : قضى عليه القاضي ، وبمعنى : أوفاه ، ومنه (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) (٦) وبمعنى : أراد ، ومنه (فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٧) والأمر : واحد الأمور. وقد ورد في القرآن على أربعة عشر معنى : الأوّل : الدين ، ومنه : (حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) (٨) الثاني : بمعنى القول ، ومنه : (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا) (٩). الثالث : العذاب ، ومنه : (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) (١٠) الرابع : عيسى ، ومنه : (فَإِذا قَضى أَمْراً) (١١) أي : أوجد عيسى عليه

__________________

(١). الأحزاب : ٣٥.

(٢). البقرة : ٢٣٨.

(٣). فصلت : ١٢.

(٤). الإسراء : ٤.

(٥). الإسراء : ٢٣.

(٦). القصص : ٢٩.

(٧). غافر : ٦٨.

(٨). التوبة : ٤٨.

(٩). المؤمنون : ٢٧.

(١٠). إبراهيم : ٢٢.

(١١) غافر : ٦٨.

١٥٥

السلام. الخامس : القتل ، ومنه : (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) (١) السادس : فتح مكة ، ومنه : (فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (٢). السابع : قتل بني قريظة وإجلاء بني النضير ، ومنه : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (٣). الثامن : القيامة ، ومنه : (أَتى أَمْرُ اللهِ) (٤) والتاسع : القضاء ، ومنه : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) (٥) العاشر : الوحي ، ومنه : (يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ) (٦) الحادي عشر : أمر الخلائق ، ومنه : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٧) الثاني عشر : النصر ؛ ومنه : (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ) (٨). الثالث عشر : الذنب ، ومنه (فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها) (٩) الرابع عشر : الشأن ، ومنه : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) (١٠) هكذا أورد هذه المعاني بأطول من هذا بعض المفسرين ، وليس تحت ذلك كثير فائدة ، وإطلاقه على الأمور المختلفة لصدق اسم الأمر عليها. وقوله : (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) الظاهر في هذا : المعنى الحقيقي ، وأنه يقول سبحانه هذا اللفظ ، وليس في ذلك مانع ولا جاء ما يوجب تأويله ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) (١١) وقال تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١٢) وقال : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (١٣) ومنه قول الشاعر :

إذا ما أراد الله أمرا فإنّما

يقول له كن قوله فيكون

وقد قيل : إن ذلك مجاز ، وأنه لا قول وإنما هو قضاء يقضيه ، فعبر عنه بالقول ، ومنه قول الشاعر ، وهو عمرو بن حممة الدوسيّ :

فأصبحت مثل النّسر طارت فراخه

إذا رام تطيارا يقال له قع

وقال آخر :

قالت جناحاه لساقيه الحقا

ونجّيا لحمكما أن يمزّقا

والمراد بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) اليهود ، وقيل : النصارى ، ورجّحه ابن جرير ، لأنهم المذكورون في الآية ، وقيل : مشركو العرب ، و (لَوْ لا) حرف تحضيض ، أي : هلّا (يُكَلِّمُنَا اللهُ) بنبوّة محمد فنعلم أنه نبيّ (أَوْ تَأْتِينا) بذلك علامة على نبوّته : والمراد بقوله : (قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قيل : هم اليهود والنصارى ؛ في قول من جعل الذين لا يعلمون : كفار العرب ، أو الأمم السالفة ، في قول من جعل : الذين لا يعلمون : اليهود والنصارى ، أو اليهود ، في قول من جعل : الذين لا يعلمون : النصارى (تَشابَهَتْ) أي في التعنت والاقتراح ، وقال الفرّاء : (تَشابَهَتْ) في اتفاقهم على الكفر (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي : يعترفون بالحق ، وينصفون في القول ، ويذعنون لأوامر الله سبحانه ، لكونهم مصدقين له سبحانه ، مؤمنين بآياته ، متبعين لما شرعه لهم.

