موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١ و ٢

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١ و ٢

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٣٢

ابن إسحاق : كان عليّ أوّل من آمن بالله وبمحمّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

إنّ سبق الإمام إلى اعتناق الإسلام ممّا اتّفق عليه الرواة والمؤرّخون (٢) ، وقد كان عمره الشريف حينما أسلم سبع سنين ، وقيل : تسع سنين (٣) ، إلاّ أنّ التأمّل في تربية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له يقضي بأنّه أسلم في وقت مبكّر من حياته.

وعلى أي حال فقد أعلن ـ باعتزاز وفخر ـ سبقه إلى الإسلام قائلا :

« أنا الصّدّيق الأكبر ، والفاروق الأوّل ، أسلمت قبل إسلام أبي بكر ، وصلّيت قبل صلاته » (٤).

ونسب إليه من الشعر بذلك قوله :

« سبقتكم إلى الإسلام طرّا

غلاما ما بلغت أوان حلمي »

وشاعت هذه الكرامة للإمام في جميع الأوساط الإسلامية ، وافتخر بها خيار صحابة الإمام ، يقول هاشم المرقال في صفّين :

مع ابن عمّ أحمد المعلّى

فيه الرّسول بالهدى استهلاّ

أوّل من صدّقه وصلّى

فجاهد الكفّار حتّى أبلى (٥)

وقال سعيد بن قيس وهو من أفاضل أصحاب الإمام :

__________________

(١) نهج البلاغة ٤ : ١١٦.

(٢) صحيح الترمذي ٢ : ٣٠١. طبقات ابن سعد ٣ : ١٤ ( الفصل الأوّل ). كنز العمّال ٦ : ٤٠٠. تاريخ الطبري ٢ : ٥٠.

(٣) لطائف المعارف ـ الثعالبي : ١٢.

(٤) المعارف : ٧٣. الذخائر : ٥٨. الرياض ٢ : ٢٥٧.

(٥) الكامل ـ ابن الأثير ٣ : ١٣٥.

٨١

هذا عليّ وابن عمّ المصطفى

أوّل من أجاب لمّا أن دعا

وأعلن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ الإمام عليه‌السلام هو أوّل من آمن به ، فقد قال لأصحابه :

« أوّلكم واردا عليّ الحوض أوّلكم إسلاما عليّ بن أبي طالب » (١).

وعلى أي حال فسبق الإمام إلى الإسلام قد اتّفق عليه المسلمون ، وهو وسام شرف وفخر للإمام عليه‌السلام.

حبّه للنبيّ :

كان الإمام عليه‌السلام يحبّ النبيّ حبّا استوعب نفسه ، وأخلص له في الودّ كأعظم ما يكون الودّ ، وقد سأله شخص عن مدى حبّه له قائلا : كيف كان حبّكم لرسول الله؟

فأجابه الإمام :

« كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وامّهاتنا ومن الماء البارد على الظّمأ ... » (٢).

ومن المؤكّد أنّه ليس في الاسرة النبوية ولا في الصحابة من يضارع الإمام في حبّه وإخلاصه للرسول؟ وكان من مودّته له أنّه أتى حائطا فقال له صاحبه : هل لك أن تسقيه ولك بكلّ دلو تمرة ، وسارع إلى سقيه فأعطاه صاحب البستان تمرا حتى ملأ كفّه منه ، فبادر إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأطعمه به (٣).

قيامه بخدمة النبيّ :

كان الإمام عليه‌السلام يتولّى رعاية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقيام بخدماته حتّى أنّه إذا أراد القيام

__________________

(١) الغدير ٣ : ٢١.

(٢) خزانة الأدب ٣ : ٢١٣.

(٣) مسند أحمد ٢ : ١٠٢.

٨٢

بادر فأخذ بيده ، وإذا أراد أن يجلس اتّكأ عليه (١).

ومن طرائف ما ينقل أنّ شخصا وفد على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستميحه ويطلب رفده فقال للإمام : « يا عليّ ، اقطع لسانه عنّي » ، ولم يفهم الشخص المراد من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسار مع عليّ وقد استولى عليه الفزع والخوف ، فقال للإمام : أقاطع لساني أنت يا أبا الحسن؟

فقال الإمام له : « إنّي ماض لما امرت به ».

