منهاج الأصول - ج ٥

محمّد ابراهيم الكرباسي

منهاج الأصول - ج ٥

المؤلف:

محمّد ابراهيم الكرباسي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار البلاغة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٧

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأولين والآخرين محمد وأهل بيته الطيبين الطاهرين.

الاستصحاب

وهو الأصل الرابع من الأصول العملية التي هي وظائف مقررة للشاك في مقام العمل ، والكلام فيه يتوقف على بيان أمور :

الامر الأول ـ في بيان حقيقته وماهيته ، فنقول : قد اختلف القوم في تعريفه فمنهم من قال : «هو ابقاء ما كان» وعرفه غيره بقوله : «هو اثبات الحكم في الزمان الثاني تعويلا على ثبوته في الزمان الأول» أو انه «اثبات حكم في زمان لوجوده في زمان سابق عليه» أو انه كما عرفه البعض : «ثبوته في وقت أو حال والحكم على بقائه بعد ذلك الوقت» الى غير ذلك من التعاريف.

قال الاستاذ قدس‌سره في الكفاية : ان عباراتهم في تعريفه وان كانت شتى إلّا انها تشير الى مفهوم واحد ومعنى فارد ، وهو : «الحكم ببقاء حكم او موضوع ذي حكم شك في بقائه».

٣

أقول : أما ما ذكره فهو حسن ، بناء على ان الاستصحاب من الامارات لا من الاصول ، وذلك خلاف ما هو المختار من أنه من الاصول كما سيأتي ان شاء الله تعالى فان الحكم المذكور مؤدى الاستصحاب لا نفسه ، وكيف كان فقد ذكر الشيخ الانصاري (قده) : ان أسدها وأخصرها «إبقاء ما كان» والمراد بالابقاء : الحكم بالبقاء ، بمعنى الحكم ببقاء حكم شرعي أو موضوع ذي حكم شرعي كان ثابتا سابقا ثم يشك في بقائه.

ولكن لا يخفى ان هذا التعريف ـ ابقاء ما كان ـ يتم بناء على ما سلكه المتقدمون من كون الاستصحاب من الأدلة الظنية ، وان حجيته كسائر الامارات ، اذ هو على هذا المسلك ترجع حجية الاستصحاب الى حكم العقل ببقاء ما هو ثابت سابقا ، وذلك من باب الظن ، فيكون كسائر الامارات الظنية : كالاستحسان ونحوه ، المستفاد منها الظن على القول بحجيتها اما من باب الكشف أو من باب الحكومة ، لرجوع ذلك الى تصديق العقل بالبقاء حقيقة ، غاية الأمر أن الوجه في حجية مثل هذا الظن بالبقاء هو بناء العقلاء أو السيرة أو دليل الانسداد على تقرير الكشف حيث انه يكون من الامارات والأدلة الاجتهادية دون التعبدية ، ولو كان الوجه في حجيته هو الانسداد على تقرير الحكومة كان من الأدلة العقلية المحضة.

وعلى كل يرجع ذلك بأي نحو كان من الوجهين الى حكم العقل بالبقاء الحقيقي وان كان هذا الحكم ظنيا ، ولذا سيأتي أن ذلك يكون مثل الامارات التي هي حجة ، ويترتب عليه أن مثبتاتها حجة لاحرازها الواقع ، فتترتب اللوازم العقلية والعادية ، كما انه يتم هذا التعريف بناء على أن الاستصحاب من الامور التعبدية باستفادة ذلك من الاخبار

٤

الدالة على حرمة نقض اليقين بالشك ، وان المراد من اليقين هو المتيقن بأن يكون اليقين المأخوذ في لسان الدليل بنحو المرآتية الى نفس المتيقن فمرجعه الى حكم الشارع ببقاء ما كان فيشمله هذا التعريف كما شمله على المسلك الأول.

وان كان هناك فرق بين المسلكين في المراد من البقاء فانه على الأول يكون المراد منه الحكم ببقاء الواقع حقيقة وان كان حكما ظنيا وعلى الثاني يكون المراد منه هو الحكم ببقاء الواقع أيضا إلّا انه ليس بنحو الحقيقة بل بنحو التعبد والادعاء من باب المجاز كما يقوله السكاكي إلّا ان هذا الفارق لا يضر في شمول التعريف له ، وبالجملة التعريف يتم على المسلكين غاية الأمر الاختلاف باعتبار ما ينطبق عليه من كونه مصداقا حقيقيا أو مصداقا ادعائيا وبذلك يتضح الفرق بين المسلكين في ثبوت اللوازم العقلية والعادية على الاول دون الثاني.

