تراثنا ـ العددان [ 69 و 70 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 69 و 70 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٢

وقال وكيع : ما شككتم في شيء فلا تشكّوا أنّ جابراً الجعفي ثقة.

وقال ابن عبـد الحكم : سمعت الشافعي يقول : قال سفيان الثوري لشعبة : إنّ تكلّمت في جابر الجعفي لأتكلّمنّ فيك ...» (١).

فإذا كان جابر من رجال ثلاثة من الصحاح ، ثمّ من مشايخ أئمّةٍ ، كالثوري وشعبة وأبي عوانة ، وأنّهم قالوا هذه الكلمات في توثيقه ... فإنّه يكفينا للاحتجاج قطعاً ؛ إذْ ليس عندهم من المحدّثين من أجمعوا على وثاقته إلاّ الشاذ النادر ، فهم لم يجمعوا على وثاقة مثل البخاري صاحب الصحيح.

على أنّ ما ذكروه جرحاً فيه فليس من أسباب الجرح والقدح ؛ لأنّ كلمات الجارحين تتلخّص في أنّه : «كان من علماء الشيعة» ، وأنّه كان : «يحدّث بأخبار لا يُصبر عنها» في فضل أهل البيت ، وأنّه : «كان يؤمن بالرجعة» ... ولا شيء من هذه الأُمور بقادح ، لا سيّما بالنظر إلى ما تقدّم عن أئمّة القوم من التأكيد على ورعه في الحديث ، والنهي عن التشكيك في أنّه ثقة ، حتّى أنّ مثل سفيان يقول لمثل شعبة : «إن تكلّمت في جابر الجعفي لأتكلّمن فيك»!

وبما ذكرناه كفاية ، لمن طلب الرشاد والهداية.

وبه تتبيّن مواضع الزور والدجل والتدليس في كلام المفتري.

الحديث «٦» :

قال أبو نعيم : «حدّثنا محمّـد بن حميد ، ثنا علي بن سراج المصري ، ثنا محمّـد بن فيروز ، ثنا أبو عمرو لاهز بن عبـد الله ، ثنا معتمر بن سليمان ،

____________

(١) ميزان الاعتدال ١ / ٣٧٩ ـ ٣٨٤.

٦١

عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : ثنا أنس بن مالك ، قال : بعثني النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى أبي برزة الأسلمي ، فقال له وأنا اسمع : يا أبا برزة! إنّ ربّ العالمين عهد إليّ عهداً في عليّ بن أبي طالب فقال : إنّه راية الهدى ، ومنار الإيمان ، وإمام أوليائي ، ونور جميع من أطاعني .. يا أبا برزة! عليّ بن أبي طالب أميني غداً في القيامة ، وصاحب رايتي في القيامة على مفاتيح خزائن رحمة ربّي.

حدّثنا أبو بكر الطلحي ، ثنا محمّـد بن علي بن دحيم ، ثنا عباد بن سعيد بن عباد الجعفي ، ثنا محمّـد بن عثمان بن أبي البهلول ، حدّثني صالح ابن أبي الأسود ، عن أبي المطهّر الرازي ، عن الأعشى الثقفي ، عن سلام الجعفي ، عن أبي برزة ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : إنّ الله تعالى عهد إليّ عهداً في عليّ ، فقلت : يا ربّ بينّه لي؟ فقال : اسمع : فقلت : سمعت ، فقال : إنّ عليّاً راية الهدى ، وإمام أوليائي ، ونور من أطاعني ، وهو الكلمة التي ألزمتها المتّقين ، من أحبّه أحبنّي ومن أبغضه أبغضني ، فبشّره بذلك. فجاء عليّ فبشّرته ...» (١).

وأخرجه ابن عساكر عن أبي علي الحداد ، عن أبي نعيم الحافظ (٢) ..

وأخرجه بإسناد له غيره فقال : «أخبرنا أبو البركات عمر بن إبراهيم ابن محمّـد الزيدي ، أنا أبو الفرج الشاهد ، أنا أبو الحسن محمّـد بن جعفر النجّار النحوي ، أنا أبو عبـد الله محمّـد بن القاسم المحاربي ، نا عبّاد بن يعقوب ، أنا علي بن هاشم ، عن محمّـد بن عبيد الله بن أبي رافع ، عن عون بن عبيد الله ، عن أبي جعفر وعن عمر بن علي ، قالا : قال رسول الله

____________

(١) حلية الأولياء ١ / ٦٦ ـ ٦٧.

