باقر شريف القرشي
المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٣٢
٨ ـ تحريم الاستغلال :
وحرّم الإسلام استغلال الإنسان لأخيه الإنسان ، والاستيلاء على جهوده وأتعابه مجّانا وبلا عوض ، فإنّ ذلك ممّا يؤدّي إلى إشاعة الفقر والحاجة في المجتمع.
٩ ـ إقصاء الفقر :
من المبادئ التي رفع شعارها الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إقصاء الفقر وإزالته عن المجتمع ، واعتبره كالكافر في وجوب مكافحته ، وأنّه كارثة مدمرة ومصدر لكلّ جريمة وموبقة تقع في البلاد ، ففرض الضرائب في أموال الأغنياء والتي من أهمّها الزكاة ، وجعل الدولة مسئولة عن جبايتها وتوزيعها على الفقراء ، كما فرض لهم التكافل الاجتماعي ، والتضامن الاجتماعي وغيرهما من مبيد الفقر.
١٠ ـ إشاعة العلم :
من المبادئ التي تبنّاها الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إشاعة العلم ونشره بين الناس ، وإقصاء الجهل ، وقد جعل طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ، وأهاب بالمسلمين أن يرفعوا عنهم كابوس الجهل ، وينمّوا عقولهم بالعلم ؛ لأنّه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تقوم لهم قائمة وهم يرسفون في قيود الجهل ، وقد عرضنا إلى بحوث مهمّة في هذا الموضوع في كتابنا « النظام التربوي في الإسلام ».
هذه بعض المثل الكريمة والمبادئ الرفيعة التي رفع شعارها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولم يفهمها المجتمع القرشي في مكّة ، فكانت غريبة عليه ، فاندفع بجميع قواه إلى مناهضتها وإطفاء نورها.
الإمام يصف الإسلام :
ووصف الإمام الإسلام وصفا رائعا وملمّا بواقعه في كثير من خطبه وكلماته
كان منها ما يلي :
١ ـ قال عليهالسلام :
ثمّ إنّ هذا الإسلام دين الله الّذي اصطفاه لنفسه ، واصطنعه على عينه ، وأصفاه خيرة خلقه ، وأقام دعائمه على محبّته.
أذلّ الأديان بعزّته ، ووضع الملل برفعه ، وأهان أعداءه بكرامته ، وخذل محادّيه (١) بنصره ، وهدم أركان الضّلالة بركنه (٢).
أرأيتم هذا الوصف الكامل الدقيق للإسلام! فهو دين الله تعالى الذي اصطفاه ووهبه لعباده يقيم أودهم ويصلح شئونهم ويهديهم للتي هي أقوم.
٢ ـ قال عليهالسلام :
الحمد لله الّذي شرع الإسلام فسهّل شرائعه لمن ورده ، وأعزّ أركانه على من غالبه ، فجعله أمنا لمن علقه (٣) ، وسلما لمن دخله ، وبرهانا لمن تكلّم به ، وشاهدا لمن خاصم عنه ، ونورا لمن استضاء به ، وفهما لمن عقل ، ولبّا لمن تدبّر ، وآية لمن توسّم ، وتبصرة لمن عزم ، وعبرة لمن اتّعظ ، ونجاة لمن صدّق ، وثقة لمن توكّل ، وراحة لمن فوّض ، وجنّة لمن صبر.
فهو أبلج المناهج ، وأوضح الولائج ؛ مشرف المنار ، مشرق الجوادّ ، مضيء المصابيح ، كريم المضمار ، رفيع الغاية ، جامع الحلبة ، متنافس
__________________
(١) المحادي : الشديد المخالفة.
(٢) نهج البلاغة ـ محمّد عبده ٢ : ١٧٤.
(٣) علقه : أي من تعلّق به.
السّبقة ، شريف الفرسان. التّصديق منهاجه ، والصّالحات مناره ، والموت غايته ، والدّنيا مضماره ، والقيامة حلبته ، والجنّة سبقته (١).
ولقد وعى الإمام عليهالسلام الإسلام ، وآمن بقيمه وأهدافه ، فوصفه هذا الوصف الرائع الذي أحاط بمقوّماته ومكوّناته.
الإمام أوّل من صلّى مع النبيّ :
والشيء المحقّق عند الرواة والمحقّقين هو أنّ الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام هو أوّل من آمن وصلّى مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في البيت الحرام (٢) ، وقد نقل المؤرّخون بعض من شاهد صلاته مع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهم :
١ ـ عفيف الكندي :
روى عفيف الكندي قال :
جئت في الجاهلية إلى مكّة ، وأنا اريد أن ابتاع لأهلي من ثيابها وعطرها ، فأتيت العبّاس بن عبد المطلب ، وكان تاجرا ، فأنا عنده جالس انظر إلى الكعبة ، وقد حلّقت الشمس في السماء فارتفعت وذهبت إذ جاء شاب فرمى ببصره إلى السماء ثمّ قام مستقبلا الكعبة ، ثمّ لم يلبث إلاّ يسيرا حتّى جاء غلام فقام على يمينه ، ثمّ جاءت امرأة فقامت خلفهما ، فركع الشاب فركع معه الغلام والمرأة ، ثمّ رفع الشاب رأسه فتابعه الغلام والمرأة ، وسجد الشاب فسجد معه الغلام والمرأة ، فقلت متعجّبا :
__________________
(١) نهج البلاغة ١ : ٢٣١.
