غاية المرام وحجّة الخصام - ج ٧

السيّد هاشم البحراني الموسوي التوبلي

غاية المرام وحجّة الخصام - ج ٧

المؤلف:

السيّد هاشم البحراني الموسوي التوبلي


المحقق: السيد علي عاشور
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٦١

اسمه اسمي فهو محمد وأنا محمد وكنية جدّه اسم أبي إذ هو أبو عبد الله وأبي عبد الله لتكون تلك الالفاظ المختصرة جامعة لتعريف صفاته وإعلام أنه من أبي عبد الله الحسين بطريق جامع موجز ، وحينئذ تنتظم الصفات وتوجد بأسرها مجتمعة للحجة الخلف الصالح محمد عليه‌السلام وهذا بيان شاف كاف في إزالة ذلك الإشكال فافهمه (١).

وأقول : أيضا قد ذكر الشيخ عليّ بن محمد المالكي في كتاب الفصول المهمة (٢) الاستدلال على إمامة الحجة القائم المهدي محمد بن الحسن المذكور بروايات كثيرة ، ذكرها يطول بها الكتاب وهو من أعيان علماء العامة مالكي المذهب ، وبالجملة إمامة الأئمة الاثني عشر الذين ، أولهم عليّ ابن أبي طالبعليه‌السلام ، وبنيه الأحد عشر الذين آخرهم القائم المهدي مما اتفق عليه العامة والخاصة وتواترت به الأخبار عند الفريقين ، وعدول العامة عنهم خسران مبين.

__________________

(١) مطالب السئول ٢ / ١٥٢ ـ ١٦٠.

(٢) الفصول المهمة : ٢٨٣ ـ ٢٨٨.

١٤١

الباب الرابع والأربعون

فيما أجاب به الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان في الجواب عن الاعتراض في الغيبة ، ولم يرتض الجواب الشيخ عليّ بن عيسى في كتاب كشف الغمة ، وذكر الكلامين قال الشيخ الفاضل عليّ بن عيسى رحمه‌الله في كتاب كشف الغمة : قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان وقد تقدمت الأحاديث المنقولة من كتابه هذا قال في آخر الباب الخامس والعشرون وهو آخر الابواب في الدلالة على كون المهدي حيا باقيا منذ غيبته إلى الآن : (ولا امتناع في بقائه عليه‌السلام بدليل بقاء عيسى والخضر والياس عليهم‌السلام وبقاء الدجال وإبليس اللعين من أعداء الله ، وهؤلاء قد ثبت بقاؤهم بالكتاب والسنة وقد اتفقوا على ذلك ثم أنكروا بقاء المهدي عليه‌السلام لوجهين : أحدهما طول الزمان ، والثاني أنه في سرداب من غير أن يقوم أحد بطعامه وشرابه ، وهذا مما لا يبقى به الانسان عادة) (١).

قال مؤلف هذا الكتاب محمد بن يوسف بن محمد الكنجي : بعون الله نبتدئ ، أما عيسى عليه‌السلام والدليل على بقائه من الكتاب قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) (٢) ولم يؤمن به أحد مذ نزول هذه الآية إلى يومنا هذا فلا بدّ أن يكون ذلك في آخر الزمان ، وأما السنّة فما رواه مسلم في صحيحه عن زهير بن حرب بإسناده عن النواس بن سمعان في حديث طويل في قصة الدجال قال : فينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعا كفيه على أجنحة ملكين(٣) ، وأيضا ما تقدم من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «كيف بكم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم»(٤).

وأما الخضر وإلياس فقد قال ابن جرير الطبري : الخضر والياس باقيان يسيران في الأرض ، وأيضا فما رواه مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال : حدّثنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حديثا طويلا عن الدجال فكان فيما حدّثنا «يأتي وهو محرّم عليه أن يدخل نقاب المدينة فينتهي إلى بعض السباخ التي

__________________

(١) كفاية الطالب : ٥٢١.

(٢) النساء : ١٥٩.

(٣) صحيح مسلم ٨ / ١٩٨.

(٤) مسند أحمد ٢ / ٢٧٢.

١٤٢

تلي المدينة ، فيخرج إليه يومئذ رجل وهو خير الناس أو من خير الناس فيقول له : أشهد أنّك الدجال الذي حدّثنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حديثه ، فيقول الدجال : أر أيتم إن قتلت هذا ثم أحييته أتشكّون في الأمر؟ فيقولون : لا ، قال : فيقتله ثم يحييه فيقول حين يحييه : والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة منّي الآن قال: فيريد الدجال أن يقتله ثانيا فلا يسلّط عليه» قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد يقال ان هذا الرجل الخضر عليه‌السلام (١) ، وهذا لفظ مسلم في صحيحه كما سقناه سواء.

وأما الدليل على بقاء الدجال فإنه أورد حديث تميم الداري والجساسة الدابة التي تكلّمهم وهو حديث صحيح ذكره مسلم في صحيحه (٢) وقال : هذا حديث صحيح في بقاء الدجال قال ، وأما الدليل على بقاء إبليس اللعين فآي الكتاب العزيز نحو قوله تعالى : (قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ* قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ) (٣) وأما بقاء المهدي عليه‌السلام فقد جاء في الكتاب والسنّة ، أما الكتاب فقد قال سعيد بن جبير في قوله تعالى : (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٤) قال : هو المهدي عليه‌السلام من عترة فاطمةعليها‌السلام.

وأما من قال أنه عيسى عليه‌السلام فلا تنافي بين القولين إذ هو مساعد للإمام عليه‌السلام على ما تقدم.

وقد قال مقاتل بن سليمان ومن شايعه من المفسرين في تفسير قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ) (٥) قال : هو المهدي يكون في آخر الزمان وبعد خروجه يكون قيام الساعة وأماراتها.

وأما الجواب عن طول الزمان فمن حيث النص والمعنى ، أما النص فما تقدم من الأخبار على أنه لا بدّ من وجود الثلاثة في آخر الزمان وأنهم ليس فيهم متبوع غير المهدي عليه‌السلام بدليل أنه إمام الأئمة في آخر الزمان وأن عيسى عليه‌السلام يصلّي خلفه كما ورد في الصحاح ويصدقه في دعواه ، والثالث هو الدجال اللعين ، وقد ثبت أنه حي موجود.

وأما المعنى في بقائهم فلا يخلو من أحد قسمين أما أن يكون بقاؤهم داخلا في مقدور الله تعالى أو لا يكون ، ويستحيل أن يخرج بقاؤهم عن مقدور الله تعالى لأن من بدأ الخلق من غير شيء وأفناه ثم يعيده بعد الفناء لا بدّ أن يكون البقاء في مقدوره ، ثم اختيار البقاء لا يخلو من قسمين : أما أن يكون راجعا إلى اختياره تعالى أو اختيار الأمة ، ولا يجوز أن يكون راجعا إلى اختيار الأمة ، لأنه لو صح ذلك لجاز لأحدنا أن يختار البقاء لنفسه ولولده وذلك غير حاصل لنا ولا داخل تحت مقدورنا ،

__________________

(١) صحيح مسلم ٨ / ١٩٩.

