منهاج الأصول - ج ٣

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ٣

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٣٨

١

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين المعصومين ولعنة الله على اعدائهم اجمعين.

اعلم ان المكلف اذا التفت الى حكم شرعى فاما ان يحصل له القطع او الظن أو الشك ، والمراد من المكلف من وضع عليه القلم لا خصوص من كلف بالتكليف الفعلى لظهور قيدية (اذا التفت) في الاحترازية ، ومع ارادة الفعلية يكون القيد توضيحيا (١) والمراد من الحكم هو الحكم الفعلى لعدم وجوب اتباع ما لم يبلغ مرتبة الفعلية ، نعم ليس المراد منها كون الحكم فعليا من جميع الجهات ، وانما المراد من كونه فعليا من جهة المولى وهو الذى يشترك العالم والجاهل به ،

__________________

(١) الظاهر عدم الاحتياج اليه إذ لا يمكن تحقق الاقسام المذكورة إلا بالنسبة إلى الواجد لتلك العناوين وقطعا انها لا تحصل إلا بالالتفات التفصيلي لعدم تعقل تحقق القطع بحكم أو احتماله للغافل لكي يحترز عنه فدعوى ان قيدية اذا التفت للاحتراز عن الغافل ممنوعة إذ ذلك حاصل من ذكر الاقسام التي تترتب عليها الاحكام كما لا يخفى.

٢

وبهذا المعنى يؤخذ موضوعا للوظيفة الشرعية ولا يلزم منه الجمع بين الحكم الواقعى والظاهري لعدم المانع من تحقق الترخيص الشرعى ، إذ لا محذور من جعل الحكم فى قبال ذلك الحكم على ما سيأتى بيانه في مبحث الظن ، كما انه ليس المراد من المكلف خصوص المجتهد بل يعم المقلد لعدم اختصاص الاقسام المذكورة بالمجتهد لاطلاق ادلة اعتبارها ، وعن بعض الاعاظم (قدس‌سره) اختصاصه بالمجتهد بتقريبين :

الاول ان حصول هذه الاقسام من القطع والظن والشك للملتفت بالحكم بالتفصيل وذلك يختص بالمجتهد.

الثاني عدم تمكن المقلد من الفحص عن المعارض ولكن لا يخفى ما فيهما ، اما عن الاول : بان تلك الاقسام يمكن حصولها لغير البالغين درجة الاجتهاد فتشملهم الادلة لفرض اطلاقها ولغيرهم بعدم القول بالفصل ، واما عن الثانى فبأدلة الافتاء والاستفتاء يكون فحص المجتهد فحص المقلد ، وشكه ويقينه بمنزلة شك المقلد ويقينه ، وعليه لا مانع من القول بان المجتهد ينوب عن المقلد في الفحص عن المعارض وفي ترجيحه لاحد الخبرين وتظهر الثمرة بين القولين عند رجوع العامي الى المجتهد فانه بناء على التعميم ، المجتهد يخير العامي بين الافتاء له بمقتضى الاستصحاب الجاري فى حقه وبين ابقاء ما حصل للعامي من اليقين والشك والافتاء على يقين العامي السابق بخلاف ما لو قلنا بالاختصاص فانه يتعين على المجتهد الافتاء حسب ما قام عنده من الاستصحاب الجارى فى حقه ، والظاهر ان مقتضى الجمع بين دليل الافتاء والاستفتاء وبين شمول الخطاب للمقلد هو الاول.

بيان ذلك ان العامي عند رجوعه الى المجتهد كما لو رجع اليه بنجاسة الماء

٣

المتغير باحد الاعيان النجسة حصل له يقين بالنجاسة لكون قول المجتهد بالنسبة الى العامي كالامارة القائمة عند المجتهد بدليل الافتاء والاستفتاء وبعد زوال تغيره يحصل للمقلد شك فيكون من مصاديق خطاب. (لا تنقض اليقين بالشك) إلّا ان المقلد لما لم يكن ملتفتا إلى ذلك المجتهد ينوب عنه في إعمال ذلك الاستصحاب المتحقق ركناه عند المقلد فيفتي المجتهد بالنجاسة بعد زوال تغيره من قبل نفسه بمدركين ، مدرك قائم عنده ، ومدرك قائم عند المقلد. وبالجملة المجتهد يخير العامي بعد رجوعه اليه بين الحجتين الحجة القائمة عنده التي هي حجة له ولمقلديه والحجة المحققة عند المقلد والعامي بعد رجوعه التي لم يكن ملتفتا اليها لذا ينوب المجتهد عن المقلد في إعمالها (١) وكيف كان فقد استشكل على التقسيم المذكور بتداخل

__________________

(١) وفاقا للمحقق الخراساني (قدس‌سره) في الحاشية ما لفظه (غاية الامر ان المجتهد لما كان متمكنا من تعيين مفاد الادلة ومجاري الاصول بما لها من الشرائط دون غيره ينوب عنه في ذلك) ، ولكن لا يخفى انه على ما تقدم من ان ملاك المسألة الاصولية عبارة عن كبرى لو انضمت إلى صغراها لانتجت حكما كليا في كل الموارد بخلاف نتيجة المسألة الفقهية فانها وان كانت كلية إلا انها تكون في مورد جزئيه فنتيجة المسألة الاصولية تنفع المجتهد ولا حظ للمقلد ، فحينئذ كيف يمكن القول بنيابة المجتهد عن المقلد فدعوى شمول (لا تنقض اليقين بالشك) في الشبهات الحكمية للمقلد ممنوعة أشد المنع ، إذ كيف يمكن شمول مثل ذلك لمن لا يحصل له اليقين والشك على انه لو حصلا فلا عبرة بهما ما لم يكن مجتهدا فى حجية الاستصحاب فلا يثمر قطع المقلد أو شكه. نعم انما يثمر قطع المجتهد وشكه. ومن ذلك يظهر ان المقصود بالذات فى الاستصحاب هو ما يثبت الاحكام الكلية كالاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية ، كما لو

