التّفسير الحديث - ج ١

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ١

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٧٤

الفصل الثالث

الخطة المثلى لفهم القرآن وتفسيره

تمهيد

لقد شغفت منذ شبابي بالقرآن ، وتذوقت أسلوبه الرائع الحكيم في شتى مواضيعه ودعوته وتوجيهاته وتقريراته ، واطلعت على جملة من كتب التفسير وغيرها من الكتب العربية قديمها وحديثها مما يتصل بموضوع القرآن ومبادئه وأهدافه والجدل حوله ، واستظهرت كثيرا من روائعه الجهادية والأخلاقية والاجتماعية والروحية ، وكانت لي منهاجا في ظروف حياتي التعليمية والجهادية ثم تيسرت فرصة السجن في دمشق قبل الحرب العالمية الثانية من قبل السلطات الإفرنسية بسبب الثورة الفلسطينية فرغت فيها لنفسي ، ورأيتها سانحة مباركة للاشتغال بالقرآن وخدمته أكثر من ذي قبل ، فحفظته غيبا من جهة وعدت إلى قراءة ما تيسّر لي من كتب التفسير والكتب القرآنية الأخرى من جهة أخرى ، وألفت كتبي الثلاثة فيها (١) ، فكان لي من ذلك مجال لإدامة النظر وإمعان الفكر والتدبر وانتهى بي الأمر إلى اليقين بأن أفضل الطرق لفهم القرآن وتفسيره أن يلاحظ الناظر فيه الأمور التالية مجتمعة :

__________________

(١) «عصر النبي وبيئته قبل البعثة» ـ «صور مقتبسة من القرآن». صدر عام ١٣٦٦ / ١٩٤٧ ، و «سيرة الرسول» جزءان ـ «صور مقتبسة من القرآن» صدر عام ١٣٦٧ / ١٩٤٨ ، و «نظم القرآن ودستوره في شؤون الحياة».

١٤١

القرآن والسيرة النبوية :

أولا : إن القرآن سلسلة تامة للسيرة النبوية وتطورها منذ البدء إلى النهاية متصل بعضها ببعض ، ومفسر بعضها لبعض ، مع ملاحظة الاستدراك الذي أوردناه في آخر الفقرة (٥) من الفصل الأول.

ففي كل سورة من سوره ومجموعة من مجموعاته ، أو فصل من فصوله صورة لموقف من مواقف النبي من سكان بيئته من العرب وغير العرب ومن المشركين والكتابيين ، أو صورة لموقف من مواقفهم منه ومن دعوته ، أو صورة من صور مواقف النبي من الذين استجابوا للدعوة أو من مواقفهم منه ، أو من مواقف الكفار منهم أو مواقفهم من الكفار أو صورة لتطورات جميع هذه المواقف ، دعوة وتبيانا وبرهنة وتدليلا وعظة وتنبيها وتبشيرا وإنذارا ، ووضعا وتشبيها وقصصا وأمثالا وترغيبا وترهيبا ووعدا ووعيدا ، وجدالا وتحديا وعنادا ومكابرة واستكبارا وأذى ، وتنديدا وتنويها وتسلية وتثبيتا وتطمينا وتعبيرا ، وسؤالا وجوابا وجهادا وتشريعا إلخ ؛ وكل صورة معطوفة على صورة سابقة أو مرتبطة بصور لاحقة ، في اتساق وانسجام تامين وضمن نطاق واحد مما يتضح لكل من ينعم النظر في القرآن ويقرأ سورة خاصة وفق تتابع النزول بقدر الإمكان.

وملاحظة ذلك مهمة جدا في فهم مواضيع القرآن وتقريراته ومداها وروحه وفي جعل الناظر فيه لا يبتعد عن حقيقة الواقع والباعث ويعصمه من التورط ، ولا يتورط في التخمينات والتزيدات والجدليات وتحميل العبارات القرآنية ما لا تتحمله. وتوضيحا لذلك نقول إن في القرآن مثلا ما يفيد أنه جرى تبديل بعض الآيات ببعض وإنه نسخت بعض آيات أو أمور مأمورة بغيرها كما يدل على ذلك آيات النحل : [٩٨ ـ ١٠٥] والبقرة : [٩٨ ـ ١٠٥] ، وفيه ما يفيد أن أحكاما وأوامر وتشريعات عدلت أو نسخت أو تطورت كما تدل على ذلك آيات الأنفال : [٦٥ ـ ٦٦] والمجادلة : [١٢ ـ ١٣] والنساء : [١٥ ـ ١٦] والنور : [٢] ، وفيه تنوع في الخطاب للناس عامة مسلمين وغير مسلمين ، سواء أكان ذلك في صدد الدعوة أم