(٢) صحيح مسلم ٨ : ٢٠٥.

(٣) الأعراف : ١٤ ـ ١٥.

(٤) التوبة : ٣٣.

(٥) الزخرف : ٦١.

١٤٣

والأول لا يخلو من قسمين : أما أن يكون لسبب أو لا ، فإن كان لغير سبب كان خارجا عن وجه الحكمة ، وما يخرج عن وجه الحكمة لا يدخل في افعاله تعالى فلا بدّ أن يكون لسبب تقتضيه الحكمة ، قال : وسنذكر سبب بقاء كل واحد منهم على حدته.

وأما سبب بقاء عيسى عليه‌السلام فلقوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) (١) ولم يؤمن به منذ نزول هذه الآية إلى يومنا هذا أحد ، فلا بدّ أن يكون هذا في آخر الزمان.

وأما الدجال اللعين فلقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنه خارج منكم الأعور الدجال وإن معه جبال من خبز تسير معه» إلى غير ذلك من علاماته فلا بدّ أن يكون ذلك في آخر الزمان لا محالة ، وأما الإمام المهديعليه‌السلام مذ غيبته عن الابصار إلى يومنا هذا لم يملأ الارض قسطا وعدلا كما تقدمت الأخبار في ذلك فلا بدّ أن يكون ذلك مشروطا آخر الزمان فقد صارت هذه الاسباب لاستيفاء الأجل المعلوم فعلى هذا اتفقت أسباب بقاء الثلاثة لصحة أمر معلوم وهما صالحان نبي وإمام ، وطالح وهو الدجال ، وقد تقدمت الأخبار من الصحاح بما ذكرناه في صحة بقاء الدجال مع صحة بقاء عيسى عليه‌السلام ، فما المانع من بقاء المهدي مع كون بقائه باختيار الله تعالى وداخلا تحت مقدوره وهو آية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فعلى هذا هو أولى بالبقاء من الاثنين الآخرين لأنه إذا بقي المهدي كان إماما آخر الزمان يملأ الأرض قسطا وعدلا كما تقدمت الأخبار ، فيكون بقاؤه مصلحة للمكلّفين ولطفا لهم من عند الله تعالى ، بخلاف الدجال فإنّ في بقائه مفسدة لادّعائه الربوبية على ما ذكر وفتكه بالأمة ولكن في بقائه ابتلاء من الله تعالى ليعلم المطيع منهم من العاصي والمحسن من المسيء والمصلح من المفسد ، وهذا هو الحكمة في بقاء الدجال.

وأما بقاء عيسى عليه‌السلام فهو سبب إيمان أهل الكتاب للآية والتصديق بنبوة سيّد الأنبياء محمد خاتم الأنبياء رسول رب العالمين ، ويكون تبيانا لدعوى الإمام عند أهل الإيمان ومصدقا لما دعا إليه عند أهل الطغيان بدليل صلاته خلفه ونصرته إياه ودعائه إلى الملة المحمدية التي هو إمام فيها فصار بقاء المهدي عليه‌السلام أصلا ، وبقاء الاثنين فرعا على بقائه ، فكيف يصح بقاء الفرعين مع عدم بقاء الأصل لهما؟ ولو صح ذلك لصح وجود المسبب من دون وجود السبب وذلك مستحيل في العقول ، وإنما قلنا : إنّ بقاء المهدي أصل لبقاء الاثنين لأنه لا يصح وجود عيسى عليه‌السلام بانفراده غير ناصر لملة الإسلام وغير مصدق للإمام لأنه لو صح وجود عيسى عليه‌السلام لكان منفردا بدولة ودعوة وذلك يبطل دعوة الإسلام من حيث أراد أن يكون تبعا فصار متبوعا ، وأراد أن يكون فرعا فكان

__________________

(١) النساء : ١٥٩.

١٤٤

أصلا والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا نبي بعدي» وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : «الحلال ما أحل الله على لساني إلى يوم القيامة والحرام ما حرّم الله على لساني إلى يوم القيامة» فلا بدّ من أن يكون عونا وناصرا ومصدقا ، وإذا لم يجد من يكون له عونا ومصدقا لم يكن لوجوده ، تأثير ، فثبت أن وجود المهدي أصل لوجوده وكذلك الدجال اللعين لا يصح وجوده في آخر الزمان ، ولا يكون للامة إمام يرجعون إليه ، ووزير يعوّلون عليه لأنه لو كان الأمر كذلك لم يزل الإسلام مقهورا ودعوته باطلة فصار وجود الإمام أصلا لوجوده على ما قلنا.

وأما الجواب عن انكارهم بقاءه في السرداب من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه ففيه جوابان : أحدهما بقاء عيسى عليه‌السلام في السّماء من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه ، وهو بشر مثل المهدي عليه‌السلام فكما جاز بقاؤه في السماء والحال هذه فكذلك المهدي في السّرداب.

فإن قلت : إن عيسى عليه‌السلام يغذيه رب العالمين من خزانة غيبه.

قلت : لا تفنى خزائنه بانضمام المهدي إليه في غذائه فإن قلت : إن عيسى ليس من طبيعته البشرية قلت هذا دعوى باطلة لأنه تعالى قال لأشرف أنبيائه : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) (١).

فإن قلت : اكتسب ذلك من العالم العلوي ، قلت : هذا يحتاج إلى توقيف ولا سبيل إليه : والثاني: بقاء الدجال في الدير على ما تقدم بأشد الوثائق ، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبه بالحديد ، وفي رواية في بئر موثوق ، وإذا كان بقاء الدجال ممكنا على الوجه المذكور من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه ، فما المانع من بقاء المهدي عليه‌السلام مكرما من غير الوثاق إذ الكل في مقدور الله تعالى؟ فثبت أنّه غير ممتنع شرعا ولا عادة ، ثم ذكر بعد هذه الابحاث خبر سطيح ووقائع وحوادث تجرى وزلازل من فتن ، ثم إنّه يذكر خروج المهدي عليه‌السلام وإنه يملأ الأرض عدلا وتطيب الدنيا وأهلها في أيام دولته (٢).

قال الشيخ الفاضل في كتاب كشف الغمة بعد أن ذكر ما ذكرناه عقيب : هذه الأبحاث والجوابات لا تثبت لنا حجة ولا تقطع الخصم ولا تضره لما يرد عليها من الايرادات وتطويله في اثبات بقاء المسيح عليه‌السلام وإبليس والدجال ، فهي مثل الضروريات عند المسلمين فلا حاجة إلى التكلف لتقريرها ، والجواب المختصر ما ذكرته آنفا وهو أن النقل قد ورد به من طرق المؤالف والمخالف ، والعقل لا يحيله فوجب القطع به ، فأما قوله : إن المهدي عليه‌السلام في سرداب وكيف يمكن بقاؤه من غير أحد يقوم بطعامه وشرابه فهذا قول عجيب وتصور غريب فإن الذين أنكروا وجوده عليه‌السلام لا يوردون

__________________

(١) الكهف : ١١٠.

