فتح القدير - ج ١

محمد بن علي بن محمد الشوكاني

فتح القدير - ج ١

المؤلف:

محمد بن علي بن محمد الشوكاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ابن كثير
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٣٢

بأنها أربعون ليلة ، وإنما سمّاهم ظالمين لأنهم أشركوا بالله وخالفوا موعد نبيهم عليه‌السلام ، والجملة في موضع نصب على الحال. وقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد عبادتكم العجل ، وسمّي العجل عجلا لاستعجالهم عبادته كذا قيل ، وليس بشيء لأن العرب تطلق هذا الاسم على ولد البقر. وقد كان جعله لهم السامريّ على صورة العجل. وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي لكي تشكروا ما أنعم الله به عليكم من العفو عن ذنبكم العظيم الذي وقعتم فيه. وأصل الشكر في اللغة : الظهور من قولهم : دابة شكور إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تعطى من العلف. قال الجوهري : الشكر : الثناء على المحسن بما أولاك من المعروف ، يقال شكرته وشكرت له ، وباللام أفصح ، وقد تقدّم معناه ، والشكران خلاف الكفران. والكتاب : التوراة بالإجماع من المفسرين. واختلفوا في الفرقان ؛ وقال الفراء وقطرب : المعنى آتينا موسى التوراة ومحمدا الفرقان. وقد قيل إن هذا غلط أوقعهما فيه أن الفرقان مختص بالقرآن وليس كذلك ، فقد قال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) (١) وقال الزجّاج : إن الفرقان هو الكتاب أعيد ذكره تأكيدا. وحكي نحوه عن الفرّاء ، ومنه قول عنترة :

حيّيت من طلل تقادم عهده

أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم

وقيل : إن الواو صلة ، والمعنى آتينا موسى الكتاب الفرقان ، والواو قد تزاد في النعوت كقول الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

وقيل المعنى : أن ذلك المنزل جامع بين كونه كتابا وفارقا بين الحق والباطل ، وهو كقوله : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٢) وقيل : الفرقان : الفرق بينهم وبين قوم فرعون ، أنجى هؤلاء وأغرق هؤلاء. وقال ابن زيد : الفرقان : انفراق البحر ؛ وقيل : الفرقان : الفرج من الكرب ؛ وقيل : إنه الحجة والبيان بالآيات التي أعطاه الله من العصا واليد وغيرهما ، وهذا أولى وأرجح ، ويكون العطف على بابه كأنه قال : آتينا موسى التوراة والآيات التي أرسلناه بها معجزة له. قوله : (يا قَوْمِ) القوم يطلق تارة على الرجال دون النساء ، ومنه قول زهير :

وما أدري وسوف إخال أدري

أقوم آل حصن أم نساء

ومنه قوله تعالى : (لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ) (٣) ، ثم قال : (وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ) (٤) ، ومنه : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) (٥) أراد الرجال ، وقد يطلق على الجميع كقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (٦) والمراد هنا بالقوم عبدة العجل. والبارئ : الخالق ، وقيل إن البارئ هو المبدع المحدث ، والخالق هو المقدّر الناقل من حال إلى حال ، وفي ذكر البارئ هنا إشارة إلى عظيم جرمهم : أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره. والفاء في قوله : (فَتُوبُوا) للسببية : أي لتسبب التوبة عن الظلم ، وفي قوله : (فَاقْتُلُوا) للتعقيب : أي اجعلوا القتل متعقبا للتوبة. قال القرطبي : وأجمعوا على أنه لم يؤمر كل واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده ؛ قيل : قاموا صفين وقتل بعضهم بعضا ؛ وقيل : وقف الذين عبدوا العجل ودخل الذين

__________________

(١). الأنبياء : ٤٨.

(٢). الأنعام : ١٥٤.

(٣). الحجر : ١١.

(٤). الحجر : ١١.

(٥). الأعراف : ٨٠.

(٦). نوح : ١.

١٠١

لم يعبدوه عليهم بالسلاح فقتلوهم. وقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) قيل : في الكلام حذف ؛ أي فقتلتم أنفسكم فتاب عليكم : أي على الباقين منكم. وقيل هو جواب شرط محذوف كأنه قال : فإن فعلتم فقد تاب عليكم. وأما ما قاله صاحب الكشاف من أنه يجوز أن يكون خطابا من الله لهم على طريقة الالتفات فيكون التقدير : ففعلتم ما أمركم به موسى فتاب عليكم بارئكم ، فهو بعيد جدا كما لا يخفى. وقد أخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) قال : ذا القعدة وعشرا من ذي الحجة. وقد أخرج ابن جرير عنه في قوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) قال : من بعد ما اتخذتم العجل. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) قال : الكتاب هو الفرقان ، فرق بين الحق والباطل. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : الفرقان جماع اسم التوراة والإنجيل والزبور والقرآن. وأخرج ابن جرير عنه قال : أمر موسى قومه عن أمر ربه أن يقتلوا أنفسهم ، واختبأ الذين عكفوا على العجل فجلسوا ، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم وأصابتهم ظلمة شديدة ، فجعل يقتل بعضهم بعضا ، فانجلت الظلمة عنهم عن سبعين ألف قتيل ، كل من قتل منهم كانت له توبة ، وكل من بقي كانت له توبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن عليّ قال : قالوا لموسى ما توبتنا؟ قال : يقتل بعضكم بعضا ، فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه وأباه وابنه لا يبالي من قتل ، حتى قتل منهم سبعون ألفا ، فأوحى الله إلى موسى : مرهم فليرفعوا أيديهم ، وقد غفر لمن قتل وتيب على من بقي. وقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة ، وأخرج أحمد في الزهد ، وابن جرير ، عن الزهري نحوا مما سبق. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (إِلى بارِئِكُمْ) قال : خالقكم.

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧))

قوله : (وَإِذْ قُلْتُمْ) هذه الجملة معطوفة على التي قبلها ، وظاهر السياق أن القائلين هذه المقالة هم قوم موسى ، وقيل : هم السبعون الذين اختارهم ، وذلك أنهم لما سمعوا كلام الله قالوا له بعد ذلك هذه المقالة ، فأرسل الله عليهم نارا فأحرقتهم ، ثم دعا موسى ربّه فأحياهم ، كما قال تعالى هنا : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) وسيأتي ذلك في الأعراف إن شاء الله. والجهرة : المعاينة ، وأصلها الظهور ، ومنه الجهر بالقراءة والمجاهرة بالمعاصي ؛ ورأيت الأمر جهرة وجهارا ، أي غير مستتر بشيء ، وهي مصدر واقع موقع الحال. وقرأ ابن عباس جهرة بفتح الهاء وهي لغتان مثل زهرة وزهرة ، ويحتمل أن يكون على هذه القراءة جمع جاهر. والصاعقة : قد تقدم تفسيرها ، وقرأ عمر وعثمان وعليّ : الصّعقة وهي قراءة ابن محيصن ، والمراد بأخذ الصاعقة إصابتها إياهم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) في محل نصب على الحال ، والمراد من هذا النظر الكائن منهم أنهم نظروا أوائل الصاعقة النازلة بهم الواقعة عليهم لا آخرها الذي ماتوا عنده ؛ وقيل : المراد بالصاعقة

١٠٢

الموت ، واستدل عليه بقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) ولا موجب للمصير إلى هذا التفسير ، لأن المصعوق قد يموت كما في هذه الآية ، وقد يغشى عليه ثم يفيق كما في قوله تعالى : (وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ) (١) ومما يوجب بعد ذلك قوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) فإنها لو كانت الصاعقة عبارة عن الموت لم يكن لهذه الجملة كبير معنى ، بل قد يقال : إنه لا يصح أن ينظروا الموت النازل بهم إلا أن يكون المراد نظر الأسباب المؤثرة للموت. والمراد بقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) الإحياء لهم لوقوعه بعد الموت ، وأصل البعث : الإثارة للشيء من محله ، يقال : بعثت الناقة : أي أثرتها ، ومنه قول امرئ القيس :

وفتيان صدق قد بعثت بسحرة

فقاموا جميعا بين عاث ونشوان (٢)

وقول عنترة :