١٤٢

في صدد المواقف أم في صدد التبشير والإنذار والتمثيل والتشريع والهداية والضلال والكفر والإيمان والإحسان والإساءة حيث يكون الخطاب شديدا موئسا حينا ولينا مؤملا حينا ، وجانحا حينا إلى تقرير كون الهداية والضلال والكفر والإيمان والإحسان والإساءة من مكتسبات المرء بما أودعه الله فيه من المواهب والقوى الاكتسابية والتمييزية وتقرير عودة التبعة فيها عليه حسنة أو سيئة من أجل ذلك ، وجانحا حينا إلى تقرير كون ذلك من تقديرات الله الحتمية التي لا ينفع فيها إنذار ولا تبشير مما هو منبث في مختلف السور والفصول القرآنية ، وفيه تقريرات شديدة ومؤئسة بالنسبة للكفار والمنافقين كما جاء في آيات يس : [٨ ـ ١٠] والبقرة : [٦ ـ ٧] بالنسبة للأولين ، والبقرة : [٨ ـ ١٨] والنساء : [١٣٧ ـ ١٤٣] والمنافقون : [٢ ـ ٦] بالنسبة للآخرين فيها جزم بمصيرهم الرهيب المحتوم من عدم الإيمان واستحقاق الخلود في النار مع أن كثيرا منهم بل أكثرهم قد آمنوا وحسن إيمانهم وتبدل مصيرهم إلى الثواب والنعيم واستحقوا التنويه والثناء ، ونزل في صدد ذلك آيات قرآنية أخرى كما جاء في آيات الأنفال : [٢٥] والنحل : [١١٠] والفرقان : [٧٠ ـ ٧١] إلخ وقد كانت هذه الأمور وما تزال مثار جدل وحيرة حول ما إذا كان يصح على الله المحيط بما كان ويكون والأزلي العلم والإرادة البداء أي الرجوع عن ما أنزله وقرره وأمر به وأراده ونسخه وتعديله وتبديله وتنويع مفهوم الاحتمالات والنصوص فيه ، في حين أن ملاحظة صلة الوحي القرآني الوثيقة بالسيرة النبوية وأحداثها على تنوع صفحاتها وظروفها تجعل الناظر في القرآن يندمج في الوقائع والمقتضيات. وتجعله يعتقد أن الفصول القرآنية ، إنما كانت تنزل حسب حوادث السيرة وظروف الدعوة ، وأنه لما كانت هذه الحوادث والظروف عرضة للتطور والتبدل والتنوع فإنها تجعله يرى الحكمة واضحة في التبديل والتعديل والنسخ والتنويع والشدة واللين في الخطاب ، وتجعله يرى أن الجدل في ذلك النطاق لا محل له ولا طائل من ورائه ، لأن التطور والتنوع في الأحداث والظروف والأذهان متسقان مع طبائع الأمور ونواميسها التي فطر الله الكون عليها فلا بدع أن تقتضي حكمته أن يكون ذلك في التنزيل القرآني اتساقا مع هذه الطبائع والنواميس.

١٤٣

والمدقق في آيات القرآن التي تفيد ذلك يجد القرآن يورد التقريرات المقتضية حسب الأحداث والظروف وتنوعها وتطورها على أسلوب الحكيم ، فلا يدخل في نقاش جدلي إلا بمقدار الضرورة المتناسبة مع الموقف الواقعي ، فيعلمنا بذلك الطريقة المثلى لفهم القرآن وروحه ومداه وظروف تنزيله وتنوعه وأسلوبه ، وكون المهم فيه هو الإصلاح والتوجيه إلى خير الوجهات لظروف قائمة وأذهان وفئات ومواقف متفاوتة ومتنوعة ومتطورة ، وينطوي ذلك في الوقت نفسه على التلقين والتوجيه المستمرين إلى الآماد التالية مما يرشح القرآن للخلود والشريعة القرآنية الإسلامية للعمومية والأبدية.

ـ ٢ ـ

القرآن والبيئة النبوية :

وثانيا : إن الصلة قائمة ووثيقة بين ما كانت عليه بيئة النبي وعصره من تقاليد وعادات وعقائد وأفكار ومعارف وبين البعثة النبوية والسيرة النبوية ، وبالتالي بين الوحي القرآني وبين ما كانت عليه هذه البيئة.

وهذه الصلة واضحة أولا من جهة أن الدعوة النبوية والوحي القرآني بوجه عام إنما اقتضتهما حكمة الله بسبب ما كان عليه الناس ـ وأهل بيئة النبي في مقدمتهم وهم المخاطبون الأولون ـ قبل البعثة من ضلال في فهم وإدراك وجوب وجود الله وكمال صفاته ونزاهته عن الشريك والولد واستغنائه عن الولي والمساعد ومطلق تصرفه في كونه ، واستحقاقه وحده للعبودية والخضوع والاتجاه ووجوب نبذ ما سواه ، ومن انحراف عن طريق الخير والحق والعدل والفضيلة ومن اختلاف عظيم في المذاهب والعقائد والطقوس ، سواء في ذلك كله العرب وغيرهم ، والكتابيون والمشركون ، ثم بسبب أن ذلك ناشىء عن ما كان من تقاليد وعادات وأفكار ومعارف وأهواء وتأويلات ومفاهيم من ما احتواه القرآن من فصول الجدل والتنديد والتقريع في صدد هذه التقاليد والعادات والأفكار والمعارف والأهواء والتأويلات والمفاهيم التي احتوى القرآن إشارات كثيرة إلى كثير من صورها المتنوعة ، وربط بينها وبين مواقف العرب والدعوة النبوية.

١٤٤

يضاف إلى هذا المظهر القرآني العام نصوص قرآنية خاصة (١) في هذا المعنى وردت في مواضع عديدة وبأساليب متنوعة إذا تمعن القارئ فيها ظهرت له هذه الصلة ظهورا جليا. وتزيد في إيضاح ذلك بالأمثلة التالية :

١ ـ في القرآن توكيدات بعدم جدوى الشفاعة والشفعاء عند الله إلا بإذنه ورضائه ، وتنديدات باعتذارات المشركين عن عبادتهم لشركائهم واتجاههم إليهم في الدعاء والتضرع بأنهم إنما يتخذونهم شفعاء ووسائل قربى إلى الله ، وقد كثرت في هذا الباب مما يدل على رسوخ هذا المفهوم في أذهان المشركين في بيئة النبي وعصره قبل البعثة.

٢ ـ إن آيات القرآن الواردة في طقوس الحج تفيد صراحة حينا وضمنا حينا آخر أنها كلها أو جلّها قد كانت ممارسة قبل البعثة النبوية فأقرت في الإسلام بعد تنقيتها من شوائب الشرك والوثنية ، مع أن فيها ما لا يمكن فهم حكمة إقراره الآن مثل الطواف حول الكعبة والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار واستلام الحجر الأسود وتقبيله إلخ فهذه الآيات متصلة بتقاليد الحج العربية قبل الإسلام ورسوخها وأهدافها ، وفيها مظهر ما لوحدة العرب على اختلاف منازلهم ونحلهم حيث كانوا جميعهم يشتركون في الحج ومواسمه وتقاليده. وحرماته وأشهره الحرم ، وحكمة إقرارها في الإسلام منطوية في ذلك الرسوخ من جهة وما كان له من فائدة وأثر في الوحدة المذكورة التي كان القرآن يدعو إليها من جهة ثانية ولعل قصد تأنيس العرب بالدعوة الإسلامية مما ينطوي في تلك الحكمة أيضا.