وسار الإمام حتى انتهى به إلى إبل الصدقة فقال له : « خذ ما أحببت » ، فسكن روع الرجل وفهم ما أراده النبيّ ، وعلّق الإمام على كلمة النبيّ بقوله :

« أحسن مواربة سمعتها في كلام العرب » (٢).

وتولّى الإمام بإخلاص القيام بقضاء حوائج النبيّ ، وكان يعتلي بغلة النبيّ الشهباء ، ويسير في شعب الأنصار لتنفيذ ما عهد إليه (٣).

نماذج من أدعيته للنبيّ :

والشيء المحقّق أنّه لم يعرف أحد من الصحابة وغيرهم مكانة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسموّ منزلته سوى أخيه وباب مدينة علمه الإمام عليه‌السلام ، فقد خصّه بكثير من الأدعية الحافلة بالتمجيد والتعظيم له والإشادة بفضله وعظيم شأنه ، وهذه بعضها :

١ ـ قال عليه‌السلام :

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على أطيب المرسلين محمّد بن

__________________

(١) إعلام الورى : ١٨٧.

(٢) خزانة الأدب ١ : ١٥٤.

(٣) رسائل الجاحظ ٢ : ٢٢٢.

٨٣

عبد الله المنتجب الفاتق الرّاتق.

اللهمّ فخصّ محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالذّكر المحمود ، والحوض المورود.

اللهمّ آت محمّدا صلواتك عليه وآله الوسيلة ، والرّفعة والفضيلة واجعل في المصطفين محبّته ، وفي العلّيّين درجته ، وفي المقرّبين كرامته.

اللهمّ أعط محمّدا صلواتك عليه وآله من كلّ كرامة أفضل تلك الكرامة ، ومن كلّ نعيم أوسع ذلك النّعيم ، ومن كلّ عطاء أجزل ذلك العطاء ، ومن كلّ يسر أنضر ذلك اليسر ، ومن كلّ قسم أوفر ذلك القسم حتّى لا يكون أحد من خلقك أقرب منه مجلسا ، ولا أرفع منه عندك ذكرا ومنزلة ، ولا أعظم عليك حقّا ، ولا أقرب وسيلة من محمّد صلواتك عليه وآله ، إمام الخير وقائده ، والدّاعي إليه ، والبركة على جميع العباد والبلاد ورحمة للعالمين.

اللهمّ اجمع بيننا وبين محمّد صلواتك عليه وآله في برد العيش ، وتروّح الرّوح ، وقرار النّعمة ، وشهوة الأنفس ، ومنى الشّهوات ، ونعم اللذّات ، ورجاء الفضيلة ، وشهود الطّمأنينة ، وسؤدد الكرامة ، وقرّة العين ، ونضرة النّعيم ، وبهجة لا تشبه بهجات الدّنيا. نشهد أنّه قد بلّغ الرّسالة ، وأدّى النّصيحة ، واجتهد للأمّة ، وأوذي في جنبك ، وجاهد في سبيلك ، وعبدك حتّى أتاه اليقين ، فصلى الله عليه واله الطّيّبين.

اللهمّ ربّ البلد الحرام ، وربّ الرّكن والمقام ، وربّ المشعر الحرام ، وربّ الحلّ والحرام بلّغ روح محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنّا

٨٤

السّلام. اللهمّ صلّ على ملائكتك المقرّبين ، وعلى أنبيائك ، ورسلك أجمعين ، وصلّ اللهمّ على الحفظة الكرام الكاتبين ، وعلى أهل طاعتك من أهل السّماوات السّبع وأهل الأرضين السّبع من المؤمنين أجمعين » (١).

وأنت ترى في هذا الدعاء جميع صنوف التكريم والتعظيم قد رفعها الإمام إلى سموّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودعا له أن يبوّئه الله أسمى مكانة وأعلى درجة في حضيرة القدس.

