منهاج الأصول - ج ٤

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ٤

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦٥

١

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين محمد خاتم النبيين وآله الطيبين الطاهرين ولعنة الله على اعدائهم اجمعين.

المقصد الثالث فى الشك

قد عرفت في اول مبحث القطع ان الشك مما يمتنع اعتباره وان القطع مما يجب اعتباره عقلا وان الظن مما يشك في اعتباره وبذلك صح تثليث الاقسام بنحو لا يرد عليه اشكال التداخل كما ان البحث عن ذلك بحث عن المسائل الأصولية إذ قد عرفت في الجزء الاول من مباحث الالفاظ ان المسائل الاصولية تنقسم الى ثلاثة أقسام ، مداليل الالفاظ بنحو يكون للفظ دخل كمباحث الأوامر والنواهي والعموم والخصوص والمطلق والمقيد ونحو ذلك ، ويعبر بمباحث الالفاظ ومداليل من دون دخل للفظ فيها بالخصوص كمباحث اجتماع الامر والنهي ومقدمة الواجب ويعبر عنها بالمباحث العقلية إلا انها غير مستقلة والقوم ذكروا تلك المباحث في مباحث الالفاظ لكونها مما يحكم العقل بتوسط الحكم الشرعي المستفاد غالبا من الالفاظ ودليلية الدليل وتسمى بمباحث الحج

٢

وهي تارة تثبت حكما واقعيا لموضوع واقعي مع قطع النظر عن لحاظ جهة الجهل والشك ويسمى الدليل الدال عليه بالدليل الاجتهادي كمباحث الطرق والامارات واخرى تثبت حكما ظاهريا ويسمى الدليل الدال عليه بالدليل الفقاهتي (١) وقد تقدم الكلام مفصلا لجميع الاقسام ما عدا القسم الآخر الذي هو محل البحث وهو ثبوت الاحكام الظاهرية لعنوان الشك بالحكم الواقعي وتسمى تلك الاحكام الظاهرية التي موضوعها الشك بالاصول العملية ومجاريها منحصرة

__________________

(١) قال الشيخ الانصاري قدس‌سره في فرائده (وهذان القيدان اصطلاحان من الوحيد البهبهاني لمناسبة مذكورة في تعريف الفقه والاجتهاد) والظاهر ان تلك المناسبة هي ان الحكم في تعريف الاجتهاد الذي هو استفراغ الوسع لتحصيل الظن بالحكم الفرعي هو الحكم الواقعي وإلا لم يكن وجه لاخذ الظن في التعريف ولذا يقيد الدليل الدال على الحكم الواقعي بالاجتهادي ، واما التقييد بالفقاهتي ، فالظاهر من الحكم المذكور في تعريف الفقه الذي هو العلم بالاحكام الشرعية عن ادلتها التفصيلية هو الحكم الظاهري إذ الأحكام الواقعية لا يتعلق بها العلم غالبا ولأجل ذلك فيد الدليل الدال علي الحكم الظاهري بالفقهاهتي ولكن لا يخفى ان ذلك مبنى على ان المراد من العلم في تعريف الفقه هو خصوص القطع ولازم ذلك كون المراد من الأحكام الظاهرية ، واما لو عممنا العلم لما يشمل الظن أي الطرف الراجح فالاحكام في التعريف تعم الاحكام الواقعية فلا حاجة للتقييد بالفقاهتي كما ان التقييد بالاجتهادي مبني على تعريف الاجتهاد بما ذكر واما لو عرفناه بملكه يقتدر على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الاصل فعلا أو قوة قريبة لشمل الاحكام الظاهري فلا يبقى مناسبة للتقييد بالاجتهادي كما لا يخفى.

٣

في اربعة (١) لان الشك اما في أصل التكليف او في المكلف به ، وعلى الاول اما

__________________

(١) وربما يشكل على حصرها باربعة بان هناك اصولا كثيرة كاصالة العدم وعدم الدليل دليل العدم واصالة الحلية واصالة الطهارة ، ولكن لا يخفى ان الاول يرجع الى الاستصحاب ، والثاني الى الامارات ، والثالث الى البراءة واما الرابع فقد عرفت منا سابقا بامكان ارجاعها الى البراءة بحسب الآثار لو قلنا بانها احكام وضعية منتزعة من الاحكام التكليفية أو قلنا بان النجاسة عين الحكم التكليفي وهو وجوب الاجتناب ، ولكن لا يخفى انه يمكن منع ذلك حيث انها تجري لاحراز الشرط وموضوع التكليف وليس ذلك شأن اصل البراءة وقد اعتذر المحقق الخراسانى (قده) في كفايته بعدم اطرادها في جميع الابواب واختصاص القاعدة في خصوص باب الطهارة ، ولكن لا يخفى ان ذلك لا يوجب عدم عدها مع تحقق ملاك المسألة الاصولية فيها الذي هو ان تكون نتيجتها واقعة في طريق الاستنباط وليس الملاك في المسألة الاصولية الاطراد في جميع الابواب كما هو كذلك بالنسبة الى دلالة النهي في العبادة على الفساد فانها كما ترى انها من مسائل الاصول مع عدم اطرادها في جميع الابواب كما ان الاعتذار عن النقض بها بان النجاسة والطهارة من الامور الواقعية فيكون الشك فيها من الشبهة في الموضوع ولا اشكال في خروج القواعد الجارية في احراز حكم الشبهة في الموضوع عن المسائل الاصولية لعدم وقوع النتيجة في طريق استنباط الحكم الكلي الذي هو ملاك المسألة الاصولية ، ولكن لا يخفى انا نمنع كون النجاسة والطهارة من الامور الواقعية التي كشف عنها الشارع بل أنهما حكمان مجعولان على انا لو سلمنا ذلك فليس ذلك من الشبهات الموضوعية التي مرجعها العرف ، وانما بيانه ذلك يرجع الى الشارع وكلما يكون بيانه من وظائف الشارع يكون من الشبهة في الحكم كالشك في طهارة العصير ونجاسته كما ان الاعتذار بعدم النقض