(٢) تاريخ دمشق ٤٢ / ٢٩٠.

٦٢

صلّى الله عليه وآله وسلّم : ...

(قال ابن عساكر :) هذا مرسل» (١).

ولم يتكلّم ابن عساكر على الإسناد السابق.

وأمّا قوله في الإسناد الأخير : «مرسل» فيردّه أنّ الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام لا يروي إلاّ عن آبائه ، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. وعمر بن علي إنّما رواه عن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام ..

ولو كان في الحديث مطعن لذكره ابن عساكر ، لكنّه حديث معتبر بلاريب ؛ لأنّ رجاله ثقات بلا كلام ..

و «عبـاد بن يعقوب» الرواجـني من رجال البخاري ، والترمذي ، وابن ماجة ؛ قال ابن حجر : «صدوق رافضي ، حديثه في البخاري مقرون ، بالغ ابن حبّان فقال : يستحقّ الترك» (٢) ..

و «علي بن هاشم» بن البريد من رجال البخاري في المتابعات ، ومسلم ، والأربعة ؛ وقال ابن حجر : «صدوق يتشيّع» (٣).

فالحقّ مع السـيّد في قوله :

«وأنت ترى هذه الأحاديث السـتّة نصوصاً صريحة في إمامته ولزوم طاعته عليه السلام».

الحديث «٧» :

أخرجه طب عن سلمان وأبي ذرّ معاً. هق ، عد عن حذيفة. كذا قال

____________

(١) تاريخ دمشق ٤٢ / ٢٧٠.

(٢) تقريب التهذيب ١ / ٣٩٤.

(٣) تقريب التهذيب ٢ / ٤٥.

٦٣

المتّقي (١).

وسند الحديث عند الطبراني هكذا : «حدّثنا علي بن إسحاق الوزير الأصبهاني ، حدّثنا إسماعيل بن موسى السدّي ، ثنا عمر بن سعيد ، عن فضيل بن مرزوق ، عن أبي سخيلة ، عن أبي ذرّ وعن سلمان ، قالا : أخذ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بيد عليّ رضي الله عنه فقال : إنّ هذا ...» (٢).

وعند ابن عساكر بإسناده ... أنا عمرو بن سعيد البصري ، عن فضيل ابن مرزوق ، عن أبي سخيلة ، عن سلمان وأبي ذرّ ... (٣).

وقال الهيثمي بعد أن رواه عن سلمان وأبي ذرّ : «رواه الطبراني ، والبزّار عن أبي ذرّ وحده ... وفيه : عمرو بن سعيد المصري ، وهو ضعيف» (٤).

وفي تهذيب الكمال في مَن روى عن فضيل بن مرزوق : عمر بن سعد البصري (٥).

أقـول :

فقد وقع التحريف والخلط في اسم الرجل واسم أبيه ولقبه ، فهل هو : «عمر» أو «عمرو»؟! وأبوه : «سعد» أو «سعيد»؟! وهو : «البصري» أو «المصري»؟!

____________

(١) كنز العمّال ١١ / ٦١٩ برقم ٣٢٩٩٠.

(٢) المعجم الكبير ٦ / ٢٦٩ برقم ٦١٨٤.

(٣) تاريخ دمشق ٤٢ / ٤١.

(٤) مجمع الزوائد ٩ / ١٠٢.

(٥) تهذيب الكمال ٢٣ / ٣٠٦.

٦٤

وقد روي الحديث عن ابن عبّـاس أيضاً ، وأخرجه ابن عساكر بإسناد فيه عبـد الله بن داهر ، قال : «ستكون فتنة ، فمن أدركها منكم فعليه بخصلتين : كتاب الله وعليّ بن أبي طالب ، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول وهو آخذ بيد عليّ : هذا أوّل من آمن بي ...».

ثمّ قال ابن عساكر : «قال ابن عدي : عامّة ما يرويه ابن داهر في فضائل عليّ هو فيه متّهم» (١).

فلم يتّهم الرجل بكذبٍ أو غيره من أسباب الضعف ، وإنّما «عامّة مايرويه في فضائل عليّ» ، فهذا ذنبه؟!

فانظر كيف يحاولون الطعن في الأحاديث النبوية الواردة في المناقب العلوية؟!!

الحديث «٨» :

هذا الحديث أخرجه الطبراني في الكبير ، وأبو نعيم في الحلية ، كما قال المتّقي (٢)).