٢ ـ وكان من مظاهر تعظيم الإمام للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذا الدعاء ، قال عليه‌السلام :

اللهمّ داحي المدحوّات ، وداعم المسموكات ، وجابل القلوب (٢) على فطرتها ، شقيّها وسعيدها ، اجعل شرائف صلواتك ، ونوامي بركاتك على محمّد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق ، والفاتح لما انغلق ، والمعلن الحقّ بالحقّ ، والدّامغ خبيثات الأباطيل ، والدّامغ صولات الأضاليل ، كما حمّلته فاضطلع بأمرك ، مستوفرا في مرضاتك ، غير ناكل عن قدم ، ولا واه في عزم ، واعيا لوحيك ، حافظا لعهدك ، ماضيا على نفاذ أمرك ، حتّى أورى قبس القابس ، وأضاء الطّريق للخابط ، وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن والآثام ، وأقام بموضحات الأعلام ، ونيّرات الأحكام ، فهو أمينك المأمون ، وخازن علمك المخزون ، وشهيدك يوم الدّين ، وبعيثك بالحقّ ، ورسولك إلى الخلق.

اللهمّ افسح له مفسحا في ظلّك ، واجزه مضاعفات الخير من فضلك.

__________________

(١) تهذيب الأحكام ٣ : ٨٣. بحار الأنوار ٢٠ : ٢٦٣.

(٢) جابل القلوب : أي خالقها.

٨٥

اللهمّ وأعل على بناء البانين بناءه ، وأكرم لديك منزلته ، وأتمم له نوره ، واجعله من انبعاثك مقبول الشّهادة ، مرضيّ المقالة ، ذا منطق عدل ، وخطبة فصل.

اللهمّ اجمع بيننا وبينه في برد العيش ، وإقرار النّعمة ، ورخاء الدّعة ، ومنتهى الطّمأنينة ، وتحف الكرامة » (١).

وحفل هذا الدعاء بإحاطة الإمام ومعرفته الكاملة بالرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد أضفى عليه جميع ألوان الحفاوة والتكريم ، ودعا له بالمنزلة الكريمة التي يتبوّؤها في الفردوس الأعلى.

تمجيده للنبيّ :

وكان الإمام على يقين لا يخامره شكّ بنبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالته ، وكان يثني عليه عاطر الثناء ، وممّا قال فيه :

١ ـ قال عليه‌السلام :

« مستقرّه ـ أي النبيّ ـ خير مستقرّ ، ومنبته أشرف منبت ، في معادن الكرامة ، ومماهد السّلامة ؛ قد صرفت نحوه أفئدة الأبرار ، وثنيت إليه أزمّة الأبصار ، دفن الله به الضّغائن ، وأطفأ به الثّوائر ألّف به إخوانا ، وفرّق به أقرانا ، أعزّ به الذّلّة ، وأذلّ به العزّة. كلامه بيان ، وصمته لسان » (٢).

ونرى في هذه الكلمات جميع ألوان التعظيم والتمجيد لشخصيّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي ما عرفه سوى باب مدينة علمه.

__________________

(١) و (٢) نهج البلاغة ١ : ١٨٦.

٨٦

٢ ـ قال عليه‌السلام :

« ابتعثه ـ أي النبيّ ـ بالنّور المضيء ، والبرهان الجليّ ، والمنهاج البادي والكتاب الهادي. أسرته خير أسرة ، وشجرته خير شجرة ؛ أغصانها معتدلة ، وثمارها متهدّلة. مولده بمكّة ، وهجرته بطيبة علا بها ذكره وامتدّ منها صوته. أرسله بحجّة كافية ، وموعظة شافية ، ودعوة متلافية. أظهر به الشّرائع المجهولة ، وقمع به البدع المدخولة ، وبيّن به الأحكام المفصولة (١). فمن يبتغ غير الإسلام دينا تتحقّق شقوته ، وتنفصم عروته ، وتعظم كبوته ، ويكن مآبه إلى الحزن الطّويل والعذاب الوبيل » (٢).

وحكت هذه الكلمات ما يحمله الإمام من صنوف التعظيم والاكبار للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن المقطوع به أنّه ليس في اسرة النبيّ ولا في أصحابه من فهم حقيقته وأحاط به علما سوى الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ... هذه بعض كلماته في حقّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

كتابته للوحي :

وتظافرت الأخبار أنّ الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام كان يكتب الوحي المنزل على عبد الله ورسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) ، فقد كتب الكثير من الوحي وسور القرآن الكريم ، كما أنّه أوّل من نقّط المصاحف (٤) ، ومن الجدير بالذكر أنّه تعلّم الكتابة

__________________

(١) المفصولة : أي المفصّلة.