وصحابة شمّ الأنوف بعثتهم

ليلا وقد مال الكرى بطلاها

وإنما عوقبوا بأخذ الصاعقة لهم لأنهم طلبوا ما لم يأذن الله به من رؤيته في الدنيا. وقد ذهبت المعتزلة ومن تابعهم إلى إنكار الرؤية في الدنيا والآخرة ، وذهب من عداهم إلى جوازها في الدنيا والآخرة ووقوعها في الآخرة. وقد تواترت الأحاديث الصحيحة بأن العباد يرون ربّهم في الآخرة ، وهي قطعية الدلالة لا ينبغي لمنصف أن يتمسك في مقابلها بتلك القواعد الكلامية التي جاء بها قدماء المعتزلة ، وزعموا : أن العقل قد حكم بها دعوى مبنية على شفا جرف هار ، وقواعد لا يغترّ بها إلا من لم يحظ من العلم النافع بنصيب ، وسيأتيك إن شاء الله بيان ما تمسكوا به من الأدلة القرآنية ، وكلها خارج عن محل النزاع بعيد من موضع الحجة ، وليس هذا موضع المقال في هذه المسألة. قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) أي جعلناه كالظلة. والغمام : جمع غمامة كسحابة وسحاب ، قاله الأخفش. وقال الفرّاء : ويجوز غمائم. وقد ذكر المفسرون أن هذا جرى في التيه بين مصر والشام لما امتنعوا من دخول مدينة الجبّارين. والمنّ : قيل : هو الترنجبين. قال النحاس : هو بتشديد الراء وإسكان النون ، ويقال : الطرنجبين بالطاء ، وعلى هذا أكثر المفسرين ، وهو طلّ ينزل من السماء على شجر أو حجر ، ويحلو وينعقد عسلا ، ويجفّ جفاف الصمغ ، ذكر معناه في القاموس ؛ وقيل : إن المنّ العسل ؛ وقيل : شراب حلو ؛ وقيل : خبز الرقاق ؛ وقيل : إنه مصدر يعمّ جميع ما منّ الله به على عباده من غير تعب ولا زرع ؛ ومنه ما ثبت في صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد بن زيد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنّ الكمأة من المنّ الذي أنزل على موسى». وقد ثبت مثله من حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي ، ومن حديث جابر وأبي سعيد وابن عباس عند النسائي. والسلوى : قيل هو السّمانى ، كحبارى طائر يذبحونه فيأكلونه. قال ابن عطية : السلوى طير بإجماع المفسرين ، وقد غلط الهذلي فقال :

وقاسمهما بالله جهدا لأنتما

ألذّ من السّلوى إذا ما نشورها

__________________

(١). الأعراف : ١٤٣.

(٢). بسحرة : السّحرة : وقت السّحر. العاثي : المتناول للشيء وكثر في استعمال العرب في الفساد.

١٠٣

ظنّ أن السلوى العسل. قال القرطبي : ما ادعاه من الإجماع لا يصح. وقد قال المؤرج أحد علماء اللغة والتفسير : إنه العسل. واستدل ببيت الهذلي ، وذكر أنه كذلك بلغة كنانة ، وأنشد :

لو شربت (١) السّلوى ما سلوت

ما بي غنى عنك وإن غنيت

وقال الجوهري : والسلوى العسل. قال الأخفش : السلوى لا واحد له من لفظه مثل الخير والشرّ ، وهو يشبه أن يكون واحده سلوى. وقال الخليل : واحده سلواة ، وأنشد :

وإني لتعروني لذكراك سلوة

كما انتفض السّلواة من سلكه القطر (٢)

وقال الكسائي : السلوى واحدة وجمعه سلاوى. وقوله : (كُلُوا) أي قلنا لهم كلوا ، وفي الكلام حذف ، والتقدير : قلنا : كلوا فعصوا ولم يقابلوا النعم بالشكر فظلموا أنفسهم وما ظلمونا ، فحذف هذا لدلالة : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) عليه ، وتقديم الأنفس هنا يفيد الاختصاص. وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) قال : علانية. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أنس قال : هم السبعون الذين اختارهم موسى (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) قال : ماتوا (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) قال : فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال : غمام أبرد من هذا وأطيب ، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة ، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر وكان معهم في التيه. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) قال : كان هذا الغمام في البرية ، ظلّل عليهم الغمام من الشمس ، وأطعمهم المنّ والسلوى حين برزوا إلى البرية ، فكان المنّ يسقط عليهم في محلتهم سقوط الثلج أشدّ بياضا من اللبن وأحلى من العسل ، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، فيأخذ الرجل قدر ما يكفيه ليومه ذلك ، فإن تعدّى ذلك فسد ما يبقى عنده ، حتى إذا كان يوم سادسه يوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه فبقي عنده ، لأنه كان يوم عيد لا يشخص فيه لأمر المعيشة ولا لطلبة شيء ، وهذا كله في البرية. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال : المنّ شيء أنزل الله عليهم مثل الطّل ، والسلوى طير أكبر من العصفور. وأخرج وكيع وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : المنّ صمغة ، والسلوى طائر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال : قالوا يا موسى! كيف لنا بما هاهنا ، أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المنّ فكان يسقط على الشجرة الترنجبين. وأخرجوا عن وهب أنه سئل ما المنّ؟ قال : خبز الرقاق مثل الذرة أو مثل النقي. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال : المنّ شراب كان ينزل عليهم مثل العسل ، فيمزجونه

__________________

(١). في القرطبي : «لو أشرب السّلوان ما سليت» والبيت لرؤبة.

(٢). في معجم العين ٧ / ٢٩٨ :

وإني لتعروني لذكراك هزة

كما انتفض السّلواة بلله القطر

١٠٤

بالماء ثم يشربونه. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان المنّ ينزل عليهم بالليل على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاؤوا ـ والسلوى طائر يشبه السمّانى كانوا يأكلون منه ما شاؤوا. وأخرج ابن جرير عنه نحوه. وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في السلوى مثله. وقد روي نحو ذلك عن جماعة من التابعين ومن بعدهم. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَما ظَلَمُونا) قال نحن أعزّ من أن نظلم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) قال : يضرّون.

(وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

قال جمهور المفسرين : القرية : هي بيت المقدس ؛ وقيل : إنها أريحاء قرية من قرى بيت المقدس ؛ وقيل : من قرى الشام. وقوله : (فَكُلُوا) أمر إباحة ـ و (رَغَداً) كثيرا واسعا ، وهو نعت لمصدر محذوف : أي أكلا رغدا ، ويجوز أن يكون في موضع الحال ، وقد تقدم تفسيره. والباب الذي أمروا بدخوله : هو باب في بيت المقدس يعرف اليوم بباب حطّة ؛ وقيل هو باب القبة التي كان يصلّي إليها موسى وبنو إسرائيل. والسجود : قد تقدم تفسيره وقيل : هو هنا الانحناء ؛ وقيل : التواضع والخضوع ، واستدلوا على ذلك بأنه لو كان المراد السجود الحقيقي الذي هو وضع الجبهة على الأرض لامتنع الدخول المأمور به ، لأنه لا يمكن الدخول حال السجود الحقيقي. وقال في الكشاف : إنهم أمروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله وتواضعا. واعترضه أبو حيان في النهر المادّ فقال : لم يؤمروا بالسجود ، بل هو قيد في وقوع المأمور به وهو الدخول ، والأحوال نسب تقييدية ، والأوامر نسب إسنادية. انتهى. ويجاب عنه بأن الأمر بالمقيد أمر بالقيد ، فمن قال اخرج مسرعا فهو آمر بالخروج على هذه الهيئة ، فلو خرج غير مسرع كان عند أهل اللسان مخالفا للأمر. ولا ينافي هذا كون الأحوال نسبا تقييدية ، فإن اتصافها بكونها قيودا مأمورا بها هو شيء زائد على مجرد التقييد. وقوله : (حِطَّةٌ) بالرفع في قراءة الجمهور على إضمار مبتدأ ، قال الأخفش : وقرئت (حِطَّةٌ) نصبا على معنى احطط عنا ذنوبنا حطة ؛ وقيل : معناها الاستغفار ، ومنه قول الشاعر :

فاز بالحطّة التي جعل الله

بها ذنب عبده مغفورا

وقال ابن فارس في المجمل : (حِطَّةٌ) كلمة أمروا بها ولو قالوها لحطّت أوزارهم. قال الرازي في تفسيره : أمرهم بأن يقولوا ما يدل على التوبة ، وذلك لأن التوبة صفة القلب فلا يطلع الغير عليها ، وإذا اشتهر وأخذ بالذنب ثم تاب بعده لزمه أن يحكي توبته لمن شاهد منه الذنب ، لأن التوبة لا تتمّ إلا به. انتهى ، وكون التوبة لا تتم إلا بذلك لا دليل عليه ، بل مجرد عقد القلب عليها يكفي سواء اطلع الناس على ذنبه أم لا ، وربما