٤

ان يلحظ الحالة السابقة فهو مورد الاستصحاب وإلا فهو مجرى البراءة وعلى الثانى اما ان يمكن الاحتياط فهو مورد الاشتغال وإلا فهو مورد التخيير ودعوى لزوم التداخل لجريان البراءة في مورد التخيير ممنوعة إذ الحكم بالتخيير بمناط عدم القدرة الموجب لسقوط العلم الاجمالي بمرتبة سابقة وذلك لا يبقى معه مجال لجريان البراءة بمناط عدم البيان إذ جريانها يكون بمرتبة لاحقة على انا ذكرنا سابقا ان العلم بجنس التكليف وان سقطت بيانية من جهة كونه غير قادر على الاحتياط إلا انه لم يسقط بيانيته من جهة كونه علما فلم يتحقق حينئذ موضوع البراءة الذي هو عدم البيان.

وكيف كان فهذه الاصول العملية هي وظائف شرعية جعلت في ظرف الجهل بالواقع كالامارات فانها جعلت في ظرف عدم العلم بالواقع إلا انهما يختلفان من حيث الموضوع فان الامارة لم يكن موضوعها الشك بخلاف الاصل فانه وظيفة شرعية أخذ في موضوعه الشك.

بيان ذلك ان مفاد الاصل إنما هو حكم في ظرف الشك وليس له نظر الى الواقع والامارة مفادها الحكاية عن الواقع والكشف عنه ، فلسان الامارة غير لسان الأصل ولا يتعارضان لو اجتمعا موردا إذ مرتبة الامارة غير مرتبة الاصل ولا بد في التعارض من اتحاد المرتبة. وبالجملة ان كون كل منهما في مرتبة اجنبي عن مرتبة الآخر وبينهما تقدم وتأخر فان مفاد الاصل جعل الحكم في

__________________

بها للاتفاق على جريانها من دون خلاف ممنوع إذ ذلك لا يوجب عدم ذكرها في الاصول العملية فظهر مما ذكرنا ان اشكال النقض باصالة الطهارة لا مدفع له إلا انه بالنسبة الى جريانه في الشبهات الحكمية ، واما اصالة الطهارة الجارية في الشبهات الموضوعية فلا مجال للنقض بها إذ هي كسائر الاصول كاصالة الصحة ونحوها من القواعد الفقهية وليست من المسائل الاصولية فافهم وتأمل.

٥

مرتبة الشك في الحكم الواقعي والامارة مفادها نفس الحكم الواقعي فدائما مفاد الاصل متأخر عن الامارة بل يكونان من قبيل الحكم الظاهري والواقعي (١)

__________________

(١) وفاقا للشيخ الانصاري (قده) في مبحث التعادل والتراجيح من ان وجه التنافي بين الامارة والاصل هو الوجه في التنافي بين الحكم الظاهري والواقعي والجمع بين الامارة والاصل هو الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي خلافا للاستاذ المحقق النائيني (قده) فانه قال ان جهة التنافي بين الحكمين غير جهة التنافي بين الامارة والاصل كما ان وجه التنافي بين الحكمين غير وجه رفع التنافي بين الامارة والاصل بتقريب ان جهة التنافي بين الحكمين هو لزوم احد المحاذير وهو اما اجتماع المصلحة والمفسدة او الارادة والكراهة او الوجوب والحرمة مع انه لا يلزم أحد هذه المحاذير من الجمع بين الامارة والاصل حيث ان الامارة ليس المجعول فيها إلا الوسطية في الاثبات وهي ليست حكما مجعولا لكي تحصل المضادة في الوظيفة المقررة للشك المستفادة من الاصل. نعم جهة التنافي بين الامارة والاصل شيء آخر هو أن مفاد الامارة هو الوسطية في الاثبات واحراز الواقع وذلك ينافي اعمال وظيفة الشاك المستفادة من الاصل واما وجه رفع التنافي بين الحكمين إنما هو باختلاف المرتبة وهو غير وجه رفع التنافي بين الامارة والاصل وهو حكومة الامارة على الاصل. وحاصله ان الاصل لما أخذ في موضوعه الشك وبقيام الامارة يرتفع الشك رفعا تعبديا لا رفعا تكوينيا لكي يقال بالورود إذ الامارة لا توجب رفع الشك حقيقة بل رفعا تعبديا.

بيان ذلك يحتاج الى بيان الفرق بين الحكومة والورود والتخصص والتخصيص فنقول : ان التخصص عبارة عن حكم العقل بخروج الموضوع خروجا تكوينيا كقولنا اكرم العلماء فخروج الجاهل من تحت عموم اكرم العلماء خروجا

٦

وقد عرفت من المباحث السابقة من انه لا تعارض بينهما لاختلافهما بحسب المرتبة.