(٢) كفاية الطالب : ٥٢١ ـ ٥٣٣.

١٤٥

هذا ، والذين يقولون بوجوده لا يقولون : إنه في سرداب ، بل يقولون : إنه حي موجود يحل ويرتحل ويطوف في الأرض ببيوت وخيم وخدم وحشم وإبل وخيل وغير ذلك ، وينقلون قصصا في ذلك وأحاديث يطول شرحها ، وأنا أذكر من ذلك قصتين قرب عهدهما من زماني ، وحدّثني بهما جماعة من ثقاة إخواني.

الأولى : أنه كان في بلاد الحلة شخص يقال له إسماعيل بن الحسن الهرقلي من قرية يقال لها هرقل مات في زماني وما رأيته (ولكن حكى) وحكى لي ولده شمس الدين قال : حكى لي والدي أنه خرج فيه وهو شاب على فخذه الأيسر توثة مقدار قبضه الانسان وكانت في كل ربيع تشقق ويخرج منها دم وقيح ويقطعه ألمها عن كثير من اشغاله ، وكان مقيما بهرقل ، فحضر إلى الحلة يوما ودخل إلى مجلس السيد السعيد رضي الدين عليّ بن طاوس رحمه‌الله وشكا إليه ما يجده منها فقال : أريد أن أداويها فأحضر له أطباء الحلة وأراهم الموضع فقالوا : هذه التوثة فوق العرق الأكحل في علاجها خطر ، إن قطعت خيف أن يقطع العرق فيموت ، فقال السعيد رضي الدين قدس الله روحه : أنا متوجّه إلى بغداد وربما كان أطباؤها أعرف وأحذق من هؤلاء فاصحبني ، فصعد معه وحضر الاطباء فقالوا كما قال أولئك فضاق صدره فقال له السعيد أن الشرع قد فسح لك في الصلاة في هذه الثياب وعليك الاجتهاد في الاحتراس ، فلا تغرر بنفسك والله تعالى قد نهى عن ذلك ورسوله فقال والدي : إذا كان الأمر هكذا وقد وصلت إلى بغداد فتوجه في زيارة المشهد الشريف بسر من رأى على مشرّفه السلام ثم انحدر إلى أهلي ، فحسن ذلك فترك ثيابه ونفقته عند السعيد رضي الدين وتوجه.

قال : فدخلت المشهد وزرت الأئمة عليهم‌السلام ونزلت السرداب استغثت بالله تعالى وبالامامعليه‌السلام وقضيت بعض الليل في السرداب وبتّ في المشهد إلى الخميس ، ثم مضيت إلى دجلة فاغتسلت ولبست ثوبا نظيفا وملأت إبريقا كان معي وصعدت أريد المشهد فرأيت أربعة فرسان خارجين من باب السور ، وكان حول المشهد قوم من الشرفاء يرعون أغنامهم فحسبتهم منهم فالتقينا فرأيت شابين أحدهما عبد مخطوط وكل واحد فهما متقلد بسيف ، وشيخا منقّبا بيده رمح والآخر مقلد بسيف وعليه فرجية ملونة فوق السيف وهو متحنك بعذبته فوقف الشيخ صاحب الرمح يمين الطريق ووضع كعب الرمح على الأرض ، ووقف الشابان عن يسار الطريق وبقي صاحب الفرجية على الطريق مقابل والدي ، ثم سلّموا عليه فرد عليهم‌السلام فقال له صاحب الفرجية : أنت غدا تروح إلى أهلك؟ فقال له : نعم فقال له : تقدّم حتى أبصر ما يوجعك ، قال : فكرهت ملامستهم وقلت

١٤٦

في نفسي : أهل البادية ما يكادون يحترزون من النجاسة وأنا قد خرجت من الماء وقميصي مبلول ثم ، إني مع ذلك تقدمت إليه فلزمني بيده ومدني إليه وجعل يلمس جانبي من كتفي إلى أن أصابت يده التوثة فعصرها بيده فأوجعني ثم استوى على سرجه كما كان ، فقال لي الشيخ : أفلحت يا إسماعيل ، فعجبت من معرفته اسمي ، فقلت : أفلحنا وأفلحتم إن شاء الله تعالى.

قال : فقال لي الشيخ : هذا هو الإمام عليه‌السلام ، قال : فتقدمت إليه واحتضنته وقبلت فخذه ثم إنه ساق وأنا أمشي معه محتضنه ، فقال : ارجع فقلت : لا افارقك أبدا فقال : المصلحة رجوعك فأعدت عليه مثل القول الأول فقال الشيخ : يا إسماعيل ما تستحي ، يقول لك الإمام مرتين ارجع وتخالفه ، فجبهني بهذا القول فوقفت ، فتقدم خطوات والتفت إلي وقال : إذا وصلت بغداد فلا بدّ أن يطلبك أبو جعفر يعني الخليفة المنتصر (١) ، فإذا حضرت عنده وأعطاك شيئا فلا تأخذه وقل لولدنا الرضي ليكتب لك إلى عليّ بن عوض فإنّني أوصيه يعطيك الذي تريد ، ثم سار وأصحابه معه فلم أزل قائما أبصرهم حتى بعدوا وحصل عندي أسف لمفارقته ، فقعدت إلى الأرض ساعة ثم مضيت إلى المشهد فاجتمع القوم حولي وقالوا : نرى وجهك متغيرا ، أوجعك شيء؟ قلت : لا ، قالوا : أخاصمك أحد؟ قلت : لا ، ليس عندي مما تقولون خبر ، ولكن أسألكم هل عرفتم الفرسان الذين كانوا عندكم فقالوا : هم الشرفاء أرباب الغنم فقلت : لا ، بل هو الإمام فقالوا : الإمام هو الشيخ أو صاحب الفرجية ، فقلت : هو صاحب الفرجية فقالوا : أريته المرض الذي كان فيك؟ فقلت : هو قبضه بيده فأوجعني ، ثم كشفت رجلي فلم أر لذلك المرض أثرا ، فداخلني الشك من الدهش فأخرجت رجلي الاخرى فلم أر شيئا.

فانطبق الناس عليّ ومزّقوا القميص ، وأدخلني القوام خزانة ومنعوا الناس عني وكان ناظر بين النهرين بالمشهد فسمع الضجة وسأل عن الخبر فعرّفوه فجاء إلى الخزانة وسألني عن اسمي فسألني : منذ كم خرجت من بغداد؟ فعرّفته أني خرجت من بغداد أول الاسبوع فمشى عنّي ، وبتّ بالمشهد وصليت الصبح وخرجت وخرج الناس معي إلى أن بعدت عن المشهد ورجعوا عني ووصلت إلى ايوان فبت بها ، وبكرت منها أريد بغداد فرأيت الناس مزدحمين على القنطرة العتيقة يسألون من ورد عليهم عن اسمه ونسبه وأين كان فسألوني عن اسمي وعن نسبي ومن أين جئت؟ فعرّفتهم فاجتمعوا عليّ ومزقوا ثيابي ولم يبق لي في روحي حكم ، وكان الناظر بين النهرين كتب إلى بغداد وعرّفهم الحال ثم حملوني إلى بغداد وازدحم الناس عليّ وكادوا يقتلوني من كثرة

__________________

(١) في المصدر : المستنصر.