وأما لو بنينا على أن اليقين في لسان الدليل هو نفسه وليس مرآة للمتيقن ، فلا يرجع الى الحكم ببقاء ما كان ثابتا سابقا اذ مرجع حرمة نقض اليقين بالشك في لسان الدليل هو انه يجب اعتبار اليقين ببقاء ما كان حال الشك تعبدا ، للحكم ببقاء نفس ما كان سابقا متعلقا لليقين وعليه لا يستفاد منه أن وجوده سابقا مشعر بالعلية للبقاء فتختلف حقيقة الاستصحاب ، وذلك أنه على المسلكين الأولين يكون نفس وجوده الواقعي الذي هو متعلق اليقين موجبا لوجوده في اللاحق ، وعلى المسلك الاخير لا يكون كذلك فان وجوده ليس كما استفيد من دخل الوصف بأنه مشعر للعلية (١).

__________________

(١) لا يخفى ان المستفاد من الروايات ـ على المسلك الأخير ـ هو حفظ اليقين وعدم نقضه في مقام العمل ، وليس المراد من اليقين

٥

فظهر مما ذكرنا ان هذا التعريف لا يكون جامعا لجميع المسالك اللهم إلّا أن يقال ان الأدلة المتكفلة للتنزيلات الشرعية وان كان المقصود الاصلي منها النظر الى مقام العمل والجري العملي إلّا ان دليل التنزيل تارة يكون خطابه موجها الى المكلف ، بأن ينزل شيئا بمقام آخر بأن يكون نفس ذلك التنزيل بلحاظ العمل على عهدة المكلف كما هو مفاد أدلة حجية خبر العادل ، بناء على ان مفادها تنزيل خبر العادل منزلة العلم بالواقع ، وكما هو مفاد لا تنقض اليقين بالشك ، بناء على أن المكلف ينزل غير اليقين بمنزلة اليقين ، واخرى يكون مفاده الانتساب الى الشارع بأن ينزل شيئا بمنزلة شيء ، كما في قوله : «الطواف في البيت صلاة» وحيث أن مفاد أخبار الاستصحاب من قبيل الأول فيصير مفادها هو الأمر باليقين بالبقاء تعبدا ، بمعنى البناء على اليقين بالبقاء

__________________

كونه من الصفات النفسانية ، فانه من الواضح ان اليقين انتقض بعروض الشك وجدانا ، وعليه : لا مانع من دعوى جامعية هذا التعريف للاستصحاب على اختلاف الانظار في وجه حجيته ، بتقريب : انه بناء على اخذه من بناء العقلاء يكون بمعنى الحكم بالبقاء حيث ان التزامهم في الجري العملي على بقاء ما كان بملاحظة وجوده سابقا ما لم يظهر الخلاف كما انه بناء على اخذه من حكم العقل يكون معناه : ادراكه عقلا وتصديقه ضمنا ببقاء ما كان بملاحظة غالبية وجوده لا حقا بعد ثبوته سابقا ، واما بناء على أخذه من باب التعبد وحرمة نقض اليقين بالشك فيكون معناه الحكم الانشائي من الشارع في مرحلة الظاهر بمعنى التعبد ببقاء ما علم حدوثه سابقا وشك في بقائه في الزمان اللاحق.

وبعبارة أخرى ان الابقاء الذي هو مدلول الهيئة عبارة عن

٦

والتصديق به في عهدة المكلف ، والمفروض ان الحكم بالبقاء ليس إلّا التصديق به اما وجدانا أو ادعاء تعبديا.

وعليه يصح على هذا المبنى أيضا أن يقال : «ان الاستصحاب هو الحكم بالبقاء والتصديق به ولو ادّعاءً» كما يصح أيضا اطلاق مشتقاته فيقال : زيد يستصحب ، أو استصحب ، أو الحكم يستصحب ولكن ربما يشكل على ذلك بأن مفاد أدلة الاستصحاب هو البناء على البقاء وهو ليس حكما بالبقاء ، لأنه يكون من قبيل عقد القلب وهو أمر لا يرتبط بالتصديق.