٤

بعض موارد الظن فى الشك وبعض موارده فى العلم بما حاصله انه لا وجه لتثليث الاقسام ، لان الظن ان قام دليل على اعتباره فلحق بالقطع وان لم يقم دليل

__________________

شك فى نجاسة الماء المتغير بعد زوال تغيره من قبل نفسه فيجرى المجتهد الاستصحاب ويفتى بنجاسته وذلك حجة فى حقه وحق مقلده ولا يلاحظ يقين المقلد وشكه ، ولا ينافي التعرض فى الأصول لمثل الاستصحاب الجارى في الشبهات الموضوعية غير المختص بالمجتهد فانها انما ذكرت من باب الاستطراد ، اللهم إلا أن يقال بان المقلد والمجتهد لا فرق بينهما بالنسبة إلى شمول الأدلة واما بالنسبة إلى متعلق القطع والظن والشك فيفرق بينهما فان متعلقها فى المقلد هو ما افتى به مقلده وطريقه اليه هو فتواه ، وفى المجتهد المتعلق فيها هو الحكم الواقعي وطريقه اليه هو الادلة الاربعة ، وحينئذ يكون ظهور كلام المجتهد حجة للمقلد ويتمسك باطلاق كلامه كما يتمسك المجتهد بظهور الادلة ، فعليه لا وجه لتخصيص المكلف فى المقسم بخصوص المجتهد بدعوى عدم جريان البراءة فى حق المقلد لعدم قدرته على شرط جريانها وهو الفحص فانها ممنوعة ، فان عدم امكان تحصيل الشرط لا يوجب عدم شمول دليلها للمقلد فيكون حاله كالمجتهد المحبوس غير المتمكن من الفحص ، فكما لا يجوز له الرجوع إلى البراءة لعدم تحقق شرط الرجوع اليها كذلك المقلد لا يرجع إلى البراءة لعدم امكان الفحص له وعليه لا مانع من تعميم المكلف في عبارة الشيخ الانصارى (قدس‌سره) وارادة الحكم الفعلي لا الإنشائي من الحكم في عبارته ، ولكن لا يخفى ان ذلك يتم لو كان المراد من الحكم المتعلق بنفس المكلف ، واما لو اريد من الحكم المتعلق بغيره كاحكام الحج قبل الموسم أو أحكام النساء من الحيض والنفاس فانها لا تصير فعلية بالنسبة إلى شخص المكلف فتكون وظيفة المجتهد كوظيفة الامام (ع) هو بيان الحكم المجعول من غير فرق بينهما ، إذ الامام (ع) يبين

٥

على اعتباره فملحق بالشك فما وجه عده فى قبال القسمين ، ولأجل ذلك عدل الاستاذ عنه فى الكفاية فقال ما لفظه ان المكلف اما ان يحصل له القطع أو لا ، وعلى الثانى اما ان يقوم عنده طريق معتبر اولا لئلا تتداخل الاقسام ولكن لا يخفى ان الحكم الواقعي والمجتهد يبين مؤدى الطريق وبالجملة ان اريد من الحكم فى قوله (ان المكلف إذا التفت إلى حكم) الحكم المتعلق بشخص المكلف فان حصل له القطع يكون منجزا وإلا فان كان عنده طريق معتبر فيعمل على طبقه وإلا فإلى الاصول العملية من غير فرق بين المجتهد والمقلد.

غاية الأمر ان متعلق القطع والظن والشك يختلف ففى المجتهد هو الحكم المؤدى بالادلة الاربعة ، وفي المقلد هو ما أفتى به من يرجع اليه فى التقليد ، وقد عرفت انه بالنسبة إلى جريان الاصول على السوية حتى في مثل البراءة ، وعدم تمكن المقلد من الفحص لا يوجب اختصاص دليلها بالمجتهد ، إذ ذلك يكون حاله كالمجتهد الذي لا يتمكن من الفحص فكما ان ذلك لا يوجب خروج المجتهد من دليل البراءة فكذلك في المقلد وان اريد من الحكم هو الحكم غير المتعلق بشخص المكلف فلا معنى لارادة الحكم الفعلي بل المراد هو الحكم الكلي المجعول في حق الغير فمع تعلق القطع الوجداني أو التعبدي فيفتي على طبق ذلك ولو لم يحصل ذلك وكان له حالة سابقة وشك في نسخه أو سعة الدليل وضيقه فيجري استصحاب الحكم الكلي ويبني على مقتضاه ، ولا يلاحظ شك المقلد أو يقينه ، وعليه لا معنى لتعميم المكلف في العنوان بل لا بد من تخصيص ذلك بالمجتهد لما عرفت ان مثل هذه الاحكام إنما هي متعلقه بالغير وليست فعلية ومنجزة في حق المجتهد وانما شأنه هو بيان وظيفة الغير بل حتى فيما لو اعتبر شك المقلد ويقينه فله الافتاء لبيان وظيفة من يقلده كالماء المتمم بالنجس أو بعض أقسام الخيار وأمثال ذلك مما يمكن أن يجري الاستصحاب بلحاظ نفسه كما يمكن أن يجري الاستصحاب بلحاظ المقلد وشكه كما لا يخفى.