١٤٧

الزحام ، وكان الوزير القمي قد طلب السعيد رضي الدين رحمه‌الله فتقدم أن يعرّفه صحة الخبر.

قال : فخرج رضي الدين ومعه جماعة فتوافينا باب النوبى فرد أصحابه الناس عني فلمّا رآني قال : أعنك يقولون؟ قلت : نعم ، فنزل عن دابته وكشف فخذي فلم ير شيئا فغشي عليه ساعة وأخذ بيدي وأدخلني على الوزير وهو يبكي ويقول : يا مولانا هذا أخي وأقرب الناس إلى قلبي ، فسألني الوزير عن القصة فحكيت له فاحضر الاطباء الذين أشرفوا عليها وأمرهم بمداواتها وقالوا ما دواؤها إلّا القطع بالحديد، ومتى قطعها مات ، فقال لهم الوزير : بتقدير أن تقطع ولا يموت في كم يبرأ؟ فقالوا : في شهرين وتبقى في مكانها حفيرة بيضاء لا ينبت فيها شعر ، وسألهم الوزير : متى رأيتموه فقالوا : منذ عشرة أيام ، فكشف الوزير عن الفخذ الذي كان فيه الألم وهي مثل أختها ليس فيها أثر أصلا ، فصاح أحد الحكماء: هذا عمل المسيح فقال الوزير : حيث لم يكن عملكم فنحن نعرف من عملها ، ثم إنه أحضر عند الخليفة المستنصر فسأله عن القصة فعرّفه بها كما جرى ، فتقدم له بالف دينار فلمّا حضرت قال : خذ هذه فأنفقها فقال ما أجرأ آخذ منه حبة واحدة فقال الخليفة : ممن تخاف؟ فقال من الذي فعل معي هذا قال: لا تأخذ من أبي جعفر شيئا فبكى الخليفة وتكدّر ، وخرج من عنده ولم يأخذ شيئا.

قال الشيخ الفاضل عليّ بن عيسى في كشف الغمة عقيب ذلك : كنت في بعض الأيام أحكي هذه القصة لجماعة عندي ، وكان شمس الدين محمد ولده عندي ، وأنا لا أعرفه فلمّا انتقضت الحكاية قال : أنا ولده لصلبه فعجبت من هذا الاتفاق فقلت : هل رأيت فخذه وهي مريضة؟ فقال : لا لأني أصبو عن ذلك ولكني رأيت بعد ما صلحت ولا أثر فيها وقد نبت في موضعها شعر.

وقال علي بن عيسى أيضا : وسألت السيد صفي الدين محمد بن محمد بن بشر العلوي الموسوي ونجم الدين حيدر بن الأيسر رحمهما‌الله وكانا من أعيان الناس وسراتهم وذوي الهيئات منهم ، وكانا صديقين لي وعزيزين عندي فأخبراني بصحة هذه القصة وأنهما رأياها في حال مرضها وحال صحتها ، وحكى لي ولده هذا أنه كان بعد ذلك شديد الحزن لفراقه عليه‌السلام حتى إنه جاء إلى بغداد وأقام بها فصل الشتاء ، وكان كل يوم يزور سامراء ويعود إلى بغداد فزارها في تلك السنة أربعين مرة طمعا أن يعود له الوقت الذي مضى ، أو يقضي له الحظ بما قضى ، ومن الذي أعطاه دهره الرضا أو ساعده بمطالب صرف القضاء؟ فمات بحسرته وانتقل إلى الآخرة بغصّته ، والله يتولاه وإيّانا برحمته وكرامته.

ثم قال الثانية : عليّ بن عيسى في كشف الغمة : وحكى لي السيد باقي عطوة العلوي الحسيني

١٤٨

أن أباه عطوة كان به أدرة وكان زيدي المذهب ، وكان ينكر على بنيه الميل إلى مذهب الإمامية ويقول : لا اصدقكم ولا أقول بمذهبكم حتى يجيء صاحبكم ـ يعني المهدي ـ فيبرئني من هذا المرض ، ويكرر هذا القول منه ، فبينا نحن مجتمعون عنده وقت العشاء الآخرة إذا أبونا يصيح ويستغيث بنا ، فأتيناه سراعا فقال : الحقوا صاحبكم فالساعة خرج من عندي فخرجنا فلم نر أحدا فعدنا إليه وسألناه فقال : إنه دخل إليّ شخص وقال : يا عطوة ، فقلت : من أنت فقال : أنا صاحب بنيك قد جئت لأبرئك مما بك ، ثم مدّ يده وعصر قروتي ومشى ، فمددت يدي فلم أر بها أثرا ، قال لي ولده : وبقي مثل الغزال ليس به قروة ، واشتهرت هذه القصة وسألت عنها غير ابنه فأقرّ بها.

والأخبار عنه عليه‌السلام في هذا الباب كثيرة وأنه رآه جماعة قد انقطعوا له في طريق الحجاز وغيرها وخلصهم وأوصلهم إلى حيث أرادوا ، ولو لا التطويل لذكرت منها جملة ولكن هذا القدر الذي قرب عهده من زماني كاف انتهى كلام عليّ بن عيسى (١).

__________________

(١) كشف الغمة : ٣ / ٢٩٦ ـ ٣٠١.

١٤٩

نصيحة لطيفة وهداية شريفة نختم بها هذا الكتاب

وهو أن نقول : إياك أيها الواقف على ما في هذا الكتاب من الأخبار والروايات من طريق العامة أن يدخلك الشك والريب فيما قلناه عنهم في أبواب الكتاب في إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأنه الخليفة ووصيه من بعده عليه‌السلام ، وغير ذلك من النصوص عليه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في فضله وفضل أهل البيت عليهم‌السلام وإمامة الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام ورواياتهم ذلك في صحاحهم وكتبهم المعتمدة وأخبارهم المسندة عن رجالهم الموثوق بهم كما اطلعت عليه ، والثناء منهم على مشايخهم في أسانيدهم للأخبار الواردة عنهم في هذا الكتاب ، فإنّي ما ذكرت عنهم في هذا الكتاب إلّا ما هو مذكور في كتبهم ومصنفاتهم المعتمدة المنقولة عنهم ، والله جلّ جلاله على ذلك من الشاهدين وكفى بالله شهيدا والحمد لله رب العالمين.

فإن قلت : كيف يروون هذه الأخبار الصحيحة والروايات الواضحة الدالة على إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وبنيه الأحد عشر وهم الأئمة الاثنا عشر بنص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم بالإمامة والخلافة والوصاية من غير معارض لها من الروايات من طريق الفريقين المخالف والمؤالف.