ورواه الهيثمي فقال : «رواه الطبراني ، وفيه : إسحاق بن إبراهيم الضبيّ ، وهو متروك» (٣).

أقـول :

الظاهر أنّ الغلط في نسخة الهيثمي هو الذي أوقعه في هذا الاشتباه ؛

____________

(١) تاريخ دمشق ٤٢ / ٤٢.

(٢) كنز العمّال ١١ / ٦١٩ برقم ٣٣٠٠٧ ، ١٣ / ١٤٣ برقم ٣٦٤٤٨.

(٣) مجمع الزوائد ٩ / ١٣٢.

٦٥

لأنّه لم يعرفه بهذا الاسم واللقب ، لكن الرجل هو : «إبراهيم بن إسحاق الصيني» ، وهو ليس بمتروك ..

قال السمعاني : «إبراهيم بن إسحاق : كوفي ، كان يتّجر في البحر ، ورحل إلى الصين ، وهو من بلاد المشرق ، يروي عن أبي عاتكة ، عن أنس ، عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، قال : اطلبوا العلم ولو بالصين» (١).

قـيل :

«قد أخرجه أبو نعيم في الحلية ، وهو حديث موضوع ، ومجرّد العزو إليه مشعر بالضعف ، كما هو مقرَّر عند أهل العلم بالحديث».

أقـول :

قد عرفت أنّ الحديث أخرجه الطبراني ، وأبو نعيم ، وغيرهما من الأئمّة والحفّاظ ، وسنده خال من الإشكال.

وليس العزو إلى أبي نعيم مشعراً بالضعف ، بل لا بُدّ من النظر في سند الحديث ومتنه أيّاً كان الراوي له ... ولا يجوز ردّ الأحاديث النبوية بمجرّد التشهّي. ولا الطعن في العلماء ورواياتهم بلا دليل.

الحديث «٩» :

قـيل :

«٩ ، ١٠ ـ أنا مدينة العلم وعليّ بابها .. الحديث. أنا دار الحكمة

____________

(١) الأنساب ٣ / ٥٨٣ «الصيني».

٦٦

وعليّ بابها .. الحديث.

هذا حديث مطعون فيه ؛ قال يحيى بن معين : لا أصل له. وقال البخاري : إنّه منكر وليس له وجه صحيح. وقال الترمذي : إنّه منكر غريب. وذكره ابن الجوزي في الموضوعات. وقال ابن دقيق العيد : لم يثبتوه ، وقال النووي والذهبي والجزري : إنّه موضوع. (مختصر التحفة الاثني عشرية : ١٦٥).

وقال ابن الجـوزي : وثمّ في الطريق الثاني (أنا دار الحكمة ... الحديث) : محمّـد بن عمرو الرومي ، قال ابن حبّان : كان يأتي عن الثقات بما ليس من حديثهم ، لا يجوز الاحتجاج به بحال. (رياض الجنّة : ١٥٠)».

أقـول :

هذان حديثان يختلفان سنداً ومتناً ، وحيث أنّ القوم لم يتكلّموا في الثاني كما تكلّموا في الأوّل منهما ، فقد خلط المفتري بينهما ، ليوهم القارئ أنّهما حديث واحد ، والطعن من بعضهم متوجّه إلى كليهما ، وهذه خيانة كبيرة .. وسيتضّح الأمر ..

والكلام الآن في الحديث الأوّل المرقّم برقم «٩» ، فنقول :

إنّه لمّا كان حـديث : «أنا مديـنة العلم ...» من أقوى ما يُحتجّ به عـلى إمامـة أمير المؤمنين عليه السلام ، وأوضحها دلالةً على أعلميّته وأفضليّته بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله ، فقد سعى القوم بشتّى الطرق لإسقاطه عن الاعتبار من حيث السند ، أو عن الدلالة على ما يذهب إليه أهل الحقّ ، ونحن نذكر طرقهم المختلفة في محاربة هذا الحديث ، ونوضّحها باختصار :

٦٧

فالطريق الأوّل : تكذيب الحديث سنداً ..

وهذا طريق بعض المتعصّبين منهم ، المناوئين لأمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، ومن أشهرهم ابن تيمية ، الذي يقول : «وحديث أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، أضعف وأوهى ، ولهذا إنّما يعدّ في الموضوعات ، وإن رواه الترمذي .. وذكره ابن الجوزي وبيّن أنّ سائر طرقه موضوعة. والكذب يعرف من نفس متنه ...» (١).