٣ ـ ليس في القرآن المكي حملات عنيفة على اليهود الذين كان يسكن منهم

__________________

(١) اقرأ مثلا الآيات التالية : البقرة : [٨١ ـ ٨٥ و ١٠٧ ـ ١١٦ و ١٢٥ ـ ١٢٩ و ١٥٨ ـ ١٨٩ و ١٩٧ ـ ٢٠٣ و ٢١٩ ـ ٢٤٧ و ٢٧٥ ـ ٢٨٣] ، وآل عمران : [٥٩ ـ ٦٠ و ٧٧ ـ ٧٨ و ٩٣ ـ ٩٧] ، والنساء : [٢ ـ ١٢ و ١٩ ـ ٣٤ و ١٥٢ ـ ١٦١] ، والمائدة : [١ ـ ٥ و ١٢ ـ ١٩ و ٧٢ ـ ٨٠ و ٩٠ ـ ٩٧ و ١٠١ ـ ١٠٤] ، والأنفال : [٣١] ، والنحل : [٦٤] ، ولقمان : [٢١] ، والقصص : [٥١ ـ ٥٣] ، والشعراء : [١٩٢ ـ ١٩٧ و ٢١٠ ـ ٢١٢ ، ٢٢١ ـ ٢٢٣] ، ويوسف : [١١١] ، وفصلت : [٣].

١٤٥

في الحجاز جاليات كبيرة ، واكتفى فيه بذكر قصص موسى وفرعون وبني إسرائيل الأولى مستهدفا بذلك ما استهدف بذكر قصص الأنبياء الأخرى ، وقد جاءت تلك القصص بإسهاب أوفى مما جاءت هذه مما يمكن أن يكون الحكمة فيه وجود تلك الجاليات الكبيرة وصلتها الوثقى بالبيئة الحجازية العربية وسكانها. ولقد احتوى القرآن المكي آيات كثيرة فيها استشهاد بأهل الكتاب على صحة رسالة النبي بأسلوب يفيد أنهم شهدوا ويشهدون بذلك (١) ، وتحمل في ثناياها تنويها بهم ، وتقرير الاتساق بينهم وبين الدعوة القرآنية والمستجيبين إليها ، هذا في حين أن القرآن المدني احتوى حملات شديدة لاذعة على اليهود ووصف سوء أخلاقهم ودسائسهم ومكائدهم ، ووصل حاضر هذه الأخلاق بأخلاق الآباء. فهذا متصل بدون ريب بحالة قائمة في البيئة النبوية وظروفها. فإنه لم يكن لليهود في مكة كتلة ذات مركز قوي راسخ في حين كان لهم ذلك في المدينة ، ولم يقع بينهم وبين النبي في مكة بسبب ذلك احتكاك وتشاد في حين أن ذلك قد وقع في المدينة بسبب ما كان لهم في المدينة من كتلة قوية وقدم راسخة ومصالح حيوية ومركز ممتاز مما احتوت الآيات القرآنية وصفا لذلك.

ومن الممكن إيراد أمثلة كثيرة من هذا النوع الذي يبين صلة مما كانت عليه بيئة النبي بالبعثة النبوية والسيرة النبوية والتنزيل القرآني. وقد اكتفينا بهذه الأمثلة ونبهنا على أمثالها الكثيرة في سياق التفسير.

فملاحظة هذه الصلة مهمة جدا كسابقتها في فهم مواضيع القرآن وتقريراته وروحه ومداه ، وفي جعل الناظر فيه يندمج في الوقائع ومقتضياتها ، ولا يبتعد عن حقيقة الواقع والباعث ويعصمه عن أن يتورط في الجدل والتزيد وتحميل العبارات القرآنية ما لا تتحمله وما لا طائل من ورائه.

__________________

(١) الأحقاف : [١٠] ، والأنعام : [١١٤] ، والرعد : [٣٦] ، والشعراء : [١٩٧] ، والقصص : [٥١ ـ ٥٣] ، والعنكبوت : [٤٧].

١٤٦

ـ ٣ ـ

اللغة القرآنية :

ثالثا : إن لغة القرآن في مفرداتها وتراكيبها واصطلاحاتها وأساليبها وأمثالها وتشبيهاتها واستعاراتها ومجازاتها هي لغة البيئة النبوية وإنها مألوفة ومفهومة ألفة وفهما تامين من أهلها.

وليس الذي نعنيه بهذا تقرير قضية قد تكون بديهية في بعض الأذهان ولكن الذي نعنيه وجوب ملاحظة ذلك حين النظر في القرآن لأنه يساعد على فهم اصطلاحات لغة القرآن وأساليبها وأمثالها وتعبيراتها واستعاراتها ومجازاتها من جهة ، وكون القرآن من جهة ثانية قد وجّه أول ما وجّه إلى أناس ألفوا لغته كل الألفة وفهموها كل الفهم ، ووصلوا في عقولهم ومعارفهم وبيانهم ودقة تعابيرهم وبلاغة أساليبهم وفصاحة ألسنتهم ، والاستمتاع بمتنوع أشكال الحياة المادية والمعاشية ، والنفوذ إلى المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية والعلمية والأدبية إلى درجة غير يسيرة من الرقي متناسبة مع ما عبرت عنه وأشارت إليه وتضمنته لغة القرآن ، مما هو نتيجة لازمة لكون القرآن إنما نزل بلسانهم ، وكون لغة القوم هي أصدق مظهر لحياتهم المادية والعقلية والاجتماعية والدينية (١). ثم نعني بالإضافة إلى هذا أن ينتفي من ذهن الناظر في القرآن المعنى الذي حلا لبعضهم أن ينوه به وهو انطواء بعض حروف القرآن وكلماته بل وبعض جمله وتعابيره وصور سبكه ونظمه على أسرار وألغاز ومعميات وكذلك المعنى الذي قرره بعضهم من علو طبقة اللغة القرآنية عن أفهام سامعيها إطلاقا دون استثناء ، والمعنى الذي قرره بعضهم من أن لغة القرآن قد احتوت أو قصد أن تحتوي جميع لهجات ولغات العرب القديمة والحديثة مع لغات الأمم الأخرى.