١٠٥

كان التكتم بالتوبة على وجه لا يطلع عليها إلا الله عزوجل أحبّ إلى الله وأقرب إلى مغفرته. وأما رفع ما عند الناس من اعتقادهم بقاءه على المعصية فذلك باب آخر. وقوله : يغفر لكم قرأه نافع بالياء التحتية المضمومة ، وقرأه ابن عامر بالتاء الفوقية المضمومة وقرأه الباقون بالنون وهي أولى. والخطايا جمع خطيئة بالهمز ، وقد تكلّم علماء العربية في ذلك بما هو معروف في كتب الصرف. وقوله : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) أي نزيدهم إحسانا على إحسانهم المتقدم ، وهو اسم فاعل من أحسن. وقد ثبت في الصحيح «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الإحسان فقال : أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) قيل : إنهم قالوا : حنطة ؛ وقيل غير ذلك. والصواب أنهم قالوا :

حبة في شعرة ، كما سيأتي مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) هو من وضع الظاهر موضع المضمر لنكتة كما تقرّر في علم البيان ، وهي هنا تعظيم الأمر عليهم وتقبيح فعلهم ، ومنه قول عديّ بن زيد :

لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا

فكرّر الموت في البيت ثلاثا تهويلا لأمره وتعظيما لشأنه. وقوله : (رِجْزاً) بكسر الراء في قراءة الجميع إلا ابن محيصن فإنه قرأ بضم الراء. والرجز : العذاب. والفسق : قد تقدم تفسيره. وقد أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله : (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) قال : بيت المقدس. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال : هي أريحاء قرية من بيت المقدس. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصحّحه ، عن ابن عباس في قوله : (ادْخُلُوا الْبابَ) قال : باب ضيق (سُجَّداً) قال : ركعا. وقوله : (حِطَّةٌ) قال : مغفرة ، فدخلوا من قبل أستاههم وقالوا حنطة استهزاء ، قال : فذلك قوله تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الباب هو أحد أبواب بيت المقدس ، وهو يدعى باب حطة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والطبراني في الكبير ، وأبو الشيخ ، عن ابن مسعود قال : قيل لهم : (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) فدخلوا مقنعي رؤوسهم وقالوا حنطة : حبة حمراء فيها شعيرة. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) قال : طأطئوا رؤوسكم (وَقُولُوا حِطَّةٌ) قال : قولوا : لا إله إلا الله. وأخرج البيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس في قوله : (قُولُوا : حِطَّةٌ) قال : لا إله إلا الله. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : كان الباب قبل القبلة. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قيل لبني إسرائيل : ادخلوا الباب سجّدا وقولوا حطّة ، فبدّلوا ؛ فدخلوا يزحفون على أستاههم وقالوا حبّة في شعرة». وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس وأبي هريرة قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «دخلوا الباب الذي أمروا أن يدخلوا فيه سجّدا يزحفون على أستاههم ، وهم يقولون حنطة في شعيرة» ، والأول أرجح لكونه في الصحيحين. وقد أخرجه معهما من أخرج هذا الحديث الآخر : أعني ابن جرير وابن المنذر. وأخرج ابن أبي شيبة عن عليّ قال : إنما مثلنا في هذه الأمة كسفينة نوح وكباب

١٠٦

حطة في بني إسرائيل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب. وأخرج مسلم وغيره من حديث أسامة بن زيد وسعد بن مالك وخزيمة بن ثابت قالوا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ هذا الطاعون رجز وبقيّة عذاب عذّب به أناس من قبلكم ، فإذا كان بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها ، وإذا بلغكم أنه بأرض فلا تدخلوها».

(وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

الاستسقاء إنما يكون عند عدم الماء وحبس المطر. ومعناه في اللغة : طلب السقيا. وفي الشرع ما ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفته من الصلاة والدعاء. والحجر يحتمل أن يكون حجرا معينا فتكون اللام للعهد ، ويحتمل أن لا يكون معينا فتكون للجنس ، وهو أظهر في المعجزة وأقوى للحجة. وقوله : (فَانْفَجَرَتْ) الفاء مترتبة على محذوف تقديره فضرب فانفجرت ، والانفجار : الانشقاق ، وانفجر الماء انفجارا : تفتح ، والفجرة : موضع تفتح الماء. قال ابن عطية : ولا خلاف أنه كان حجرا مربعا يخرج من كل جهة ثلاث عيون إذا ضربه موسى سالت العيون ، وإذا استغنوا عن الماء جفّت. والمشرب : موضع الشرب ؛ وقيل هو المشروب نفسه. وفيه دليل على أنه يشرب من كل عين قوم منهم لا يشاركهم غيرهم. قيل كان لكل سبط عين من تلك العيون لا يتعداها إلى غيرها ، والأسباط ذرية الاثني عشر من أولاد يعقوب. وقوله : (كُلُوا) أي قلنا لهم : كلوا المنّ والسلوى واشربوا الماء المتفجر من الحجر. وعثا يعثي عثيا ، وعثي يعثو عثوا ، وعاث يعيث عيثا ، لغات : بمعنى أفسد. وقوله : (مُفْسِدِينَ) حال مؤكدة. قال في القاموس : عثى كرمى ، وسعى ورضي ، عثيّا وعثيّا وعثيانا ، وعثا يعثو عثوا : أفسد. وقال في الكشاف : العثي أشدّ الفساد. فقيل لهم : لا تمادوا في الفساد في حال فسادكم ، لأنهم كانوا متمادين فيه. انتهى. وقوله : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) تضجّر منهم بما صاروا فيه من النعمة والرزق الطيب والعيش المستلذ ، ونزوع إلى ما ألفوه قبل ذلك من خشونة العيش :

إنّ الشقيّ بالشّقاء مولع

لا يملك الرّدّ له إذا أتى

ويحتمل أن لا يكون هذا منهم تشوقا إلى ما كانوا فيه ، ونظرا لما صاروا إليه من العيشة الرافهة ، بل هو باب من تعنتهم ، وشعبة من شعب تعجرفهم كما هو دأبهم ، وهجّيراهم (١) في غالب ما قصّ علينا من أخبارهم

__________________

(١). الهجّيرى : الدأب والعادة ، يقال : هذا هجّيراه : أي : دأبه وعادته.

١٠٧

وقال الحسن البصري : إنهم كانوا أهل كرّات وأبصال وأعداس ، فنزعوا إلى عكرهم : أي أصلهم عكر السوء ، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) والمراد بالطعام الواحد هو : المنّ والسلوى ، وهما وإن كانا طعامين لكن لما كانوا يأكلون أحدهما بالآخر جعلوهما طعاما واحدا. وقيل : لتكررهما في كل يوم وعدم وجود غيرهما معهما ولا تبدلة بهما. ومن في قوله : (مِمَّا تُنْبِتُ) تخرج. قال الأخفش : زائدة ، وخالفه سيبويه لكونها لا تزاد في الكلام الموجب. قال النحاس : وإنما دعا الأخفش إلى هذا لأنه لم يجد مفعولا ليخرج فأراد أن يجعل ما مفعولا ؛ والأولى أن يكون المفعول محذوفا دل عليه سياق الكلام ، أي : تخرج لنا مأكولا. وقوله : (مِنْ بَقْلِها) بدل من ما بإعادة الحرف ، والبقل : كل نبات ليس له ساق ، والشجر : ما له ساق. قال في الكشاف : البقل ما أنبتته الأرض من الخضر ، والمراد به أطايب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكرّاث وأشباهها. انتهى. والقثاء بكسر القاف وفتحها. والأولى قراءة الجمهور. والثانية قراءة يحيى بن وثاب وطلحة بن مصرف وهو معروف. والفوم : قيل هو الثوم ، وقد قرأه ابن مسعود بالثاء. وروي نحو ذلك عن ابن عباس ، وقيل : الفوم : الحنطة ، وإليه ذهب أكثر المفسرين ، كما قال القرطبي. وقد رجّح هذا ابن النحاس. وقال الجوهري : الفوم الحنطة ، وممن قال بهذا الزجاج والأخفش ، وأنشد :

قد كنت أحسبني كأغنى واجد

نزل المدينة عن زراعة فوم

وقال بالقول الأوّل الكسائي والنضر بن شميل ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :

كانت منازلهم إذ ذاك ظاهرة

فيها الفراديس والفومان والبصل

أي الثوم ، وقال حسان :