(٢) نهج البلاغة ٢ : ٢٢٩.

(٣) الاستيعاب ( المطبوع على هامش الاصابة ) ١ : ٣٠.

(٤) مفتاح السعادة ١ : ٨٩.

٨٧

وهو في دور الصبا (١).

كتابته لعهود الرسول :

كان الإمام عليه‌السلام يكتب عهود الرسول وصلحه ، فقد كتب لأهل نجران وغيرهم ما سجّله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم (٢) ، ولمّا صالح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل الحديبية كتب الإمام بينهم كتابا جاء فيه : « محمّد رسول الله » فقال المشركون : لا تكتب محمّدا رسول الله ، لو كنت رسولا لم نقاتلك ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : « امحه » ، فقال : « ما أنا بالّذي أمحوه » ، فمحاه النّبي بيده. قال : وكان فيما اشترطوا أن يدخلوا مكّة فيقيموا بها ثلاثا. ولا يدخلها بسلاح إلاّ جلبّان السّلاح ، فسألوه : وما جلبّان السّلاح؟ قال : القراب وما فيه (٣).

ومن الجدير بالذكر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتفقّد مقاطع الكلام التي كان يكتبها الإمام كتفقّد المصرم صريمته (٤).

تحطيمه للأصنام :

وظاهرة اخرى من سيرة الإمام واتّجاهاته كراهته البالغة للأصنام وبغضه الشديد لها ، وكان يسعى إلى تدميرها قبل أن يشرق نور الإسلام ، كما فعل جدّه شيخ الأنبياء إبراهيم عليه‌السلام بأصنام الجاهلية وأوثانها ، وكان عليه‌السلام ومعه اسامة يجمعان القمامة وأوساخ البيوت وقاذوراتها ويلقونها على أصنام قريش في غلس الليل ، فإذا أصبحت قريش ورأت أصنامها ملوّثة رفعت أصواتها بألم وعنف قائلة : من فعل هذا

__________________

(١) الفصول المختارة ٢ : ٦٦.

(٢) صبح الأعشى ١ : ٦٥.

(٣) صحيح البخاري ـ كتاب الصلح ٣ : ١٦٨. صحيح مسلم ـ كتاب الجهاد : ٣ : ١٤١٠.

(٤) الصناعتين : ٤٣١. إيضاح الوقف والابتداء : ٢٣١.

٨٨

بآلهتنا ، وأنفقوا نهارهم على غسلها بالماء (١). وقد شاركه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تحطيم بعض الأصنام ، فقد تحدّث الإمام عن ذلك قائلا :

« انطلقت أنا والنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أتينا الكعبة فقال لي رسول الله : اجلس ، وصعد على منكبيّ فذهبت لأنهض به فرأى منّي ضعفا ، فجلس وارتقيت على منكبه فنهض بي ويخيّل لي أن لو شئت لنلت افق السّماء حتّى صعدت على البيت وعليه تمثال صفر فجعلت ازاوله عن يمينه وعن شماله ومن بين يديه حتّى تمكّنت منه ، فقال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اقذف به ، فقذفت به فتكسّر كما تتكسّر القوارير ، ثمّ نزلت ، فانطلقت أنا ورسول الله نستبق حتّى توارينا خشية أن يلقانا أحد من النّاس » (٢).

ومن بين الأصنام التي حطّمها الإمام ما يلي :

١ ـ مناة : أقامت العرب صنم مناة وكانت تعظّمه وتعزّه ، فانبرى إليه الإمام فهدّمه (٣).

٢ ـ صنم طيّ : كان لطيّ بجبلي طي فمضى إليه الإمام فحطّمه وأزاله ووجد في مكانه سيفين : اسم أحدهما الرسوب ، واسم الآخر المخذم فحملهما الإمام إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوهبهما له (٤).