(٢) صحيح الترمذي ٢ : ٣٠٠. تاريخ الطبري ٢ : ٥٥. البداية والنهاية ٣ : ٢٧. مستدرك الحاكم ٣ : ١١٢. شرح نهج البلاغة ـ ابن أبي الحديد ٤ : ١٦٩.
يا عبّاس ، أمر عظيم!! وطفق العباس قائلا :
نعم ، أمر عظيم!! أتدري من هذا الشاب؟
لا.
هذا محمّد بن عبد الله ابن أخي ، أتدري من هذا الغلام؟ هذا عليّ ابن أخي ، أتدري من هذه المرأة؟ هذه خديجة بنت خويلد زوجته. إنّ ابن أخي هذا ـ وأشار إلى محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ أخبرني أنّ ربّه ربّ السماء والأرض أمره بهذا الدين الذي هو عليه ، لا والله ما على الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة (١).
٢ ـ عبد الله بن مسعود :
روى عبد الله بن مسعود قال : إنّ أوّل شيء علمته من أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قدمت مكّة مع عمومة لي فأرشدونا إلى العبّاس بن عبد المطّلب ، فانتهينا إليه وهو جالس إلى زمزم ، فجلسنا إليه ، فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل من باب الصفا أبيض تعلوه حمرة ، له وفرة جعدة إلى أنصاف اذنيه ، أقنى الأنف ، برّاق الثنايا ، أدعج العينين ، كثّ اللحية ، دقيق المسربة ، شثن الكفّين والقدمين ، عليه ثوبان أبيضان ، كأنّه القمر ليلة البدر ، يمشي عن يمينه غلام أمرد حسن الوجه ، مراهق أو محتلم ، تقفوه امرأة قد سترت محاسنها ، حتى قصد نحو الحجر فاستلمه ، ثمّ استلمه الغلام ، ثمّ استلمته المرأة ، ثمّ طاف بالبيت سبعا ، والغلام والمرأة يطوفان معه.
قلنا : يا أبا الفضل ، إنّ هذا الدين لم نكن نعرفه فيكم ، أو شيء حدث؟
__________________
(١) خصائص النسائي : ٣. مسند أحمد ١ : ٣٠٩. طبقات ابن سعد ٨ : ١٠.
فقال العبّاس : هذا ابن أخي محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والغلام عليّ بن أبي طالب ، والمرأة خديجة ، وتابع ابن مسعود حديثه قائلا :
أما والله! ما على وجه الأرض من أحد نعلمه يعبد الله بهذا الدين إلاّ هؤلاء الثلاثة (١).
وهذه الفضيلة للإمام عليهالسلام لم يفز بها أحد غيره من الصحابة وغيرهم ، وقد اعترف بها سعد بن أبي وقّاص مع انحرافه عن الإمام ، فقد اجتاز على قوم مجتمعين على فارس وهو يسبّ الإمام فبادر إليه سعد قائلا :
يا هذا ، على ما تشتم عليّ بن أبي طالب؟ ألم يكن أوّل من أسلم؟ ألم يكن أوّل من صلّى مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ ألم يكن أزهد الناس؟ ألم يكن أعلم الناس؟ ألم يكن ختن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم على ابنته؟ ألم يكن صاحب راية رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في غزواته؟
واستقبل سعد القبلة ، ورفع يديه بالدعاء ، وقال : اللهمّ إنّ هذا يشتم وليّا من أوليائك فلا تفرّق هذا الجمع حتى تريهم قدرتك ، ولم يلبثوا يسيرا حتى نفرت به دابته فرمته على هامته في تلك الأحجار فانفلق دماغه (٢).
الإمام مع النبيّ في بداية دعوته :
وواكب الإمام عليهالسلام الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في بداية دعوته ، وكان في فجر الصبا وروعة الشباب ، وقد آمن بوعي وفكر برسالة الإسلام ، وانطبعت في دخائل نفسه ، وأعماق ذاته ، وحينما أمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بتبليغ رسالة ربّه إلى عشيرته بهذه الآية : ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ) (٣) دعا الإمام وأخبره بما امر به من تبليغ الدعوة
__________________
(١) مجمع الهيثمي ٩ : ٢٢٤. كنز العمّال ٧ : ٥٦.
(٢) مستدرك الحاكم ٣ : ٤٩٩.
(٣) الشعراء : ٢١٤.