وأنتم أناس لئام الأصول

طعامكم الفوم والحوقل

يعني الثوم والبصل ؛ وقيل الفوم : السنبلة ؛ وقيل الحمص ، وقيل الفوم كل حبّ يخبز. والعدس والبصل معروفان. والاستبدال : وضع الشيء موضع الآخر و (أَدْنى) قال الزجاج : إنه مأخوذ من الدنوّ : أي القرب والمراد : أتضعون هذه الأشياء التي هي دون موضع المنّ والسلوى اللذين هما خير منها من جهة الاستلذاذ والوصول من عند الله بغير واسطة أحد من خلقه ، والحلّ الذي لا تطرقه الشبهة وعدم الكلفة بالسعي له والتعب في تحصيله ، وقوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) أي انزلوا ، وقد تقدّم معنى الهبوط. وظاهر هذا أن الله أذن لهم بدخول مصر ؛ وقيل : إن الأمر للتعجيز لأنهم كانوا في التيه ، فهو مثل قوله تعالى : (كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) (١) ، وصرف مصر هنا مع اجتمع العلمية والتأنيث لأنه ثلاثي ساكن في الوسط ، وهو يجوز صرفه مع حصول السببين ، وبه قال الأخفش والكسائي. وقال الخليل وسيبويه : إن ذلك لا يجوز ، وقالا : إنه لا علمية هنا لأنه أراد مصرا من الأمصار ، ولم يرد المدينة المعروفة ؛ وهو خلاف الظاهر. وقرأ الحسن وأبان ابن تغلب وطلحة بن مصرف بترك التنوين ، وهو كذلك في مصحف أبيّ وابن مسعود. ومعنى ضرب الذلة

__________________

(١). الإسراء : ٥٠.

١٠٨

والمسكنة إلزامهم بذلك والقضاء به عليهم قضاء مستمرا لا يفارقهم ولا ينفصل عنهم ، مع دلالته على أن ذلك مشتمل عليهم اشتمال القباب على من فيها ، ومنه قول الفرزدق يهجو جريرا :

ضربت عليك العنكبوت بنسجها

وقضى عليك به الكتاب المنزل

وهو ضرب من الهجاء بليغ ، كما أنه إذا استعمل في المديح كان في منزلة رفيعة ، ومنه قول الشاعر :

إنّ المروءة والشّجاعة والنّدى

في قبّة ضربت على ابن الحشرج

وهذا الخبر الذي أخبرنا الله به هو معلوم في جميع الأزمنة ، فإن اليهود أقمأهم الله أذلّ الفرق وأشدّهم مسكنة وأكثرهم تصاغرا ، لم ينتظم لهم جمع ولا خفقت على رؤوسهم راية ، ولا ثبتت لهم ولاية ، بل ما زالوا عبيد العصيّ في كل زمن ، وطروقة كل فحل في كل عصر ، ومن تمسّك منهم بنصيب من المال وإن بلغ في الكثرة أيّ مبلغ ، فهو متظاهر بالفقر متردّ بأثواب المسكنة ، ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله ، إما بحق كتوفير ما عليه من الجزية ، أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من التجري على الله بظلم من لا يستطيع الدفع عن نفسه. ومعنى : (باؤُ) رجعوا ، يقال باء بكذا ، أي رجع به ، وباء إلى المباءة : أي رجع إلى المنزل ، والبواء : الرجوع ، ويقال : هم في هذا الأمر بواء : أي سواء : يرجعون فيه إلى معنى واحد ، وباء فلان بفلان : إذا كان حقيقا بأن يقبل به لمساواته له ، ومنه قول الشاعر :

ألا تنتهي عنّا ملوك وتتّقي

محارمنا لا يبوؤ الدّم بالدّم

والمراد في الآية أنهم رجعوا بغضب من الله ، أو صاروا أحقاء بغضبه ؛ وقد تقدم تفسير الغضب. والإشارة بقوله (ذلِكَ) إلى ما تقدم من حديث الذلة وما بعده بسبب كفرهم بالله وقتلهم لأنبيائه بغير حق يحق عليهم اتباعه والعمل به ، ولم يخرج هذا مخرج التقييد حتى يقال : إنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال لمكان العصمة ، بل المراد نعي هذا الأمر عليهم وتعظيمه ، وأنه ظلم بحت في نفس الأمر. ويمكن أن يقال : أنه ليس بحق في اعتقادهم الباطل ، لأن الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه لم يعارضوهم في مال ولا جاه ، بل أرشدوهم إلى مصالح الدين والدنيا ، كما كان من شعيا وزكريا ويحيى ، فإنهم قتلوهم وهم يعملون ويعتقدون أنهم ظالمون. وتكرير الإشارة لقصد التأكيد وتعظيم الأمر عليهم وتهويله ، ومجموع ما بعد الإشارة الأولى والإشارة الثانية هو السبب لضرب الذلة وما بعده ، وقيل يجوز أن تكون الإشارة الثانية إلى الكفر والقتل ، فيكون ما بعدها سببا للسبب وهو بعيد جدا. والاعتداء : تجاوز الحدّ في كل شيء.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) قال ذلك في التيه ، ضرب لهم موسى الحجر فصار فيها اثنتا عشرة عينا من ماء ، لكل سبط منهم عين يشربون منها. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة ومجاهد وابن أبي حاتم عن جويبر نحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ) قال : لا تسعوا في الأرض فسادا. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية مثله. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك قال : يعني ولا تمشوا بالمعاصي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة قال :

١٠٩

لا تسيروا في الأرض مفسدين. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) قال : المنّ والسلوى استبدلوا به البقل وما حكي معه. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَفُومِها) قال : الخبز ، وفي لفظ : البرّ ، وفي لفظ : الحنطة. وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال : الفوم : الثوم. وأخرج ابن جرير عن الربيع بن أنس مثله. وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر عن ابن مسعود أنه قرأ وثومها وروى ابن أبي الدنيا عن ابن عباس أنه قال : قراءتي قراءة زيد ، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفا من قراءة ابن مسعود هذا أحدها من بقلها وقثّائها وثومها. وأخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله : (الَّذِي هُوَ أَدْنى) قال : أردأ. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) قال مصرا من الأمصار. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية : أنه مصر فرعون. وأخرج نحوه ابن أبي داود وابن الأنباري عن الأعمش. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) قال : هم أصحاب الجزية. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن قتادة والحسن قال : ضربت عليهم الذلة والمسكنة ، أي يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال : المسكنة : الفاقة. وأخرج ابن جرير عن الضحّاك في قوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) قال : استحقوا الغضب من الله. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة في قوله : (وَباؤُ) قال : انقلبوا. وأخرج أبو داود والطيالسي وابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبيّ ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

قيل : إن المراد بالذين آمنوا : المنافقون ، بدلالة جعلهم مقترنين باليهود والنصارى والصابئين ، أي آمنوا في الظاهر. والأولى أن يقال : إن المراد الذين صدّقوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاروا من جملة أتباعه ، وكأنه سبحانه أراد أن يبيّن أن حال هذه الملة الإسلامية وحال من قبلها من سائر الملل يرجع إلى شيء واحد ، وهو أن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا استحقّ ما ذكره الله من الأجر ، ومن فاته ذلك فاته الخير كله والأجر دقّه وجلّه. والمراد بالإيمان هاهنا هو ما بيّنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قوله لما سأله جبريل عن الإيمان فقال : «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشرّه» ولا يتصف بهذا الإيمان إلا من دخل في الملة الإسلامية ، فمن لم يؤمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا بالقرآن فليس بمؤمن ، ومن آمن بهما صار مسلما مؤمنا ولم يبق يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا. وقوله : (هادُوا) معناه صاروا يهودا ، قيل هو نسبة لهم إلى يهوذا بن يعقوب ، بالذال المعجمة فقلبتها العرب دالا مهملة ؛ وقيل : معنى هادوا : تابوا لتوبتهم عن عبادة العجل ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) (١) أي تبنا ـ وقيل : إن معناه السكون والموادعة. وقال في الكشاف : إن معناه دخل في اليهودية. والنصارى : قال سيبويه : مفردة نصران ونصرانة كندمان وندمانة ، وأنشد شاهدا على ذلك قول

__________________

(١). الأعراف : ١٥٦.