__________________

الحكم بالبقاء ، وذلك معنى عام يشمل حكم الشارع وتعبده بالبقاء ، وحكم العقل وتصديقه الظنى به ، وحكم العقلاء وبقاءهم على الالتزام بالبقاء.

وبالجملة : قد أخذ مفهوم الابقاء في التعريف بالمعنى العام ، وان الاختلاف انما هو في المصاديق ، وبهذا يجاب عما يقال من أن تعريفه بذلك لا ينطبق عليه لما عرفت من ان اختلاف المصاديق لا يضر بوحدته إذا اعتبر الاستصحاب من الامارات ، من غير فرق بين كون أماريته بالظن النوعي أو الظن الشخصي ، اذ اعتباره بذلك يجعله امارة على الحكم وكاشفا عنه ، فلا معنى لتعريفه بنفس الحكم ، على ان اركان الاستصحاب ثلاثة : يقين سابق ، وشك لا حق ، والحكم بالبقاء ، فلو سلمنا دلالته على الحكم باعتبار ملازمته لكونه امارة فيكون تعريفه بالحكم بالبقاء تعريفا بالملزوم ، إلّا ان الركنين وهما : اليقين السابق والشك اللاحق ، لا يستفادان من التعريف.

أما اذا اعتبر اصلا عمليا فلا يستفاد من التعريف ذلك ، إذ ظاهره ان المراد من الحكم : الحكم الواقعي مع أن مجعول الشارع

٧

ولكن يمكن دفعه بان الحكم لم يؤخذ في التعريف بل هو من تعبير الأصحاب ، وانما المأخوذ في التعريف هو «ابقاء ما كان» وحينئذ يصح اطلاق الابقاء من المكلف بنحو اسناد البقاء اليه ، ولو من جهة بقائه ، بل ربما يقال بامكان تصحيح التعريف بناء على ان مفاد الأدلة تنزيل الشارع غير اليقين منزلة اليقين ، باعتبار ان المكلف في مقام العمل ممن يطاوع الشارع ، فيصح ان يقال في حقه انه استصحب مطاوعة للشارع.

هذا غاية ما يمكن توجيه التعريف به ، وانه أسدّ ما في الباب كما لا يخفى.

__________________

حكم ظاهري ، على ان اليقين في الزمان السابق والشك في الزمان اللاحق لا يستفادان من التعريف ، مضافا الى ما ذكره المحقق النائيني (قدس‌سره) في محاضراته الاصولية من انه ليس مفاد الاستصحاب ذلك ، اذ لو كان مفاده هو الحكم بدوام ما ثبت لزم كونه من الأحكام الواقعية ، والمفروض ان مفاده حكم ظاهري كما هو المستفاد من الأخبار من حيث اعتبار الشك فى الحكم بالبقاء ، مع أن التعريف لا يستفاد منه ذلك ، فلذا قال (قده) : ان الأولى في تعريفه أن يقال : «ان الاستصحاب عبارة عن عدم نقض اليقين السابق المتعلق بالحكم او الموضوع من حيث الأثر والجري العملي بالشك في بقاء متعلق اليقين».

وحاصل الجواب عن ذلك : أن التعريف كان باللازم الذي هو مفاد الأخبار ، ولا مانع من أن يكون التعريف باللازم ، كما أن مفاد البقاء تارة يكون حقيقيا بناء على أخذه من العقل ، أو تعبديا بناء على أخذه من الأخبار ، فان الاختلاف في ذلك لا يغير من وحدة

٨

الأمر الثاني

هل يعد البحث في حجية الاستصحاب من المسائل الاصولية أو من القواعد الفقهية ، أو من مبادئ الأحكام؟

فنقول : ان المدار في كون المسألة اصولية ، تارة تكون واقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي مطلقا ، بمعنى انه توجب ثبوت العلم بالحكم الشرعي الواقعي ، سواء كانت موجبة للعلم به بلا وساطة شيء أو مع الوساطة ، كالامارات الظنية ، فانها تثبت الحكم الشرعي الكلي بعد معلومية حجيتها. وأخرى يكون المدار في كونها أصولية وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي في مقام التطبيق على الموارد ، وذلك يختص بالمجتهد لاحتياجه الى الفحص عن الأدلة في تطبيقها على الموارد في الشبهات الحكمية.