__________________

تكوينيا ويقابله للتخصيص كقولنا اكرم العلماء ثم ورد دليل آخر لا تكرم العالم الفاسق فسلب الحكم عن الفاسق مع انطباق العام عليه لدليل شرعي فيكون خروجه عن الحكم خروجا شرعيا وليس خارجا عن موضوع الحكم بل مع انطباق موضوع الحكم عليه قد سلب عنه الحكم. واما الحكومة والورود فامران متوسطان فانهما يشتركان في ان ارتفاع الحكم كان بالتعبد إلا انه تارة يكون بنفس التعبد يرتفع الموضوع واخرى بعد احراز التعبد بالمؤدى يرتفع الموضوع اما الاول هو الورود كورود الامارات على الاصول العقلية كالبراءة العقلية التي موضوعها قبح العقاب بلا بيان.

فان مجرد البيان ولو كان بيانا تعبديا يرتفع به موضوع حكم العقل الذى هو عدم البيان رفعا تكوينيا وكالاحتياط فانه يجب الاخذ به حيث لا مؤمن ومع مجيء المؤمن ايضا يرتفع موضوعه وكمثل حكم العقل بالتخيير بين المحذورين فانه بمجىء امارة على احد الاطراف يرتفع موضوع حكم العقل.

وبالجملة هذه الاصول الثلاثة بمجرد مجيء البيان التعبدي يرتفع موضوعها حقيقة فيسمى مثل ذلك بالورود فانه وان كان شريكا مع التخصيص من جهة كون كل منهما متعرضا لرفع الموضوع حقيقة ولكن في التخصيص الحاكم به العقل وفي الورود الحاكم بالرفع هو التعبد الشرعي ، فمن جهة يشتركان ، ومن جهة يفترقان واما الحكومة والورود ايضا لهما جهة اشتراك وجهة امتياز. اما جهة الاشتراك فهو ان كلا منهما متعرض لرفع موضوع الآخر بالتعبد الشرعي ، واما جهة الامتياز هو ان الورود يتحقق بمجرد صدور البيان. والحكومة لا يحصل بمجرد صدور البيان بل بعد التعبد بالمؤدى مثلا لو كان مال تحت تصرف زيد وكان قبلا ملكا لعمرو بمقتضى استصحاب ملكية عمرو كونه له ولكن تعارضه يد زيد

٧

ومما ذكرنا من عدم التعارض بين مفاد الامارة ومفاد الاصل يتضح لك

__________________

فكل واحد منهما له دليل تعبدي إلا ان التعبد بمؤدى اليد يكون رافعا لموضوع الاستصحاب وهكذا استصحاب السببي والمسببي ولذا استشكل شيخنا الانصاري (قده) في تقديم استصحاب السببي على المسببي حيث ان كل واحد منهما دليل تعبدي دل عليهما دليل واحد ، وقد أجاب عن ذلك على ما سيأتي في مبحث الاستصحاب وبالجملة بالنسبة الى الحكومة ليس بمجرد صدور التعبد يكون رافعا لموضوع الآخر ، بل التعبد بالمؤدى شرعا ولذا يرى الرائي بينهما المعارضة وبالتأمل ولحاظ التعبد بالمؤدى يوجب الحكم بالتقديم.

واما امتياز الحكومة عن التخصيص فنقول انك قد عرفت ان التخصيص عبارة عن سلب الحكم عن بعض افراد الموضوع من دون تصرف في الموضوع أو الحكم والحكومة عبارة عن تصرف في الموضوع او المحمول بمدلوله اللفظي وبعبارة اخرى ان ملاحظة العام والخاص إنما هو على نحو التعارض والتنافي ، والعقل لما رأى التعارض بينهما فلا بد له من التصرف في احدهما والخاص لما كان اقوى فيقدم على العام ويجعل حكم العام منصرفا عن الفرد المخصص وهذا التصرف عقلي فلو فرضنا كون هذا التصرف مدلولا لفظيا لكان مفاده هو الحكومة فهي عبارة عن التصرف في ناحية الموضوع أو في ناحية المحمول بمدلوله اللفظي. اما التصرف الذي هو في ناحية المحمول فليس له نظير سوى قاعدة لا ضرر فان لا ضرر من العناوين الثانوية والمراد هو ان الحكم الضررى لم يجعل في الشريعة ومن هنا تعلم ان تقديم لا ضرار على ادلة الاحكام من باب الحكومة لا من باب التخصيص وان كانت بحسب النتيجة الحكومة مع التخصيص يتحدان ، واما التصرف في عقد الوضع فله امثلة في الفقه كثيرة مثل لا شك لكثير الشك ولا سهو للامام مع حفظ المأموم ولا شك في النافلة ونحو ذلك ، ثم لا يخفى ان

٨

ايضا انه لا تعارض بين دليل اعتبار الامارة ودليل اعتبار الاصل من

__________________

الحكومة تارة تكون واقعية واخرى ظاهرية ، اما الواقعية فسيجيء ان شاء الله تعالى في كتاب التعادل والتراجيح. واما الحكومة الظاهرية فكمثل حكومة الامارات على الاصول وكحكومة بعضها على بعض كالبينة مع اليد فان البينة تقدم على اليد.