٣ ـ أصنام مكّة : ولمّا فتح الله تعالى لعبده ورسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الفتح المبين واحتلّ مكّة ، وكان قد علّق على الكعبة المقدّسة ثلاثمائة صنم أو يزيد عليها اتّخذتها القبائل آلهة يعبدونها من دون الله تعالى ، كان منها نائلة وأساف ومناف وذو

__________________

(١) جواهر المطالب ١ : ٢٦٧.

(٢) صفة الصفوة ١ : ١٦٣. مسند أحمد ١ : ٨٤.

(٣) خزانة الأدب ٧ : ٢٢٤.

(٤) الروض المعطار : ٤٦٧. المفصّل في تأريخ العرب قبل الإسلام ٤ : ٤٥٤.

٨٩

الخلصة وذو الكنى وذو الشرى والأقيصر ونهم وسمير وغيرها (١) ، وكان زعيم تلك الأصنام ( هبل ) وهو إله أبي سفيان أبو معاوية وجدّ يزيد ، وكان من نحاس ، وقد اوتد بأوتاد من حديد ، فصعد الإمام على منكبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعالجه حتى تمكّن من قلعه ورمى به إلى الأرض والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتلو قوله تعالى :

( قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ) (٢).

ثمّ قذف الإمام ببقيّة الأصنام وبذلك تطهّر البيت الحرام من أصنام قريش وأوثانها ، فقد حطّمها بطل الإسلام وقائد المسيرة الإسلامية نحو التحرّر ، وقد تفتّحت آفاق الفكر العربي وانتبه الناس إلى ضلالها. يقول زيد بن نوفل :

تركت اللاّت والعزّى جميعا

كذلك يفعل الجلد الصّبور

فلا العزّى ادين ولا ابنتيها

ولا صنمي بني غنم أزور

ولا هبلا أزور وكان ربّا

لنا في الدّهر إذ حلمي صغير (٣)

نقش خاتم الإمام :

ولشدّة تعلّق الإمام عليه‌السلام بالله تعالى فقد كتب على خاتمه « الله الملك » (٤).

اجتنابه للخضاب :

ولم يخضب الإمام عليه‌السلام كريمته الشريفة لقول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : « إنّها تخضّب من دم رأسه » (٥) ، لقد آثر الخضاب بدم رأسه الشريف في سبيل الله تعالى.

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٢ : ٣٦٦.

(٢) مستدرك الحاكم ٢ : ٣٦٦ ، الإسراء : ٨١.

(٣) القاموس الإسلامى ٤ : ٣٤٧.

(٤) جواهر المطالب : ٢٩٥.

(٥) وسائل الشيعة ١ : ٤٩٩.

٩٠

دار سكناه :

ولمّا كان الإمام عليه‌السلام في مكّة ، كان مقيما مع أبيه أبي طالب في بيته ، ومحلّه معروف في الأوساط المكّية ، ولمّا هاجر الإمام إلى يثرب بنى له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيتا مجاورا للجامع النبوي الشريف وفتح له بابا عليه ، ولمّا أمر النبيّ بإغلاق الأبواب المتّصلة بالجامع استثنى منها باب بيت الإمام تكريما وتعظيما له ، ولمّا انتقل الإمام إلى الكوفة واتّخذها عاصمة له لم يسكن في قصر الإمارة الذي بني مقرّا لرئيس الدولة أيام عمر ، فقد امتنع من سكناه وقال : « قصر الخبالى لا أسكن فيه » ، وجلس في بيت ابن اخته ، ثمّ رحل عنه ، وبنى له بيتا من الطين في الكوفة ، وأحاطه بغرف من القصب ... وبهذا العرض ينتهي بنا الحديث عن نشأته ، وسنذكر المزيد من شئونه في البحوث الآتية.