فان بنينا على الأول في تمييز المسألة الأصولية عن غيرها فذلك يختلف باختلاف المسالك والانظار في حجية الاستصحاب ، بيان ذلك :

__________________

المفهوم لعدم التغاير في مفهوم (الابقاء) ، اذ الظاهر من مفهوم (ابقاء ما كان) هو الحكم بالبقاء. وبما ان التعبير (بما كان) مشعر بالحكم بالبقاء لأجل تحقق علة وجوده في الزمان اللاحق ، أو لقيام الدليل على بقاء المستصحب في الزمان الثاني ، فعليه يستفاد منه اعتبار الشك الذي هو أحد أركان الاستصحاب ، وهو أعم من الظن الفعلي.

وبما ذكرنا ظهر انه لا مانع من كون هذا التعريف جامعا ، بناء على أن المراد بالحكم بالبقاء في مقام العمل ولازمه اعتبار الشك فيه فتأمل جيدا.

٩

انه بناء على اعتباره من باب الظن يحكم العقل بالملازمة الظنية من حيث الحدوث والبقاء ، فتارة يكون النزاع بين المثبتين والنافين في ثبوت الظن من حكم العقل بالملازمة الغالبية وعدم ثبوت ذلك ، لعدم حكم العقل بتلك الملازمة ، فتدخل مسألة الاستصحاب في مبادئ مباحث الاصول وليست منها ، لما هو معلوم من أن البحث فيها عن أصل وجود الملازمة الظنية فهو بحث عن مفاد (كان التامة) وليس بحثا عن مفاد (كان الناقصة) إذ من الواضح ان البحث عن استنباط الحكم الشرعي الكلي انما يتحقق بعد كون القاعدة المستنبطة حجة ، وقد علم حجيتها ، فيستنبط الحكم الشرعي بجعلها كبرى ، ويكون المورد من صغرياتها.

وأما مع الشك في حجية الكبرى فلا تثبت حجية الصغرى ، وعليه فلا يستنتج الحكم الشرعي.

وأخرى يكون النزاع بين المثبتين والنافين في حجية هذا الظن بعد ثبوت الملازمة الظنية ، فتعد المسألة من المسائل الاصولية ، بناء على أن حجية مثل هذا الظن شرعا لأجل سيرة العقلاء ، أو دليل الانسداد على تقرير الكشف ، لوقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي فيوجب العلم به تعبدا.

وأما بناء على حجيته من باب دليل الانسداد على تقرير الحكومة فلا يدخل في المسائل الاصولية لكون نتيجته لا توجب العلم بالحكم الشرعي ولا تقع في طريق الاستنباط. نعم بناء على أن وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي أعم مما يترتب عليه العلم بوساطة أو بلا وساطة فحينئذ يمكن عده في مباحث الأصول ، ومن هنا تعرف أن البحث في دليل الانسداد ولو بناء على الحكومة لا مانع من عده من

١٠

مباحث الاصول ولا موجب لدعوى أن ذكره في الاصول من باب الاستطراد.

وأما بناء على حجية الاستصحاب من باب الأخبار فأما أن نقول أن المستفاد من قوله لا تنقض اليقين بالشك هو جعل اليقين في ظرف الشك ، بمعنى جعل اليقين في حال الشك واثبات اليقين بالحكم الواقعي تعبدا كما هو كذلك في جعل الامارة ، وان كان فرق بين الجعلين فانه في جعل الامارة من باب تتميم الكشف مع نفي الشك ومفاد دليل الاستصحاب جعل اليقين في ظرف الشك ، أي جعله حجة مع حفظ الشك تعبدا ، إلا أن هذا الفرق غير فارق في جعل الحجية وأنه من باب تتميم الكشف.

فعليه يكون الاستصحاب من القواعد الممهدة لاستنباط الأحكام الشرعية ولازم ذلك أن يعد من المسائل الاصولية لوقوعه في طريق الاستنباط ، وأما أن نقول إن مفاد دليل الاستصحاب تنزيل المشكوك منزلة المتيقن كما ذهب إليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره فعده من المسائل الاصولية محل اشكال إذ مفاد (لا تنقض اليقين بالشك) ليس إلا التعبد بنفس الحكم الأول الذي كان متيقنا.