المباركة إلى عشيرته الأقربين ، وأحاطه علما أنّهم لا يستجيبون له ، ولا يؤمنون برسالته ، ولكنّه مأمور بذلك لإقامة الحجّة عليهم ، فأعدّ لهم وليمة وشرابا من لبن ، وسارع الإمام إلى دعوتهم فاستجابوا له ، وكان فيهم من أعمامه مؤمن قريش أبو طالب وحمزة والعبّاس وأبو لهب ، ولمّا حضروا قدّم لهم الإمام الطعام ، فتناول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قطعة من اللحم فشقّها بأسنانه ، وألقاها في نواحي الصفحة ، وقال لهم : « خذوا بسم الله » ، فأكلوا جميعا ، والطعام باق على حاله ، وكان الرجل يأكل مقدار ما في الصفحة إلاّ أنّها ببركة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لم ينقص منها شيء ، وبادر الإمام فسقاهم اللبن حتى ارتووا.
وقام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فدعاهم إلى اعتناق الإسلام ونبذ الأصنام ، فقطع الأثيم أبو لهب كلامه ، وخاطب المجتمعين قائلا :
لقد سحركم.
فتفرّقوا بين مستهزء وساخر ، ولم يحدّثهم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم شيئا ، فقد قطع أبو لهب عليه كلامه ، وفي اليوم الثاني دعاهم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى تناول الطعام فأكلوا وشربوا وانبرى النبيّ خطيباً فقال :
« يا بني عبد المطّلب ، إنّي والله ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به ، إنّي قد جئتكم بخير الدّنيا والآخرة ، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه ، فأيّكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ ».
فأحجم القوم كلّهم ولم ينبس أحد منهم ببنت شفة كأنّ على رءوسهم الطير ، ولم يجبه أحد منهم ، فانبرى إليه الإمام أمير المؤمنين فقال له بحماس :
« أنا يا نبيّ الله أكون وزيرك عليه ».
فأخذ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم برقبته ، وخاطب القوم قائلا :
« إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا ».
وتعالت أصوات اولئك الأقزام بالسخرية والاستهزاء قائلين لأبي طالب :
قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع (١).
وهذا الحديث من أوضح الأدلّة ، ومن أكثرها بيانا وعطاء على إمامة الإمام أمير المؤمنين ، وأنّه وزير النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وخليفته الشرعي من بعده على امّته.
لقد قرن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم دعوته إلى التوحيد بالدعوة إلى الخلافة والوزارة والإمامة من بعده ، وقلّدها إلى الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام ، فهو أوّل من آمن بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأجاب دعوته ، وصدّق برسالته ، والذي ينكر ذلك فليس برشيد.
ووصف الشاعر الملهم السيّد الحميري دعوة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم اسرته إلى الإسلام ، ونكوصهم عن إجابته ، وإيمان الإمام بها بقوله :
ويوم قال له
جبريل قد علموا |
|
أنذر عشيرتك
الأدنين إن بصروا |
فقال يا قوم إنّ
الله أرسلني |
|
إليكم فأجيبوا
الله وادّكروا |
فأيّكم يجتبي
قولي ويؤمن بي |
|
أنّي نبيّ رسول
فانبروا غدر |
فقال تبّا أتدعونا
لتلفتنا |
|
عن ديننا ثمّ
قام القوم فاشتمروا |
من الذي قال
منهم وهو أحدثهم |
|
سنّا وخيرهم في
الذّكر إذ سطروا |
آمنت بالله قد
اعطيت نافلة |
|
لم يعطها أحد
جنّ ولا بشر (٢) |
__________________
(١) تاريخ الطبري ٢ : ٦٣. تاريخ ابن الأثير ٢ : ٢٤. مسند أحمد ١ : ٦٣. ومن الغريب أنّ ابن كثير في تفسيره ذكر الحادثة ، وكتب على كلام النبيّ : « أيّكم يوازرني ليكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم » كتب يقول : أيّكم يوازرني على أن يكون كذا وكذا ، وكذلك كتب على قول : النبيّ : « هذا أخي ووصيّي ... إلخ » أيّكم يوازرني على أن يكون كذا وكذا ، قاتل الله هذه العصبية التي تنمّ عن نفس لا علاقة لها بالواقع ولا صلة لها بالتعبّد بقول النبيّ.
(٢) ديوان الحميري : ٢٠٣.
وقال الحميري في قصيدة اخرى منها هذه الأبيات :
فقال لهم إنّي
رسول إليكم |
|
ولست أراني
عندكم بكذوب |
فأيّكم يقفو
مقالي؟ فأمسكوا |
|
فقال : ألا من
ناطق فمجيبي؟ |
ففاز بها منهم
عليّ وسادهم |
|
وما ذاك من
عاداته بغريب (١) |
وعلى أي حال فقد انفضّ القوم ، ولم يفلح أي أحد منهم بإجابة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وتصديقه سوى أخيه وابن عمّه الإمام عليهالسلام.