[قلت :] فإنّه لم يدّع مدّع من العامة بأن إمامة أبي بكر وعمر وعثمان [كانت] عن نص من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وإنما كانت بيعة من بعض الناس كما هو عليه إجماع العامة والخاصة ، فبقيت النصوص الواردة عن رسول الله سالمة من الروايات المعارضة لهذه الروايات المجمع على نقلها من المؤالف والمخالف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بامامة الأئمة الاثني عشر ، الذي هو مذهب الفرقة المحقّة الاثني عشرية شيعة آل محمد صلى الله عليهم أجمعين.

فإن قلت : هذا من العجب ، كيف تروي العامة هذه الأخبار الصحيحة عندهم من إمامة الأئمة الاثني عشر ولا يعملون بها؟ بل يقدمون على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في الإمامة ، وهذا لم يأت به نص من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالتقديم عليه ، بل روت العامة والخاصة النهي عن التقديم عليه في الإمامة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهذا من أعجب العجائب والخسران المبين والضلال البعيد فما دعاهم إلى ذلك حتى قدّموا ما أخّر الله سبحانه وأخّروا ما قدّم الله جلّ جلاله.

١٥٠

قلت : عملوا ذلك لأسباب :

منها : الميل إلى الدنيا وطلب ما فيها من الجاه والمال ، وحب الدنيا رأس كل خطيئة ، من ذلك ما نقله أبو المؤيد موفق بن أحمد أخطب الخطباء عند العامة في الفصل التاسع من كتابه في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : قال الشعبي : ما ندري ما نصنع بعلي رضى الله عنه إن أحببناه افتقرنا وإن أبغضناه كفرنا (١)؟.

ومنها : العلة الكبرى والمصيبة العظمى ، تقليد الآباء والسلف الماضين من علمائهم المعلولين بهذه العلل فضلّوا وأضلوا.

ومنها : الحسد للأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام ما أعطاهم من هذا المنصب الشريف والمترقي المنيف من أمر الله جلّ جلاله الخلق باتباعهم وفرض طاعتهم عليهم قال الله جلّ جلاله : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (٢) الآية ، وقد روى المؤالف والمخالف في تفسير هذه الآية عن أبي جعفر محمد بن عليّ الباقر عليه‌السلام هم الناس المحسودون (٣).

ومنها : اتباع الهوى وما تهوى الأنفس وقد جاءهم من ربهم الهدى ، وجحود الحق وترك العمل به ، قال الله جلّ جلاله في كتابه إخبارا عن أهل الكتاب : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) (٤) وقال جلّ جلاله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) (٥) يعني أهل الكتاب يعرفون نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بنعت الله جلّ جلاله ووصفه لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله في التوراة والإنجيل وقال تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٦) وقال عزوجل : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٧).

وقال تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)(٨).

وقال جلّ ذكره : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) (٩).

__________________

(١) مناقب الخوارزمي ٣٣٠ / ٣٥٠.

(٢) النساء : ٥٤.

(٣) تفسير العياشي ١ / ٢٤٦ ح ١٥٣.

(٤) البقرة : ٨٩.

(٥) البقرة : ١٤٦.

(٦) النمل : ١٤.

(٧) الأنعام : ١١١.

(٨) الأنعام : ٧.

(٩) الحجر : ١٤ ـ ١٥.

١٥١

وقال سبحانه وتعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) (١).

وغير ذلك من الآيات ، وإذا كان من الناس ما ذكر الله سبحانه وتعالى لا يستبعد على هؤلاء النقلة من العامة للأحاديث الصّحاح والروايات الواضحات عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من النص على إمامة أمير المؤمنين وبنيه الأحد عشر الذين آخرهم المهدي عليه‌السلام بالإمامة والخلافة والوصاية ومالوا عنهم وانحرفوا عنهم لأحد الاسباب التي ذكرناها ؛ لأن هؤلاء النقلة إنما هم من جملة الذين يجوز عليهم الضلالة والهدى واتباع الحق وتركه كغيرهم من سائر الناس ؛ إذ ليس بين العلم والعمل لزوم كلي ، يجوز انفكاك أحدهما عن الآخر ، فربّ عالم لا يعمل ، ورب عامل بغير علم ، وهذا واضح بيّن ، والحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

__________________

(١) التوبة : ١١٥.

١٥٢

في رسائل الجاحظ حول أحقية الأمير عليه‌السلام بالخلافة وأفضليته

وأختم كتابي هذا برسالتي أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ وهو من أعيان علماء المخالفين من العامة مما ذكر فيهما واستدلّ على أن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب هو الإمام بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله دون أبي بكر بأدلّة قطعية وبراهين بيّنة وهو لا يتهم في ذلك ؛ بل هو حجة عليه وعلى جميع الفرق القائلين بإمامة أبي بكر ، والجاحظ هذا من المتعصبين المنحرفين عن أمير المؤمنين عليه‌السلام ، بل هو عثماني مرواني ، وفي الرسالتين أيضا تفضيل بني هاشم على غيرهم ، وهاتان الرسالتان أوردهما الشيخ الفاضل الثقة الورع الشيخ عليّ بن عيسى تغمده الله تعالى برحمته في أول كتاب كشف الغمة.

قال رحمه‌الله : وقع إليّ رسالة من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في التفضيل أثبتها مختصرا ألفاظها وترجمتها : رسالة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ في الترجيح والفضل ، نسخت من مجموع الأمير أبي محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله قال : هذا كتاب من اعتزل الشك والظن والدعوى والاهواء وأخذ باليقين والثقة من طاعة الله وطاعة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبإجماع الأمة بعد نبيها صلى‌الله‌عليه‌وآله مما تضمنه الكتاب والسنّة وترك القول بالآراء فإنّها تخطئ وتصيب ، لأن الأمة أجمعت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله شاور أصحابه في الأسرى ببدر ، واتفق رأيهم على قبول الفداء منهم فأنزل الله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) (١) الآية فقد بان لك أن الرأي يخطئ ويصيب ولا يعطي اليقين ، وإنما الحجة الطاعة لله ولرسوله وما أجمعت عليه الأمة من كتاب الله وسنّة نبيها ، ونحن لم ندرك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا أحدا من أصحابه الذين اختلفت الأمة في أحقهم فنعلم أيّهم أولى ونكون معهم كما قال الله تعالى : (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (٢) ونعلم أيّهم على الباطل فنجتنبهم وكما قال الله تعالى : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) (٣) حتى أدركنا العلم فطلبنا معرفة الدين وأهله وأهل الصدق والحق ، فوجدنا الناس مختلفين يبرأ بعضهم من بعض ويجمعهم في حال اختلافهم فريقان : أحدهما قالوا : إن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله مات ولم يستخلف أحدا وجعل ذلك إلى المسلمين يختارونه ،

__________________

(١) الأنفال : ٦٧.

(٢) التوبة : ١١٩.

(٣) النحل : ٧٨.