ففي «الإتقان» للسيوطي فصول عديدة تشير إلى هذه المعاني ونذكر خاصة منها الفصل السابع والثلاثين كما أن كثيرا من الكتب الموضوعة عن القرآن وتفسيره

__________________

(١) في عصر النبي وبيئته قبل البعثة بحوث مستفيضة في كل ذلك مقتبسة من الآيات القرآنية.

١٤٧

قد احتوت تقرير هذه المعاني أيضا وفي الأقوال الواردة في تلك الفصول وهذه الكتب المروية أو الصادرة عن علماء قديمين كثير من التكلف والتزيد والتجوز والتخمين والتورط إن لم نقل التحريف.

ولقد جاء فيما جاء في فصول «الإتقان» نقلا عن كتاب «الإرشاد» للواسطي في صدد تعدد اللغات التي احتواها القرآن أن في القرآن خمسين لغة وهي لغات قريش وهذيل وكنانة وخثعم والخزرج وأشعر ونمير وقيس وعيلان وجرهم واليمن وأزد شنؤة وكندة وتميم وحمير ومدين ولخم وسعد العشيرة وحضر موت وسدوس والعمالقة وأنمار وغسان ومذحج وخزاعة وغطفان وسبأ وعمان وبني حنيفة وتغلب وطي وعامر بن صعصعة والأوس ومزينة وثقيف وجذام وبلي وعذره وهوازن والنمر واليمامة ومن غير العربية الفارسية والرومية والنبطية والحبشية والبربرية والسريانية والعبرانية والقبطية .. ولو عرف القائل قبائل عربية وأمما غير عربية أخرى غير الذي ذكره لأوردها أيضا .. وزاد غيره تفريعا فقال إن فيه من لغة بلي لغات الطائف وثقيف وهمدان ونصر بن معاوية وعك وليس هذا كل ما قيل وإنما هو أوسع ما قيل فإن في فصول «الإتقان» أقوالا كثيرة في هذا الباب. وكلام القائلين ليس هو من قبيل تقرير ما قد يكون معقولا وصحيحا من أن لغة القرآن التي هي لغة قريش متطورة مع الزمن عن لغات العرب قبل نزوله ، ومن أن في القرآن ألفاظا معربة عن اللغات الأجنبية أعلاما وغير أعلام دخلت على اللغة العربية القرشية وجرت مجراها وصارت جزءا منها قبل نزوله كذلك ، بل بقصد تقرير أن ذلك التعدد واقعي وأنه إنما كان أولا بسبب أن القرآن حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء فلا بدّ من أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن لتتم إحاطته بكل شيء فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالا وثانيا بسبب أنه امتاز عن غيره من سائر الكتب المنزلة فنزلت هذه بلغة القوم الذين أنزلت عليهم ولم تدخل فيه لغة من لغات غيرهم في حين أن القرآن احتوى جميع لغات العرب والعجم. وثالثا بسبب أن النبي محمدا عليه‌السلام مرسل إلى كل أمة وقوم وقد قال الله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) [إبراهيم : ٤] فلزم أن يكون

١٤٨

في الكتاب المنزل عليه شيء من لسان كل قوم وإن كان أصله بلغة قومه هو.

وجميع هذه المعاني لا تصح في حال. فمن ناحية علو طبقة القرآن عن أسماع الناس وأفهامهم أو انطواء حروفه وكلماته على أسرار وألغاز ومعميات فإن في القرآن نصوصا حاسمة تنفي ذلك حيث تنص على أنه أنزل بلسان مبين أي واضح مفهوم وإن آياته قد فصلت تفصيلا ، وإنه أنزل ليتدبره السامعون ويعقلوه ويفهموه ويحلون به ما يختلفون فيه كما أنه كان موجها إلى كل طبقة من أهل بيئة النبي عليه‌السلام يحكي كلامهم وأسئلتهم ويرد عليها مجيبا أو منددا أو مكذبا أو ملزما أو واعظا أو مشرعا أو في هذا ما يتنافى كذلك مع تلك المعاني. وهذا فضلا عن أنها غير متسقة مع مهمة النبي المكلف بمخاطبة مختلف الطبقات والمأمور بتبليغ ما أنزل إليه من ربه لهم والذي كان يتلوه على الناس كافة من مختلف الفئات في جميع ظروف سيرته الشريفة في عهديها المكي والمدني وأنها غير متسقة مع كون القرآن هدى للناس كافة يؤمرون باتباع ما أنزل فيه وتدبر آياته والتروي في أحكامه ومحتوياته ، ويقال لهم فيه إنه مرجعهم في مختلف شؤونهم ، ومنه يستمدون تشريعهم وأخلاقهم ونذرهم وبشائرهم وحلول مشكلاتهم إلخ. ومن ناحية احتواء القرآن مختلف لهجات ولغات الأمم عربها وعجمها وقديمها وحديثها على المقصد الذي شرحه القائلون فإنه لا يتسق في حال مع نصوص القرآن المطلقة والمتعددة بأنه أنزل بلسان عربي وجعل لسانا عربيا وإنه أنزل بلسان النبي العربي القرشي ولا مع نصّ حديث البخاري في صدد نسخ المصاحف في عهد عثمان الذي احتوى تقريرا صريحا بأنه إنما أنزل بلغة قريش.