بيان ذلك ان الحاكم اما ان يرفع موضوع المحكوم عليه او يرفع قيده اما حكومة الامارات على الاصول فباعتبار انه رافع لموضوعه لاخذ الشك الذي هو التحير موضوعا في الأصل والامارة لم تؤخذ في موضوعها الشك وقد جعلت الامارة محرزة للواقع فبقيام الامارة يرتفع الشك الذي هو التحير فلا يبقى مجال لجريان الاصل لارتفاع موضوعه إلا انه رفعا تعبديا وشرعيا إذ الجهل لم يرتفع لفرض ان الامارة جعلت في ظرف الجهل ، ولكن لم يؤخذ في موضوعها ، واما حكومة بعض الامارات على البعض كالبينة على اليد باعتبار ان الحاكم يرفع قيد الموضوع فان اليد قد أخذ في موضوعها عدم العلم بالملكية فمع تحقق اليد وعدم العلم بالملكية تكون اليد امارة الملكية فمع قيام البينة تحرز الملكية احرازا تعبديا فترتفع قيدية موضوع اليد فلذا يكون قيام البينة حاكما على اليد واما حكومة الاصل السببي على المسببي ، فكالاول حيث ان الاصل السببي يحرز موضوع الاصل المسببي فلا يبقى له شك لكى يجري وليس كل اصل سببي ينبغي تقديمه على المسببي بل إنما يقتضي التقديم فيما احرز موضوع المسببي لا فيما إذا لم يكن محرزا كمثل ما لو شك في كونه مأكول اللحم ام لا ، فان جريان اصالة الحل الجاري في الشك السببي لا يوجب عدم جريان الاصل في المسببي اعني جواز الدخول في الصلاة لانها ليست محرزة لموضوع الشك المسببي وسيأتي له مزيد توضيح في الاستصحاب فافهم وتأمل.

٩

الاختلاف بينهما بحسب الرتبة فان مفاد دليل اعتبار الامارة ، وان كان حكما ظاهريا وهو جعل المماثل الناشئ من الامر بتصديق خبر العادل إلا انه بالنسبة الى مفاد الاصل الذي هو ايضا حكم ظاهري نسبة الحكم الواقعي الى الظاهرى وبعبارة اخرى ان مؤدى الدليل هو حكم ظاهري اولي ومؤدى دليل الاصل حكم ظاهري ثانوى.

بيان ذلك ان ما يخبر به المخبر بالحكم الواقعي موضوع لوجوب تصدق العادل اي صدّق العادل بما يخبر عنه وهو حكم ظاهري لأن هذا الحكم في ظرف الشك ولكن هذا الحكم مقدم رتبة على الحكم الشرعي المستفاد من ضرب قاعدة الحلية عند الشك في الحرمة فاذا حصل الاختلاف بحسب الرتبة لا تعارض بينهما كما لا يخفى.

واما دليل الاعتبار ونفس دليل مفاد الاصل فهما بحسب المرتبة متحدان ولكن مع ذلك لا معارضة بينهما لان دليل الامارة لسانه تنزيل الامارة منزلة العلم والمعاملة معها معاملة العلم فتندرج الامارة تحت غاية الاصل ولذا تقدم علي الاصل ، والحاصل انه بناء على تنزيل الامارة منزلة العلم بنحو يكون من باب تتميم الكشف فتكون الامارة حاكمة على الاصل نعم تحصل المعارضة لو قلنا بان مفاد دليل الامارة تنزيل المؤدى منزلة الواقع اذ عليه لا يكون دليل الامارة رافعا للشك بل يكون لسانه جعل حكم في ظرف الشك كما هو مفاد الاصل فتحصل بينهما المعارضة ولكن لا يخفى مع انه على خلاف المختار ايضا يمكن منع التعارض بين مفاد الامارة والاصل بتقريب ان دليل اعتبارها يشمل جميع الموارد حتى موارد الأصل غاية الامر بالنسبة الى موارد الأصل تقع المزاحمة لما عرفت من اتحادهما بحسب المرتبة بناء على غير المختار إلا ان سيرة العقلاء قد انعقدت على الأخذ بظاهر عموم الخطاب إلى ان يعلم وجود المزاحم ، وحينئذ يشك في مزاحمة

١٠

الاصل لعموم اعتبار الامارة فاصالة العموم في ظرف دليل الامارة يؤخذ بها في مقام الشك في المزاحمة لا يقال مرجع الأخذ بظاهر الخطاب الى أن يعلم وجود المزاحم الى قاعدة الاخذ بالمقتضي الى أن يعلم المانع إذ الخطاب مقتض والمانع هو المزاحم وهذه القاعدة لا اعتبار بها لعدم قيام السيرة على الأخذ بها كما صرحوا بذلك في محله لانا نقول المقام ليس من صغريات تلك القاعدة إذ هي جارية في مقتضيات المصالح والمفاسد التي هي الملاكات للخطابات والكلام في المقام في نفس الخطابات التي يحتمل عدم تعلقها بالمخاطب لوجود المزاحم.