لكنّ الحديث ليس كذباً موضوعاً ، وما ذكره ابن الجوزي قد تعقبّه غير واحد من أئمّتهم ، كالحافظ السيوطي في اللآلي المصنوعة ..

ولا يخفى أنّ ابن تيمية يعترف بكونه من أحاديث صحيح الترمذي ، وسيأتي مزيد من الكلام في ذلك.

والحاصل : إنّهم قد رووا هذا الحديث بأسانيدهم عن أمير المؤمنين ، وعـن الإمامين السـبطين الحسـن والحسـين ، وعن عبـد الله بن العبّـاس ، وجابر ، وابن مسعود ، وحذيفة ، وأنس ، وابن عمر ، وعمرو بن العاص ..

وهو في كتب كثير من الأئمّة ، أخرجوه بطرقهم ، وقد نصّ على صحّته : يحيى بن معين ، وابن جرير الطبري ، والحاكم النيسابوري ، وجمع من كبار الحفّاظ ، ومنهم من نصّ على حسنه : كالحافظ العلائي ، والحافظ ابن حجر العسقلاني ، والحافظ السمهودي ، وأمثالهم.

وما نقل عن يحيى بن معين من أنّه قال : «لا أصل له» فكذب ؛ بدليل ما جاء في تهذيب الكمال للحافظ أبي الحجّاج المزّي ، وفي تهذيب

____________

(١) منهاج السُـنّة ٧ / ٥١٥.

٦٨

التهذيب للحافظ ابن حجر العسقلاني : «قال القاسم : سألت يحيى بن معين عن هذا الحديث ، فقال : صحيح» وكذلك النقل عنه في كلام الخطيب البغدادي ، والجلال السيوطي ، والشوكاني ، والمناوي ، وغيرهم (١).

فإذاً ، يحيى بن معين يقول بصحّة حديث : «أنا مدينة العلم ...».

ومن القائلين بصحّته : ابن جرير الطبري ، فيكتابه تهذيب الآثار ؛ قال السيوطي في جمع الجوامع : «وقال ابن جرير : هذا خبر صحيح سنده».

ومنهم : الحاكم صاحب المستدرك ، فإنّه قال : «هذا حديث صحيح الإسناد» ، ثمّ قال : «ولهذا الحديث شاهد من حديث سفيان الثوري بإسناد صحيح ...» (٢).

فلماذا الكذب على العلماء وإخفاء الحقائق أو إنكارها؟!

فإنّ الترمذي لم يقل عقيب حديث : «أنا مدينة العلم ...» ذلك ، بل سيأتي أنّ هذا الحديث قد أسقطه القوم من كتابه ؛ فلو كان قد طعن فيه لم يكن حاجة إلى إسقاطه من الكتاب ..

والبخاري إنّما تكلَّم في الحديث الثاني : «أنا دار الحكمة ...» كما في اللآلي المصنوعة والمقاصد الحسنة ؛ فدعوى تكلّمه في حديث : «أنا مدينة العلم ...» كاذبة.

وكذلك نسبة القول بكونه موضوعاً إلى بعض العلماء منهم ، فإنّها من الأكاذيب أيضاً ..

____________

(١) تهذيب الكمال ١٨ / ٧٧ ، تهذيب التهذيب ٦ / ٣١٩ ،. وانظر : تاريخ بغداد ١١ / ٤٩ ، جمع الجوامع ـ للسيوطي ـ ١ / ٣٨٣ ، فيض القدير بشرح الجامع الصغير ٣ / ٤٧ ، الفوائد المجموعة : ٣٤٩.

(٢) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٢٦ ـ ١٢٧.

٦٩

والطريق الثاني : مناقشة مدلول الحديث ..

ولكنّها مناقشات باطلة ، ومحاولات ساقطة ، ولذا احتاجوا إلى سلوك الطرق الأُخرى.

الطريق الثالث : تحريف لفظ الحديث والتلاعب بمتنه ..

كقول بعض النواصب : إنّ كلمة : «عليّ» فيه ليس عَلَماً ، وإنّما هو وصفٌ بمعنى العلوّ ؛ فمدينة العلم عالٍ بابها. لكنّه بلغ من السخافة حدّاً جَعلَ بعض علمائهم يردّه ويبطله ، كابن حجر المكّي وغيره (١) ..

