ثم ليلة ثالثة. وذهب الأخنس إلى أبي سفيان فقال له : ما رأيك يا أبا حنظلة فيما سمعت من محمد؟ قال : والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها ، فقال له : وأنا والذي حلفت به كذلك. ثم خرج حتى أتى أبا جهل فقال : ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال : ما سمعت : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف. أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك مثل هذه ، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه (١).
حيث يفيد هذا أن موقف أبي جهل كان متأثرا بالاعتبارات الشخصية والأسرية.
علنية الدعوة في بدئها
والمشهد الذي احتوته الآيات والأحاديث المروية في صدده يدلّ بقوة على أن الدعوة بدأت علنية خلافا لما روي (٢) أو لما هو مستقر في الذهن. وأن النبي صلىاللهعليهوسلم أخذ يمارس صلاته الجديدة جهرة ويدعو الناس إلى الله وتقواه. وفي المشاهد المماثلة التي ظلت تذكر في السور العديدة المبكرة في النزول ، مثل القلم والمزمل والمدثر والتكاثر والماعون والكافرون تأييد لذلك. وكل ما يمكن أن يقال إزاء ما ورد في الأحاديث التي تروي أقوال بعض أصحاب رسول الله مثل ما روي عن عمر في قصة إسلامه حيث سأل بعد إسلامه : «أنحن على حقّ أم باطل؟ فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : بل على حقّ ، فقال عمر : ففيم التخفي إذن؟». ومثل ما روي عن ابن مسعود أنه قال : «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر. ولقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالكعبة ظاهرين آمنين حتى أسلم عمر» (٣). إن النبي صلىاللهعليهوسلم ـ حماية لأصحابه ـ كان يلزم الحذر والتحفظ في الصلاة والاجتماع بهم. غير أن دعوته للناس كانت
__________________
(١) انظر «السيرة الحلبية» ، ج ١ ، ص ٣٣٠ وما بعدها. وانظر تفسير آية سورة الحجر (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [٩٤] في كتاب تفسير ابن كثير والبغوي بل وغيرهما من المفسرين.
(٢) المصدر نفسه.
(٣) انظر «سيرة ابن هشام» ج ١ ص ٣٤٢ وما بعدها.