١١٠

الشاعر :

تراه إذا دار العشا متحنّفا

ويضحي لديه وهو نصران شامس

وقال الآخر :

فكلتاهما خرّت وأسجد رأسها

كما أسجدت نصرانة لم تحنّف

قال : ولكن لا يستعمل إلا بياء النسب فيقال : رجل نصرانيّ وامرأة نصرانية. وقال الخليل : واحد النصارى نصريّ. وقال الجوهري : ونصران قرية بالشام تنسب إليها النصارى ، ويقال ناصرة ، وعلى هذا فالياء للنسب. وقال في الكشاف : إن الياء للمبالغة كالتي في أحمريّ ، سموا بذلك لأنهم نصروا المسيح. والصابئين : جمع صابئ ، وقيل : صاب. وقد اختلف فيه القراء فهمزوه جميعا إلا نافعا ، فمن همزه جعله من صبأت النجوم : إذا طلعت ، وصبأت ثنية الغلام : إذا خرجت. ومن لم يهمزه جعله من صبا يصبو : إذا مال ؛ والصابئ في اللغة : من خرج ومال من دين إلى دين ، ولهذا كانت العرب تقول لمن أسلم قد صبأ ، وسموا هذه الفرقة صابئة ، لأنها خرجت من دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة. وقوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) في موضع نصب بدلا من الذين آمنوا وما بعده ، وقد تقدم معنى الإيمان ، ويكون خبر إن قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) ويجوز أن يكون قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) وهما جميعا خبر إن ، والعائد مقدّر في الجملة الأولى : أي من آمن منهم ، ودخلت الفاء في الخبر لتضمن المبتدأ معنى الشرط. وقد تقدّم تفسير قوله تعالى : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سلمان قال : سألت النبيّ عن أهل دين كنت معهم فذكرت من صلاتهم وعبادتهم ، فنزلت : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) الآية. وأخرج الواحديّ عن مجاهد نحو ذلك. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في ذكر السبب بنحو ما سبق ، وحكى قصة طويلة. وأخرج أبو داود في الناسخ والمنسوخ ، وابن جرير وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) قال : فأنزل الله بعد هذا : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١). وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن عليّ قال : إنما سميت اليهود لأنهم قالوا : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ). وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال : نحن أعلم من أين سميت اليهودية؟ من كلمة موسى عليه‌السلام : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) ولم تسمت النصارى بالنصرانية؟ من كلمة عيسى عليه‌السلام : (كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) وأخرج أبو الشيخ نحوه عنه. وأخرج ابن جرير عن قتادة : إنما تسموا نصارى بقرية يقال لها ناصرة. وأخرج ابن سعد في طبقاته وابن جرير عن ابن عباس قال : إنما سميت النصارى لأن قرية عيسى كانت تسمى ناصرة. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : الصابئون : فرقة بين اليهود والنصارى ، والمجوس ليس لهم دين. وأخرج عبد الرزاق عنه قال : قال ابن عباس فذكر نحوه. وقد روي في تفسير الصابئين غير هذا.

__________________

(١). آل عمران : ٨٥.

١١١

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))

قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا) هو في محل نصب بعامل مقدر هو اذكروا ، كما تقدم غير مرة. وقد تقدّم تفسير الميثاق ، والمراد أنه أخذ سبحانه عليهم الميثاق ، بأن يعملوا بما شرعه لهم في التوراة وبما هو أعمّ من ذلك أو أخصّ. والطور اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه‌السلام وأنزل عليه التوراة فيه ؛ وقيل : هو اسم لكل جبل بالسريانية. وقد ذكر كثير من المفسرين : أن موسى لما جاء بني إسرائيل من عند الله بالألواح قال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا إلا أن يكلمنا الله بها كما كلمك ، فصعقوا ثم أحيوا ، فقال لهم : خذوها والتزموها ، فقالوا : لا ، فأمر الله الملائكة فاقتلعت جبلا من جبال فلسطين طوله فرسخ في مثله. وكذلك كان عسكرهم ، فجعل عليهم مثل الظلة ، وأتوا ببحر من خلفهم ، ونار من قبل وجوههم ، وقيل : لهم خذوها وعليكم الميثاق أن لا تضيّعوها ، وإلا سقط عليكم الجبل ، فسجدوا توبة لله وأخذوا التوراة بالميثاق. قال ابن جرير عن بعض العلماء : لو أخذوها أوّل مرة لم يكن عليهم ميثاق. قال ابن عطية : والذي لا يصح سواه أن الله سبحانه اخترع وقت سجودهم الإيمان (١) ، لا أنهم آمنوا كرها وقلوبهم غير مطمئنة. انتهى. وهذا تكلف ساقط حمله عليه المحافظة على ما قد ارتسم لديه من قواعد مذهبية قد سكن قلبه إليها كغيره ، وكل عاقل يعلم أنه لا سبب من أسباب الإكراه أقوى من هذا أو أشد منه. ونحن نقول : أكرههم الله على الإيمان فآمنوا مكرهين ، ورفع عنهم العذاب بهذا الإيمان. وهو نظير ما ثبت في شرعنا من رفع السيف عن من تكلّم بكلمة الإسلام والسيف مصلت قد هزّه حامله على رأسه. وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لمن قتل من تكلم بكلمة الإسلام معتذرا عن قتله بأنه قالها تقية ولم تكن عن قصد صحيح : «أأنت فتشت عن قلبه؟». وقال : «لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس» وقوله : (خُذُوا) أي وقلنا لكم : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) والقوّة : الجدّ والاجتهاد. والمراد : ب (ذكر ما فيه) : من أن يكون محفوظا عندهم ليعملوا به. قوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) أصل التولي الإدبار عن الشيء والإعراض بالجسم ، ثم استعمل في الإعراض عن الأمور والأديان والمعتقدات اتساعا ومجازا ، والمراد هنا : إعراضهم عن الميثاق المأخوذ عليهم ، وقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد البرهان لهم ، والترهيب بأشد ما يكون وأعظم ما تجوزه العقول وتقدره الأفهام ، وهو رفع الجبل فوق رؤوسهم كأنه ظلة عليهم. وقوله : (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ) بأن تدارككم بلطفه ورحمته حتى أظهرتم التوبة لخسرتم. والفضل : الزيادة. قال ابن فارس في المجمل : الفضل : الزيادة والخير ، والإفضال :

__________________

(١). في تفسير ابن عطية زيادة هنا هي : (في قلوبهم)

١١٢

الإحسان. انتهى. والخسران : النقصان ، وقد تقدم تفسيره. والسبت في أصل اللغة : القطع ، لأن الأشياء تمت فيه وانقطع العمل ؛ وقيل : هو مأخوذ من السبوت ، وهو الراحة والدعة. وقال في الكشاف : السبت : مصدر سبتت اليهود ، إذا عظمت يوم السبت. انتهى. وقد ذكر جماعة من المفسرين أن اليهود افترقت فرقتين : ففرقة اعتدت في السبت : أي جاوزت ما أمرها الله به من العمل فيه فصادوا السمك الذي نهاهم الله عن صيده فيه ؛ والفرقة الأخرى انقسمت إلى فرقتين : ففرقة جاهرت بالنهي واعتزلت ؛ وفرقة لم توافق المعتدين ولا صادوا معهم لكنهم جالسوهم ولم يجاهروهم بالنهي ولا اعتزلوا عنهم فمسخهم الله جميعا ولم تنج إلا الفرقة الأولى فقط ، وهذه من جملة المحن التي امتحن الله بها هؤلاء الذين بالغوا في العجرفة وعاندوا أنبياءهم ، وما زالوا في كل موطن يظهرون من حماقاتهم وسخف عقولهم وتعنتهم نوعا من أنواع التعسف ، وشعبة من شعب التكلف ؛ فإن الحيتان كانت في يوم السبت كما وصف الله سبحانه بقوله : (إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ) (١) فاحتالوا لصيدها ، وحفروا الحفائر وشقوا الجداول ، فكانت الحيتان تدخلها يوم السبت فيصيدونها يوم الأحد ، فلم ينتفعوا بهذه الحيلة الباطلة. والخاسئ : المبعد ، يقال : خسأته فخسأ وخسئ وانخسأ : أبعدته فبعد. ومنه قوله تعالى : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) (٢) أي مبعدا. وقوله : (اخْسَؤُا فِيها) (٣) أي تباعدوا تباعد سخط ، ويكون الخاسئ بمعنى الصاغر. والمراد هنا. كونوا [جامعين] (٤) بين المصير إلى أشكال القردة مع كونكم مطرودين صاغرين ، فقردة خبر الكون. وخاسئين خبر آخر ؛ وقيل : إنه صفة لقردة والأوّل أظهر. واختلف في مرجع الضمير في قوله : (فَجَعَلْناها) وفي قوله : (لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) فقيل : العقوبة ، وقيل : الأمة ، وقيل : القرية ، وقيل : القردة ، وقيل : الحيتان ، والأول أظهر. والنكال : الزجر والعقاب ، والنكل : القيد لأنه يمنع صاحبه ؛ ويقال للجام الدابة : نكل لأنه يمنعها ، والموعظة : مأخوذة من الاتعاظ والانزجار ، والوعظ : التخويف. وقال الخليل : الوعظ التذكير بالخير. وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : الطور : الجبل الذي أنزلت عليه التوراة ، وكان بنو إسرائيل أسفل منه. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : الطور ما أنبت من الجبال ، وما لم ينبت فليس بطور. وأخرج ابن جرير عنه في قوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) قال : أي بجد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) قال : اقرءوا ما في التوراة واعملوا به. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس في قوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) قال : لعلكم تنزعون عما أنتم عليه. وأخرج ابن جرير عنه قال : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) أي عرفتم (الَّذِينَ اعْتَدَوْا) يقول : اجترءوا في السبت بصيد السمك ، فمسخهم الله قردة بمعصيتهم ، ولم يعش مسيخ قط فوق ثلاثة أيام ، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وأخرج ابن المنذر عنه قال : القردة والخنازير من نسل الذين مسخوا. وأخرج ابن المنذر عن الحسن قال : انقطع ذلك النسل. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مثل ضربه الله