وكزيادة آخرين فيه بفضائل لغيره ، فقد جاء في بعض كتبهم : «أنا مدينة العلم وأبو بكر أساسها وعمر حيطانها وعثمان سقفها وعليّ بابها» ، وقد نصّ العلماء على سقوطه ، كالسخاوي الحافظ ؛ إذ قال : «كلّها ضعيفة ، وألفاظ أكثرها ركيكة» (٢).

الطريق الرابع : تحريف الكتب ..

فإنّهم لمّا رأوا أنّ هذا الحديث قويٌ في دلالته ، ووجوده في الكتب المعتبرة يسبّب صحّة استدلال الإمامية به ، قاموا بتحريف الكتب .. ومن ذلك صحيح الترمذي ، فإنّ حديث : «أنا مدينة العلم وعليّ بابها» نقله جماعة من أكابر القوم ، كابن تيمية ، وابن الأثير ، وابن حجر ، وغيرهم ، عن الكتاب المذكور ، ولكنّه غير موجود فيه الآن.

____________

(١) المنح المكّية في شرح القصيدة الهمزية : ٣٠٤ ، فيض القدير ٣ / ٤٦.

(٢) المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة على الألسنة : ٤٧.

٧٠

فلينظر القارئ المنصف كيف يتلاعبون بأقوال النبيّ الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ولو كانوا أهل السُـنّة حقّاً لَما فعلوا هذه الأفاعيل ، وما قالوا هذه الأقاويل ، لكنهم يتّبعون سُـنّة بني أُمية ، ويقصدون محاربة السُـنّة النبوية الصحيحة ، ويأبى الله إلاّ أن يتمَّ نوره ..

الحديث «١٠» :

أخرجه الترمذي في صحيحه ، وقال : حديث حسن ، كما نصّ على ذلك الحفّاظ ، كمحبّ الدين الطبري المكّي (١).

وأخرجه ابن جرير الطبري وصحّحه ، كما نصّ على ذلك جماعة ، كالحافظ السيوطي في اللآلي المصنوعة (٢).

وقد نقل السيوطي تحسين الحافظ صلاح الدين العلائي كذلك.

وممّن أثبته في كتابه من الحفّاظ وكبار العلماء :

أبو نعيم الأصبهاني.

ابن مردويه الأصبهاني.

الخطيب التبريزي ، صاحب مشكاة المصابيح.

ابن حجر العسقلاني.

أبو محمّد الحسين بن الفرّاء البغوي.

المناوي ، صاحب شرح الجامع الصغير.

الزرقاني ، صاحب شرح الموطأ.

القسطلاني ، صاحب شرح البخاري.

____________

(١) ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى : ٧٧.

(٢) اللآلي المصنوعة ١ / ٣٣٢.

٧١

ن حجر المكّي ، صاحب الصواعق.

المتّقي الهندي ، صاحب كنز العمّال.

أقـول :

قد عرفنا حال عشرة أحاديث من الأربعين حديثاً التي أوردها السـيّد لتأييد النصوص في إمامة أمير المؤمنين ، من الصحّة في السـند والمتانة في الدلالة ، وعرفنا كيف يحاولون ردّ أحاديث مناقب أمير المؤمنين ودلائل إمامته بالزور والكذب.

وعلى حال هذه فقِس البقية .. على أنّ قسماً منها قد تقدّم البحث عنه في المراجعات السابقة ..

فالأوْلى صرف الوقت في تشييد سائر المراجعات ..

* * *

٧٢

المراجـعة (٥٠)

قال السـيّد ـ رحمه الله ـ :

في وجه الاستدلال بخصائص أمير المؤمنين على إمامته :

«إنّ من كان مثلكم ـ ثاقب الروية ، بعيد المرمى ، خبيراً بموارد الكلام ومصادره ، بصيراً بمراميه ومغازيه ، مستبصراً برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وحكمته البالغة ونبوّته الخاتمة ، مقدّراً قدره في أفعاله وأقواله ، وأنه لا ينطق عن الهوى ـ لا تفوته مقاصد تلك السُـنن ، ولا تخفى عليه لوازمها ، عرفاً وعقلاً ..

وما كان ليخفى عليك ـ وأنت من أثبات العربية وأسنادها (١) ـ أنّ تلك السُـنن قد أعطت عليّاً من المنازل المتعالية ما لا يجوز على الله تعالى وأنبيائه إعطاؤها إلاّ لخلفائهم وأُمنائهم على الدين وأهله ، فإذا لم تكن دالّة على الخلافة بالمطابقة ، فهي كاشفة عنها ألبتة ودالّة عليها لا محالة بالدلالة الالتزامية ، واللزوم فيها بيّن بالمعنى الأخصّ ، وحاشا سـيّد الأنبياء أن يعطي تلك المنازل الرفيعة إلاّ لوصيّه من بعده ، ووليّه في عهده ..