٦

تثليث الاقسام لم يكن ناظرا الى مرحلة الحجية الفعلية وانما هو في مقام بيان ما للاقسام من الخصوصيات من الوجوب والامكان والامتناع.

بيان ذلك هو ان القطع لما كان كشفه تاما فهو حجة عقلا ولا يمنع عنه فلذا يكون واجب الحجية والظن لما لم يكن كشفه تاما بل ناقصا فيمكن ان يكون حجة بتتميم كشفه ، والشك لما كان عبارة عن الترديد بين الاحتمالين فلا كشف فيه اصلا فلذا يمتنع حجيته والى ذلك نظر الشيخ الانصارى (قدس‌سره) حيث ثلث الاقسام باعتبار ما تجب حجيته كالقطع وما امكنت حجيته كالظن وما امتنعت حجيته كالشك فعليه لا وجه للعدول عما ذكره الشيخ قدس‌سره الى ذلك وقد يوجه اشكال التداخل بوجه آخر بما حاصله الحاق ما هو مقرر للشاك فى الموضوع من الوظائف الشرعية بالعلم بالحكم فتكون الاقسام ثنائية ، ولكن لا يخفى ان هذه الاشكال يتم بناء على ان المراد من الحكم ما يعم الحكم الظاهرى وهو محل نظر إذ الظاهر ارادة خصوص الواقع من الحكم. بيان ذلك ان ما تعارف بين القوم من تبويب الاقسام وجعل أحكام القطع فى باب ، وأحكام الامارة فى باب ، وأحكام الشك في باب ، والشيخ (قدس‌سره) جعل التقسيم توطئه لبيان تبويب لتلك الاقسام فلذا ناسب ان يراد من الحكم فى عبارته وعبارة كل من حذا حذوه هو خصوص الواقع وبذلك يرتفع اشكال التداخل.

بقي الكلام في مجاري الاصول وهي منحصرة في أربعة (١) فالأولى

__________________

(١) والانحصار فى الأربعة كما ترى عقلى دائر بين النفى والاثبات إلا انه بالنسبة إلى مجاريها ، واما بالنسبة اليها نفسها فليس الحصر بعقلى لا مكان وجود اصول أخر ، نعم بالنسبة إلى الاصول العقلية الثلاثة من البراءة والاحتياط والتخيير يمكن أن يكون الحصر عقليا بان يقال ان التكليف اما نفي

٧

فى ضبطها انه اما ان يلحظ الحالة السابقة أم لا فان لوحظت فهو مجرى

__________________

أو اثبات فعلى الأول البراءة ، وعلى الثاني اما ان يتردد بين المتباينين فالتخيير وإلا فالاحتياط ، واما كون المجارى أربعة مع ان هناك اصولا أخر قد تمسك بها الفقهاء رضوان الله عليهم مثل قاعدة الفراغ واصالة الصحة للشك فيها والقرعة وقاعدة الطهارة وامثال ذلك لأن الكلام فى القواعد التي لا تختص بباب دون باب ، وما عدى الاربعة يختص ببعض الأبواب على ان بعضها ليست من مباحث الاصول مثل القرعة واصالة الصحة وقاعدة الفراغ لانها يرجع اليها الشاك في موضوع الحكم الشرعى والاصول تبحث عن القواعد التي يرجع اليها الشاك في الحكم الشرعى الحالى ، واما بيان مجاري الاصول فعبارات الشيخ (قدس‌سره) مختلفة ولا يخلو فرائد إلا وتوجد فيها نسخ متعددة ، قال الاستاذ المحقق النائينى (قدس‌سره) الموجود في النسخة المصححة بقلم سيدنا الاستاذ ان المشكوك اما ان تكون له حالة سابقة ام لا ، والأول مجرى الاستصحاب ، والثاني اما ان يعلم بجنس التكليف ام لا ، وعلى الثانى مجرى البراءة ، وعلى الأول اما ان يتردد الأمر بين المتباينين أم لا ، فعلى الأول التخيير ، وعلى الثاني مجرى الاشتغال ، وقد أورد على الشيخ بانه كيف جعل مجرى الاستصحاب وهو صرف الحالة السابقة مع انه لا يجريه إلا فى الشك في الرافع على انه لا يصدق على الأقوال الأخر كما انه يرد عليه ان ليس مطلق التردد بين المتباينين مجرى التخيير بل مجراه فيما إذا لم يلزم انحلال العلم الاجمالى ولكن لا يخفى ان ذلك غير وارد على الشيخ (قدس‌سره) فانه ليس بصدد بيان مجرى الاصول بنحو الايجاب الكلي وانما هو بصدد الايجاب الجزئى ويكفى فيه جريانها في بعض الموارد نعم ايراد ان مجرى الاستصحاب هو لحاظ الحالة السابقة لا نفسها وارد لذا غير ذلك فى البراءة وقال إن كانت الحالة السابقة ملحوظة فهو الاستصحاب.