فعليه يكون الاستصحاب من القواعد الفقهية كقاعدة الطهارة وكل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام فيكون الاستصحاب في الشبهات الحكمية حال الاستصحاب في الشبهات الموضوعية فلا يكون من المسائل الاصولية حيث أن مضمون الاستصحاب حينئذ قاعدة فقهية ظاهرية تنطبق على مواردها كقاعدة الضرر والحرج وقاعدة الطهارة وغيرها مما يكون استفادة الحكم الجزئي من باب التطبيق لا الاستنباط الذي هو ملاك المسألة الاصولية (١).

__________________

(١) قلنا في الجزء الأول من الكتاب بأن ملاك المسألة الاصولية

١١

وأن بنينا على التمييز الثاني الذي هو اضافته الى وقوعه في طريق الاستنباط بأن يكون في مقام التطبيق وذلك يحتاج إلى الفحص لكي يمكن تطبيقه وهو يختص بالمجتهد ولا ينفع المقلد فنقول : انه بناء على مسلك الظن فان كان باعتبار تحصيله فهو من قبيل المبادئ وليس من مسائل الاصول ، وإن كان باعتبار حجيته بعد تحقق الملازمة

__________________

هي كبريات لو انضمت الى صغراها لأنتجت حكما كليا شرعيا ، وبقولنا كبريات تخرج مسائل سائر العلوم كالقواعد العربية والرجال ونحوها فانها بأجمعها ليست كبرى القياس وانما تلتئم صغرى للقياس فهي تعد من المبادئ للاصول لا من مسائله مثل علم الرجال الذي هو مقدمة للاستنباط ، بخلاف علم الاصول في بحثه عن خبر الثقة فانه متكفل لتشخيص خبر الثقة عن غيره ، والواقع في صغرى القياس خبر الثقة لا مطلقا ، كما لو أخبر الثقة عن وجوب صلاة مثلا فنقول صلاة الظهر قد أخبر الثقة بوجوبها وكل ما اخبر الثقة بوجوبه فيجب الاتيان به.

وهكذا علم القواعد العربية فانه يقع في طريق الاستنباط بضم علم الاصول ولهذا قلنا ان علم الاصول هو الجزء الأخير من العلة لاستنباط المسألة الفقهية ولذا أضيف اليه فيقال أصول الفقه.

ومن هنا يعلم أن البحث عن ظهور الأمر في الوجوب والنهي في الحرمة ليسا من مسائل الاصول وانما هما من المبادئ وانما ذكرت هذه المسائل في الاصول من باب الاستطراد ، وبقولنا انتجت حكما كليا يخرج ما يكون القياس ينتج حكما جزئيا فان ذلك يعد من القواعد الفقهية وليس من المسائل الاصولية ، ولذا قلنا ان ما ينتج حكما كليا يختص بالمجتهد ولا ينفع المقلد دون ما ينتج أحكاما جزئية ، حيث أن

١٢

يكون البحث عنه حينئذ من المسائل الاصولية المختصة بالمجتهد ولا ينفع المقلد إذ التطبيق انما يتحقق بعد الفحص وذلك لا ينفع المقلد.

وأما بناء على استفادة حجية الاستصحاب من الأخبار فلا اشكال في عده من المسائل الاصولية من غير فرق بين القول بتنزيل اليقين بنفسه منزلة الشك أو بلحاظ المتيقن لما عرفت ان النتيجة هي استفادة الحكم الكلي في مقام تطبيقه وهو يختص بالمجتهد إذ لا يمكن أن يكون أمر التطبيق بيد المقلد لكون ذلك لا يتحقق إلا بعد الفحص واليأس عن الدليل المعارض والمقلد عاجز عن ذلك.

لا يقال إنه اذا كان لازم الملاك في المسألة الاصولية ذلك فينبغي

__________________

الأحكام لما كانت كلية تحتاج في تعلقها بعمل المكلفين الى مئونة زائدة تنطبق على ما في الخارج وذلك لا يتحقق إلا بالفحص فلا يكون من شئون المقلد وانما هي وظيفة المجتهد بخلاف الحكم الجزئي فانه يتعلق بعمل المكلف من غير احتياجه إلى مئونة شيء.