ومن هذا الباب ما قيل حتى أصبح مستفيضا وحجة خطابية حاضرة من أن الله كما أرسل موسى في ظرف ارتقى فيه السحر وشاع بمعجزة تشبه السحر وليست سحرا فغلب الساحرين ، وأرسل عيسى في ظرف ارتقى فيه الطب وشاع بمعجزة تشبه الطب فأتى بما يعجز الطب والأطباء فإنه أرسل محمدا بالقرآن فائقا على بلاغة البلغاء في ظرف كانت سوق الفصاحة فيه رائجة ، وبلاغة الكلام فيه قد وصلت إلى أعلى الذرى نظما ونثرا فقصر عنه البلغاء والفصحاء وكان فيه معجزته ، فهذا القول

١٤٩

مع ما في ارتقاء السحر وشيوعه والطب إلى أعلى الذرى في عهدي موسى وعيسى من محل نظر وتوقف ـ يعني أن القرآن قد قصد به أن يكون معجزا في فصاحته وبلاغته اللغوية والنظمية والفنية كأنما هو معلقة من معلقات الشعر الخالدة ، أو قد قصد به أن يكون أعلى من مستوى أفهام الناس وبلاغة بلغائهم. وهذا لا يصح في اعتقادنا على ما ذكرناه آنفا والقرآن يقرر أنه (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (٦٩) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ) (١) و (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) (٢) (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣) و (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٤) و (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) (٥) و (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٦) و (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٧) و (إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) (٨) إلخ.

يضاف إلى هذا أن القرآن في لغته وسبكه وأساليبه واصطلاحاته ومفهوماته وإشاراته ليس مغلقا أو غامضا أو معقدا أو صعبا على متوسط الأفهام والأذهان ، وأنه كان يفهمه مختلف أوساط العرب حضرهم وبدوهم بل والمستعربون المقيمون

__________________

(١) سورة يس ، الآية : [٦٩ ـ ٧٠].

(٢) سورة إبراهيم ، الآية : [٥٢].

(٣) سورة الإسراء ، الآية : [٩ ـ ١٠].

(٤) سورة الإسراء ، الآية : [٨٢].

(٥) سورة مريم ، الآية : [٩٧].

(٦) سورة النحل ، الآية : [٦٤].

(٧) سورة النحل ، الآية : [٤٤].

(٨) سورة الزمر ، الآية : [٤٢].

١٥٠

في الحجاز أو الوافدون على النبي عليه‌السلام من البلاد المجاورة من عرب ومستعربين أيضا. ففي القرآن آيات كثيرة تشير إلى أنّ النبي كان يتلو آيات القرآن على مختلف طبقات الناس كما جاء في آيات الكهف [٢٧] والنمل [٩٢] والعنكبوت [٤٥] والأحقاف [٢٨ ـ ٣٠] والجن [١] مما هو متسق مع مهمته ، وإن منهم من كان يقول (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) [المدثر : ٢٥] و (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] و (قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) [الأنفال : ٣١] ولقد تكرر في القرآن المكي والمدني الإشارة إلى أهل الكتاب وأهل العلم وفي بعض الآيات ما يفهم أن من هؤلاء من جاء خصيصا ليجتمع بالنبي ويستمع للقرآن وقد كان منهم من تفيض عيونهم من الدمع ويخرون خشعا سجدا من تأثير ما يسمعون منه ويعلنون إيمانهم وتصديقهم به (١) مما يلهم أنهم كانوا يسمعون كلاما يفهمونه مع أنهم جاؤوا من نجران اليمن أو بلاد الشام أو الحبشة حسب ما أوضحته الروايات ، كما أن اليهود الإسرائيليين والنصارى غير الحجازيين والذين يمتون أو يمتّ أكثرهم إلى أصول غير عربية والذين كانوا متوطنين في مكة والمدينة كانوا ممن وجهت إليهم الدعوة وكان القرآن يتلى عليهم ويفهمونه وقد اندمجوا في ظروف السيرة النبوية إيجابيا وسلبيا. وإذا كان يبدو اليوم فيه شيء من ذلك أو إذا كان بدا فيه شيء من ذلك منذ قرون عديدة سابقة أو إذا كان يبدو فيه اليوم وقبل اليوم كذلك مفردات غريبة على الأسماع والمألوف فإن هذا كله إنما نجم عن بعد الناس عن جوّ نزول القرآن وزمنه وجو لغته وجو البيئة التي نزل فيها من جهة ، وعن ما طرأ على اللسان العربي من الفساد من جهة ، وعن ما كان من اندماج كثير من غير العرب في العروبة ولغتها وتعلّمها تعلّما لا يمكن أن يقوم مقام السليقة الأصلية في بنيها الأصليين من جهة.

ولقد احتوى نصوصا كثيرة تقرر المرة بعد المرة ما هو عليه من وضوح وإبانة وإحكام وتفصيل ويسر فهم وسهولة إدراك في معرض التنديد بالمكابرين

__________________

(١) اقرأ آيات المائدة : [٨١ ـ ٨٤] ، والإسراء : [١٠٧ ـ ١٠٩] ، والقصص : [٥٢ ـ ٥٥] مثلا.

١٥١

والجاحدين والمجادلين (١) وهذا إنما هو ملزم مفحم لأن اللغة التي يسمعونها واضحة بينة مما ألفوه كل الألفة وليس فيها غموض ولا تعقيد وإشكال ، ولا علوّ عن الأفهام لا من ناحية النظم والسبك واللغة ولا من ناحية المعنى والمفهوم والدلالة.