١٥٣

فاختاروا أبا بكر ، والآخرون قالوا : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله استخلف عليا عليه‌السلام فجعله إماما للمسلمين بعده ، وادّعى كل فريق منهم الحق ، فلمّا رأينا ذلك أوقفنا الفريقين لنبحث ونعلم المحقّ من المبطل ، فسألناهم جميعا : هل للناس بدّ من وال يقيم أعيادهم ويجبي زكاتهم ويفرقها على مستحقيها ويقضي بينهم ويأخذ لضعيفهم من قويهم ويقيم حدود الله؟ فقالوا : لا بدّ من ذلك.

فقلنا : هل لأحد أن يختار أحدا فيوليه من غير نظر في كتاب الله وسنة نبيه.

فقالوا : لا يجوز ذلك إلّا بالنظر ، فسألناهم جميعا عن الإسلام الذي أمر الله به.

فقالوا : إنه الشهادتان والإقرار بما جاء به من عند الله والصلاة والصوم والحج بشرط الاستطاعة لإجماعهم ، والعمل بالقرآن يحل حلاله ويحرم حرامه فقبلنا ذلك منهم ثم سألناهم جميعا هل لله خيرة من خلقه اصطفاهم واختارهم.

فقالوا : نعم ، فقلنا ما برهانكم؟ قالوا قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) (١) فسألناهم عن الخيرة فقالوا : هم المتقون ، قلنا : ما برهانكم؟ قالوا : قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٢) فقلنا هل لله خيرة من المتقين؟ قالوا : نعم ، المجاهدون بدليل قوله تعالى : (فَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً) (٣) فقلنا : هل لله خيرة من المجاهدين؟.

قالوا جميعا : نعم ، السابقون من المهاجرين إلى الجهاد بدليل قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ) (٤) الآية ، فقبلنا ذلك منهم لاجماعهم عليه ، وعلمنا أن خيرة الله من خلقه المجاهدون السابقون إلى الجهاد ، ثم قلنا : هل لله خيرة منهم؟

قالوا : نعم ، قلنا : ومن هم؟ قالوا : أكثرهم عناء في الجهاد وطعنا وضربا وقتلا في سبيل الله بدليل قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (٥) (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) (٦) فقبلنا ذلك منهم وعلمناه وعرفنا أن خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد وأبذلهم لنفسه في طاعة الله وأقتلهم لعدوه ، فسألناهم عن هذين الرجلين عليّ بن أبي طالب وأبي بكر أيّهما كان أكثر عناء في الحرب وأحسن بلاء في سبيل الله فأجمع الفريقان على أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام أنه كان أكثر طعنا وضربا وأشد قتالا وأذبّ في دين الله ورسوله ، فثبت بما ذكرناه من اجماع الفريقين ودلالة الكتاب والسنة أن عليا عليه‌السلام أفضل ، فسألناهم ثانيا عن خيرته تعالى من المتقين.

__________________

(١) القصص : ٦٨.

(٢) الحجرات : ١٣.

(٣) النساء : ٩٥.

(٤) الحديد : ١٠.

(٥) الزلزلة : ٧.

(٦) البقرة : ١١٠.

١٥٤

فقالوا : هم الخاشعون بدليل قوله تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) (١) إلى قوله تعالى : (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) (٢). وقال تعالى (وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) (٣) ثم سألناهم جميعا : من هم الخاشعون؟

فقالوا : هم العلماء لقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (٤) ، ثم سألناهم جميعا : من أعلم الناس؟

قالوا : أعلمهم بالعدل (٥) وأهداهم إلى الحق وأحقهم أن يكون متبوعا ولا يكون تابعا بدليل قوله تعالى : (يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ) (٦) فجعل الحكومة إلى أهل العدل ، فقبلنا ذلك منهم ثم سألناهم عن أعلم الناس بالعدل من هو؟ فقالوا : أدلّهم عليه ، قلنا : فمن أدلّ الناس عليه؟ قالوا أهداهم إلى الحق وأحقهم أن يكون متبوعا ولا يكون تابعا بدليل قوله : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) (٧) الآية ، فدلّ كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله والإجماع أن أفضل الأمة بعد نبيها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام لأنه إذا كان أكثرهم جهادا كان أتقاهم ، وإذا كان اتقاهم كان أخشاهم ، وإذا كان أخشاهم كان أعلمهم، وإذا كان أعلمهم كان أدلّ على العدل ، وإذا كان أدلّ على العدل كان أهدى الأمة إلى الحق ، وإذا كان أهدى كان أولى أن يكون متبوعا وأن يكون حاكما لا تابعا ولا محكوما عليه ، واجتمعت الأمة بعد نبيها أنّه خلف كتاب الله تعالى ذكره وأمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر وإلى سنته صلى‌الله‌عليه‌وآله فيقتدون بهما ويستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه ، فإذا قرأ قارئهم (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) (٨) فيقال له اثبتها ، ثم يقرأ (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٩) وفي قراءة ابن مسعود : إن خيركم عند الله أتقاكم، ثم يقرأ : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ* هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ* مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) (١٠) فدلّت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشعون ، ثم يقرأ حتى إذا بلغ إلى قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) (١١) فيقال له : اقرأ حتى ننظر هل العلماء أفضل من غيرهم أم لا؟ حتى إذا بلغ إلى قوله تعالى : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١٢) علم أن العلماء أفضل من غيرهم ، ثم يقال : اقرأ ، فإذا بلغ الى قوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ

__________________

(١) ق : ٣١.

(٢) ق : ٣٣.

(٣) الأنبياء : ٤٨ ـ ٤٩.

(٤) فاطر : ٢٨.

(٥) في المصدر : بالقول.

(٦) المائدة : ٩٥.

(٧) يونس : ٣٥.

(٨) القصص : ٦٨.

(٩) الحجرات : ١٣.

(١٠) ق : ٣١ ـ ٣٣.

(١١) فاطر : ٢٨.

(١٢) الزمر : ٩.

١٥٥

الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) (١) قيل قد دلت هذه الآية على أن الله قد اختار العلماء وفضلهم ورفعهم درجات وقد اجمعت الأمة على أن العلماء من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذين يؤخذ عنهم العلم كانوا أربعة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وعبد الله بن العباس رضى الله عنه وابن مسعود وزيد بن ثابت رحمهم‌الله ، وقالت طائفة : عمر بن الخطاب ، فسألنا الأمة من أولى بالتقديم إذا حضرت الصلاة فقالوا: إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «يؤم بالقوم أقرأهم» (٢) ثم أجمعوا على أن الأربعة كانوا أقرأ لكتاب الله تعالى من عمر فسقط عمر ثم سألنا الأمة : أي هؤلاء الأربعة أقرأ لكتاب الله وأفقه لدينه؟ فاختلفوا فوقفناهم حتى نعلم ثم سألناهم : أيّهم أولى بالإمامة ، فأجمعوا على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إن الأئمة من قريش» (٣) فسقط ابن مسعود وزيد بن ثابت وبقي عليّ بن أبي طالب وابن عباس فسألنا : أيهما أولى بالإمامة؟ فقالوا إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : إذا كانا عالمين فقيهين قرشيين فاكبرهما سنا وأقدمهما هجرة ، فسقط عبد الله بن عبّاس رضى الله عنه وبقي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات الله عليه ، فيكون أحق بالإمامة لما اجتمعت عليه الأمة ولدلالة الكتاب والسنّة عليه (٤). هذا آخر رسالة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ.