وحاصل الكلام أن الميزان في المسألة الأصولية حكم كلي يتعلق بعمل المكلف بالوساطة وهو تطبيقه على الموارد الجزئية بخلاف القاعدة الفقهية فان نتيجتها حكم جزئي يتعلق بعمل المكلف بلا وساطة وذلك ملاك المسألة الفقهية ولأجل ذلك ميز بين الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية والأصل الجاري في الشبهة الموضوعية ، فان الأول من المسائل الأصولية حيث إنه ينتج حكما كليا بخلاف الثاني فانه ينتج حكما جزئيا.

نعم وقع الاشكال أن الدليل للاستصحابين هو رواية (لا تنقض اليقين بالشك) مع انه يلزم أن يكون من قبيل استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد ، حيث انه لا جامع بين الحكم الكلى والحكم الجزئي

١٣

أن تعد قاعدة الطهارة من المسائل الاصولية لجريانها في الشبهات الحكمية لأنا نقول نتيجة المسألة الاصولية لا تقيد بباب خاص فلا اشكال.

وأما الاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعية فلا اشكال انه من المسائل الفقهية كما هو معلوم ان نتيجة ذلك هو أمر جزئي كما

__________________

ولكن لا يخفى انه لا موقع لهذا الاشكال حيث إن اليقين والشك في الرواية ينحل إلى قضايا متعددة حسب تعدد العمل باليقين والشك فعليه تختلف النتيجة حسب تعلق اليقين والشك فان كان اليقين متعلقا بالحكم الكلي كما هو كذلك في الشبهات الحكمية تكون النتيجة مسألة أصولية ، وان تعلق اليقين والشك بالحكم الجزئي كما هو في الشبهات الموضوعية فتكون المسألة قاعدة فقهية ، وهذا الذي ذكرناه لا يفرق فيه بين أن يكون مدرك الاستصحاب هو بناء العقلاء او السيرة أو مدركه الأخبار فان المائز بين المسألة الأصولية والفقهية انما هو بالنتيجة.

وهكذا الحال في حجية الظواهر فان كان الظاهر يتعلق في مثل الاقرار بالأوقاف ونحوها التي هي ظواهر جزئية تعد من مسائل الفقه وإن كان الظاهر في مثل خبر الثقة الذي هو من الامور الكلية تعد من المسائل الاصولية ، وعليه فالحق هو التفصيل بين الاستصحاب الجاري في الشبهات الحكمية والاستصحاب الجاري في الشبهات الموضوعية فان الأول من المسائل الاصولية بخلاف الثاني فانه من المسائل الفقهية ، فدعوى الشيخ الانصارى (قده) كون مسألة الاستصحاب من المسائل الفقهية بتقريب ان الاستصحاب في الأحكام عبارة عن نفس الأحكام والدليل عليه (لا تنقض اليقين بالشك) محل نظر إذ الاستصحاب ليس هو الحكم الشرعي وإنما هو مدرك للحكم وانه مفاد قوله (ع): (لا تنقض

١٤

لو شككنا بعدالة زيد مع العلم بعدالته في الزمان السابق فانه يحكم ببقائها وهو أمر جزئي ولذا يصح جريانه في كل يقين وشك حتى بالاضافة الى نفسه فلو شك المقلد في بقاء وضوئه بعد اليقين يبني على وضوء نفسه وإن كان مجتهده يعلم بعدم بقاء وضوئه.

__________________

اليقين بالشك) فيكون من المسائل الاصولية لكونه مستنبطا للحكم لا نفسه فلا تغفل.

١٥

الأمر الثالث

في بيان الفرق بين الاستصحاب وقاعدة اليقين

يمتاز الاستصحاب عن قاعدة اليقين بأن ملاك القاعدة هو أنه يرد الشك على مورد اليقين فمتعلق الشك هو متعلق اليقين وانما يختلف زمان عروض الوصفين لاستحالة عروضهما على محل واحد في زمان واحد بخلاف الاستصحاب فان معروض اليقين غير معروض الشك (١).