على أنّ من سبر غور سائر السُـنن المختصّة بعليّ ، وعجم عودها بروية وإنصاف ، وجدها بأسرها ـ إلاّ قليلاً منها ـ ترمي إلى إمامته ، وتدلّ عليها إمّا بدلالة المطابقة ، كالنصوص السابقة (٢) ، وكعهد الغدير ، وإمّا بدلالة

____________

(١) أثبات : بفتح الهمزة جمع «ثَبَت» بفتحتين ، وأسناد : جمع «سَنَد» بفتحتين أيضاً ، والثبت والسند هو الحجّة.

(٢) المذكورة في المراجعة ٢٠ والمراجعة ٢٦ والمراجعة ٣٦ والمراجعة ٤٠.

٧٣

الالتزام ، كالسُـنن التي أسلفناها في المراجعة ٤٨ ..

وكقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ ، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض (١) ..

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : عليّ منّي بمنزلة رأسي من بدني (٢) ..

وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في حديث عبد الرحمن بن عوف (٣) : والذي نفسي بيده لتقيمنّ الصلاة ، ولتؤتنّ الزكاة ، أو لأبعثنّ إليكم رجلاً منّي أو كنفسي .. الحديث ، وآخره : فأخذ بيد عليّ ، فقال : هو هذا ..

إلى ما لا يحصى من أمثال هذه السُـنن ، وهذه فائدة جليلة ألفت إليها كلّ غوّاص عن الحقائق ، كشّاف عن الغوامض ، موغل في البحث بنفسه لنفسه ، لا يتبع إلاّ ما يفهمه من لوازم تلك السُـنن المقدّسة ، بقطع النظر عن العاطفة».

* * *

____________

(١) أخرجه الحاكم في ص ١٢٤ ج ٣ من المستدرك ، والذهبي في تلك الصفحة من تلخيصه مصرّحين بصحّته ، وهو من الأحاديث المستفيضة ..

ومن ذا يجهل كون عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ بعد صحاح الثقلين ـ الكتاب والعـترة ـ فقف على ما أوردناه منها في المراجـعة ٨ ، واعرف حقّ إمام العترة وسـيّدها لا يدافع ولا ينازع.

(٢) أخرجـه الخـطيب من حـديث البـراء ، والديلمي من حديث ابن عبّـاس ، ونقله ابن حجر في ص ٧٥ من صواعقه ، فراجع الحديث ٣٥ من الأربعين حديثاً التي أوردها في الفصل ٢ من الباب ٩ من صواعقه.

(٣) وهو الحديث ٦١٣٣ ص ٤٠٥ ج ٦ من كنز العمّال ، وحسبك حجّة على أنّ عليّاً كنفس رسول الله آية المباهلة على ما فصّله الرازي في معناها من تفسيره الكبير (مفاتيح الغيب) ص ٤٨٨ ج ٢ ، ولا يفوتنّك ما ذكرناه في مباحث الآية من كلمتنا الغرّاء.

٧٤

المراجـعة (٥٢)

وقال ـ في ردّ دعوى المعارضة ـ :

«نحن نؤمن بفضائل أهل السوابق من المهاجرين والأنصار كافّة رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وفضائلهم لا تحصى ولا تستقصى ، وحسبهم ما جاء في ذلك من آيات الكتاب وصحاح السُـنّة ، وقد تدبّرناه إذ تتبّعناه فما وجدناه ـ كما يعلم الله عزّ وجلّ ـ معارضاً لنصوص عليّ ، ولا صالحاً لمعارضة شيء من سائر خصائصه.

نعم ، ينفرد خصومنا برواية أحاديث في الفضائل لم تثبت عندنا ، فمعارضتهم إيّانا بها مصادرة لا تُنتظر من غير مكابر متحكّم ، إذْ لا يسعنا اعتبارها بوجه من الوجوه ، مهما كانت معتبرة عند الخصم.

ألا ترى أنّا لا نعارض خصومنا بما انفردنا بروايته ، ولا نحتجّ عليهم إلاّ بما جاء من طريقهم ، كحديث الغدير ونحوه؟!