__________________

(١). الأعراف : ١٦٣.

(٢). الملك : ٤.

(٣). المؤمنون : ١٠٨.

(٤). من الكشاف ١ / ٢٨٦.

١١٣

لهم كقوله : (كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً) وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في الآية قال : أحلت لهم الحيتان وحرّمت عليهم يوم السبت ليعلم من يطيعه ممن يعصيه فكان فيهم ثلاثة أصناف ، وذكر نحو ما قدّمناه عن المفسرين. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : صار شباب القوم قردة ، والمشيخة صاروا خنازير. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (خاسِئِينَ) قال : ذليلين. وأخرج ابن المنذر عنه في قوله : (خاسِئِينَ) قال : صاغرين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد مثله. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها) من القرى (وَما خَلْفَها) من القرى (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) الذين من بعدهم إلى يوم القيامة. وأخرج ابن جرير عنه (فَجَعَلْناها) يعني الحيتان (نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) من الذنوب التي عملوا قبل وبعد. وأخرج ابن جرير عنه (فَجَعَلْناها) قال : جعلنا تلك العقوبة وهي المسخة (نَكالاً) عقوبة (لِما بَيْنَ يَدَيْها) يقول : ليحذر من بعدهم عقوبتي (وَما خَلْفَها) يقول : للذين كانوا معهم (وَمَوْعِظَةً) قال : تذكرة وعبرة للمتقين.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١))

قيل : إن قصة ذبح البقرة المذكورة هنا مقدّم في التلاوة ومؤخر في المعنى على قوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) ويجوز أن يكون قوله : قتلتم مقدّما في النزول ، ويكون الأمر بالذبح مؤخرا ، ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها ، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ، ثم وقع ما وقع من أمر القتل فأمروا أن يضربوه ببعضها هذا على فرض أن الواو تقتضي الترتيب ؛ وقد تقرر في علم العربية أنها لمجرد الجمع من دون ترتيب ولا معية ، وسيأتي في قصة القتل تمام الكلام ، والبقرة : اسم للأنثى ، ويقال للذكر : ثور ؛ وقيل إنها تطلق عليهما ، وأصله من البقر وهو الشقّ لأنها تشقّ الأرض بالحرث ، قال الأزهري : البقر اسم جنس ، وجمعه باقر. وقد قرأ عكرمة ويحيى بن يعمر : إنّ الباقر تشابه علينا وقوله : (هُزُواً) الهزو هنا : اللعب والسخرية ، وقد تقدم تفسيره. وإنما يفعل ذلك أهل الجهل لأنه نوع من العبث الذي لا يفعله العقلاء ، ولهذا أجابهم موسى بالاستعاذة بالله سبحانه من الجهل. وقوله : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ) هذا نوع من أنواع تعنتهم المألوفة ، فقد كانوا يسلكون هذه المسالك في غالب ما أمرهم الله به ولو تركوا التعنت والأسئلة المتكلفة لأجزأهم ذبح بقرة من عرض البقر ، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم كما سيأتي بيانه. والفارض : المسنة ،

١١٤

ومعناه في اللغة الواسع. قال في الكشاف : وكأنها سميت فارضا لأنها فرضت سنها : أي قطعتها وبلغت آخرها. انتهى. ويقال للشيء القديم : فارض ، ومنه قول الراجز :

يا ربّ ذي ضغن عليّ فارض

له قروء كقروء الحائض

أي قديم ؛ وقيل الفارض : التي قد ولدت بطونا كثيرة فيتسع جوفها. والبكر : الصغيرة التي لم تحمل ، وتطلق في إناث البهائم وبني آدم على ما لم يفتحله الفحل ، وتطلق أيضا على الأوّل من الأولاد ، ومنه قول الراجز :

يا بكر بكرين ويا خلب الكبد

أصبحت منّي كذراع من عضد

والعوان : المتوسطة بين سني الفارض والبكر ، وهي التي قد ولدت بطنا أو بطنين ؛ ويقال هي التي قد ولدت مرة بعد مرة ، والإشارة بقوله : (بَيْنَ ذلِكَ) إلى الفارض والبكر ، وهما وإن كانتا مؤنثتين فقد أشير إليهما بما هو للمذكر على تأويل المذكور ، كأنه قال : بين ذلك المذكور وجاز دخول بين المقتضية لشيئين [على المفرد] (١) لأن المذكور متعدد. وقوله : (فَافْعَلُوا) تجديد للأمر ، وتأكيد له ، وزجر لهم عن التعنت ، فلم ينفعهم ذلك ولا نجع فيهم ، بل رجعوا إلى طبيعتهم ، وعادوا إلى مكرهم واستمرّوا على عادتهم المألوفة ، ف (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ). واللون : واحد الألوان ، وجمهور المفسرين على أنها كانت جميعها صفراء. قال بعضهم : حتى قرنها وظلفها. وقال الحسن وسعيد بن جبير : إنها كانت صفراء القرن والظلف فقط ، وهو خلاف الظاهر. والمراد بالصفرة هنا الصفرة المعروفة. وروي عن الحسن أن صفراء معناه سوداء ، وهذا من بدع التفاسير ومنكراتها ، وليت شعري كيف يصدق على اللون الأسود الذي هو أقبح الألوان أنه يسرّ الناظرين ، وكيف يصح وصفه بالفقوع الذي يعلم كل من يعرف لغة العرب أنه لا يجري على الأسود بوجه من الوجوه ، فإنهم يقولون في وصف الأسود : حالك وحلكوك ودجوجي وغربيب. قال الكسائي : يقال فقع لونها يفقع فقوعا : إذا خلصت صفرته. وقال في الكشاف : الفقوع أشدّ ما يكون من الصفرة وأنصعه. ومعنى (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) تدخل عليهم السرور إذا نظروا إليها إعجابا بها واستحسانا للونها. قال وهب : كانت كأن شعاع الشمس يخرج من جلدها ، ثم لم ينزعوا عن غوايتهم ولا ارعووا من سفههم وجهلهم ، بل عادوا إلى تعنتهم فقال : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) أي أن جنس البقر يتشابه عليهم لكثرة ما يتصف منها بالعوان الصفراء الفاقعة ، ووعدوا من أنفسهم بالاهتداء إلى ما دلّهم عليه ، والامتثال لما أمروا به. (لا ذَلُولٌ) التي لم يذللها العمل : أي هي غير مذللة بالعمل ولا ريّضة به. وقوله : (تُثِيرُ) في موضع رفع على الصفة لبقرة : أي هي بقرة لا ذلول مثيرة ، وكذلك قوله : (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) في محل رفع لأنه وصف لها : أي ليست من النواضح التي يسنى عليها لسقي الزروع ، وحرف النفي الآخر توكيد للأوّل : أي هي بقرة غير مذللة بالحرث ولا بالنضح ، ولهذا قال الحسن : كانت البقرة

__________________

(١). ما بين حاصرتين : زيادة يقتضيها السياق.