٩١
٩٢

عناصره النّفسيّة

٩٣
٩٤

ما من صفة كريمة أو نزعة شريفة يمتاز بها الإنسان ويسمو بها على غيره من الكائنات الحيّة إلاّ وهي من ذاتيات الإمام أمير المؤمنين ، ومن عناصره الفذّة التي لا يضارعه فيها أحد سوى أخيه وابن عمّه الرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لقد كان هذا الإمام الملهم العظيم بمكوّناته النفسية والفكرية دنيا من الكمال والفضائل التي لا حدّ لأبعادها ... إنّه هبة الله تعالى لهذه الامّة مرشدا وهاديا بعد أخيه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد وهبه الله تعالى من الامتيازات والخصائص ، وفضّله على كثير من خلقه تفضيلا ، وليس في ذلك أيّ غلوّ ، فإنّ كلّ من يقرأ سيرته ويلمّ ببعض أحواله وشئونه يؤمن بما ذكرناه.

وعلى أيّ حال فإنّا نلمح ـ بإيجاز ـ بعض خصائصه ومكوّناته النفسية وهي :

إيمانه الوثيق بالله :

والظاهرة الفذّة التي تميّز بها الإمام عليه‌السلام أنّه كان من أعظم المسلمين إيمانا بالله تعالى ، ومن أكثرهم معرفة به ، وهو القائل :

« لو كشف الغطاء لي ما ازددت يقينا ... ».

ومعنى ذلك أنّه لو تجلّى له الله تعالى بعظمته ورآه لما زاده ذلك يقينا بمعرفته والإيمان به ، وقد ناجى الله تعالى بإيمان قائلا :

« إلهي ما عبدتك خوفا من عقابك ، ولا طمعا في ثوابك ، ولكن وجدتك أهلا

٩٥

للعبادة فعبدتك » (١).

إنّ هذا هو منتهى الإيمان ، فقد كانت عبادته لله تعالى عبادة المنيبين والعارفين لا عبادة تقليدية ، وقد اثرت عنه من الخطب والكلمات القصار في توحيد الله تعالى وتعظيمه وتنزيهه عن الشريك وغيره ما لم يؤثر عن غيره من ملوك المسلمين وزهّادهم وعلمائهم ... إنّه داعية الله تعالى الأكبر بعد أخيه وابن عمّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد وهب حياته لله تعالى ، وجاهد في سبيله كأعظم ما يكون الجهاد ، وكانت جميع أعماله خالصة لوجه الله تعالى لا يشوبها أيّة شائبة من أغراض الدنيا ومتعها التي يؤول أمرها إلى التراب ، وحدّثنا المؤرّخون عنه حينما صرع عمرو بن عبد ودّ العامري فارس العرب ، فإنّه لم يجهز عليه لأنّه قد سبّه وأغلظ في شتمه ، فغضب من ذلك ، ولمّا سكن غضبه أجهز عليه ، وقد سئل عن السبب في تأخيره لقتله ، فأجاب :

« إنّي ما أحببت قتله انتقاما لسبّه لي فيفوت منّي الأجر والثّواب ، فلمّا سكن غضبي أجهزت عليه في سبيل الله تعالى ». وهكذا كانت جميع أعماله وصنوف جهاده خالصة لوجه الله تعالى ، لم يبتغ فيها إلاّ رضا الله تعالى ، وقد ولج في أعنف الحروب وأشدّها محنة وأقساها بلاء دفاعا عن دين الله ونصرة لنبيّ الله.

إنابته لله تعالى :

كان الإمام عليه‌السلام من أعظم المنيبين لله تعالى ، ومن أكثرهم خوفا منه ، وقد حدّث أبو الدرداء عن شدّة إنابته لله تعالى قال :

شهدت عليّ بن أبي طالب بشويحطات النجّار وقد اعتزل عن مواليه واختفى ممّن يليه واستتر بمغيلات النخل ، فافتقدته ، وبعد عليّ مكانه ، فقلت : لحق

__________________

(١) بحار الأنوار ٤١ : ١٤.

٩٦

بمنزله ، فإذا أنا بصوت حزين ونغمة شجيّة ، وهو يقول :

« إلهي كم من موبقة حلمت عن مقابلتها بنقمتك ، وكم من جريرة تكرّمت عن كشفها بكرمك ، إلهي إن طال في عصيانك عمري ، وعظم في الصّحف ذنبي ، فما أنا بمؤمّل غير غفرانك ، ولا أنا براج غير رضوانك ... ».