على أنّا تتبّعنا ما انفرد به القوم من أحاديث الفضائل ، فما وجدنا فيه شيئاً من المعارضة ، ولا فيه أي دلالة على الخلافة ، ولذلك لم يستند إليه ـ في خلافة الخلفاء الثلاثة ـ أحد ، والسلام».

أقـول :

قد قررّنا سابقاً أُموراً للبحث ، نشير إليها تشييداً لكلام السـيّد وتأييداً لِما تقدّم منّا وسيأتي من البحوث :

١ ـ إنّه إذا كان الحديث متّفقاً عليه بين الفريقين فإنّ الاعتماد عليه

٧٥

أحزم ، والاستدلال به أتمّ ، لا سيّما إذا كان معتبراً سنداً على أُصول الخصم باعتراف بعض علماء طائفته.

٢ ـ إنّ الاعتبار السندي لأيّ حديث ليس بمعنى أن يكون رواته موثّقين عند جميع أئمّة الجرح والتعديل ، بحيث لو وقع في السند رجل مختلف فيه فلا يكون صحيحاً ، وذلك لأنّ الرجال المتّفق على وثاقتهم عند القوم قليلون جـدّاً ، فإنّ فيهم من يقدح في البخاري وفي مسلم ، والقدح فـي سائر أرباب الصحاح موجود في غير واحدٍ من كتبهم .. بل يكفي للاحتجاج بالخبر عدم كون رواته مقدوحين عند الكلّ أو الأكثر.

٣ ـ إنّ كلّ حديثٍ ينفرد أحد الطرفين بروايته ، فإنّه لا يكون حجّةً على الطرف الآخر ولا يجوز الاحتجاج به عليه ، وهذه قاعدة مقرّرة عند علماء الفريقـين ، وأصحابنا ملتزمون بها في بحـوثهم ، بخلاف الخصوم ، فما أكثر استدلالهم بما ينفردون بروايته في فضل أئمّتهم ، وهذا مخالف للقاعدة ..

وممّن نصّ على هذه القاعدة الحافظ ابن حزم الأندلسي ، فإنّه قال في كتابه الفصل في بداية مباحث الإمامة ، في الاحتجاج على الإمامية :

«لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا فهم لا يصدّقونها ، ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدّقها ، وإنّما يجب أن يحتجّ الخصوم بعضهم على بعض بما يصدّقه الذي تقام عليه الحجّة به ، سواء صدّقه المحتجّ أو لم يصدّقه ؛ لأنّ من صدّق بشيء لزمه القول به أو بما يوجب العلم الضروري ، فيصير حينئذٍ مكابراً منقطعاً إن ثبت على ما كان عليه ...» (١).

____________

(١) الفصل في الملل والنحل ٤ / ١٥٩.

٧٦

٤ ـ إنّ استدلال أصحابنا بآيات الكتاب ـ مع النظر إلى شأن نزولها بحسب روايات أهل السُـنّة ـ وبالأحاديث الواردة في كتب القوم على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام ، إنّما هو لكون تلك الأدلّة نصوصاً ثابتة ، إمّا على إمامته بعد رسول الله بلا فصل ، وإمّا على أفضليّته من غيره بعد النبيّ ..

فأمّا النصّ على الإمامة فلا يجوز ردّه ؛ لأنّ ردّ النصّ الثابت عن رسول الله تكذيب له ، وهو كفر بإجماع المسلمين.

وأمّا النصّ على الأفضلية فيدلّ على الإمامة ؛ لحكم العقل بقبح تقدّم المفضول ، والأحاديث الواردة في صفات عليّ عليه السلام وحالاته المستلزمة للأفضلية من غيره ، وبالأسانيد المعتبرة ، كثيرة جدّاً ..

ثمّ إنّ الحكم العقلي المذكور ممّا يعترف به حتّى شيخ النواصب المكابرين ابن تيمية الحرّاني في منهاجه.

٥ ـ وأصحابنا دائماً مستعدّون لاستماع أيّة مناقشةٍ علمية مبنية على أُصول البحث وآداب المناظرة ..

وكذلك كان أُسلوب السـيّد مع الشيخ سليم البشري ـ شيخ الجامع الأزهر ـ.

وإذا كان الحاكم النيسابوري من أئمّة الحديث عند القوم ، وكان قد روى بسند صحيح في المستدرك عن أحمد بن حنبل ، قوله : «ما جاء لأحدٍ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من الفضائل ما جاء لعليّ ابن أبي طالب رضي الله عنه» (١) ..