وقد أخرج البخاري من حديث ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله تعالى : كذّبني ابن آدم وشتمني ، فأمّا تكذيبه إيّاي : فيزعم : أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إيّاي : فقوله : لي ولد ، فسبحاني أن أتّخذ صاحبة أو ولدا». وأخرج نحوه أيضا من حديث أبي هريرة ، وفي الباب أحاديث. وأخرج عبد

__________________

(١). غافر : ٧٨.

(٢). التوبة : ٢٤.

(٣). البقرة : ١٠٩.

(٤). النحل : ١.

(٥). يونس : ٣ و ٣١.

(٦). الطلاق : ١٢.

(٧). الشورى : ٥٣.

(٨). آل عمران : ١٥٤.

(٩). الطلاق : ٩.

(١٠). هود : ٩٧.

(١١) يس : ٨٢.

(١٢) النحل : ٤٠.

(١٣) القمر : ٥٠.

١٥٦

ابن حميد ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (سُبْحانَ اللهِ) قال : تنزيه الله نفسه عن السوء. وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، عن موسى بن طلحة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه سئل عن التسبيح ، أن يقول الإنسان : سبحان الله ، قال : برأه الله من السوء. وأخرجه الحاكم وصحّحه ، وابن مردويه ، والبيهقي من طريق طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه عن جدّه طلحة بن عبد الله قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تفسير سبحان الله ، فقال : هو تنزيه الله من كل سوء. وأخرجه ابن مردويه عنه من طريق أخرى مرفوعا. وأخرج أحمد ، وعبد بن حميد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن حبان ، والطبراني في الأوسط ، وأبو نعيم في الحلية ، والضياء في المختارة ، عن أبي سعيد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل حرف في القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة». وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر عن ابن عباس في قوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) قال : مطيعون. وأخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يقول : ابتدع خلقهما ولم يشركه في خلقهما أحد. وأخرج ابن إسحاق ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : قال رافع بن حريملة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد! إن كنت رسولا من الله كما تقول فقل لله : فليكلمنا حتى نسمع كلامه ، فأنزل الله في ذلك : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ). وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة ، أنهم كفار العرب. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن مجاهد قال : هم النصارى والذين من قبلهم يهود.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١))

قوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً) يحتمل أن يكون منصوبا على الحال ، ويحتمل أن يكون مفعولا له ، أي : أرسلناك لأجل التبشير والإنذار. وقوله : (وَلا تُسْئَلُ) قرأه الجمهور بالرفع مبنيا للمجهول ، أي : حال كونك غير مسؤول ، وقرئ بالرفع مبنيا للمعلوم. قال الأخفش : ويكون في موضع الحال عطفا على (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي : حال كونك غير سائل عنهم ، لأن علم الله بكفرهم بعد إنذارهم يغني عن سؤاله عنهم ، وقرأ نافع : (وَلا تُسْئَلُ) بالجزم : أي لا يصدر منك السؤال عن هؤلاء ، أو لا يصدر منك السؤال عمن مات منهم على كفره ومعصيته تعظيما لحاله وتغليظا لشأنه ، أي : أن هذا أمر فظيع وخطب شنيع ، يتعاظم المتكلم أن يجريه على لسانه ، أو يتعاظم السامع أن يسمعه. وقوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ) الآية ، أي : ليس غرضهم ومبلغ الرضا منهم ما يقترحونه عليك من الآيات ، ويوردونه من التعنتات ، فإنك لو جئتهم بكل ما يقترحون ؛ وأجبتهم عن كل تعنت ؛ لم يرضوا عنك ، ثم أخبره ؛ بأنهم لن يرضوا عنه ؛ حتى يدخل في دينهم ، ويتبع ملتهم. والملّة : اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه على ألسن أنبيائه ، وهكذا الشريعة ، ثم ردّ عليهم