٨

الاستصحاب ، وإلا فان أمكن الاحتياط أم لا ، فعلى الثانى فهو مجرى التخيير وعلى الاول فاما ان تكون حجة شرعية كانت أم عقلية أم لا ، وعلى الأول فهو مجرى الاحتياط ، وعلى الثانى البراءة ، وربما يشكل ويقال ان الشيخ الانصارى (قدس‌سره) يجري البراءة فيما لو علم المكلف بجنس التكليف وتردد بين الوجوب والتحريم مع انه ينبغى التخيير مدفوع بما سيأتى من عدم جريان البراءة فى ذلك لان العلم الاجمالى بيان تلك الواقعة فلا يكون مجال للبراءة بل هو من موارد جريان التخيير لا يقال العلم بجنس التكليف لا يعد بيانا فلا يمكن مراعاته لعدم القدرة على الاحتياط فاذا سقط فلا بيان فيتحقق موضوع البراءة ، لانا نقول العلم وان كانت بيانيته ساقطة من جهة عدم القدرة على الاحتياط إلا انه لم يسقط عن البيانية من حيث كونه علما فلم يتحقق موضوع البراءة الذى هو عدم البيان.

إذا عرفت ذلك فاعلم انه يقع الكلام فى مقاصد ثلاثة القطع والظن والشك.

__________________

أقول جعل الحصر عقليا انما هو بضميمة الاستقراء وبدونه لا يكون عقليا ولم يذكر من النقض على الحصر بمثل اصالة الطهارة لامكان ارجاعها إلى البراءة بحسب الآثار لو قلنا بانها أحكام وضعية منتزعة من التكاليف أو قلنا بان النجاسة عين الحكم التكليفي وهو وجوب الاجتناب نعم لو قلنا فى خصوص النجاسة والطهارة من الموضوعات الخفية التي كشف عنها الشارع فحينئذ تخرج اصالة الطهارة عن المقام اذ الكلام في الأحكام التكليفية.

هذا لو قلنا بان مجاري الاصول مختصة فى الاحكام ، واما لو عممناها للاحكام الوضعية لجريان مثل الاستصحاب والبراءة والاشتغال في الضمان والجناية وغيرهما من الأحكام الوضعية فلا مانع من الحاق مثل اصالة الطهارة بالبراءة فلا تغفل.

٩

المقصد الاول فى القطع (١)

وفيه مباحث

الاول في حقيقته فنقول القطع عبارة عن انكشاف الواقع اما حقيقة واما اعتقادا ، فمن قطع بوجوب شيء أو حرمته يرى نفسه قد وصل الى الواقع

__________________

(١) لا يخفى ان البحث عن بعض مسائل القطع تشبه المسائل الكلامية كالبحث عن حسن العقاب على مخالفة العلم الذى هو من قبيل المسائل الكلامية الباحثة عن أحوال المبدأ والمعاد. نعم مثل البحث عن العلم الاجمالى هل تجب موافقته القطعية أو يحرم مخالفته القطعية يعد من مسائل الاصول ، ومنه يظهر الفرق بين المقام والبحث فى الظن فان البحث فى المقام بحث عن العلم بالاحكام الذي هو الموضوع من لوازم العلم بتلك المسائل فهو من الغايات المترتبة على المسائل الاصولية بخلاف البحث فى الظن بناء على الحكومة فانه وإن كان بحثا عن حجيته عقلا إلا انه ينتهي اليه في مقام العمل فلذا يدخل البحث فى الظن بناء على الحكومة في المسائل الاصولية لانتهاء المكلف اليه فى مقام العمل وكالمباحث الاصولية العقلية التي ينتهى اليه أمر الفقيه في مقام العمل بعد الفحص وكالبحث عن الأدلة والامارات بخلاف حجية القطع فانه باقسامه غير منوطة بالفحص والبحث عن الدليل هذا بناء على ان الغرض من تدوين علم الاصول هو ما ينتهى اليه أمر الفقيه ، واما بناء على ان الغرض أعم من ذلك بان يكون عبارة عما له دخل فى مقام اقامة الحجة على حكم العمل في الفقه كان لعد مسائل القطع من الأصول وجه اذ البحث عن منجزية القطع كالبحث عن منجزية الامارات إذ

١٠

وانكشف له الواقع انكشافا تاما فلا يرى بينه وبين الواقع ستره وحينئذ يكون طريقيته ذاتية لذا لا تناله يد الجعل لا تكوينيا ولا تشريعيا اما تكوينيا فلما عرفت انه من الذاتيات والذاتى لا يتوقف على اكثر من ايجاد الذات فاحتياج الطريقية إلى جعل ينافى كونه من الذاتيات واما تشريعيا فعدم معقوليته أوضح من سابقه لعدم تعلقه بالامور الذاتية الواقعية على انه يلزم منه تحصيل الحاصل وبعد معرفة حقيقته وان القاطع يرى نفسه قد وصل إلى الواقع فيجب العمل على وفقه والحركة نحوه وذلك بمقتضى الجبلة البشرية فان المكلف إذا قطع بحكم فقد أدرك عقله حسن العقاب على مخالفته فينقاد بحسب طبعه وجبلته إلى العمل على مقتضاه فليس ذلك من باب التحسين والتقبيح العقليين ، بل هو ما تقتضيه الفطرة البشرية ولا تتوقف على القول بهما لكون المقام من باب لزوم دفع الضرر المقطوع المسلم عند القائلين بالتحسين والتقبيح العقليين وعند غيرهم ، وعليه لا يحتمل الردع إذ احتماله ينافى الغريزة والعقل الفكرى ، وببيان آخر انه لا اشكال فى وجوب متابعة القطع والعمل على طبقه عقلا وإن كان فطريا فان العقل حاكم بان من علم علما جزميا لزمه اتباعه والتحرك على وفقه بالوجوب التكوينى ان كان من التكوينيات من جهة