فزع القرشيّين :
وفزعت قريش كأشدّ ما يكون الفزع من دعوة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم واضطربت حياتهم الاجتماعية والفردية ، وانتشرت الكراهة والبغضاء في أوساطهم ، فقد صبا إلى الإسلام فريق من شبابهم ، وبعض السيّدات من نسائهم ، والأرقّاء من عبيدهم ، والمستضعفون في ديارهم أمثال عمّار وياسر وسميّة ، فكان الولد ينفر من أبويه ، وأمّا المرأة فقد خلعت طاعة زوجها ، واحتقرته ولا تقرب منه ، وأمّا الأرقّاء والمستضعفون فقد فتح لهم الإسلام آفاقا كريمة من العزّة والكرامة وبشّرهم بمستقبل كريم ، إنّهم سيكونون سادة المجتمع ، وستكون جبابرة قريش وطغاتها أذلاّء صاغرين.
لقد عمّت الاضطرابات معظم بيوت مكّة ، وحدث زلزال عنيف في ذلك المجتمع ، واستحكم العداء بين الولد وأبويه ، والأخ مع أخيه والسادة مع أرقّائهم.
إجراءات قاسية :
وأجمعت قريش على مناجزة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ومناهضته بجميع ما تملك من
__________________
(١) ديوان الحميري : ١١٨.
وسائل القوّة ، كما أجمعت على تعذيب من آمن به من شبابهم ونسائهم وأرقّائهم والمستضعفين منهم ، وقد اتّخذوا من الاجراءات القاسية ضدّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه ما يلي :
١ ـ إغراء صبيانهم بمحاربة النبيّ :
وأوعزت قريش إلى صبيانهم بمحاربة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وإلقاء الحجارة والتراب والرماد عليه ، وإنّما عمدت لذلك لتعتذر من أبي طالب حامي النبيّ ، والمدافع عنه ، وتنفي عنها المسئولية وتلقيها على أطفالهم وصبيانهم الذين لا يعقلون ، ولا يؤاخذون بشيء من أعمالهم ، وقد تصدّى لأولئك الصبيان الإمام عليهالسلام ، وكان في سنّه المبكّر قويّ الساعدين ، يحمل عليهم بعنف وقسوة فيوجعهم لكما وضربا ، فإذا خرج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم سار الإمام خلفه ، فإذا رأوه فرّوا منهزمين إلى آبائهم وامّهاتهم يسايرهم الرعب والخوف من الإمام.
٢ ـ اتّهام النبيّ بالجنون :
من الوسائل التي لجأت إليها قريش في محاربة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم رميه بالجنون لأنّه جاءهم بشريعة مجافية لعقولهم التي ران عليها الجهل وخيّم عليها الشرك.
لقد اتّهموه بالجنون ، وهو العقل المدبّر للإنسانية ، والدماغ المفكّر الذي استوعب بوعي جميع قضايا الإنسان ووضع لها الحلول الحاسمة ، لقد اتّهموه بذلك لإفشال دعوته ، وصدّ الجماهير من اعتناقها ، وقد باءوا بالفشل والخزي ، وسارت دعوة الرسول كالضوء ، فقد آمنت كوكبة من الشباب بالدعوة المباركة ، ووقفوا قوّة ضاربة لحمايتها.
٣ ـ اتّهامه بالسحر :
وأشاعت قريش أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ساحر وأنّه غير مرسل من السماء .. وقد
اتّهموه بذلك حينما كان يتلو عليهم كتاب الله تعالى البالغ حد الاعجاز في بلاغته وفصاحته ، وما كان يلقيه عليهم من روائع الحكم والآداب التي تأخذ بمجامع العقول والنفوس ، بالاضافة إلى ما كان يريهم من آيات معجزاته التي أمدّه الله تعالى بها لتصديقه ، وإيمان الناس به ، وقد باءت هذه التهمة بالفشل ، ولم تلق أي اذن صاغية لها.
٤ ـ تعذيب المؤمنين :
وصبّ القرشيّون جام غضبهم على من آمن بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من أبنائهم ونسائهم وأرقّائهم والمستضعفين منهم ، فقد نكّلوا بهم كأقسى وأفظع ما يكون التنكيل ، فقد عذّبوا ياسرا وسميّة وعمّارا عذابا منكرا وأليما ، وكان النبيّ يجتاز عليهم فيراهم يئنّون تحت وطأة التعذيب فتتقطّع أنياط قلبه عليهم ألما ، فقال فيهم كلمته الخالدة التي كانت وسام شرف وفخر لهذه الاسرة الكريمة في جميع الأحقاب والآباد : « صبرا آل ياسر إنّ موعدكم الجنّة ». واستشهد ياسر ، واستشهدت معه سميّة بأيدي جبابرة قريش ، ونجا الصحابي العظيم عمّار بعد ما عذّب.
وقد عانى المؤمنون من الرجال والنساء جميع صنوف التعذيب والاضطهاد والتنكيل ممّا اضطرّهم إلى الهجرة من وطنهم مكّة إلى الحبشة ، وكان فيهم جعفر الطيّار ، وقد لاحقتهم قريش لإرجاعهم إلى مكّة لتصفيتهم جسديا إلاّ أنّ ملك الحبشة لم يستجب لهم وأبقاهم في بلده ولم يعرض لهم أحد بمكروه.