١٥٧

سبحانه ، فأمره بأن يقول لهم : (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) الحقيقي ، لا ما أنتم عليه من الشريعة المنسوخة ، والكتب المحرّفة ، ثم أتبع ذلك بوعيد شديد لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن اتبع أهواءهم ، وحاول رضاهم ، وأتعب نفسه في طلب ما يوافقهم ، ويحتمل أن يكون تعريضا لأمته ، وتحذيرا لهم أن يواقعوا شيئا من ذلك ، أو يدخلوا في أهوية أهل الملل ، ويطلبوا رضا أهل البدع. وفي هذه الآية من الوعيد الشديد الذي ترجف له القلوب وتتصدع منه الأفئدة ، ما يوجب على أهل العلم الحاملين لحجج الله سبحانه ، والقائمين ببيان شرائعه ، ترك الدهان لأهل البدع المتمذهبين بمذاهب السوء ، التاركين للعمل بالكتاب والسنة ، المؤثرين لمحض الرأي عليهما ؛ فإن غالب هؤلاء وإن أظهر قبولا وأبان من أخلاقه لينا ؛ لا يرضيه إلا اتباع بدعته ، والدخول في مداخله ، والوقوع في حبائله ، فإن فعل العالم ذلك ؛ بعد أن علمه الله من العلم ما يستفيد به أن هدى الله هو ما في كتابه وسنة رسوله ، لا ما هم عليه من تلك البدع التي هي ضلالة محضة ، وجهالة بيّنة ورأي منها ، وتقليد على شفا جرف هار ، فهو إذ ذاك ماله من الله من وليّ ولا نصير ، ومن كان كذلك فهو مخذول لا محالة ، وهالك بلا شك ولا شبهة. وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) قيل : هم المسلمون ، والكتاب : هو القرآن ، وقيل : من أسلم من أهل الكتاب ، والمراد بقوله : (يَتْلُونَهُ) أنهم يعملون بما فيه ، فيحلّلون حلاله ، ويحرمون حرامه ، فيكون : من تلاه ، يتلوه : إذا اتبعه ، ومنه قوله تعالى : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) (١) أي : اتبعها ، كذا قيل ، ويحتمل أن يكون من التلاوة ، أي : يقرءونه حقّ قراءته ، لا يحرفونه ولا يبدّلونه. وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) مبتدأ ، وخبره : (يَتْلُونَهُ) أو الخبر قوله : (فَأُولئِكَ) مع ما بعده.

وقد أخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليت شعري ما فعل أبواي» فنزل (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) فما ذكرهما حتى توفاه الله. قال السيوطي : هذا مرسل ضعيف الإسناد. ثم رواه من طريق ابن جرير عن داود بن أبي عاصم مرفوعا وقال : هو معضل الإسناد ، ضعيف ، لا تقوم به ولا بالذي قبله حجة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : (الْجَحِيمِ) : ما عظم من النار. وأخرج الثعلبي عن ابن عباس قال : إن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلّي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى قبلتهم ، فلما صرف الله القبلة إلى الكعبة شقّ ذلك عليهم ، وأيسوا منه أن يوافقهم على دينهم. فأنزل الله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) الآية. وأخرج عبد الرزاق عن قتادة قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) قال : هم اليهود والنصارى. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه عن ابن عباس في قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) قال : يحلون حلاله ، ويحرّمون حرامه ، ولا يحرّفونه عن مواضعه. وأخرجوا عنه أيضا قال : يتبعونه حق اتباعه ، ثم قرءوا (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) يقول : اتبعها. وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب في قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) إذا مرّ بذكر الجنة سأل الله الجنة ، وإذا مرّ بذكر الناس تعوذ بالله من النار. وأخرج الخطيب في كتاب الرواة بسند فيه مجاهيل عن ابن عمر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) «يتبعونه حق اتباعه» ، وكذا قال القرطبي في تفسيره أن في إسناده مجاهيل ؛ قال : لكن معناه صحيح.

__________________

(١). الشمس : ٢.