__________________

هما فى مقام اقامة الحجة على حكم العمل في الفقه على حد سواء ، ولكن لا يخفى ما فيه إذ المنجزية فيما عدا القطع لما كانت تتوقف على وصول الحكم تنزيلا أو من حيث الاثر فلذا كان فى الاصول يبحث عنه لكون نتيجة البحث فيه مفيدة فى الفقه بخلاف القطع فانه لما كان حقيقته عبارة عن وصول الحكم الى المكلف ولا يتوقف العلم بفعل المكلف من حيث الاقتضاء والتنجيز فى الفقه على منجزية القطع فلا يكون نتيجة البحث مفيدا فى الفقه وقد استوفينا البحث فى حاشيتنا على الكفاية.

١١

امتناع تخلف الغرض وان كان فى الشرعيات من جهة التحسين والتقبيح العقليين كما هو التحقيق وذلك عبارة اخرى عن حكمه بلزوم الاطاعة وحرمة المعصية وحكم العقل (١) بذلك لا يتوقف على عدم الردع بان يكون مانعا عن الحجية كما هو كذلك بالنسبة إلى الظن القياسي بناء على الحكومة وان ادعاه بعض ، فقد عرفت ان ذلك في غير محله إذ حجيته لا تتوقف على أكثر من وجود القطع فهو بنفسه علة تامة للحجية ، ومنه ظهر الفرق بين حجية القطع وحجية الظن القياسي فان الاول نفسه علة لها ، وفي الثانى مقتض للحجية ، وذلك يتوقف على عدم الردع لما هو معلوم ان المقتضي يؤثر فى ظرف عدم المانع. وظهر مما ذكرنا ان القطع بنفسه علة للحجية الموجب ذلك لعدم الردع بلا حاجة لدعوى المناقضة بتقريب ان من قطع ببولية شيء مثلا يلزمه الجري على قطعه فلو ردعه رادع يحصل منه المناقضة عند القاطع إذ ذلك يمكن منعه بان يكون الترخيص فى المرتبة المتأخرة

__________________

(١) لا يخفى ان حكم العقل بوجوب متابعة القطع والجرى على وفقه معلولا لطريقية القطع التي هي من اللوازم الذاتية للقطع كالزوجية للاربعة قال المقرر لبحث الاستاذ المحقق النائيني قدس‌سره (وهذا الوجوب ليس وجوبا شرعيا لأن طريقية القطع ذاتية لا تنالها يد التشريع إذ لا معنى لتشريع ما هو حاصل له ويتجمل بنفسه فان الجعل التشريعى انما يتعلق بما يكون تكوينه عين تشريعه لا ما يكون متكونا بنفسه وطريقية القطع تكون كذلك) وقد تخيل بعض فى شرحه للرسائل وقوع التهافت بين الصدر والذيل وهو في غير محله فان الناظر لكلام الاستاذ يجد انه فى بيان علية حكم العقل بوجوب متابعة القطع ببيان ان طريقيته ذاتية وليس فى مقام ان المبحوث عنه هو نفس الطريقية لكي يلزم ان تكون العلة عين المعلول أو الدليل عين المدعى فلا تغفل.

١٢

وبذلك ترتفع المناقضة إذ شرطها الاتحاد في المرتبة ، وسيأتي لذلك مزيد توضيح إن شاء الله تعالى.

وكيف كان فان من قطع بحرمة شيء مثلا حصل عنده صغرى وجدانية وهي هذا خمر ، وكبرى وهي كل خمر يجب الاجتناب عنه فينتج ان هذا يجب الاجتناب عنه والحاكم بهذه النتيجة هو العقل بمناط التحسين والتقبيح العقليين ، لا يؤخذ القطع فى القياس ولم يؤخذ القطع بالقياس بنحو يكون وسطا فيه لأن الحكم غير مرتب على المقطوع بما انه مقطوع ، وانما الحكم يترتب على الحكم الواقعي كما يفهم من الآية الشريفة (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ!) فالشارع رتب وجوب الاجتناب على نفس الخمر الواقعي لا على مقطوع الخمرية ، فالقطع لم يؤخذ إلا على نحو الطريقية فلذا لم يصح أخذه في القياس ، إذ لو أخذ لتوهم انه اما تمام الموضوع أوله دخل في الموضوع هذا كله فيما إذا كانت الآثار مترتبة على نفس الواقع ، واما لو كانت مترتبة على نفس القطع كوجوب الاطاعة بنحو كان القطع بما هو طريق إلى الواقع له دخل فى ترتب الاثر بان أخذ موضوعا له كما هو كذلك فى الجهل المركب ، فمن قطع بكون السراب ماء فانه بمجرد القطع ينقدح فى نفسه ارادة تبعث التوجه نحو السراب أو قطع بكون الشبح اسدا فانه بمجرد ذلك يفر من ذلك الشبح مع انه لا واقع له ، ففى هذه الامثلة المتقدمة الاثر قد ترتب على نفس القطع والحاصل ان القطع لو كان طريقا للحكم وكانت الآثار مترتبة على نفس المقطوع لا يصح جعله وسطا فى القياس لعدم كونه عنوان الموضوع الواقعي او كان له الدخل فيه انما يكون عنوان الموضوع هو الامر الواقعى وهو يدور مدار واقعه بل ليس للقطع دخل في

١٣

الاكبر ولو بنحو التلازم فلا يطلق عليه الحجة باصطلاح المنطقي لعدم صحة جعله فى القياس بل ولا الحجة فى باب الادلة التي هي عبارة عن ان تكون وسطا لاثبات أحكام متعلقاتها بحسب الجعل الشرعي لما عرفت من ان حقيقة القطع هو نفس الانكشاف والوصول إلى الواقع فتكون طريقيته ذاتية ، فبمجرد تعلقه يثبت المقطوع كما لو حصل القطع بالخمرية فان عنوان الخمر يثبت المقطوع من دون حاجة الى توسيط جعل شرعى فى البين كما لا يحتاج الى تأليف القياس.