وبالجملة القاعدة في ملاك الخطابات لا في نفس الخطاب كما في المقام فليس المقام من موارد القاعدة فعدم انعقاد السيرة على العمل بتلك القاعدة لا يوجب عدم انعقاد السيرة على الأخذ بعموم الخطاب الى ان يعلم المزاحم ، لما عرفت من الفرق بينهما. نعم يمكن الاشكال عليه من جهة اخرى بان يقال ان ما ذكر من انعقاد السيرة على الأخذ بظاهر خطاب صدق العادل وترك المزاحم الذي هو الاصل جار بعينه بالنسبة لعموم خطاب دليل الأصل إذ هو أيضا خطاب عام يشمل جميع الموارد حتى الموارد المزاحمة للامارة ، وبما انه خطاب عام السيرة ايضا تنعقد على الاخذ بها ما لم يعلم المزاحم وهو الامارة ، فاي وجه لترجيح احد الخطابين على الآخر مع انهما في مرتبة واحدة من دون تقدم أحدهما على الآخر ، ولكن الانصاف ان الدليلين ولو كانا في مرتبة واحدة إلا انه يقدم دليل الامارة على دليل الأصل لحكومة لسان اعتبار الامارة على الاصل لما عرفت منا سابقا ان موضوع الأصل هو الشك في الحكم الواقعي وموضوع دليل الامارة هو نفس الواقع فاذا اجريت الامارة ارتفع موضوع الاصل فلا يجري الاصل لارتفاع موضوعه بخلاف ما لو اجري الاصل لا يرتفع موضوع الامارة الذي هو الجهل بالواقع بل يرتفع حكمه وبعبارة اخرى ان المورد الذي هو صالح لكلا الدليلين

١١

يدور الامر في الأخذ باحدهما بين التخصيص والتخصص فانا لو اجرينا دليل اعتبار الامارة لا يبقى موضوع للاصل وهو التخصص الذي هو بعينه الحكومة واذا اجرينا دليل الاصل لا يرتفع موضوع الامارة بل يرتفع الحكم المتضمن له الامارة وهو التخصيص الذي هو بلا مخصص وبلا اشكال ان الاول هو المقدم فيؤخذ بدليل اعتبار الامارة لحكومته على الاصل ، ومن هنا اتضح لك وجه انعقاد السيرة على الأخذ بخطاب دليل اعتبار الامارة وطرح خطاب الاصل وحاصل الكلام ان دليل الامارة حاكم على دليل الاصل ، اما بناء على المختار فواضح واما بناء على غير المختار فقد عرفت انه حاكم عليه إلا انه ليس بذاك النحو من الحكومة إذ الحكومة ليست على نحو واحد فان الحكومة على المختار في جعل الطرق والامارات من انها لتنزيل الامارة منزلة العلم انها تكون رافعة للشك الذي أخذ موضوعا لدليل الاصل فتكون الحكومة بمعنى رافع لموضوع المحكوم عليه بخلاف الحكومة على غير المختار الذي هو بمعنى تنزيل مؤدى الامارة منزلة الواقع فلم تكن رافعة لموضوع الاصل بل كلاهما جعلا في مورد الشك والجهل بالواقع وحينئذ تكون الحكومة على هذا المبنى هو أن دليل الحاكم ناظر الى دليل المحكوم بان يوجب تطبيق الحكم او توسعته ودليل الامارة بناء على تنزيل المؤدى منزلة الواقع يجعل واقعا تنزيليا فحينئذ تضيق دائرة حكم الاصل ، ولا تجعل له سعة فلذا يقدم دليل الامارة على الاصل للحكومة ومعناها هو ان دليل الحاكم له نظر الى دليل المحكوم فتارة يكون نظره الى الموضوع فيرفعه واخرى نظره الى الحكم فيضيق دائرته ونظير الثاني ما ذكرنا من حكومة دليل اعتبار حجية خبر الواحد على اعتبار التعبد بخبر السيد فان التعبد بدليل اعتبار حجية الاخبار لا يرفع الشك في الحجية ولكن رافع لخبر السيد حكما نعم لو اغمضنا النظر عما ذكر فيمكن دعوى المعارضة بين دليل الامارة والاصل

١٢

في مقام الاجتماع إلا انه لنا منع تلك المعارضة بتقديم دليل الامارة إذ لو لم يقدم يلزم لغوية جعل الامارة إذ ما من مورد من مواردها إلا وفيه أصل من الاصول الثلاثة ، وبالجملة تقديم ادلة الامارة لا يستلزم لغوية جعل الاصول لبقاء موارد كثيرة لها وهي فيما لم تقم امارة بخلاف ما لو قدمنا ادلة الاصول فانه مع ملاحظة الاجماع على عدم القول بالفصل في جريان الاصول يلزم لغوية جعل الامارة لعدم وجود مورد منها لم يكن فيه أصل من الاصول الثلاثة وكيف كان فادلة الامارة مقدمة على الاصول اما بمناط الحكومة أو بمحذور اللغوية لا بمناط الورود كما توهم بدعوى ان الغاية في دليل الحلية هو معرفة الحكم الواقعي والظاهري وبالامارة يحصل العلم اليقيني بالحكم الظاهري وذلك يكون رافعا لموضوع الاصل رفعا تكوينيا وجدانيا ولكن لا يخفى ان ذلك خلاف ظاهر الدليل إذ المراد من الحكم الواقعي لا ما يعم الحكم الظاهرى لان المأخوذ غاية هو معرفة ما تعلق به الشك ومن الواضح ان الشك إنما يتعلق بالحكم الواقعي.