٥ ـ في شعب أبي طالب :
وأجمع رأي وجوه القرشيّين وساداتهم على حبس النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأهل بيته في شعب أبي طالب ، وفرض الإقامة الجبرية عليهم حتى لا يختلطوا بالناس فيغيّروا
عقائدهم ويغسلوا أدمغتهم من براثن الجاهلية ، وقد اتّخذوا من القرارات ما يلي :
١ ـ أن لا يزوّجوا هاشميّا بامرأة منهم.
٢ ـ لا يتزوّج أحد منهم بهاشمية.
٣ ـ لا يبايعون هاشميا ولا يشترون شيئا منهم.
وكتبوا في ذلك وثيقة علّقوها في جوف الكعبة ، وأقام الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن آمن به من الهاشميّين في شعب أبي طالب ، وهم يعانون أشقّ وأقسى ألوان الاضطهاد والضيق ، وقد أمدّتهم بجميع ما يحتاجون إليه أمّ المؤمنين خديجة الكبرى رضي الله عنها حتى نفد ما عندها من الثراء العريض ، فما أعظم عائدتها على الإسلام والمسلمين!
الافراج عن النبيّ وآله :
وبقي النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم معتقلا في السجن سنتين أو ما يزيد عليهما ، وقد سلّط الله تعالى الأرضة على صحيفة قريش فأتت عليها ، فأخبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عمّه أبا طالب بذلك فهرع إليهم وأخبرهم بالأمر فخفّوا مسرعين إلى الصحيفة فوجدوها كما أخبر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فذهلوا ووجموا ، وانبرى جماعة من قريش فطالبوا قومهم برفع الحصار عن الهاشميّين فعارضهم أبو جهل ، إلاّ أنّ معارضته لم تجد شيئا ، فقد أطلقوا سراح النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مع من آمن به ، وخرجوا من الشعب وهم في أقصى ما يتصوّر من الجهد والعناء.
وخرج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من الشعب وهو يدعو الناس إلى الإيمان بالإسلام ونبذ الجاهلية ، ولم يحفل بتهديد القرشيّين وإجماعهم على مناهضته ، فقد احتمى بعمّه أبي طالب شيخ البطحاء ومؤمن قريش ، فكان مع أبنائه سدّا حصينا وقوّة ضاربة يحتمي بها ، وقد شجّعه على أداء رسالته ومقاومة المدّ الجاهلي قائلا له :
اذهب بنيّ فما
عليك غضاضة |
|
اذهب وقرّ بذاك
منك عيونا |
والله لن يصلوا
إليك بجمعهم |
|
حتّى اوسّد في
التّراب دفينا |
ودعوتني وعلمت
أنّك ناصحي |
|
ولقد صدقت وكنت
قبل أمينا (١) |
ولقد علمت بأنّ
دين محمّد |
|
من خير أديان
البريّة دينا (٢) |
فاصدع بأمرك ما
عليك غضاضة |
|
وابشر بذاك وقرّ
منك عيونا (٣) |
ودلّ هذا الشعر على إيمان أبي طالب وتفانيه في الولاء لابن أخيه وتصديقه لرسالته.
وعلى أي حال فقد ورمت قلوب القرشيّين غيظا على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وحسدا له ، وممّا زاد في بغضهم للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ما يعلنه من التنديد بالأصنام التي اتّخذوها آلهة يعبدونها من دون الله تعالى ، وقد ازداد حسد الطغاة من قريش للنبيّ حينما كانت الأندية تتحدّث عن سموّ أخلاقه وعظيم ما جاء به من هدى ورحمة وخير إلى الناس وإيمان بعض الناس برسالته.
وفاة أبي طالب وخديجة :
ورزء النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بكارثة كبرى ، وهي وفاة عمّه أبي طالب حامي الإسلامي وأقوى مدافع عنه ، كما ورزئ بوفاة زوجته أمّ المؤمنين خديجة التي كانت من أقوى المناصرين له ، فقد وهبت جميع ما تملكه من الثراء العريض في سبيل الإسلام ، وكانت وفاتها بعد وفاة عمّه أبي طالب بثلاثة أيام (٤) ، وبلغ الحزن من النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
__________________
(١) إيمان أبي طالب : ٢٥٧.
(٢) تاريخ أبي الفداء ١ : ١٢٠.
(٣) أسنى المطالب : ١٨.
(٤) إيمان أبي طالب : ٢٦١ ، وفي تاريخ اليعقوبي ٢ : ٢٥ أنّ أمّ المؤمنين توفّيت في شهر رمضان قبل الهجرة بثلاث سنين ، وتوفّي أبو طالب بعدها بثلاثة أيام.
أقصاه ، فقد فقد عمّه وزوجته الرءوم ، وقد سمّي ذلك العامّ عام الحزن ، فلم يجد بعد عمّه ركنا شديدا يأوي إليه ، وبقي في أرباض مكّة تسايره الهموم والأحزان خوفا من بطش القرشيّين وكيدهم.