وذهل أبو الدرداء ، وهام في تيارات من خشية الله ، وراح يفتّش عن صاحب هذا الصوت ، ولم يلبث حتى عرفه ، وإذا به إمام المتّقين عليّ بن أبي طالب ، فاستتر أبو الدرداء ليسمع بقيّة مناجاة الإمام ، وراح الإمام يصلّي ، فلمّا فرغ من صلاته توجّه بقلب منيب إلى الدعاء والبكاء من خشية الله تعالى ، وكان ممّا ناجى به الله تعالى قوله :

« إلهي افكّر في عفوك فتهون عليّ خطيئتي ، ثمّ أذكر العظيم من أخذك فتعظم عليّ بليّتي ... ».

ثمّ قال : « آه إن أنا قرأت في الصّحف سيّئة أنا ناسيها وأنت محصيها ، فتقول : خذوه ، فيا له من مأخوذ لا تنجيه عشيرته ، ولا تنفعه قبيلته! يرحمه الملأ إذا اذن فيه بالنّداء ... آه من نار تنضج الأكباد والكلى ، آه من نار نزّاعة للشّوى! آه من غمرة من ملهبات لظى ... ».

يقول أبو الدرداء : ثمّ انفجر الإمام عليه‌السلام باكيا وخمد صوته ، فسارعت إليه فوجدته كالخشبة الملقاة فحرّكته فلم يتحرّك ، فقلت : إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، مات والله عليّ بن أبي طالب ، فبادرت مسرعا إلى بيته أنعاه إلى أهله ، فقالت زهراء الرسول سلام الله عليها :

« يا أبا الدّرداء ، ما كان من شأنه؟ ... ».

فأخبرتها بما رأيته ، فقالت سيّدة النساء :

٩٧

« هي والله يا أبا الدرداء الغشية التي تأخذه من خشية الله ... ».

ثمّ أتوه بماء فنضحوه على وجهه فأفاق ، ونظر إليّ وأنا أبكي فقال لي :

« ممّ بكاؤك يا أبا الدّرداء؟ ».

ـ ممّا أراه تنزله بنفسك.

فأجابه الإمام وهو غارق بالخشية من الله قائلا :

« يا أبا الدّرداء ، كيف لو رأيتني وقد دعي بي إلى الحساب ، وأيقن أهل الجرائم بالعذاب ، واحتوشتني ملائكة غلاظ ، وزبانية فظاظ ، فوقفت بين يدي الملك الجبّار ، قد أسلمني الأحياء ، ورحمني أهل الدّنيا ، لكنت أشدّ رحمة لي بين يدي من لا تخفى عليه خافية ... ».

وبهر أبو الدرداء ممّا رآه من إنابة الإمام وخشيته من الله تعالى وراح يقول : والله ما رأيت ذلك لأحد من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

ارأيتم هذا الإيمان الذي يمثّل التقوى والخشية من الله تعالى؟ لقد كان هذا الإمام العظيم في جميع فترات حياته قد تعلّق قلبه وفكره بالله تعالى ، وسعى لكلّ ما يقرّبه إليه زلفى. وممّا قاله ضرار لمعاوية في وصفه للإمام :

ولو رأيته في محرابه ، وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه وهو قابض على لحيته يتململ تململ السليم (٢) ويبكي بكاء الحزين ، وهو يقول : « يا دنيا ، إليّ تعرّضت أم إليّ تشوّقت؟ هيهات هيهات ، لا حاجة لي فيك ، أبنتك ثلاثا (٣) لا رجعة

__________________

(١) أمالي الصدوق ٤٨ ـ ٤٩. بحار الأنوار ٤١ : ١١ ـ ١٢.

(٢) السليم : من لدغته الحيّة.

(٣) باينتك : أي طلّقتك طلاقا بائنا.

٩٨

لي عليك ». ثمّ يقول : « آه آه لبعد السّفر ، وقلّة الزّاد ، وخشونة الطّريق » وتأثّر معاوية وقال : حسبك يا ضرار ، كذلك والله كان عليّ (١).

وروى نوف شدّة خشيته من الله تعالى ، قال : بتّ ليلة عند أمير المؤمنين عليه‌السلام فكان يصلّي الليل كلّه ، ويخرج ساعة بعد ساعة ، فينظر إلى السماء ، ويتلو القرآن ، قال : فمرّ بي بعد هدء من الليل فقال :

« يا نوف ، أراقد أنت أم رامق؟ ».