ومما ذكرنا يظهر وجه تقديم الاصول التنزيلية كالاستصحاب على غيرها مثل البراءة الشرعية ونحوها فان تقديمها على نحو الحكومة لاقتضائها ثبوت الحكم الواقعي في مواردها وذلك يوجب خروجها عن موضوع ما عداها من الاصول غير التنزيلية هذا مما لا اشكال فيه ، وإنما الاشكال في تقديم الاصول التنزيلية على مثل قاعدة الطهارة والحلية بناء على ان كل واحد منهما يثبت الطهارة او الحلية واقعا للمشكوك ولذا تترتب آثارهما من جواز الدخول في الصلاة إلا ان الكلام في كون اصالة الطهارة والحلية من قبيل الاصول المحرزة.

وكيف كان فالاستصحاب لما كان من الاصول المحرزة للواقع يكون مقدما علي سائر الاصول الشرعية غير المحرزة ، وبما انه لا يرفع الشك بل يحكم ببقاء اليقين السابق مع تحقق احتمال الخلاف تقدم عليه الامارات فهو برزخ بين

١٣

الامارة والاصل فله جهة امارية وهو ابقاء يقين السابق فبهذا الاعتبار يقدم على الأصل ويقوم مقام القطع الطريقي وجهة يشبه الأصل وهو حكم في ظرف الشك فتقدم عليه الامارات هذا بالنسبة الى الاصول الشرعية ، واما بالنسبة الى الاصول العقلية فالامارة تقدم عليها بنحو الورود لا الحكومة حيث ان المأخوذ في موضوع قبح العقاب عدم البيان والامارة توجد بيانا تعبديا فترفع موضوع حكم العقل حقيقة ، وبالجملة بالتعبد بالامارة يتم البيان فلا يبقى مجال لحكم العقل بالقبح.

إذا عرفت ذلك فيقع الكلام فى الاصول العملية وهي اربعة البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ولا يرجع احدها الى الآخر كما توهم برجوع البراءة الى الاستصحاب فان اصل البراءة اصل برأسه لا ربط له بالاستصحاب كما هو واضح كما انه غير مرتبط بقاعدة عدم الدليل دليل العدم إذ البراءة تنفي الحكم الفعلي ظاهرا ولا تنفيه واقعا كما هو شأن تلك القاعدة كما لا يخفى.

اصل البراءة وفيه مباحث

المبحث الاول في الشبهة التحريمية الحكمية فتارة يكون منشأها فقدان النص ، واخرى اجماله ، وثالثة تعارض النصين ، ورابعة اشتباه الموضوع الخارجي فيقع البحث في مسائل :

المسألة الاولى ـ ما لو شك في حرمة شيء مع العلم بعدم وجوبه لاجل

١٤

فقدان النص (١) فالاقوى جريان البراءة وفاقا لقاطبة الاصوليين وخلافا لقاطبة

__________________

(١) وقد جعلنا العنوان هكذا وفاقا للشيخ في فرائده حيث قسم الشك في التكليف الى اقسام ثمانية لكونه اما أن يكون الشك في الحرمة او الوجوب وكل منهما اما ان يكون ناشئا من اجمال النص او فقده او تعارض النصين او ناشئا من الامور الخارجية وهي الشبهة الموضوعية وسببه هو وقوع الخلاف في قسم منها دون الاخرى كما انه وقع الخلاف في الشبهة الحكمية التحريمية دون غيرها خلافا للمحقق الخراسانى قدس‌سره في كفايته حيث جمع الاقسام وعقد لها بابا واحدا وهو ما لو شك في الحرمة او الوجوب وكل منهما يكون ناشئا من فقد النص او اجماله او تعارض النصين لشمول ادلة القائلين بالبراءة للجميع واختلاف منشأ الشك او موضوعه لا يوجب تكثّر الاقسام مع الاتحاد في مناط البحث ، وبالجملة جعل (قده) محط البحث مطلق الشاك في المتن واما في الحاشية اخرج مسألة تعارض النصين من موارد الاصول العملية المقررة للشاك على التحقيق فيه من التخيير او الترجيح ، ولكن لا يخفى ان ما ذكره في المتن هو الاولي إذ الملاك في كونه من البراءة نفس الشك في التكليف من دون فرق بين ان يكون منشؤه فقد النص او اجماله أو تعارض النصين فان مقتضى القاعدة في تعارض النصين التساقط فيرجع الى الاصول العملية. نعم يخرج من ذلك خصوص الخبرين فقد دل الدليل على ان التعارض في خصوص الخبرين يرجع فيه الى المرجحات أو التخيير وما عدى ذلك الحكم فيه بالتساقط اذ التعارض بين النصين لا يختص بالخبر بل قد يكون بين ظاهر الكتاب وغيره وقد يعارض الاجماع المنقول بغيره الى غير ذلك من الامور الخارجة عن النص فان المرجع فيها هي الاصول العملية بعد التساقط فلا تغفل.

١٥

الاخباريين وقبل الخوض في أدلة الطرفين لا بد من تنقيح محل النزاع.

فنقول لا اشكال في استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان حتى عند الاخباريين كما انه لا اشكال في استقلال العقل بوجوب رفع الضرر المحتمل حتى عند الاصوليين فهاتان الكبريتان مسلمتان عند الاصولي والاخباري وانما النزاع بينهما في الصغرى وهي مورد الشبهة وانها مندرجة تحت الكبريين فهم الاصولي ادراجها تحت قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، وهم الاخباري ادراجها تحت قاعدة دفع الضرر المحتمل وبعبارة اخرى ان النزاع في الصغرى وهو ان اخبار الاحتياط هل هي بيان ام لا؟ فالاخباريون يدعون انها بيان ، والاصوليون يدعون انها ليست بيانا وليس النزاع في احدى الكبريين.