إجماع القرشيّين على قتل النبيّ :
وبعد ما نكب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بفقد عمّه حامي الإسلام صمّم على مغادرة مكّة والهجرة إلى يثرب ؛ لأنّه وجد فيها ركنا شديدا يأوي إليه ، وهم الذين آمنوا بدعوته من الأوس والخزرج ، فقد كانوا قوّة ضاربة تحمي دعوته.
وحينما اشيع عزم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم على الهجرة إلى المدينة اضطرب القرشيّون وتعاظم سخطهم ، وورمت آنافهم ، فاجتمعوا بدار الندوة ، وعرضوا فيها الأخطار الهائلة التي منوا بها من دعوة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم التي صبا إليها شبابهم ونساؤهم ورقيقهم والمستضعفون في ديارهم ، فصمّموا على قتل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مهما كلّفهم الأمر ، وكان فيما يروي بعض المؤرّخين قد حضر إبليس في ندوتهم فأشار عليهم بإسناد تنفيذ الجريمة إلى عدد يربو على أربعين شخصا ينتمي كلّ واحد منهم إلى قبيلة معيّنة حتى من الاسرة الهاشمية ، وبذلك يتّخذ قتله صفة عامّة لجميع القبائل فلا تكون قبيلة معيّنة مسئولة عن دمه حتى لا يستطيع أنصاره والمؤمنون به التأثر منهم جميعا ، وقد عيّنوا يوما لذلك سمّوه يوم الزحمة ، وأخبر الله تعالى نبيّه العظيم بما عزمت عليه قريش في قتله (١).
هجرة النبيّ إلى يثرب :
ولمّا حان اليوم الذي عيّنته قريش لقتل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أحاطوا ليلا بداره من جميع الجهات شاهرين سيوفهم يترقّبون بفارغ الصبر طلوع الفجر لتمزّق سيوفهم جسم
__________________
(١) امتاع الأسماع ـ المقريزي ١ : ٣٨.
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ويطفئوا ذلك النور الذي أراد أن يحرّرهم من ظلمات الجاهلية ومآثم الحياة. لقد أرادت قريش أن تنصر أصنامها وأوثانها وتعيد ما فقدته من الهيبة في أوساط العرب.
مبيت الإمام على فراش النبيّ :
وأوعز النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أخيه وابن عمّه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام أن يبيت في فراشه ، ويتّشح ببردته الخضراء (١) ؛ ليوهم على اولئك الأقزام أنّه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى يسلم من شرّهم ، وتلقّى الإمام عليهالسلام أمر النبيّ بمزيد من السرور والابتهاج وشعر بالسعادة التي لم يحلم بها من قبل ليكون فداء لرسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وخرج النبيّ من الدار ، ورماهم بحفنة من التراب أتت على وجوههم الكريهة قائلا : « شاهت الوجوه ذلاّ ».
وأخذ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يتلو قوله تعالى : ( وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ ) (٢).
إنّ مبيت الإمام عليهالسلام على فراش النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ووقايته له بنفسه صفحة مشرقة من جهاده ، ومنقبة لا تعدّ لها أيّة منقبة ، وقد أنزل الله تعالى آية من كتابه ، قال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ) (٣) ، ويقول الرواة : إنّ الله تعالى باهى ملائكته بالإمام ، فقد أوحى إلى جبرئيل وميكائيل أنّي آخيت بينكما ، وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر ، فأيّكما يؤثر صاحبه بالحياة ،
__________________
(١) امتاع الأسماع ـ المقريزي ١ : ٣٩.
(٢) يس : ٩.
(٣) البقرة : ٢٠٧.
فاختار كلاهما الحياة على صاحبه ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليهما : أفلا كنتما مثل عليّ ابن أبي طالب آخيت بينه وبين محمّد فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة ، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوّه ، فنزلا فكان جبرئيل عند رأس عليّ ، وميكائيل عند رجليه ، وجبرئيل يقول للإمام :
« بخّ بخّ ، من مثلك يا ابن أبي طالب ، يباهي الله عزّ وجلّ به الملائكة » ، فأنزل الله على رسوله وهو متوجّه إلى المدينة في شأن علي :
( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ) (١).
إنّ مبيت الإمام في فراش النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يوحي أنّه الشخصية الثانية في رسالة الإسلام الذي يخلف النبيّ ويمثّل شخصيّته ويقوم مقامه ، ولهذه الكرامة دور مهم في دعوة الإسلام لم ينلها أحد من اسرة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه.