ونريد أن نستدرك شيئا. فإننا لسنا نعني بما نقرره أننا نشك في إعجاز القرآن وعلوّ طبقته اللغوية والنظمية كما أن كلامنا لا يقتضي ذلك فإعجاز القرآن لا يحتمل شكا ، فهو مقرر في القرآن وثابت فعلا بعجز أي كان عن الإتيان بمثله أو بشيء من مثله رغم تكرر التحدي ، والإيمان بذلك واجب ، وعلوّ طبقته بارز بروزا في غنى عن التدليل ، ولم يبق العلماء الثقات في تقرير ذلك محل زيادة لمستزيد غير أن الذي نعنيه أن إعجاز القرآن وعلوّ طبقته وروعة أسلوبه لا تقتضي أن يكون أعلى من مستوى أفهام العرب الذين خوطبوا به ووجّه إليهم ، ولا أن يكون أبعد من متناول إدراكهم ولا أن تكون مفرداته ومضامينه وتراكيبه غير مألوفة لديهم ، ولا أن يكون قد قصد به أن يكون معجزا في بلاغته اللغوية والنظمية والفنية ، والفرق كبير بين المعنيين كما هو واضح فيما يتبادر لنا. ولعلّه مما يصح أن يذكر في هذا المقام على سبيل التمثيل والتقريب ـ ولله ولكتابه ونبيه المثل الأعلى ـ كاتب ذو أسلوب راق شائق قوي النفوذ يجعله في الطبقة الأولى أو ذروتها في حين يكون سهل التناول غير غامض ولا معقد ، يستطيع أن يسيغه مختلف القراء وأواسطهم ، بل وإن هذا الأسلوب ليكون دائما أحسن الأساليب وأفصحها وهو الذي يسميه البيانيون بالسهل الممتنع. هذا عدا عن أن إعجاز القرآن فيما نعتقد ليس من ناحية نظمه وأسلوبه اللغويين فحسب بل هو أيضا من ناحية روحانيته النافذة الباهرة التي تنفذ إلى أعماق عقل الإنسان وقلبه وروحه ، ونعتقد أن لهذا الاعتبار الأول في إعجازه ، وأن التحدي وتقرير عدم إمكان الإتيان بمثله أو بشيء من مثله إنما هو «للقرآن»

__________________

(١) النساء : [٨٢] ، والأنعام : [١٥٥ ـ ١٥٧] ، وهود : [١ ـ ٢] ، ويونس : [١ ـ ٢] ، والحجر : [٦] ، والنور : [١] ، والشعراء : [١ ـ ٢] ، والفرقان : [١] ، والنمل : [١ ـ ٢] ، والعنكبوت : [٥١ ـ ٥٢] مثلا.

١٥٢

وهذا هو التعبير الذي استعمل في القرآن. الذي كما هو لغة وأسلوب هو كذلك معان ودعوة قوية نافذة باهرة في مداها ومضمونها وشمولها وسعة أفقها وروحانيتها التي وصف أثرها القرآن نفسه بهذا الوصف :

١ ـ (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ ..) الحشر : [٢١].

٢ ـ (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ..) الزمر : [٢٣].

٣ ـ (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) الإسراء : [٨٢].

ثم التي وصف أثرها القرآن في أهل العلم والنية الحسنة من الكتابيين بهذا الوصف القوي النافذ :

١ ـ (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) المائدة : [٨٣ ـ ٨٤].

٢ ـ (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ..) الرعد : ٣٦.

٣ ـ (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ..) الإسراء : [١٠٧ ـ ١٠٩].

٤ ـ (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا ..) القصص : [٥٣].

ولعل من الدلائل على أن لغة القرآن ولغة بيئة النبي شيء واحد ـ ونعني المفردات والمصطلحات والتراكيب ـ حكاية القرآن لكلام الكفار وغير الكفارة وردّه عليهم ، والأحاديث الكثيرة جدا الواردة عن النبي وأصحابه التي لا فرق بين لغتها ولغة القرآن ؛ بل ولقد رويت أحاديث تذكر أن بعض الصحابة والكفار قالوا كلاما

١٥٣

بعينه فنزل القرآن بنفس النظم الذي صدر عنهم منها :

١ ـ حديث روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لنساء النبي حينما تآمرن على النبي بسائق الغيرة : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن.

٢ ـ حديث بخاري مروي عن زيد بن أرقم أنه سمع عبد الله بن أبيّ يقول «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله» ويقول «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ ...».

وآيات سورة المنافقون : [٧ ـ ٨] وسورة التحريم : [٥] قد احتوت هذه النصوص كما هو معلوم.

ونحن نرى هذا بديهيا ومن تحصيل الحاصل ، ولكنا أثبتناه لأن فكرة أن هناك فرقا عظيما بين لغة القرآن ولغة أهل بيئة النبي وأن تلك اللغة أعلى من مستوى أفهام هؤلاء قوية الرسوخ.

ومما يقوم شاهدا قرآنيا على هذا الذي نقرره في هذه النقطة خاصة ما جاء في بعض الآيات من حكاية لأقوال الكفار في القرآن مثل (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (١) و (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ..) (٢) و (قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ..) (٣).

فهذه النصوص تتضمن قرائن حاسمة على أن سامعي القرآن وخاصة الطبقة المتزعمة والنبيهة التي كانت تتولى كبر المعارضة وقيادتها كانوا يسمعون كلاما يفهمونه كل الفهم بجميع دقائقه ، لا يعلو عن أفهامهم ولا يبعد عن مألوفاتهم ويرونه شبيها بأقوال الناس بل ويصفونه بأنه كذلك ..

ونريد كذلك أن ننبه على نقطتين أخريين :

__________________

(١) سورة المدثر ، الآية : [٢٥].

(٢) سورة الفرقان ، الآية : [٥].

(٣) سورة الأنفال ، الآية : [٣١].

١٥٤

فأولا : إن ما قلناه من فهم المخاطبين العرب على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم للقرآن لا يقتضي أن يكون متناقضا مع ما هو مقرر بصورة حاسمة من أن لغة القرآن هي لغة قريش ؛ فالقرآن وجّه أول ما وجّه إليهم وإلى القبائل والمدن الحجازية كما جاء في آيتين متماثلتين في سورتي الأنعام والشورى وهما :

١ ـ (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها ..) الأنعام : [٩٢].

٢ ـ (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) الشورى : [٧].

على أن لغة قريش من جهة أخرى كانت إجمالا في عهد البعثة النبوية لغة العرب جميعهم على اختلاف منازلهم أو على الأقل مفهومة من العرب جميعهم بسبب ما كان من اشتداد التحاك بين قريش وسائر العرب في مواسم الحج التي كان يشترك فيها العرب جميعهم والتي كانت تقام قبل البعثة النبوية بمدة طويلة وبسبب وحدة الأصل من حيث المبدأ. ولعلّ في آية الشورى الآنفة الذكر خاصة دلالة أو قرينة على ذلك حيث وصفت القرآن بالعروبة مع إشارتها إلى مهمة الرسول في إنذاره مكة ومن حولها وقد وصف القرآن بهذا الوصف في آيات مكية عديدة أخرى كما ترى فيما يلي.