١٥٨

وأخرج عبد الرزاق ، وابن جرير من طرق عن ابن مسعود في تفسيره هذه الآية مثل ما سبق عن ابن عباس في قوله : يحلّون حلاله إلى آخره. وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال : يتكلمون به كما أنزل ولا يكتمونه. وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير عن قتادة في هذه الآية قال : هم أصحاب محمد ، ثم حكى نحو ذلك عن عمر بن الخطاب. وأخرج وكيع وابن جرير عن الحسن في قوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) قال : يعملون بمحكمه ، ويؤمنون بمتشابهه ، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤))

قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ ـ) إلى قوله ـ (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) قد سبق مثل هذا في صدر السورة ، وتقدم تفسيره ، ووجه التكرار الحثّ على اتباع الرسول النبي الأمّي ، ذكر معناه ابن كثير في تفسيره. وقال البقاعي في تفسيره : إنه لما طال المدى في استقصاء تذكيرهم بالنعم ؛ ثم في بيان عوارهم ؛ وهتك أستارهم ؛ وختم ذلك بالترهيب لتضييع أديانهم بأعمالهم وأحوالهم وأقوالهم ؛ أعاد ما صدّر به قصتهم من التذكير بالنعم ، والتحذير من حلول النقم يوم تجمع الأمم ، ويدوم فيه الندم لمن زلّت به القدم ، ليعلم أن ذلك فذلكة القصة ، والمقصود بالذات الحثّ على انتهاز الفرصة. انتهى. وأقول : ليس هذا بشيء ، فإنه لو كان سبب التكرار ما ذكره من طول المدى ؛ وأنه أعاد ما صدر به قصتهم لذلك ؛ لكان الأولى بالتكرار ؛ والأحق بإعادة الذكر ؛ هو قوله سبحانه : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) (١) فإن هذه الآية مع كونها أوّل الكلام معهم ؛ والخطاب لهم في هذه السورة ؛ هي أيضا أولى بأن تعاد وتكرر ؛ لما فيها من الأمر بذكر النعم ، والوفاء بالعهد ، والرهبة لله سبحانه ، وبهذا تعرف صحة ما قدّمناه لك عند أن شرع الله سبحانه في خطاب بني إسرائيل من هذه السورة فراجعه. ثم حكى البقاعي بعد كلامه السابق عن الحوالي أنه قال : كرّره تعالى إظهارا لمقصد التئام آخر الخطاب بأوّله ، وليتخذ هذا الإفصاح والتعليم أصلا لما يمكن بأن يرد من نحوه في سائر القرآن ، حتى كان الخطاب إذا انتهى إلى غاية خاتمه يجب أن يلحظ القلب بذاته تلك الغاية فيتلوها ، ليكون في تلاوته جامعا لطرفي الثناء ، وفي تفهيمه جامعا لمعاني طرفي المعنى. انتهى. وأقول : لو كان هذا هو سبب التكرار لكان الأولى به ما عرفناك. وأما قوله وليتخذ ذلك أصلا لما يرد من التكرار في سائر القرآن ؛ فمعلوم أن حصول هذا الأمر في الأذهان ؛ وتقرره في الأفهام ؛ لا يختص بتكرير آية معينة يكون افتتاح هذا المقصد بها ، فلم تتم حينئذ النكتة في تكرير هاتين الآيتين بخصوصهما ، ولله الحكمة البالغة التي لا تبلغها الأفهام ولا تدركها العقول ، فليس في تكليف هذه المناسبات المتعسفة إلا ما عرفناك به هنالك فتذكر. قوله : (وَإِذِ ابْتَلى) الابتلاء : الامتحان والاختبار ، أي : ابتلاه بما أمره به ،

__________________

(١). البقرة : ١٢٢.