ويقول الشاعر الملهم الكبير الشيخ هاشم الكعبي في رائعته :
ومواقف لك دون
أحمد جاوزت |
|
بمقامك التّعريف
والتّحديدا |
فعلى الفراش
مبيت ليلك والعدى |
|
تهدي إليك
بوارقا ورعودا |
فرقدت مثلوج
الفؤاد كأنّما |
|
يهدي القراع
لسمعك التّغريدا |
فكفيت ليلته
وقمت معارضا |
|
بالنّفس لا فشلا
ولا رعديدا |
واستصبحوا فرأوا
دوين مرادهم |
|
جبلا أشمّ
وفارسا صنديدا |
رصدوا الصّباح
لينفقوا كنز الهدى |
|
أوما دروا كنز
الهدى مرصودا |
__________________
(١) اسد الغابة ٤ : ٢٥. نور الأبصار : ٧٧. تفسير الرازي ٥ : ٢٢٣ في تفسير هذه الآية. مسند أحمد ١ : ٣٤٨. تاريخ بغداد ١٣ : ١٩١. طبقات ابن سعد ٨ : ٣٥ ، وغيرها. ذكرت مبيت الإمام في فراش النبيّ ووقايته له بنفسه.
دعاء الإمام :
وأنفق الإمام عليهالسلام ليله ساهرا يدعو الله تعالى لينقذه وأخاه من هذه المحنة الحازبة ، وهذا دعاؤه :
يا من ليس له ربّ يدعى ، يا من ليس فوقه خالق يخشى ، يا من ليس دونه إله يتّقى ، يا من ليس له وزير يرشى ، يا من ليس له نديم يغشى ، يا من ليس له حاجب ينادى ، يا من لا يزداد على كثرة السّؤال إلاّ كرما وجودا ، يا من لا يزداد على عظيم ذنوب عباده إلاّ رحمة وعفوا (١).
وأثر عنه أنّه دعا في تلك الليلة الحازبة بهذا الدعاء أيضا وهو :
أمسيت اللهمّ معتصما بذمامك المنيع الّذي لا يحاول ولا يطاول ، من شرّ كلّ غاشم وطارق من سائر من خلقت ، وما خلقت من خلقك الصّامت والنّاطق ، في جنّة من كلّ مخوف ، بلباس سابغة بولاء أهل بيت نبيّك محمّد صلواتك عليه وعليهم ، محتجبا من كلّ قاصد لي بأذيّة ، بجدار حصين الإخلاص في الاعتراف بحقّهم ، والتّمسّك بحبلهم ، موقنا أنّ الحقّ لهم ومعهم وفيهم ، وبهم ومنهم وإليهم ، اوالي من والوا ، وأعادي من عادوا ، واجانب من جانبوا.
فصلّ على محمّد وآل محمّد وأعذني اللهمّ بهم اتّقي من شرّ كلّ ما اتّقيه يا عظيم ، حجزت عنّي الأعادي ببديع السّماوات والأرض وجعلنا من بين ايديهم سدّا ومن خلفهم سدّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون يا أرحم الرّاحمين (٢).
__________________
(١) الصحيفة العلوية الثانية : ١١٧.
(٢) البلد الأمين : ٢٧ ـ ٢٨.
وظلّ الإمام راقدا في فراش النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولمّا اندلع نور الصبح هجم الطغاة شاهرين سيوفهم على سرير النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فطلع منه الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام كالأسد الضاري شاهرا سيفه ، فلمّا رأوه ذهلوا وجبنوا ، وصاحوا به :
أين محمّد؟
فقابلهم الإمام بعنف قائلا :
« جعلتموني حارسا عليه؟ ».
ونكصوا على أعقابهم يجرّون رداء الخيبة والخسران ، فقد فلت من قبضتهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الذي جاء ليحرّرهم من ويلات الجاهلية وخرافاتها.
وحقدت قريش على الإمام كأشدّ ما يكون الحقد ، ورمته بنظرات حادّة ، فقد أفلت منها بسببه محمّد ، وصفعها الإمام بتلك الصفعة المذلّة ، وتحدّاها واستخفّ بها ، وجعل يغدو ويروح أمامها ساخرا ومستهزئا بها.
مرافقة أبي بكر للرسول :
وغادر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مكّة ميمّما وجهه صوب يثرب ، وقد أنجاه الله من شرّ اولئك الوحوش الكاسرة الذين اترعت نفوسهم بالآثام والرذائل ، وصادفه في الطريق أبو بكر فصحبه ، وسار معه حتى انتهيا إلى جبل ثور (١) ، وفي أعلاه غار فدخلا فيه ، وأقاما فيه ثلاثة أيام ، وأرسل الله تعالى زوجا من الحمام فباضا في مدخله ، وأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت بيتا لها فيه ، وخفّت قريش مسرعة في طلب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، يتقدّمهم سراقة بن مالك ، وكان عالما بصيرا بمعرفة الأثر ، فانتهى إلى باب الغار فرأى البيض وبيت العنكبوت ، فقال : لو دخله أحد
__________________
(١) جبل ثور : يقع في يمين مكّة على مسيرة ساعة ـ الكشّاف ٢ : ٢١٣.
لانكسر البيض ، والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يراهم وهو يدعو : « اللهمّ أعم أبصارهم ».