١١٥

وحشية. وقال قوم : إنّ قوله : (تُثِيرُ) فعل مستأنف. والمعنى : إيجاب الحرث لها والنضح بها. والأوّل أرجح ، لأنها لو كانت مثيرة ساقية لكانت مذللة ريضة ، وقد نفى الله ذلك عنها. وقوله : (مُسَلَّمَةٌ) مرتفع على أنه من أوصاف البقرة ، ويجوز أن يكون مرتفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف : أي هي مسلمة. والجملة في محل رفع على أنها صفة ، والمسلمة : هي التي لا عيب فيها ؛ وقيل مسلمة من العمل ، وهو ضعيف لأن الله سبحانه قد نفى ذلك عنها ، والتأسيس خير من التأكيد ، والإفادة أولى من الإعادة. والشية أصلها وشية ، حذفت الواو كما حذفت من يشي ، وأصله يوشي ، ونظيره الزنة والعدة والصلة ، وهي مأخوذة من وشى الثوب : إذا نسج على لونين مختلفين ، وثور موشى : في وجهه وقوائمه سواد. والمراد أن هذه البقرة خالصة الصفرة ليس في جسمها لمعة من لون آخر. فلما سمعوا هذه الأوصاف التي لا يبقى بعدها ريب ولا يخالج سامعها شك ، ولا تحتمل الشركة بوجه من الوجوه ، أقصروا من غوايتهم ، وانتبهوا من رقدتهم وعرفوا بمقدار ما أوقعهم فيه تعنتهم من التضييق عليهم (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أي أوضحت لنا الوصف ، وبيّنت لنا الحقيقة التي يجب الوقوف عندها ، فحصلوا على تلك البقرة الموصوفة بتلك الصفات (فَذَبَحُوها) وامتثلوا الأمر الذي كان يسرا فعسّروه ، وكان واسعا فضيّقوه (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ما أمروا به لما وقع منهم من التثبط والتعنت وعدم المبادرة ، فكان ذلك مظنة للاستبعاد ، ومحلا للمجيء بعبارة مشعرة بالتثبط الكائن منهم ، وقيل إنهم ما كادوا يفعلون لعدم وجدان البقرة المتصفة بهذه الأوصاف ، وقيل لارتفاع ثمنها ، وقيل لخوف انكشاف أمر المقتول ، والأوّل أرجح. وقد استدل جماعة من المفسرين والأصوليين بهذه الآية على جواز النسخ قبل إمكان الفعل.

وليس ذلك عندي بصحيح لوجهين : الأوّل : أن هذه الأوصاف المزيدة بسبب تكرر السؤال هي من باب التقييد للمأمور به لا من باب النسخ ، وبين البابين بون بعيد كما هو مقرر في علم الأصول. الثاني : أنا لو سلّمنا أن هذا من باب النسخ لا من باب التقييد لم يكن فيه دليل على ما قالوه ، فإنه قد كان يمكنهم بعد الأمر الأوّل أن يعمدوا إلى بقرة من عرض البقر فيذبحوها ، ثم كذلك بعد الوصف بكونها جامعة بين الوصف بالعوان والصفراء ، ولا دليل يدل على هذه المحاورة بينهم وبين موسى عليه‌السلام واقعة في لحظة واحدة ، بل الظاهر أن هذه الأسئلة المتعنتة كانوا يتواطؤون عليها ، ويديرون الرأي بينهم في أمرها ثم يوردونها ، وأقلّ الأحوال الاحتمال القادح في الاستدلال.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في سننه ، عن عبيدة السلماني قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيما لا يولد له وكان له مال كثير ، وكان ابن أخيه وارثه ، فقتله ثم احتمله ليلا فوضعه على باب رجل منهم ، ثم أصبح يدّعيه عليهم حتى تسلّحوا ، وركب بعضهم إلى بعض ، فقال ذو الرأي منهم : علام يقتل بعضكم بعضا ، وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى فذكروا ذلك له ، فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) الآية ، قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ، ولكنهم شدّدوا فشدّد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أمروا بذبحها ، فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها ، فقال : والله

١١٦

لا أنقصها من ملء جلدها ذهبا ، فأخذوها بملء جلدها ذهبا ، فذبحوها فضربوه ببعضها ، فقام ، فقالوا : من قتلك؟ فقال : هذا ، لابن أخيه ، ثم مال ميتا ، فلم يعط من ماله شيئا ، ولم يورّث قاتل بعده. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب «من عاش بعد الموت» عن ابن عباس : أن القتيل وجد بين قريتين ؛ وأن البقرة كانت لرجل كان يبرّ أباه فاشتروها بوزنها ذهبا. وأخرج ابن جرير عنه نحوا من ذلك ، ولم يذكر ما تقدم في البقرة. وقد روي في هذا قصص مختلفة لا يتعلق بها كثير فائدة. وأخرج البزار عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ بني إسرائيل لو أخذوا أدنى بقرة لأجزأهم أو لأجزأت عنهم» وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا أن بني إسرائيل قالوا (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) ما أعطوا أبدا ، ولو أنهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكنّهم شدّدوا فشدّد الله عليهم» وأخرج نحوه الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر عن عكرمة يبلغ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرجه ابن جرير عن ابن جريج يرفعه. وأخرجه ابن جرير عن قتادة يرفعه أيضا ، وهذه الثلاثة مرسلة. وأخرج نحوه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس. وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال : الفارض : الهرمة ، والبكر : الصغيرة ، والعوان : النصف. وأخرج نحوه عن مجاهد. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) قال : بين الصغيرة والكبيرة ، وهي أقوى ما يكون وأحسنه. وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضا في قوله : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) قال : شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عمر في قوله : (صَفْراءُ) قال : صفراء الظلف (فاقِعٌ لَوْنُها) قال : صافي. وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : (فاقِعٌ لَوْنُها) أي صاف (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي تعجب. وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) قال : سوداء شديدة السواد. وأخرج ابن جرير عن أبي العالية في قوله : (لا ذَلُولٌ) أي لم يذلها العمل (تُثِيرُ الْأَرْضَ) يعني ليس بذلول فتثير الأرض (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) يقول : ولا تعمل في الحرث (مُسَلَّمَةٌ) قال : من العيوب. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد. وقال : (لا شِيَةَ فِيها) لا بياض فيها ولا سواد. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس (مُسَلَّمَةٌ) لا عوار فيها. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة : (قالُوا : الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) قالوا : الآن بينت لنا : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) وأخرج ابن جرير عن محمد بن كعب في قوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) لغلاء ثمنها.

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

١١٧

قد تقدم ما ذكرناه في قصة ذبح البقرة ، فيكون تقدير الكلام : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) فقال موسى لقومه : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) إلى آخر القصة ، وبعدها : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) الآية. وقال الرازي في تفسيره : اعلم أن وقوع القتل لا بد أن يكون متقدما لأمره تعالى بالذبح ، فأما الإخبار عن وقوع ذلك القتل ، وعن أنه لا بدّ أن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فلا يجب أن يكون متقدما على الإخبار عن قصة البقرة ، فقول من يقول هذه القصة يجب أن تكون متقدمة في التلاوة على الأولى خطأ ، لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود ، فأما التقدم في الذكر فغير واجب لأنه تارة يقدم ذكر السبب على ذكر الحكم ، وأخرى على العكس من ذلك ، فكأنهم لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله بذبح البقرة ، فلما ذبحوها قال : وإذ قتلتم نفسا من قبل ، ونسب القتل إليهم بكون القاتل منهم ، وأصل ادّارأتم تدارأتم ، ثم أدغمت التاء في الدال ، ولما كان الابتداء بالمدغم الساكن لا يجوز زادوا ألف الوصل ؛ ومعنى ادّارأتم : اختلفتم وتنازعتم ، لأن المتنازعين يدرأ بعضهم بعضا : أي يدفعه ، ومعنى (مُخْرِجٌ) مظهر : أي ما كتمتم بينكم من أمر القتل فالله مظهره لعباده ومبينه لهم ، وهذه الجملة معترضة بين أجزاء الكلام : أي فادّارأتم فيها فقلنا. واختلف في تعيين البعض الذي أمروا بأن يضربوا القتيل به ، ولا حاجة إلى ذلك مع ما فيه من القول بغير علم ، ويكفينا أن نقول : أمرهم الله بأن يضربوه ببعضها ، فأيّ بعض ضربوا به فقد فعلوا ما أمروا به ، وما زاد على هذا فهو من فضول العلم إذا لم يرد به برهان. قوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) في الكلام حذف ، والتقدير : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) فأحياه الله (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) أي إحياء كمثل هذا الإحياء. (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) أي علاماته ودلائله الدالة على كمال قدرته ، وهذا يحتمل أن يكون خطابا لمن حضر القصة ، ويحتمل أن يكون خطابا للموجودين عند نزول القرآن. والقسوة : الصلابة واليبس ، وهي عبارة عن خلوّها من الإنابة والإذعان لآيات الله مع وجود ما يقتضي خلاف هذه القسوة من إحياء القتيل وتكلمه وتعيينه لقاتله ، والإشارة بقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) إلى ما تقدم من الآيات الموجبة للين القلوب ورقتها. قيل : (أَوْ) في قوله : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) بمعنى الواو كما في قوله تعالى : (آثِماً أَوْ كَفُوراً) (١) وقيل هي بمعنى بل ، وعلى أن «أو» على أصلها أو بمعنى الواو ، فالعطف على قوله : (كَالْحِجارَةِ) أي هذه القلوب هي كالحجارة أو هي أشدّ قسوة منها ، فشبهوها بأيّ الأمرين شئتم فإنكم مصيبون في هذا التشبيه. وقد أجاب الرازي في تفسيره عن وقوع «أو» هاهنا مع كونها للترديد ـ وهو لا يليق لعلام الغيوب ـ بثمانية أوجه. وإنما توصل إلى أفعل التفضيل بأشدّ مع كونه يصح أن يقال وأقسى من الحجارة ، لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة ، كما قاله في الكشاف. وقرأ الأعمش «أو أشد» بنصب الدال ، وكأنه عطفه على الحجارة ، فيكون أشدّ مجرورا بالفتحة. وقوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) إلى آخره ، قال في الكشاف : إنه بيان لفضل قلوبهم على الحجارة في شدّة القسوة وتقرير لقوله : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) انتهى. وفيه أن مجيء البيان بالواو غير معروف ولا مألوف ، والأولى جعل ما بعد الواو تذييلا أو حالا. التفجر : التفتح ، وقد سبق تفسيره. وأصل (يَشَّقَّقُ) يتشقق ، أدغمت التاء في الشين ،