فظهر مما ذكرنا ان المستدل من الاصوليين على البراءة بقبح العقاب بلا بيان في غير محله إذ ليست هذه القاعدة محل انكار عند الاخباريين بل هي مسلمة ولكن يدعى انتفاء موضوع هذه القاعدة باخبار الاحتياط كما ان المستدل من الاخباريين على الاحتياط بقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ايضا في غير محله إذ الاصوليون لا ينكرون هذه القاعدة بل يدعون وجود المؤمن.

ومن هنا يظهر لك بطلان ما استدل به كل من الطرفين على مدعاه وبدليل العقل الذي هو احدى الكبريين كما ان هذه المسألة لما كانت معركة الآراء قديما فلا مجال للاستدلال لكل من الطرفين بالاجماع ولو قلنا بحجيته من باب الحدس مع انا نجدهم اعتمدوا على ظواهر الآيات والروايات فاذن العمدة في مقام الاستدلال للبراءة في الشبهة الحكمية التحريمية مع فقد النص

(منهاج الاصول ـ ٢)

١٦

بالآيات والروايات (١) فنقول فقد استدل الاصوليون بالآيات منها قوله تعالى :

__________________

(١) ذكرنا في حاشيتنا على الكفاية انه قبل بيان الاستدلال بهذه المسألة ينبغي تقديم مقدمتين الاولى ان الوظيفة تارة تكون وظيفة الربوبية واخرى تكون وظيفة العبودية أما وظيفة الربوبية وهي أن يرسل الرسل ويبين الاحكام ويوحيها الى نبيه فلو لم تحصل هذه الوظيفة المستلزمة لعدم امتثال العبد لم يكن خلل في طاعة العبد ووظيفته ، واما وظيفة العبودية هو ان يتفحص العبد عن الأحكام المجعولة له بطرقها فلو لم يتفحص العبد يكون قد أخل بوظيفته ولا يكون اخلالا بوظيفة الربوبية حيث انه حسب الفرض قد أرسل الرسل وقد اوصل الاحكام بطرقها ولو تفحص حتى حصل اليأس فقد أدى وظيفة العبودية وحينئذ يقع الكلام انه يجري في حقه البراءة أو الاحتياط فلذا يجب على من يجري البراءة أولا النظر في الاخبار الواصلة الينا كالتفحص في أخبار الكتب الاربعة وغيرها مما بايدينا فحينئذ تجري البراءة فلو فرض مع ذلك تحقق الحكم وقعا لم يترتب على مخالفته عقوبة لوجود ما يوجب المعذورية.

ان قلت سيأتي ان شاء الله تعالى ان من الفحص ما لو تفحص ولم يعثر على بيان لا يعاقب مع انهم يذكرون انه يعاقب قلت العقوبة ليست من جهة عدم الفحص بل من حيث انه قبل الفحص يجب عليه الاحتياط بحكم العقل ومع ترك الاحتياط يعاقب وسيأتي له تنقيح في آخر البراءة ان شاء الله تعالى.

المقدمة الثانية انه يوجد عند القوم عنوانان أحدهما هل الأصل في الأشياء الاباحة أو الحظر ثانيهما لو شك في الحرمة هل تجري البراءة أو الاحتياط وهل مرجع هذين العنوانين الى شيء واحد أو كل عنوان اجنبي عن الآخر بادئ النظر انهما عنوان واحد ويرجعان لامر واحد ولكن عند التحقيق والنظر الدقيق

١٧

(لا يكلف الله نفسا إلا ما آتيها) وتقريب الاستدلال هو انه لا تكليف في مورد

__________________

انهما شيئان احدهما اجنبي عن الآخر بحسب المورد والاستدلال اما بحسب المورد فهو ان هذه المسألة اعنى البراءة او الاحتياط اعم من تلك المسألة لان كون الأصل في الاشياء الاباحة أو الحظر إنما تجري في الاعيان الخارجية وهذه تعم الاعيان الخارجية والاعتبارية كمثل الغيبة والكذب ونحوهما. على ان تلك المسألة تختص بما إذا كان الشيء مما ينتفع به وهذه المسألة أعم من هذه الجهة.

فاتضح مما ذكرنا ان هذه المسألة اعم مطلقا من تلك المسألة ، واما بحسب الاستدلال ففي مسألة الأصل في الاشياء الاباحة أو الحظر البحث فيها عن الدليل الاجتهادي الدال على الحكم الواقعي بانه هل لنا ترخيص ام لا وهنا يجب البحث عن الحكم الظاهري وبالجملة الفرق بين البحث عن الدليل الدال على الحكم الواقعي وبين الدليل الدال على الحكم الظاهري فكم فرق بين المسألتين وقد يقال بالفرق بينهما بان مسألة الاصل في الاشياء الاباحة او الحظر فانما هي قبل الشرع ومسألة البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية فانما هي بعد الشرع وقد قيل في رده بان لا نتكلم بالنسبة الى الشرائع السابقة إلا ان الانصاف انه يمكن توجيهه بان المراد من القبلية إنما هي بحسب المرتبة بمعنى ان مسألة الاصل في الاشياء الاباحة أو الحظر تلاحظ مع قطع النظر عن الشرع بحيث لو لم يأت خطاب شرعي الاصل الاباحة او الحظر ومسألة البراءة تلاحظ بالنسبة الى الادلة الشرعية.