__________________

(١) المجادلة : ١١.

(٢) المغني ١ / ٦١٧ ، الشرح الكبير ١ / ٤٦٣.

(٣) مسند أحمد ٣ / ١٢٩.

(٤) كشف الغمة ١ / ٣٧ ـ ٤١.

١٥٦

رسالة أخرى لأبي عثمان عمرو بن بحر

هذا ، نقلها عليّ بن عيسى في كتاب كشف الغمة قال : رسالة وقعت إلي من كلام أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ أذكرها مختصرا لها.

قال : اعلم حفظك الله أن أصول الخصومات معروفة بيّنة وأبوابها مشهورة كالخصومة بين الشعوبية والعرب والكوفي والبصري والعدناني والقحطاني ، وهذه الابواب الثلاثة أنقص للعقول السليمة وأفسد للاخلاق الحسنة من المنازعة في القدر والتشبيه وفي الوعد والوعيد والاسماء والاحكام وفي الآثار وتصحيح الأخبار ، وأنقص من هذه للعقول تمييز الرجال وترتيب الطبقات وذكر تقديم عليّ عليه‌السلام وأبي بكر ، فأولى الاشياء بك القصد وترك الهوى فإن اليهود نازعت النصارى في المسيح فلجّ بهما القول حتى قالت اليهود : إنه ابن يوسف النجار وإنه لغير رشده وإنه صاحب تبريج (١) وخدع ومخاريق وناصب شرك وصياد سمك وصاحب شص وشبك ، فما يبلغ من عقل صياد وربيب نجار؟ وزعمت النصارى أنّه رب العالمين وخالق السموات والأرضيين وإله الأولين والآخرين ، فلو وجدت اليهود أسوأ من ذلك القول لقالته فيه ، ولو وجدت النصارى أرفع من ذلك القول لقالته فيه ، وعلى هذا قال عليّ عليه‌السلام : «يهلك فيّ رجلان محبّ مفرط ومبغض مفرط» (٢) والرأي كل الرأي أن لا يدعوك حبّ الصحابة إلى بخس عترة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله حقوقهم وحظوظهم ، فإن عمر لمّا كتبوا الدواوين وقدّموا ذكره أنكر ذلك وقال : ابدءوا بطرا في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وضعوا آل الخطاب حيث وضعهم الله ، قالوا : فأنت أمير المؤمنين فأبى إلّا تقديم بني هاشم وتأخير نفسه ، فلم ينكر عليه منكر وصوبوا رأيه وعدّوا ذلك من مناقبه.

واعلم أن الله لو أراد أن يسوّي بين بني هاشم وبين الناس لما أبانهم بسهم ذوي القربى ولما قال : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٣) وقال الله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٤) وإذا كان لقومه في ذلك ما ليس لغيرهم فكل من كان أقرب كان ارفع ، ولو سوّاهم بالناس لما حرم عليهم الصدقة ، وما هذا التحريم إلّا لإكرامهم على الله ولذلك قال للعبّاس حيث طلب ولاية الصدقات : لا أوّليك غسالات

__________________

(١) في المصدر : نيرنج.

(٢) بحار الأنوار ١٠ / ٢١٧ ح ١٨.

(٣) الشعراء : ٢١٤.

(٤) الزخرف : ٤٤.

١٥٧

خطايا الناس وأوزارهم ، بل أوّليك سقاية الحاج والإنفاق على زوّار الله ، ولهذا كان رباه أول ربا وضع ، ودم ربيعة بن الحارث أول دم أهدر لأنهما القدوة في النفس والمال ، لهذا قال عليّ عليه‌السلام على منبر الجماعة : «نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد» (١) وصدق عليه‌السلام ، كيف يقاس بقوم منهم رسول الله وآله، الأطيبان عليّ وفاطمة والسبطان الحسن والحسين والشهيدان أسد الله حمزة وذو الجناحين جعفر وسيّد الوادي عبد المطلب وساقي الحجيج العبّاس وحليم البطحاء والنجدة والخير فيهم ، والأنصار أنصارهم ، والمهاجر من هاجر إليهم ومعهم ، والصدّيق من صدقهم ، والفاروق من فرق بين الحق والباطل فيهم ، والحواري حواريهم ، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم ، ولا خير إلّا فيهم ولهم ومنهم ومعهم وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله فيما أبان به أهل بيته : «إني تارك فيكم الخليفتين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض» (٢) ولو كانوا كغيرهم لما قال عمر حين طلب مصاهرة عليّ : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول: «كل سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي» (٣).

واعلم أن الرجل قد ينازع في تفضيل ماء دجلة على ماء الفرات فإن لم يتحفظ وجد في قلبه على شارب ماء دجلة رقة لم يكن يجدها ، ووجد في قلبه غلظة على شارب ماء الفرات لم يكن يجدها ، فالحمد لله الذي جعلنا لا نفرق بين أبناء نبينا ورسولنا فنحكم لجميع المرسلين بالتصديق ولجميع السلف بالولاية ، ونخص بني هاشم بالمحبة ونعطي كل امرئ قسطه من المنزلة ، فأمّا عليّ ابن أبي طالب عليه‌السلام فلو أفردنا لأيامه الشريفة ومقاماته الكريمة ومناقبه السنية كلاما لأفنينا في ذلك الطوامير الطوال ، العرق صحيح والمنشأ كريم والشأن عظيم والعمل جسيم والعلم كثير والبيان عجيب واللسان خطيب والصدر رحيب ، فأخلاقه وفق أعراقه وحديثه يشهد بقديمه ، وليس التدبير في وصف مثله إلّا ذكر جمل قدره واستقصاء جميع حقه ، وإذا كان كتابنا لا يحتمل تفسير جميع أمره ففي هذه الجملة بلاغ لمن أراد معرفة فضله.

وأما الحسن والحسين عليهما‌السلام فمثلهما مثل الشمس والقمر فمن أعطى ما في الشمس والقمر من المنافع العامة والنعم الشاملة التامة ولو لم يكونا ابني عليّ عليه‌السلام من فاطمة عليها‌السلام ، ورفعت من وهمك كل رواية وكل سبب توجبه القرابة لكنت لا تقرن بهما أحدا من أجلّة أولاد المهاجرين والصحابة إلّا أراك فيهما الإنصاف من تصديق قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنهما سيّدا شباب أهل الجنة» (٤) وجميع من هما

__________________

(١) بحار الأنوار ٢٦ / ٢٦٩ ح ٥.

(٢) بحار الأنوار ٢٢ / ٤٦٥ ح ١٩.