١ ـ (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ..) يوسف : [٢].

٢ ـ (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا) الرعد : [٣٧].

٣ ـ (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء : [١٩٢ ـ ١٩٥].

٤ ـ (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ..) الزمر : [٢٧ ـ ٢٨].

٥ ـ (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فصلت : [٣].

١٥٥

٦ ـ (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الزخرف : [٣].

مما يدعم النقطة التي قررناها. وكذلك مما يدعمها أن القرآن وصف غير العربية بالأعجمية كما ترى فيما يلي :

١ ـ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) النحل : [١٠٣].

٢ ـ (وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌ) فصلت : [٤٤].

بحيث يستفاد من ذلك أن العربية كانت حينما تطلق تشمل لغة العرب جميعهم ، وأنه لم يكن للعرب جميعهم لغة غير اللغة التي نزل بها القرآن وأن لغة قريش التي هي لسان النبي الذي ذكر القرآن أن الله قد يسّر القرآن به أي لغته كانت هي لغة العرب جميعهم.

وثانيا : ـ إن ما قلناه من أن كل كلمة في القرآن كانت مفهومة من العرب على حقيقة مداها ومعناها لا يقتضي أن يكون مناقضا لما هو طبيعي فرضا وواقعا وبديهة من وجود كلمات فيه لا يفهم مداها ومعناها إلا الفئات الخبيرة النيرة منهم بل ومن وجود كلمات قد لا يكون سمعها أو قد يجهلها بعض أفراد من هذه الفئات نفسها ، ومن وجود أفراد قليلين أو كثيرين أو قبائل برمتها تجهل المعنى الحرفي لقليل أو كثير من مفردات القرآن بل ومن بعض تعابيره كذلك. وهذه الظاهرة مشاهدة ملموسة في كل ظرف وقطر ومن كل فئة بما فيها الفئات المتعلمة ومع ذلك فمن المشاهد الملموس أن الناس على اختلاف فئاتهم وثقافاتهم وخاصة أواسطهم لا يعيبهم أن يفهموا ما يقرأونه من رسائل وكتب وصحف ويسمعونه من خطب وإذاعات. وطبيعي أن العرب في عصر النبي وعهد بعثته لم يكونوا ليخرجوا عن نطاق هذه الظاهرة ، وإذا روي عن بعض الصحابة جهلهم لمعنى كلمة من الكلمات القرآنية فلا يكون في ذلك غرابة ما بقطع النظر عن صحة الرواية متنا وسندا.

١٥٦

ومن هذه البيانات تتجلى فائدة الملاحظة التي هي موضوع البحث الأصلي مهما بدت للبعض بديهية ، حيث تجعل الناظر في القرآن يندمج في جو لغته وأساليبه واصطلاحاته التي هي لغة عهد نزوله وأساليبه واصطلاحاته ولغة ظروف هذا العهد فينجلي له كثير من الأمور والمعاني على وجهها وحقيقتها ، ولا ينجرّ إلى معان ومدى ومفهومات وتزيدات وتكلّفات وتخمينات ومعميات لا تتحملها نصوص القرآن وأساليبه ودلالاته وظروف نزوله ومهمة من أنزل عليه.

ـ ٤ ـ

القرآن أسس ووسائل :

رابعا : إن محتويات القرآن نوعان متميزان وهما الأسس والوسائل ، وإن الجوهري فيه هو الأسس لأنها هي التي انطوت فيها أهداف التنزيل القرآني والرسالة النبوية من مبادئ وقواعد وشرائع وأحكام وتلقينات مثل وجوب وجود الله تعالى ووحدته وتنزهه عن كل شائبة وشريك وولد واتصافه بجميع صفات الكمال ومطلق التصرف في الكون واستحقاقه وحده العبادة والخضوع ونبذ كل ما سواه والقيام بالواجبات التعبدية له ، ومثل المبادئ والأمر والنواهي والتشريعات والأحكام والتلقينات الكفيلة بصلاح الإنسانية وطمأنينتها والتعاون الأخوي التام بينها أفرادا وجماعات وسلبية وإيجابية وأخلاقية واجتماعية وسياسية وحقوقية وسلوكية واقتصادية والنهي عن كل ما يناقض ذلك.

أما عدا ذلك مما احتواه القرآن من مواضيع مثل القصص والأمثال والوعد والوعيد والترهيب والترغيب والتنديد والجدل والحجاج والأخذ والرد والتذكير والبرهنة والإلزام ولفت النظر إلى نواميس الكون ومشاهد عظمة الله وقدرته ومخلوقاته الخفية والعلنية مثل الجن والإنس وإبليس والشيطان ومشاهد الرؤية فهي وسائل تدعيمية وتأييدية إلى تلك الأسس والأهداف وبسبيلها.

ومع أن جل هذه الوسائل ممّا له صلة ببيئة النبي وعصره من جهة والسيرة النبوية من جهة وبفهمها ، وأن منها ما يتصل بالأسس والمبادئ من بعض

١٥٧

النواحي كنتائج لها مثل الحياة الأخروية ومشاهدها وأهوالها ونعيمها وعذابها والملائكة والجن ومعجزات الأنبياء مما يدخل في الغيبيات الإيمانية من جهة ، ومع أنها قد شغلت حيزا كبيرا أو بالأحرى الحيز الأكبر من القرآن فإن من فائدة هذه الملاحظة أن تجعل الناظر في القرآن يقف عند الأهداف والمبادئ ويعتني العناية الكبرى بتجليتها وإبرازها ، ولا يحمل الوسائل والتدعيمات ما لا ضرورة لتحميلها إياه ولا يترك لها المجال لتغطي على تلك ، وتكون له شغلا شاغلا مستقلا بحيث يستغرق فيها مثل استغراقه في الأسس فضلا عن استغراقه فيها أكثر من استغراقه في هذه مما هو واقع ومشاهد كالانشغال مثلا في ماهية القصص القرآنية والنواميس الكونية ، أو ماهية الملائكة والجن أو ماهية مشاهد الحياة الأخروية ، وبحيث يغفل عن هدفها الرامي إلى تدعيم الأسس والأهداف مما يؤدي به إلى إهمال التدبر بالجوهري والتورط فيما لا طائل من ورائه والوقوع في الحيرة والبلبلة دون ما ضرورة.