إذا عرفت ذلك فقد استدل على حكم الشبهة الحكمية التحريمية بالآيات منها قوله تعالى : (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتيها) اقول هذه الآية وما كان على نسقها لا دلالة لها على البراءة في الشبهة الحكمية التحريمية لما عرفت منا سابقا ان محل الكلام بين المجتهدين والاخباريين إنما هو فيما إذا تمت وظيفة الربوبية لا فيما

١٨

عدم الايتاء أي الاعلام فيدل على البراءة في الشبهة التحريمية إذ لم يحصل الاعلام بالتكليف ولكن لا يخفى ان الاستدلال بها مساوق لقاعدة قبح العقاب بلا بيان وقد عرفت انه خارج عن محل النزاع بل هو مسلم عند الفريقين فجعله دليلا يكون مصادرة على المطلوب هذه عمدة ما يناقش في هذه الآية وقد يناقش بوجه آخر بان الآية واردة في مقام الاموال فجعلها في خصوص التكليف خلاف السياق وخصوص الاموال لا ينفع المدعى وتعميمها يلزم محذور استعمال اللفظ في اكثر من معنى وهو باطل وقد اوضح الاستاذ قدس‌سره في حاشية

__________________

إذا لم تتم وكان من قبيل (ان سكت الله عن اشياء لم يسكت عنها نسيانا) والظاهر ان جميع الآيات من هذا القبيل لا سيما آية : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها) وبيان هذه الآية على سبيل الاجمال هو ان ان هذه الآية بالنسبة الى الآية السابقة من قبيل الكبرى اعني قوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ) وأيضا وردت كبرى لرواية عبد الأعلى عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : (قلت هل كلف الناس بالمعرفة) قال لا (على الله البيان) فلا بد ان يراد من الايتاء ما هو الاعم من الاقدار والاعطاء والاعلام فحينئذ لا بد من تصوير قدر جامع في البين ولا جامع بين التكليف ومتعلقه وقد أشار شيخنا الانصاري (قده) الى امكان تصوير قدر جامع بقوله فافهم بما حاصله بانه يمكن ارادة الجامع من لفظة (ما) بان يراد مطلق الاعطاء من الاشياء واعطاء كل شيء بحسبه فبالنسبة الى المال الاعطاء عبارة عن السلطنة وبالنسبة الى الفعل الاعطاء عبارة عن الاقدار عليه وبالنسبة الى التكليف عبارة عن الاعلام وكل ذلك من مصاديق الاعطاء وربما يشكل على ذلك بان تعلق التكليف بالمال الذي اعطاه الله للمكلف أو الفعل الذي اقدره عليه تعلق الفعل بالمفعول به وتعلقه بالتكليف اعنى الحكم الواقعي

١٩

الفرائد في وجه البطلان ما ملخصه ان تعلق التكليف بالحكم على نحو المفعول المطلق وتعلقه بالفعل الذي هو الانفاق على نحو المفعول به ولا جامع بين المفعولين بنحو يكون المراد من ماء الموصولة بل لا بد من ان يراد بها أحد الخصوصيتين فيكون استعمال ما لكل واحد بخصوصه وهو استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد ثم أشار إلى الجواب عن ذلك فقال ما لفظه (ولا يذهب عليك انه يمكن منع تعلقه بالحكم على نحو تعلقه بالمفعول المطلق اذ الوجوب والحرمة الواقعيان ما لم يتنجزا لم يندرجا تحت التكليف لغة فيكون تعلق لا يكلف الله بالموصول المراد منه ما يعمهما على نحو المفعول المطلق ايضا بل تعلقه بهما علي نحو تعلقه بالفعل ويكون معنى انه تعالى لا يكلف عبده في كلفة شيء أصلا حكما بان ينجزه ويعاقب على مخالفته او فعلا بان يأمر به إلا ما آته بالاعلام بالنسبة الى التكليف وبالاقدار بالنسبة الى الفعل وارادتهما من الايتاء ليس باستعماله فيها بل على نحو الكناية فليتأمل).

__________________

من قبيل تعلقه بالمفعول المطلق ولا جامع بين التعلقين ولكن لا يخفى ان الموصول ان اريد منه الحكم الواقعي الذى اعلمه به فلا يكون من قبيل تعلق الفعل بالمفعول المطلق بل هو من قبيل تعلقه بالمفعول به ويكون التفاوت بين الفعل وما تعلق به من قبيل التفاوت بين المصدر وما هو نتيجته فهو كقوله تعالى : (خلق الله السماوات) فان الزمخشري ذكر ان السماوات مفعول مطلق لكونه عين الخلق اللهم إلا ان يقال بالتفاوت بينهما بالاعتبار الذي ذكرناه بمعنى ان السماوات وكل المخلوقات نتيجة ذلك الخلق فهما مختلفان مفهوما واعتبارا وان اتحدا خارجا باعتبار كون الخلق عين المخلوق فلا تكون السماوات إلا مفعولا به بل هو أقوى انحاء المفعول به حيث انه يقع من الفاعل ابتداء فان ما يكون مفعولا للفاعل ابتداء غير المفعول المطلق كما ذكر في وجه

٢٠