__________________

(١) لا يخفى ان الاستصحاب عبارة عن اجتماع اليقين والشك في مورد واحد حتى يحكم بالبقاء من غير فرق بين أن يكون مبدأ حدوث اليقين قبل حدوث الشك كما لو علم بعدالة زيد يوم الخميس وشك في يوم الجمعة بعدالته ، وبين ما كان مبدأ حدوث اليقين بعد حدوث الشك كما لو حدث الشك يوم الجمعة بطهارة ثوبه واستمر الشك إلى يوم السبت ثم حدث له يقين يوم السبت بطهارة ثوبه يوم الخميس ، وبين ما كان مبدؤهما متقارنين زمانا كما لو علم يوم الجمعة بطهارة ثوبه يوم الخميس وفي ذلك الآن شك في طهارته السابقة ففي أن يوم الجمعة حصل له يقين بطهارته يوم الخميس وفي ذلك الآن شك في بقائها فاجتمع اليقين والشك زمانا بآن واحد يوجب صدق الشك في البقاء فتتحد القضية المتيقنة مع القضية المشكوكة موضوعا ومحمولا ووجودا خارجيا لكي يصدق تعلق الشك بما تعلق به اليقين السابق فلا يكفي الاتحاد في الموضوع والمحمول ولو مع تعدد في الوجود الخارجي إذ لا يتصور فيه الشك في البقاء لما هو معلوم انه مع تعدد

١٦

فمعروض اليقين هو الحدوث ومعروض الشك هو البقاء فهما قضيتان مختلفتان حقيقة ، إحداهما متيقنة متحققة في الزمان السابق ، والثانية مشكوكة متحققة في الزمان اللاحق وان اتحدا في مقام الذات موضوعا ومحمولا بحسب الخارج الموجب لاتحاد القضية المشكوكة مع المتيقنة لكي يتعلق الشك بما هو متيقن سابقا ، وحينئذ تصدق القضية المشكوكة ابقاء للقضية المتيقنة بخلاف قاعدة اليقين التي هي الاتحاد الذاتي والحقيقة خارجا فلا يكفي في الاستصحاب الاتحاد ذاتا مع التعدد الخارجي لعدم صدق البقاء لو حصل التعدد ، فلذا قلنا في محله انه لا يجري الاستصحاب الكلي وليس المراد فيه بوحدتهما وجودا ومرتبة إذ عليه لا يتصور فيه الشك في البقاء وذلك من لوازم قاعدة اليقين.

__________________

الوجود يكون اليقين تعلق بفرد والشك تعلق بفرد آخر.

ومن هنا قلنا أن الاستصحاب في القسم الثالث لا يجري لكونه من قبيل تعلق اليقين بفرد سابقا والشك في وجود فرد آخر فلم تتحد القضية المشكوكة مع القضية المتيقنة لكي يصدق عليها ابقاء ما كان ، إذ الحكم ببقاء فرد لاحق لا يصدق عليه أنه ابقاء للفرد السابق فما تعلق به اليقين غير ما تعلق به الشك.

نعم زمان المشكوك غير زمان المتيقن بمعنى أن معروض الوصفين زمانهما متعدد فان معروض اليقين هو الحدوث ومعروض الشك هو البقاء ويستفاد من الأخبار سبق زمان المتيقن على زمان المشكوك فلو كان زمان المتيقن متأخرا وزمان المشكوك متقدما ـ كما لو علم بأن صيغة افعل حقيقة في الوجوب عند المتشرعة ولكن شك في أنها موضوعة لغة له أو أنها موضوعة لمطلق الطلب ثم نقلت لخصوص الوجوب في زمان

١٧

وبالجملة بين قاعدة اليقين والاستصحاب تعاكس ، فان في قاعدة اليقين الاتحاد بين متعلق الشك واليقين واحد وجودا وانما الاختلاف في عروض الوصفين زمانا. وفي الاستصحاب الاختلاف في معروضي الوصفين ، ودعوى أن الاستصحاب لا ينطبق على الأحكام الشرعية حيث عرفت أن موضوعات الأحكام انما هي موجودات ذهنية ولو كانت على نحو المرآتية للخارج فيكون ظرف محمولاتها ذهنيا لا خارجيا لما عرفت أن الخارج ظرف اتصافها لا ظرف عروضها. ففي ظرف عروض محمولاتها لا يتصور لموضوع القضيتين وحدة خارجية لا فعلية ولا فرضية فكيف يصدق تعلق الشك في القضية المشكوكة بما يتعلق به اليقين ، فلا بد في هذا المقام من الاتحاد بحسب الذات دون الخارج ممنوعة اذ لا يخفى انه يكتفى بوحدة منشأ انتزاعهما في مقام الانصاف في الخارج في صدق البقاء والنقض