وأعمى الله أبصارهم ، وسلب لبّهم ، وقال أبو بكر للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : لو نظروا إلى أقدامهم لرأونا .. وبلغ به الخوف أقصاه ، فقال له النبيّ :
« لا تخف إنّ الله معنا ».
ونزلت الآية الكريمة على النبيّ العظيم : ( إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) (١) ، ونزل رجل من قريش فبال على باب الغار ففزع أبو بكر ، وقال : يا رسول الله ، قد أبصرونا ، فنهره النبيّ وقال له : « لو أبصرونا ما استقبلونا بعوراتهم » (٢).
ولمّا أمن النبيّ وأبو بكر من الطلب خرجا من الغار متّجهين نحو المدينة المنوّرة.
استقبال المدينة للرسول :
ولمّا علم أهالي يثرب بتشريف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم هرعوا جميعا لاستقباله ، وقد علت زغاريد النساء وهن ينشدن :
طلع الفجر علينا |
|
من ثنيّات
الوداع |
وجب الشّكر
علينا |
|
ما دعا لله داع (٣) |
__________________
(١) التوبة : ٤٠.
(٢) مجمع البيان ٥ : ٣٠.
(٣) البداية والنهاية ٣ : ٢٤١.
وكان ذلك اليوم مشهودا لم يمرّ على يثرب مثله ، وحينما استقرّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فيها أخذ يؤسّس معالم دولته الكبرى دولة التوحيد التي تبنّت القضايا المصيرية لجميع شعوب العالم وامم الأرض ، وأعلنت حقوق الإنسان ، وما يسمو به من الآداب والفضائل.
وقد وجد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من ولاء أهل المدينة له وتباشيرهم بقدومه ما ملأ قلبه فرحا وسرورا ، وأيقن أنه سيجد منهم أنصارا لدعوته وبناة لدولته.
هجرة الإمام إلى يثرب :
ولمّا نزح الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من مكّة إلى يثرب قام الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام بأداء الأمانات التي عند النبيّ ، وردّ الودائع ، وقضاء ديونه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأمر مناديا ينادي بالأبطح من كانت له عند رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أمانة فليأت ويستلم أمانته ، وبعد ما أدّى ذلك حمل السيّدات الزاكيات من الفواطم وهاجر بهنّ إلى يثرب ، فلحقه سبعة من عتاة قريش لصدّه عن السفر ، فانبرى إليهم الإمام ببسالة وعزم ، فقتل واحدا منهم ، وهرب الباقون (١).
وسار الإمام يطوي البيداء لا يلوي على شيء حتّى انتهى إلى يثرب ، وقيل إلى قبا قبل أن يدخل النبيّ إلى المدينة (٢).
ولمّا بلغ النبيّ قدوم عليّ أمر بإحضاره فقيل له إنّه لا يقدر على المشي ، فأتاه النبيّ فلمّا رآه اعتنقه وبكى رحمة لما بقدميه من الورم من كثرة المشي فأخذ النبيّ من ريقه ومسح به رجليه فبرئتا ، ولم يشك بعد ذلك منهما شيئا (٣).
__________________
(١) أعيان الشيعة ٣ : ٩٢.
(٢) طبقات ابن سعد ٣ : ٢٢.
(٣) اسد الغابة ٤ : ٩٢.
الاخوّة بين المسلمين :
وأوّل عمل قام به الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه آخى بين المهاجرين والأنصار ، وربط بينهم برباط الاخوة الصادقة فشارك كلّ واحد منهم أخاه في مكاره الدهر ولينه ، وآخى بينه وبين الإمام عليهالسلام (١) ، كما قام صلىاللهعليهوآلهوسلم بالإصلاح وإشاعة المودّة بين الأوس والخزرج اللذين كانا يشكّلان الأكثرية الساحقة من سكّان المدينة المنوّرة ، وكانت البغضاء سائدة بينهما فأطفأها النبيّ.
تأسيس الجامع النبوي :
وحينما استقرّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في يثرب قام بتأسيس مسجده المعظّم ليكون مقرّا لحكومته ، ومركزا لعبادته ، ومعهدا لتعاليمه ، وكان عرضه (٦٠) ذراعا ، وطوله كذلك ، وقد انبرى المسلمون من المهاجرين والأنصار إلى العمل فيه ، وكان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من جملة العمّال ، وقد انبرى أحد المسلمين محرّضا لهم على العمل قائلا :
لئن قعدنا
والنّبيّ يعمل |
|
لذاك منّا العمل
المضلّل |
وردّد المسلمون في أثناء عملهم قائلين :
لا عيش إلاّ عيش الآخرة ... اللهمّ ارحم الأنصار والمهاجرة
وكان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يردّد :
« لا عيش إلاّ عيش الآخرة ... اللهمّ ارحم المهاجرين والأنصار »
وكان من جملة العاملين الصحابي العظيم الطيّب ابن الطيّب عمّار بن ياسر ،
__________________
(١) الطبقات ٣ : ٢٢ ، وجاء فيه : أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال للإمام : « أنت أخي ترثني وأرثك ».