وإذا كان الذهبي أيضاً من أئمّة الحديث ـ وقد تعقّب روايات الحاكم

____________

(١) المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٠٧.

٧٧

فـي تلخـيص المسـتدرك ـ قد وافق الحاكم في نقل هذا الكلام عن أحـمد ..

فقد جاز لنا أنْ نحتجّ على كلّ من يحترم أحمد بن حنبل ويتّبعه بكلامه المروي عنه في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام.

فما ظنّك بابن تيمية المكذّب لهذا النقل بلا أي دليل؟!

بل المنقول عن أحمد بن حنبل فوق هذا النصّ الذي رواه الحاكم ووافقه الذهبي ؛ فقد روى الحافظ ابن الجوزي ـ وهو ممّن يعتمد على كلماته وآرائه المكابرون ـ في كتابه في مناقب أحمد أنّه قال : «ما ورد لأحدٍ من الصحابة من الفضائل بالأسانيد الصحاح ما ورد لعليّ رضي الله عنه» (١) .. فهنا جملة : «الفضائل بالأسانيد الصحاح»!

وروى الحافظ ابن عبـد البرّ عن أحمد والنسائي أنّهما قالا : «بالأسانيد الحِسان» (٢).

وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني بترجمة الإمام عليه السلام : «ومناقبه كثيرة ، حتّى قال الإمام أحمد : لم ينقل لأحدٍ من الصحابة ما نقل لعليّ ، وكذا قال غيره ..

وتتّبع النسائي ما خصّ به من دون الصحابة ، فجمع من ذلك شيئاً كثيراً بأسانيد أكثرها جياد» (٣).

وقال في فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، بشرح عنوان : باب مناقب عليّ بن أبي طالب :

____________

(١) مناقب أحمد بن حنبل : ١٦٣.

(٢) الاستيعاب ٣ / ١١١٥.

(٣) الإصابة في معرفة الصحابة ٢ / ٥٠٧ ـ ٥٠٨.

٧٨

«قال أحـمد وإسماعيل القاضـي والنسائي وأبو علي النيسابوري : لم يرد في حـقّ أحـدٍ من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر ممّا جاء في عليّ» (١).

وقال ابن حجر المكّي : «قال أحمد : ما جاء لأحدٍ من الفضائل ما جاء لعليّ ، وقال إسماعيل القاضي والنسائى وأبو علي النيسابوري : لم يرد في حقّ أحدٍ من الصحابة بالأسانيد الصحاح الحسان أكثر ماورد في حقّ عليّ» (٢).

فليقرأ المنصف هذه الكلمات والاعترافات ..

ولينظر كيف يحتجّ الإمامية بها على الخصم؟! وكيف تُقابَل احتجاجاتهم بأنواع الزور والبهتان والظلم؟!!

للبحث صلة ...

____________

(١) فتح الباري في شرح صحيح البخاري ٧/٥٧.

(٢) المنح المكية في شرح القصيدة الهمزية : ٣٠١.

٧٩

عـدالة الصـحابة

(٩)

الشـيخ محمّـد السـند

ومتابعة لبقية قصاصات واقعة العقبة نتعرّض للبقية منها ..

قول ابن حزم في المحلّى : «ومن طريق مسلم (١) : نا زهير بن حرب ، نا أحمد الكوفي ، نا الوليد بن جُمَيع ، نا أبو الطفيل ، قال : كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة ما يكون بين الناس ، فقال : انشدك الله كم كان أصحاب العقبة؟ فقال له القوم : أخبره إذ سألك. قال ـ يعني حذيفة ـ : كنّا نخبر أنّهم أربعة عشر ، فإن كنت فيهم فقد كان القوم خمسة عشر ، وأشهد بالله أنّ اثني عشر منهم حرب لله ولرسوله ويوم يقوم الأشهاد ، وعذر ثلاثة ؛ قالوا : ما سمعنا منادي رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ولا علمنا بما أراد القوم».

إلى أن قال ابن حزم : «وأحاديث موقوفة على حذيفة ، فيها : أنّه كان يدري المنافقين ، وأنّ عمر سأله : أهو منهم؟ قال : لا ، ولا أخبر أحداً بعدك بمثل هذا ، وأنّ عمر كان ينظر إليه فإذا حضر حذيفة جنازة حضرها عمر وإن لم يحضرها حذيفة لم يحضرها عمر ، وفي بعضها : منهم شيخ لو ذاق

____________

(١) صحيح مسلم ٤ / ٢١٤٤ ح ١١.

٨٠