بل رامق أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين.

فالتفت إليه الإمام وهو يقول بصوت خافت :

« يا نوف ، طوبى للزّاهدين في الدّنيا ، الرّاغبين في الآخرة ، اولئك الّذين اتّخذوا الأرض بساطا ، وترابها فراشا ، وماءها طيبا ، والقرآن دثارا ، والدّعاء شعارا ، وقرضوا من الدّنيا تقريضا ، على منهاج عيسى بن مريم. إنّ الله عزّ وجلّ أوحى إلى عيسى بن مريم : قل للملإ من بني إسرائيل : لا يدخلوا بيتا من بيوتي إلاّ بقلوب طاهرة ، وأبصار خاشعة ، وأكفّ نقيّة ، وقل لهم : اعلموا إنّي غير مستجيب لأحد منكم دعوة من خلقي في قلبه مظلمة ... » (٢).

إنّ هذه الإنابة تبهر العقول ، إنّها إنابة العارفين بالله تعالى الذين ملئت نفوسهم إيمانا وخشية وإخلاصا لله تعالى ، ولا شكّ في أنّ الإمام عليه‌السلام هو إمام المتّقين وسيّد العارفين الذي غذّاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإيمانه وتقواه ، فصار صورة صادقة عنه.

وقد روى المؤرّخون صورا مذهلة عن خشية الإمام وإنابته إلى الله تعالى ، فقد

__________________

(١) بحار الأنوار ٤١ : ١٥. أمالي الصدوق : ٣٧١.

(٢) بحار الأنوار ٤١ : ١٦. الخصال ١ : ١٦٤.

٩٩

رووا أنّه حينما كان في أشدّ الأهوال وأعنفها في صفّين كان يقيم الصلاة في وسط المعركة وسهام الأعداء تأخذه يمينا وشمالا ، وهو غير حافل بها لأنّ مشاعره وعواطفه قد تعلّقت بالله تعالى (١). وكان الإمام زين العابدين وسيّد الساجدين عليّ ابن الحسين عليه‌السلام إذا أخذ كتاب عليّ ونظر ما فيه من عبادته قال : من يطيق هذا ، خصوصا في حال صلاته فإنّه يتغيّر لونه. وما أطاق أحد أن يعمل مثل عبادته إلاّ عليّ بن الحسين عليه‌السلام (٢).

وقد روى أبو جعفر ، قال : دخلت على أبي عليّ بن الحسين فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، قد اصفرّ لونه من السهر ، ورمضت عيناه من البكاء ، ودبرت جبهته ، وانخرم أنفه من السجود ، وورمت ساقاه وقدماه من الصلاة ، قال أبو جعفر : فلم أملك نفسي حين رأيته بتلك الحالة وهو يبكي فبكيت رحمة له ، فالتفت إليّ فقال : أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالب فأعطيته فقرأ فيها شيئا يسيرا ، ثمّ تركها من يده تضجّرا ، وقال : من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالب (٣).

العصمة من الذنوب :

وظاهرة اخرى من نزعات الإمام عليه‌السلام وذاتياته العصمة من كلّ إثم ورجس ، فلم يقترف ـ بإجماع المؤرّخين ـ أي ذنب أو خطيئة ، ولم يشذّ عن سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هديه وسلوكه ، وقد حاول ابن عوف بعد اغتيال عمر أن يقلّده الخلافة وشرط عليه أن يسير بسيرة الشيخين في حكومته فأبى وامتنع ، وأصرّ على متابعة الكتاب والسنّة ، ولو كان من عشّاق الملك وهواة السلطان لأجاب إلى ذلك ، ولمّا أصر عليه الخوارج أن يعلن التوبة لينضمّوا تحت لوائه فأبى لأنّهم هم الذين اقترفوا

__________________

(١) وقعة صفّين : ١٣٣.

(٢) روضة الكافي : ١٩٥. الوسائل ١ : ٦٣.

(٣) الإرشاد : ٢٧١. بحار الأنوار ٣٧ : ١٧. وسائل الشيعة ١ : ٦٨.

١٠٠