__________________

(١). الإنسان : ٢٤.

١١٨

وقد قرأ الأعمش يتشقّق على الأصل. وقرأ ابن مصرف ينشقّ بالنون ، والشق : واحد الشقوق ، وهو يكون بالطول أو بالعرض ، بخلاف الانفجار ، فهو الانفتاح من موضع واحد مع اتساع الخرق. والمراد : أن الماء يخرج من الحجارة من مواضع الانفجار والانشقاق ، ومن الحجارة ما يهبط : أي ينحطّ من المكان الذي هو فيه إلى أسفل منه من الخشية لله التي تداخله وتحل به ؛ وقيل : إن الهبوط مجاز عن الخشوع منها ، والتواضع الكائن فيها انقيادا لله عزوجل ، فهو مثل قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (١) وقد حكى ابن جرير عن فرقة : أن الخشية للحجارة مستعارة كما استعيرت الإرادة للجدار (٢) ، وكما قال الشاعر :

لما أتى خبر الزبير تواضعت

سور المدينة والجبال الخشّع

وذكر الجاحظ أن الضمير في قوله : (وَإِنَّ مِنْها) راجع إلى القلوب لا إلى الحجارة ، وهو فاسد ، فإن الغرض من سياق هذا الكلام هو التصريح بأن قلوب هؤلاء بلغت في القسوة وفرط اليبس الموجبين لعدم قبول الحق والتأثر للمواعظ إلى مكان لم تبلغ إليه الحجارة ، التي هي أشدّ الأجسام صلابة وأعظمها صلادة ، فإنها ترجع إلى نوع من اللين ، وهي تفجرها بالماء وتشققها عنه وقبولها لما توجبه الخشية لله من الخشوع والانقياد بخلاف تلك القلوب. وفي قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من التهديد وتشديد الوعيد ما لا يخفى ، فإن الله عزوجل إذا كان عالما بما يعملونه مطلعا عليه غير غافل عنه كان لمجازاتهم بالمرصاد.

وقد أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ) قال : اختلفتم فيها (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) قال : ما تغيبون. وأخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الإيمان ، عن المسيب بن رافع قال : ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله ، وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها ، وتصديق ذلك في كتاب الله : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ). وأخرج أحمد والحاكم وصحّحه ، عن أبي سعيد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو أنّ رجلا عمل عملا في صخرة صمّاء لا باب لها ولا كوّة خرج عمله إلى النّاس كائنا ما كان» وأخرج البيهقي من حديث عثمان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كانت له سريرة صالحة أو سيّئة أظهر الله عليه منها رداء يعرف به» ورواه البيهقي أيضا بنحوه من قول عثمان قال : والموقوف أصحّ. وأخرج أبو الشيخ والبيهقي عن أنس مرفوعا حديثا طويلا في هذا المعنى ، ومعناه : أن الله يلبس كل عامل عمله حتى يتحدّث به الناس ويزيدون ، ولو عمله في جوف بيت إلى سبعين بيتا على كل بيت باب من حديد ، وفي إسناده ضعف. وأخرج ابن عديّ من حديث أنس أيضا مرفوعا : «إنّ الله مرد كل امرئ رداء عمله». ولجماعة من الصحابة والتابعين كلمات تفيد هذا المعنى. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) قال : ضرب

__________________

(١). الحشر : ٢١.

(٢). في هذا إشارة إلى قوله تعالى في سورة الكهف [الآية : ٧٧] : (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ...).

١١٩

بالعظم الذي يلي الغضروف. وأخرج عبد بن حميد عن قتادة : أنهم ضربوه بفخذها. وأخرج مثله ابن جرير عن عكرمة. وأخرج نحوه عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد. وأخرج ابن جرير عن السدي قال : ضرب بالبضعة التي بين الكتفين. وأخرج عبد بن حميد ، وأبو الشيخ في العظمة ، عن وهب بن منبّه قصة طويلة في ذكر البقرة وصاحبها لا حاجة إلى التطويل بذكرها ، وقد استوفاها في الدرّ المنثور. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) قال : من بعد ما أراهم الله من إحياء الموتى ومن بعد ما أراهم من أمر القتيل (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ثم عذر الله الحجارة ولم يعذر شقّي بني آدم فقال : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) إلى آخر الآية. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : أي من الحجارة لألين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : إنّ الحجر ليقع على الأرض ولو اجتمع عليه فئام من النّاس ما استطاعوه ، وإنّه ليهبط من خشية الله.

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧))

وقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ) هذا الاستفهام فيه معنى الإنكار ، كأنه آيسهم من إيمان هذه الفرقة من اليهود. والخطاب لأصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أوله ولهم. و (يُؤْمِنُوا لَكُمْ) أي لأجلكم ، أو على تضمين آمن معنى استجاب : أي أتطمعون أن يستجيبوا لكم. والفريق اسم جمع لا واحد له من لفظه. و (كَلامَ اللهِ) أي التوراة ، وقيل : إنهم سمعوا خطاب الله لموسى حين كلمه ، وعلى هذا فيكون الفريق هم السبعون الذين اختارهم موسى ، وقرأ الأعمش : «كلم الله». والمراد من التحريف أنهم عمدوا إلى ما سمعوه من التوراة ، فجعلوا حلاله حراما أو نحو ذلك مما فيه موافقة لأهوائهم ، كتحريفهم صفة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإسقاط الحدود عن أشرافهم ، أو سمعوا كلام الله لموسى فزادوا فيه ونقصوا ، وهذا إخبار عن إصرارهم على الكفر وإنكار على من طمع في إيمانهم وحالهم هذه الحال : أي ولهم سلف حرّفوا كلام الله وغيّروا شرائعه وهم مقتدون بهم متبعون سبيلهم. ومعنى قوله : (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) أي من بعد ما فهموه بعقولهم مع كونهم يعلمون أن ذلك الذي فعلوه تحريف مخالف لما أمرهم الله به من تبليغ شرائعه كما هي ، فهم وقعوا في المعصية عالمين بها ، وذلك أشد لعقوبتهم وأبين لضلالهم. (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني أن المنافقين إذا لقوا الذين آمنوا (قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ) أي إذا خلا الذين لم ينافقوا بالمنافقين قالوا لهم عاتبين عليهم (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) أي حكم عليكم من العذاب ، وذلك أن ناسا من اليهود أسلموا ثم نافقوا ، فكانوا يحدثون المؤمنين من العرب بما عذّب به آباؤهم ، وقيل : إن المراد ما فتح الله عليهم في التوراة من صفة محمد ،

١٢٠