(٣) بحار الأنوار ٣٩ / ١٠٨ ح ٢٢.

(٤) بحار الأنوار ٤٦ / ٨١ ح ٦.

١٥٨

سادته سادة ، والجنة لا تدخل إلّا بالصدق والصبر وإلّا بالحلم والعلم وإلّا بالطهارة والزهد وإلّا بالعبادة والطاعة الكثيرة والأعمال الشريفة والاجتهاد والأثرة والإخلاص في النية ، فدلّ على أن حظهما في الاعمال المرضية والمذاهب الزكية فوق كل خط.

وأما محمد بن الحنفية فقد أقرّه الصادر والوارد والحاضر والبادي أنه كان واحد دهره ورجل عصره وكان أتم الناس تماما وكمالا.

وأما : عليّ بن الحسين عليه‌السلام فالناس على اختلاف مذاهبهم مجمعون عليه لا يتمرى أحد في تدبيره ولا يشك أحد في تقديمه ، وكان أهل الحجاز يقولون لم نر ثلاثة في دهر يرجعون إلى أب قريب كلّهم يسمّى عليا وكلّهم يصلح للخلافة لتكامل خصال الخير فيهم ، يعنون عليّ بن الحسين ابن عليّعليهم‌السلام وعليّ بن عبد الله بن جعفر وعليّ بن عبد الله بن العبّاس رضي الله عنهم ، ولو عزونا لكتابنا هذا ترتبهم لذكرنا رجال أولاد علي لصلبه وولد الحسين وعليّ بن الحسين ومحمد بن عبد الله بن جعفر ومحمد بن علي بن عبد الله بن العبّاس إلّا أنا ذكرنا جملة من القول فيهم فاقتصرنا من الكثير على القليل.

وأمّا : النجدة فقد علم أصحاب الأخبار وحمّالو الآثار أنّهم لم يسمعوا بمثل نجدة عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وحمزة رضي الله عنه ولا يصير جعفر الطيار رضوان الله عليه ، وليس في الأرض قوم أثبت جنانا ولا أكثر مقتولا تحت ظلال السيوف ولا أجدر أن يقاتلوا ، وقد فرّت الأخيار وذهبت الصنائع وخام ذو البصيرة وجاد أهل النجدة من رجالات بني هشام وهم كما قيل :

وخام الكمى وطاح اللوى

ولا تأكل الحرب إلّا سمينا

وكذلك قال دغفل (١) حين وصفهم : أنجاد أمجاد ذوو ألسنة حداد.

وكذلك قال عليّ عليه‌السلام حين سئل عن بني هاشم وبني أمية : نحن أنجد وأمجد وأجود ، وهم أنكر وأمكر وأغدر.

وقال أيضا : نحن أطعم للطعام وأضرب للهام ، وقد عرفت جفاء المكيين وطيش المدنيين واعراق بني هشام مكية ومناسبهم مدنية ، ثم ليس في الأرض أظهر أخلاقا ولا أطهر بشرا ولا أدوم دماثة ولا ألين عريكة ولا أطيب عشيرة ولا أبعد من كبر منهم ، والحدة لا يكاد يعدمها الحجازي والتهامي إلّا أن حليمهم لا يشق غباره ، وذلك في الخاص والجمهور على خلاف ذلك حتى تصير إلى بني هاشم ، فالحلم في جمهورهم وذلك يوجد في الناس كافة ، ولكنا نضمن أنّهم أتم الناس

__________________

(١) هو دغفل بن حنظلة النسابة أحد بني شيبان.

١٥٩

فضلا وأقلهم نقصا ، وحسن الخلق في البخيل أسرع وفي الذليل أوجد وفيهم مع فرط جودهم وظهور عزّهم من البشر الحسن والاحتمال وكرم التفاضل ما لا يوجد مع البخيل الموسر والذليل المكثر اللذين يجعلان البشر وقاية دون المال ، وليس في الأرض خصلة تدعو إلى الطغيان والتهاون بالأمور وتفسد العقول وتورث السكر إلّا وهي تعتريهم وتعرض لهم دون غيرهم ؛ إذ قد جمعوا مع الشرف العالي والمغرس الكريم والعز والمنعة مع ابقاء البأس عليهم والهيئة لهم وهم في كل أوقاتهم وجميع أعصارهم فوق من هم على مثل ميلادهم في الهيئة الحسنة والمروءة الظاهرة والأخلاق المرضية ، وقد عرف الحدث العزيز من فتيانهم وذوي الغرامة من شبانهم أنه إن افترى لم يفتر عليه وإن ضرب لم يضرب ، ثم لا تجده إلّا قوي القلب بعيد الهمة كثير المعرفة مع خفة ذات اليد وتعذر الأمور ، ثم لا تجد عند أفسدهم شيئا من المنكر إلّا رأيت في غيره من الناس أكثر منه من مشايخ القبائل وجمهور العشائر ، وإذا كان فاضلهم فوق كل فاضل وناقصهم أنقص نقصانا من كل ناقص فأي دليل أدل وأي برهان أوضح مما قلناه؟

وقد علمت أن الرجل فيهم ينعت بالتعظيم والرواية في دخول الجنة بغير حساب ويتأول القرآن له ويزداد في طمعه في كل حيلة وينقص من خوفه ويحتج له بأنّ النار لا تمسه وأنه ليشفع في مثل ربيعة ومضر وأنت تجد لهم مع ذلك العدد الكثير من الصوّام والمصلين والتالين الذين لا يجاريهم أحد ولا يقاربهم ، كان أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب يصلّي في كل ليلة ألف ركعة وكذا عليّ ابن الحسين بن عليّ وعليّ بن عبد الله بن جعفر وعليّ بن عبد الله بن العبّاس عليهم‌السلام مع العلم والحلم وكظم الغيظ والصفح الجميل والاجتهاد المبرز ، فلو أن خصلة من الخصال أو داعية من هذه الدواعي عرضت لغيرهم لهلك وأهلك ، واعلم أنهم لم يمتحنوا بهذه المحن ولم يتحملوا هذه البلوى إلّا لما قدموا من العزائم التامة والادوات الممكنة ولم يكن الله ليزيدهم في المحنة إلّا وهم يزدادون على شدة المحن خبرا وعلى التكشف تهذيبا.

وجملة اخرى مما لعلي بن أبي طالب خاصة الأب أبو طالب بن عبد المطلب والجد عبد المطلب بن هاشم والأم فاطمة بنت أسد بن هاشم ، والزوجة فاطمة بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سيّد النساء أهل الجنة والولد الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنة والأخ جعفر الطيار في الجنة ، والعم العباس وحمزة سيّد الشهداء في الجنة ، والعمة صفية بنت عبد المطلب وابن العم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأول هاشمي من هاشميين، كان في الأرض ولد أبي طالب والأعمال التي يستحق بها الخير أربعة : التقدم في الإسلام ، والذب عن رسول الله وعن الدين ، والفقه في الحلال والحرام ، والزهد في

١٦٠