إذا عرفت ذلك فى القطع فاعلم ان الظن كالقطع فكما ان القطع لو كان طريقا للحكم لا يصح جعله وسطا فكذلك الظن لو كان طريقا للحكم بحيث يكون مترتبا على الواقع وليس للظن دخل في ترتب الحكم فلا يصح أخذه فى القياس نعم يصح أخذه إذا صار عنوانا مشيرا ، الى موضوع الحكم كما هو كذلك في القطع فانه يصح اخذه إذا صار عنوانا مشيرا فما ذكره شيخنا الانصاري قدس‌سره من التفصيل بين الظن والقطع بجواز أخذه في القياس في الاول دون الثانى محل نظر بل منع اذا لا فرق بينهما فى ترتب الحكم لو أخذ طريقا له نعم ربما يقال في بيان وجه الفرق بينهما بان الظن كما كان كشفه ناقصا فيمكن للشارع التعبدية بان يتمم كشفه وبعد تتميم كشفه يكون حجة شرعية فلذا صح جعله وسطا في القياس فيطلق عليه الحجة باصطلاح المنطقيين بخلاف القطع فانه لما كان كشفه تاما من دون حاجة الى دليل التعبد بل لا يعقل ورود تعبد من الشارع لما عرفت من كون طريقيته ذاتية فلذا لا تناله يد الجعل وحينئذ لا يصح جعله فى القياس (١) مضافا الى ان الفرق بين الظن والقطع متحقق بناء على ان التعبد المستفاد

__________________

(١) وفاقا للمحقق النائيني قدس‌سره حيث قال (ومن هنا يظهر انه لا يصح

١٤

من دليل التنزيل راجع الى التعبد في النسبة إذ عليه يكون المحمول فى الصغرى هو الخمر الواقعي فيكون محمولا على موضوعه بنسبة تعبدية كما هو كذلك في الكبرى فالمحمول فيها هو الحكم الواقعى كوجوب الاجتناب المحمول على الخمر الواقعى بنسبة تعبدية فتكون النتيجة هو نسبة وجوب الاجتناب الواقعي للخمر الواقعي تعبدا فحينئذ صح جعله اي الظن في القياس فيكون وسطا لاثبات حكم متعلقه فيطلق عليه الحجة باصطلاح المنطقيين وهذا لا يجري في القطع لأن القطع على ما عرفت لا يناله يد الجعل فلا يمكن التعبد بمضمونه شرعا فلا يصح أن يكون وسطا لاثبات متعلقه لكي يتألف منه القياس واما بناء على أن يكون المستفاد من دليل التنزيل التعبد في نفس المحمول

__________________

تأليف القياس الحقيقى من الادلة الشرعية بل هو صورة قياس اشبه بالمغالطة فقولك (هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه فهذا يجب الاجتناب عنه قياس صورى لا واقع له) وقد تخيل البعض فى شرحه للرسائل ان الاكبر في القياس المؤلف من قولنا هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية يجب الاجتناب عنه هو الخمرية لا وجوب الاجتناب فاشكل عليه ان الاكبر ليس هو الخمر وانما هو وجوب الاجتناب وليس المدعى عند شيخنا هو ما توهمه هذا البعض بل اقصى ما فيه ان القياس المؤلف هاهنا ليس هو على حد الاقيسة المنطقية الواقعية التي يكون بين الاكبر والاصغر تلازم بالعلية إذ لا تلازم واقعى بين وجوب الاجتناب ومظنون الخمرية لان وجوب الاجتناب مرتب على الخمر الواقعي ، ونفي التلازم الواقعي بينهما لا يمنع من ترتب وجوب الاجتناب ظاهرا على مظنون الخمرية بناء على ادلة التنزيل كما هو صريح عبارته ايضا حيث يقول (ومعه لا يصح تأليف القياس الحقيقى منه إلا بنحو من التأويل بعناية جعل الشارع الظن طريقا الى الخمر ومثبتا له فى الظاهر).

١٥

بان يراد من الخمر في الصغرى هو الخمر التعبدي ولكن بنسبة حقيقية والكبرى ايضا كذلك بان يكون المنسوب اليه هو وجوب الاجتناب بنسبة تعبدية فيكون من قبيل جعل المماثل للحكم وتكون النتيجة حينئذ الخمر حقيقة ثابتة له وجوب الاجتناب تعبدا هذا وان صح جعله وسطا في القياس إلّا انه ليس لحكم متعلقه بل لحكم مماثل له. وبالجملة بناء على التعبد فى المحمول بالنسبة الى حكم متعلق.