١٥٩

و (إِبْراهِيمَ) معناه في السريانية : أب رحيم ، كذا قال الماوردي. قال ابن عطية : ومعناه في العربية ذلك. قال السهيلي : وكثيرا ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي. وقد أورد صاحب الكشاف هنا سؤالا في رجوع الضمير إلى إبراهيم مع كون رتبته التأخير ، وأجاب عنه بأنه قد تقدّم لفظا فرجع إليه ، والأمر في هذا أوضح من أن يشتغل بذكره ، أو ترد في مثله الأسئلة ، أو يسوّد وجه القرطاس بإيضاحه. وقوله : (بِكَلِماتٍ) قد اختلف العلماء في تعيينها ، فقيل : هي شرائع الإسلام ، وقيل : ذبح ابنه ، وقيل : أداء الرسالة ، وقيل : هي خصال الفطرة ، وقيل : هي قوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وقيل : بالطهارة ، كما سيأتي بيانه. قال الزجّاج : وهذه الأقوال ليست بمتناقضة ، لأن هذا كله مما ابتلي به إبراهيم. انتهى. وظاهر النظم القرآني أن الكلمات هي قوله : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ) وما بعده ، ويكون ذلك بيانا للكلمات ، وسيأتي عن بعض السلف ما يوافق ذلك ، وعن آخرين ما يخالفه. وعلى هذا فيكون قوله : (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ) مستأنفا ، كأنه : ماذا قال له؟ وقال ابن جرير ما حاصله : إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ذلك ، وجائز أن يكون بعض ذلك ، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع ، ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ؛ ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له ، ثم قال : فلو قال قائل : إن الذي قاله مجاهد وأبو صالح الربيع بن أنس أولى بالصواب ، يعني : أن الكلمات هي قوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وقوله : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ) وما بعده. ورجّح ابن كثير أنها تشمل جميع ما ذكر ، وسيأتي التصريح بما هو الحق بعد إيراد ما ورد عن السلف الصالح. وقوله : (فَأَتَمَّهُنَ) أي : قام بهنّ أتم قيام ، وامتثل أكمل امتثال. والإمام : هو ما يؤتم به ، ومنه قيل للطريق : إمام ، وللبناء : إمام ، لأنه يؤتم بذلك ، أي : يهتدي به السالك ، والإمام لما كان هو القدوة للناس لكونهم يأتمون به ويهتدون بهديه أطلق عليه هذا اللفظ. وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) يحتمل أن يكون ذلك دعاء من إبراهيم ، أي : واجعل من ذريتي أئمة ، ويحتمل أن يكون هذا من إبراهيم بقصد الاستفهام وإن لم يكن بصيغته ، أي : ومن ذريتي ماذا يكون يا ربّ؟ فأخبره أن فيهم عصاة وظلمة ، وأنهم لا يصلحون لذلك ، ولا يقومون به ، ولا ينالهم عهد الله سبحانه. والذرية : مأخوذة من الذرّ ، لأن الله أخرج الخلق من ظهر آدم حين أشهدهم على أنفسهم كالذرّ ، وقيل مأخوذة من : ذرأ الله الخلق يذرؤهم : إذا خلقهم. وفي الكتاب العزيز : (فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) (١) قال في الصحاح : ذرت الريح السحاب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا ، أي : نسفته ؛ وقال الخليل ، إنما سمّوا ذرية لأن الله تعالى ذرأها على الأرض كما ذرأ الزراع البذر. واختلف في المراد بالعهد فقيل : الإمامة ؛ وقيل : النبوّة ؛ وقيل : عهد الله : أمره. وقيل : الأمان من عذاب الآخرة ، ورجّحه الزجّاج ، والأوّل أظهر كما يفيده السياق. وقد استدل بهذه الآية جماعة من أهل العلم على أن الإمام لا بد أن يكون من أهل العدل والعمل بالشرع كما ورد ، لأنه إذا زاغ عن ذلك كان ظالما. ويمكن أن ينظر إلى ما يصدق عليه اسم العهد ، وما تفيده الإضافة من العموم ، فيشمل جميع ذلك اعتبارا بعموم اللفظ من غير نظر إلى السبب ولا إلى السياق ، فيستدل به على اشتراط السلامة من وصف الظلم في كل من تعلق بالأمور الدينية. وقد اختار ابن جرير : أن هذه الآية وإن

__________________

(١). الكهف : ٤٥.

١٦٠