وننبه على أن هذا التقسيم بالمعنى الذي نقرره مستلهم بوجه عام من روح القرآن وأسلوبه وآياته ، مما يستطيع أن يلمسه كل من أنعم النظر فيها ، حيث يجد أنه لم ترد قصة أو مثل أو موعظة أو حملة تنديد وإنذار أو إشارة تنويه بملكوت الله وعظمته والدعوة إلى التفكير في آلائه أو ذكره للملائكة والجنّ ؛ أو تذكير بما كان من دعوة سابقة ومعجزات نبوية خارقة ، أو تنبيه إلى الحياة الأخروية ومشاهدها ونتائجها المبهجة أو المزعجة إلا بعد تقرير تلك الأسس والأهداف أو شيء منها والدعوة إليها ، أو بيان الحق والخير والصلاح والسعادة فيها ، أو حكاية مواقف الكفار منها أو تثبيت النبي والمسلمين فيها وتصبيرهم عليها ، وهذا من مميزات الأسلوب القرآني وخصوصياته بالنسبة لسائر الكتب المنزلة ، وحيث يجد أن هذه الأسس والأهداف تظل محكمة ثابتة مع ما هو طبيعي من اختلاف مواقف النبي وتنوعها بالنسبة لفئات الناس والعقول والظروف في حين أن ما هو من باب الوسائل والتدعيمات يتنوع ويختلف أسلوبا ومدى وتعبيرا مع اختلاف تلك المواقف وتنوعها وهذا خاصة من شأنه أن يكون مقياسا وضابطا للتفريق بين

١٥٨

القسمين القرآنيين ، بل ومن شأنه أن يحل ما يتوهمه الناظر في القرآن من إشكالات قرآنية في الأسلوب والمدى والتعبير أيضا.

وهو مستلهم بوجه خاص من بعض نصوص صريحة في القرآن ـ مع ملاحظة ما قد يكون لها من خصوصيات زمنية يأتي في مقدمتها وقد يكون أقواها مدى وأوضحها دلالة آية آل عمران السابعة هذه : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ..).

وهذه الآية نزلت في سياق الردّ على وفد نصراني تناظر مع النبي عليه‌السلام في أمر المسيح فسأله الوفد ألا يقول القرآن إن المسيح كلمة الله وروح منه قال بلى قال فهذا حسبنا. فنزلت الآية تندد بالوفد الذي ترك الأصل القرآني المحكم وهو أن الله واحد لا يصح أن يكون له ولد ولا شريك وجنح إلى التأويل الفاسد لبعض النصوص التي أنزلت بقصد التقريب والتمثيل.

وعلى خصوصية الآية من حيث المناسبة فإنها جاءت بأسلوب تقريري عام لتكون شاملة الحكم والمدى ، بحيث يصح أن يستلهم منها بقوة أن القرآن قسمان متميزان أحدهما محكم أساسي ثابت لا يحتمل تأويلا ولا تنوعا ولا وجوها افتراضية وتقريبية ، وثانيهما متشابهة بسبيل التقريب والتمثيل والإلزام والبرهنة ويحتمل التأويل والتنوع والوجوه الافتراضية.

ولسنا منفردين في هذا التخريج فقد سبق إليه كثير من أعلام العلماء والمفسرين على تنوع أقوالهم واختلاف مدى السعة والضيق فيها (١) وقد روي عن ابن عباس (٢) في صدد الآية أن المحكم هو ناسخ القرآن وحلاله وحرامه وحدوده

__________________

(١) «تفسير المنار» ج ٣.

(٢) «الإتقان» للسيوطي.

١٥٩

وفرائضه وما يؤمن به ويعمل به وأن المتشابه هو منسوخ القرآن ومؤخره وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل به. وقد نوّه للأول بآيات الأنعام : ١٥١ ـ ١٥٣ والإسراء : ٢٣ ـ ٣٨ التي هي مجموعات رائعة من المبادئ والأهداف التوحيدية والأخلاقية والاجتماعية والسلوكية.

وفي سورة محمد آية يصح أن تكون دليلا قرآنيا وهي هذه :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ) (٢٠).

حيث يلهم نصّها أن معنى «محكمة» هو الفرض الأساسي الحاسم من فروض القرآن وتكاليفه.

وفي القرآن آيات كثيرة جدا يبرز فيها تأييد هذا المعنى كآيات البقرة : [١٢ ـ ٢٦] والأعراف : [٥٧ ـ ٥٨] والكهف : [٥٤ ـ ٥٩] وطه : [١١٣] والعنكبوت : [٤٠ ـ ٤٩] والروم : [٢٠ ـ ٢٨] والزمر : [٩ ـ ٢٩] والحاقة : [٤ ـ ٥٢] والمعارج : [١١ ـ ٤٤] والمدثر : [٣٠ ـ ٤٧] إلخ.

وهو متسق مع حكمة بعثة الرسل وهي هداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور والدعوة التي دعوا إليها وهي الدعوة إلى الله وحده وإلى مكارم الأخلاق والمبادئ التي يقوم عليها صلاح الإنسانية وسعادة الناس في الدارين. أما ما ظهر على أيدي الرسل من معجزات وما صدر عنهم الوحي الرباني من نذر وبشائر ووعد ووعيد وتذكير وتمثيل وقصص ومواعظ فإنه بسبيل تلك الحكمة وإعلائها وتجليتها والإقناع بها والتوجيه إليها كما يبدو واضحا وبديهيا عند ذوي الألباب والرؤية.

ومما يزيد ما نقرره قوة ووضوحا ما يلاحظ من تطور التنزيل القرآني وتطور إطلاق تعبير «القرآن» على أجزاء القرآن وسوره وفصوله. فالقرآن يطلق كما هو معروف على مجموعة السور التي بين دفتي المصحف ، غير أن هذا التعبير قد بدىء

١٦٠