الظن كالقطع لا يصح جعله وسطا واما بناء على التعبد بالنسبة فيمكن دعوى الفرق بين القطع والظن على التقريب السابق ولكن لا يخفى ما فيه لان دليل التنزيل ان كان ناظرا الى تنزيل المؤدى منزلة الواقع كان قضيته كالقطع الوجدانى إلّا انه بنسبة تعبدية وان كان مفاده تنزيل الظن منزلة العلم كان قضيته القطع التعبدي بنسبة تعبدية وعلى كلا الامرين لا يعقل أخذ الظن وسطا لاثبات متعلقه اما على الاول فعدم اخذه وسطا لعدم ترتب الحكم على الظن بل على المؤدى واما على الثاني فائضا لا معنى له لانه عليه بكون الظن كالعلم والعلم لا يكون وسطا في القياس فكذلك الظن نعم يمكن اخذه عنوانا مشيرا كما هو كذلك في القطع. وببيان اوضح ان مفاد التنزيل تارة يستفاد منه تتميم الكشف أو تنزيل المؤدى أو جعل الحجية فعلى الاول لا يصح جعله وسطا لاثبات متعلقه لان جعل الطريق عبارة عن اثبات العلم التعبدي للظن ولازم ذلك هو ان يكون وسطا للعلم التعبدي مثلا هذا مظنون الخمرية وكل مظنون الخمرية فهو خمر بالعلم التعبدى فهو وان كان لازمه ترتيب آثار الواقع إلا انه من لوازم الاثبات والتصديق بثبوت النسبة وهو اجنبي عن كونه وسطا لاثبات متعلقه واما على الاخيرين فهو وان صح جعله وسطا إلا انه ليس لحكم متعلقه وانما هو لحكم مماثل له وبالجملة على جميع التقادير لا يصح جعله أي الظن وسطا للقياس لاثبات حكم متعلقه إلّا بصورة قياس أشبه بالمغالطة فأفهم وتأمل.

١٦

اقسام القطع

المبحث الثاني في أقسام القطع فنقول ان القطع تارة يكون طريقا محضا واخرى موضوعا وعلى الثاني اما تمام الموضوع او جزئه وكل منهما اما ان يؤخذ بنحو الطريقية واخرى على نحو الصفتية فتكون الاقسام خمسة والظاهر انها بأجمعها ممكنة وفاقا للاستاذ (قدس‌سره) في الكفاية فانه بعد ما ذكر الاقسام الأربعة للقطع الموضوعى قال ما لفظه (وذلك لان القطع لما كان من الصفات الحقيقية ذات الاضافة ولذا كان العلم نورا لنفسه ونورا لغيره صح أن يؤخذ فيه بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة بالغاء جهة كشفه أو اعتبار خصوصية اخرى فيه معها كما صح ان يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه وحاك عنه فتكون اقسامه أربعة مضافا الى ما هو طريق محض عقلا غير مأخوذ فى الموضوع شرعا) إلّا ان الذى يظهر من بعض الاعاظم (قدس‌سره) امتناع ما كان تمام الموضوع وقد اخذ على نحو الطريقية بما حاصله انه يوجب الجمع بين لحاظين متباينين فى آن واحد اخذه على نحو تمام الموضوع يوجب ان يكون النظر اليه لا الى الواقع المعلوم واخذه على نحو الطريقية يوجب أن يكون النظر الى الواقع لا الى القطع وذلك يستلزم المحال للزوم الجمع بين لحاظين متباينين فى آن واحد وحينئذ لا بد من اخذه على نحو تمام الموضوع ان يكون القطع قد اخذ على نحو الصفتية بالغاء جهة كشفه (١)

__________________

(١) لا يخفى ان القطع الذى هو محل الكلام هو عبارة عن نفس الانكشاف

١٧

ولكن لا يخفى ان القطع فيه حيثيتان حيثية نورانية وهى صفة قائمة بالنفس

__________________

فتكون الكاشفية عين حقيقية القطع ولذا كانت طريقيته ذاتية غير قابلة لان تنالها يد الجعل الشرعي فملاحظة القطع بنفسه من دون لحاظ الكاشفية معناه قطع النظر عن حقيقته لان حقيقة الانكشاف مقولة لا يعقل تحققها الا متعلقه بشيء فدعوى ان القطع له حيثيتان حيثية لحاظه بنفسه الذى هو صفة قائمة بالنفس وحيثية كونه كاشفا للغير ويمكن لحاظ احدهما من دون لحاظ الآخر ففي غير محلها إذ ملاحظة كونه على نحو الصفتية من دون الكاشفية معناه عدم ملاحظة حقيقة القطع فيكون قد لوحظ القطع مع قطع النظر عن حقيقته وهو معنى غير معقول إذ يكون من قبيل حفظ الشيء مع قطع النظر عما به هو هو ، فالتحقيق عدم امكان ان يكون القطع قد اخذ على نحو تمام الموضوع مع اخذه على نحو الصفتية لما عرفت ان لحاظ الصفتية في القطع ينافى حقيقته الذى هو الانكشاف ولذا قيل ان العلم نور ونور للغير بمعنى ان حقيقته النور ونوريته عين ظهور الغير له لما هو معلوم ان حقيقة الانكشاف حقيقة تعلقية بمتعلقه والامثلة التى ذكرها الشيخ الانصارى لاخذ اليقين بنحو الصفتية كاخذ اليقين فى الركعتين الاوليتين واليقين في الشهادة وفي نذر التصدق إذا تيقن بحياة ولده فليس اليقين فيه على نحو لا كاشفية فيه مع ان اعتباره فى المثالين الاولين اعلى مراتب الكشف إذ كيف يلغى جهة الكاشفية مع ان اعتبار العلم بالمعلوم بالذات والمراد بالكاشفية مطابقة ذلك لما فى الخارج الذى هو المعلوم بالعرض اقول ان ذلك وان صح توجيه كلام المحقق الخراساني قدس‌سره في الكفاية من جعل الأقسام فى الموضوع اربعة بتقريب ان اخذ العلم باعتبار كشفه عن المعلوم بالذات هو معنى أخذه بنحو الصفتية واخذه باعتبار كشفه عن الواقع المعلوم بالعرض الموجب لدخل الواقع فى الحكم هو اخذه بنحو الطريقية إلّا انه لا تندفع شبهة تثليث الاقسام لعدم تصور أخذ القطع تمام