__________________

المتشرعة المتأخرة عن الصدر الأول ، فيقال بأن الأصل عدم النقل ومعناه جر اليقين اللاحق الى الزمن المتقدم ويسمى بالاستصحاب القهقري ، فان اعتبار مثل ذلك يحتاج الى دليل ولا تنفع فيه أخبار الاستصحاب إذ ليس من باب عدم نقض اليقين بالشك المتعدد فيه المتيقن والمشكوك زمانا وبذلك يفترق عن قاعدة اليقين فانه فيها يتعدد زمان الوصفين مع اتحاد زمان متعلقهما بأن يكون في الزمان اللاحق شاكا في نفس ما تيقنه سابقا بوصف وجوده السابق ، كما لو تيقن بعدالة زيد يوم الجمعة ثم شك يوم السبت بعدالته في يوم الجمعة ، فلا يكون مثل هذا اليقين ابقاء لما كان.

وبعبارة أخرى في الاستصحاب يتعلق اليقين بالحدوث والشك ببقائه ، بخلاف قاعدة اليقين فان اليقين والشك يتعلقان في الحدوث

١٨

فالقضية التكليفية تصدق على القضية المشكوكة ـ في مقام الانتزاع ـ انها ابقاء للقضية المتيقنة فيشملها دليل حرمة النقض لكونه متصورا في مرحلة اتصاف الموضوع لحكمه في الخارج لا مرحلة العروض.

وأما امتياز الاستصحاب عن قاعدة المقتضي والمانع فواضح حيث أنه يتحد متعلق الشك واليقين في الاستصحاب ويتغاير في قاعدة المقتضي والمانع ، وسيأتي ان شاء الله ان مفاد الأخبار ـ كقوله (ع) : (لا تنقص اليقين بالشك) هو الاستصحاب لا قاعدة اليقين.

__________________

ويسمى ذلك بالشك الساري ، أي يسري الشك إلى وجوده في السابق مثلا لو تيقن بعدالة زيد في يوم الجمعة ثم يوم السبت شك في حدوث عدالته في يوم الجمعة فمعناه ارتفع اليقين السابق بسراية الشك إليه فذلك هو قاعدة اليقين ، وأما لو لم يرتفع اليقين بحدوث العدالة وانما تعلق الشك ببقائها لا بأصل الحدوث فهو الاستصحاب.

وأما الفرق بين الاستصحاب وقاعدة المقتضي والمانع فواضح حيث أن في هذه القاعدة تغايرا بين المتعلقين ذاتا ووصفا فان اليقين تعلق

١٩

الأمر الرابع في ان حجية الاستصحاب

هل هي من باب الظن أم لا؟

فنقول : إن ظاهر كلمات من قال بحجية الاستصحاب من باب الظن أراد به الظن النوعي لا الظن الشخصي ويستدل لذلك بوجوه :

الأول : انه لو اعتبر الظن الشخصي انتقض بمثل الماء الذي يستصحب كريته تارة وأخرى يستصحب قلته كما لو كان الماء في حوض وانتهى إلى قطعة مخصوصة يشك من كريته وقلته فان في قلته يستصحب الكرية لو كان مسبوقا بالكرية ويستصحب قلته لو كان مسبوقا بالقلة فلو كان اعتبار الاستصحاب من باب الظن الشخصي أي الفعلي فلا يعقل حصول الظن فعلا في مثله في الحالتين مع العلم بمقدار من الماء كما هو واضح.

__________________

بالمقتضي والشك تعلق بالمانع بخلاف الاستصحاب فان بين المتعلقين اتحادا ذاتا ووصفا.

وسيأتي ان شاء الله تعالى أن مفاد الأخبار هو الاستصحاب ولا دلالة لها على قاعدة اليقين ولا على قاعدة المقتضي والمانع. كما أنه لا يستفاد منها معنى يعم الاستصحاب وقاعدة اليقين لعدم امكان ذلك.

كما أن الأخبار الدالة على الاستصحاب أجنبية عن قاعدة المقتضي والمانع. لأن في مورد القاعدة لا يصدق نقض اليقين بالشك لعدم ترتب آثار المتيقن لتغاير متعلقيهما فان متعلق اليقين هو المقتضي والشك هو المانع وسيأتي توضيح ذلك ان شاء الله تعالى.

٢٠