١٨

وحيثية منوره للغير وهى قائمة بالغير ، والحيثية الاولى مع كونها قائمة بالنفس متعلقة بالصور الحاكية ، عما فى الخارج ، وحينئذ اذ يمكن للشخص ان يكون للحاظه لتلك الصور الذهنية القائمة بالنفس ان يلاحظ جهة كشفها ولو بالنظر الثانوي خصوصا إذا كان الجاعل غير القاطع هو الملاحظ ولذا أمكن له تفكيك العلم عن متعلقه لأن يلحظ الصور الحاكية عما في الخارج ويجعلها موضوعا لحكم آخر إذا عرفت ذلك فاعلم انه قد وقع الكلام في هذا المبحث في مقامين ، المقام الأول فى القطع الطريقي المحض وهو ما إذا تعلق بموضوع خارجي ، او بحكم شرعي فهل القطع المتعلق بذلك الموضوع او الحكم هل هو حجة وغير قابل لمنع الشارع فيكون حجيته على نحو العلية او هو حجة لو لم يمنع منه مانع فيكون حجيته على نحو المقتضي بمعنى انه يكون حجة لو لا المنع كما اختاره بعض اصحابنا في قطع القطاع بل هو اختيار معظم الاخباريين فقالوا بعدم القطع الناشئ من غير الكتاب والسنة بتقريب حكم العقل بوجوب اتباع القطع كان بنحو التعليق بمعنى

__________________

الموضوع على نحو الطريقية لاستلزام ذلك الجمع بين امرين متناقضين لأن اخذه بنحو الانكشاف عما فى الخارج الذى هو معنى الطريقية هو ان لثبوت المنكشف دخلا فى الحكم وهذا ينافي اعتبار تمام الموضوع اذ لازمه ان لا يكون الواقع له الدخل وذلك يقتضى الجمع بين امرين متناقضين فحينئذ تكون الأقسام ثلاثة تمام الموضوع على نحو الصفتية وجزء الموضوع على نحو الصفتية وعلى نحو الطريقية باضافة الطريقي المحض تكون الأقسام أربعة. إلّا ان ذلك مخالف للمعنى الحقيقى للعلم فان مطابقة ما في الخارج خارج عن حقيقة العلم إذ يمكن أن يكون علم ولا معلوم في الخارج وبالجملة مطابقة ما فى الخارج خارج عن حقيقة العلم فكيف يعد من أقسامه فافهم وتأمل.

١٩

انه حجة لو لم يمنع مانع ، فمع تحققه يكون مانعا من اتباعه وحينئذ يكون حاله حال الظن الانسدادي ، بناء على الحكومة ، إذ العقل حاكم وانه ان لم يرد نهي من الشارع فمع ورود النهي عنه كالظن القياسي لا يحكم العقل باتباعه وعلى ذلك يحمل من جوز ارتكاب جميع اطراف العلم الاجمالي والاشكال عليه بلزوم المناقضة والمضادة مع ورود الردع فى غير محله إذ ذلك لا يتنافى وكون حكم العقل بذلك تعليقا ، ولكن لا يخفى ان كون الحكم تعليقيا محل نظر بل منع فلذا الحق هو القول الأول وفاقا للاستاذ فى الكفاية. تبعا لشيخنا الانصاري قدس‌سرهما لما عرفت منا سابقا بان حكم العقل بوجوب اتباع القطع انما هو حكم تنجيزي غير معلق على عدم الردع فعليه متى حصل القطع يتبعه وجوب الموافقة بنحو العلية غير قابل للردع من غير فرق بين حصوله من المقدمات السمعية كالكتاب والسنة او من غيرها كالرمل والجفر ، كما انه لا يفرق فى تنجيزية حكم العقل بين كون القاطع قطاعا أو غيره ، نعم يمكن دعوى عدم اعتبار القطع الحاصل من تقصير المكلف في المقدمات التي حصل القطع منها فانه يمكن دعوى عدم معذوريته بقطعه لتقصيره فى المقدمات ، ويؤيد ذلك الاخبار الواردة من منع الخوض فى المقدمات العقلية ، فقد ورد (ان دين الله لا يصاب بالعقول ، وان السنة إذا قيست محق الدين) ، المستفاد منها النهي عن العمل بالاحكام الفرعية المستنبطة من تلك المباني العقلية كالاقيسة ونحوها ، كما انه يمكن حمل كلام من اعتبر ان لا يكون القاطع قطاعا على ما كان قطعه مستفادا من غير المتعارف مما لا يكون سببه عاديا ، كما انه يمكن حمل كلام الاخباريين على ذلك وبعض الاعاظم قدس‌سره حمل كلامهم على ما اخذ القطع موضوعا لمتعلقه فيما إذا كان حكما شرعيا بنحو نتيجة التقييد بتقريب ان

٢٠