تراثنا ـ العددان [ 69 و 70 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 69 و 70 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٢

والحاصل إنّ الطرف الثاني الذي تمدحه الآيات هو في مقابل الطرف الأوّل المذموم لتولّي الأمر ..

والممدوح ها هنا كما هو معروف من الروايات ولدى المفسّرين هو عليّ بن أبي طالب عليه السلام ؛ إذ فدّى نفسـه للنبيّ صلى الله عليه وآله في ليلة المبيت على فراشـه.

وفي السورة الثانية قال تعالى : (فإذا أُنزلت سورةٌ محكمةٌ وذُكرَ فيها القتالُ رأيت الّذين في قلوبهم مرضٌ ينظرونَ إليك نظر المغشيِّ عليه من المـوت فأوْلى لهـم * طاعـةٌ وقولٌ معروفٌ فإذا عزمَ الأمرُ فلو صدقوا الله لكان خيراً لهم * فهل عسَيْتمْ إن تولّيْتم أن تُفسدوا في الأرض وتُقطّعوا أرحامكمْ * أُولئك الّذين لعنهمُ اللهُ وأصمّهمْ وأعمى أبصارهمْ) (١).

هذه الآيات تشير إلى وقوع استيلاء على مقاليد الأُمور من قبل فئة من المسلمين ، وهم : (الّذين في قلوبهم مرض) ، وهذا العنوان قد أشار القرآن الكريم إلى وجوده بين صفوف المسلمين منذ بداية نشأة الإسلام ، كما في سورة «المدّثر» ، رابع سورة نزلت على النبيّ صلى الله عليه وآله في مكّة في أوائل البعثة ..

وهذا التقارن بين سورة المدّثر وسورة محمّـد صلى الله عليه وآله دالّ على أنّ هدف هذه الفئة من الدخول في الإسلام منذ أوائل عهده هو الوصول إلى مسند القدرة وزمام الأُمور بعد النبيّ صلى الله عليه وآله ، كما هو طمعٌ وهدفٌ أُعلن على لسان كثير مـن القبائل التي كان النبيّ صلى الله عليه وآله يدعوها للدخول في الإسلام ؛

____________

(١) سورة محمّـد صلى الله عليه وآله ٤٧ : ٢٠ ـ ٢٣.

١٢١

فقد كانت مشارطتهم للدخول في الدين استخلافهم على زمام الأُمور بعد النبيّ صلى الله عليه وآله ، وكان النبيّ صلى الله عليه وآله يرفض هذا الشرط ، ويجيب بأنّ ذلك ليس له ، بل لله عزّ وجلّ ربّ العالمين.

ومع انضمام سورة التحريم إلى السور السابقة يتّضح جليّاً مفاد الإشارة في السور القرآنية ، وتتبيّن أوصاف مَن تُعرّض به الملحمة القرآنية.

وقد وقع نظير هذه الأنباء من الرسول صلى الله عليه وآله حول مجريات الاستيلاء على السلطة بعده ..

فقد روى البخاري ، عن عمر بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد : «قال : أخبرني جدّي ، قال : كنت جالساً مع أبي هريرة في مسجد النبيّ صلى الله عليه وآله بالمدينة ومعنا مروان ، قال أبو هريرة : سمعت الصادق المصدّق يقول : هلكة أُمّتي على يدي غلمة من قريش ، فقال مروان : لعنة الله عليهم غلمة. فقال أبو هريرة : لو شئت أن أقول بني فلان بني فلان لفعلت ..

فكنت أخـرج مع جـدّي إلى بني مروان حين ملكوا بالشام ، فإذا رآهـم غلماناً أحـداثاً قال لنا : عسـى هؤلاء أن يكونوا منهم. قلنا : أنت أعلم» (١).

قال ابن حجر في شرحه : «قال ابن بطّال : جاء المراد بالهلاك مبيّناً في حديث آخر لأبي هريرة أخرجه علي بن معبد ، وابن أبي شيبة من وجه آخر عن أبي هريرة ، رفعه : (أعوذ بالله من إمارة الصبيان. قالوا وما إمارة الصبيان؟ قال : إن أطعتموهم هلكتم ـ أي في دينكم ـ وإن عصيتموهم أهلكوكم ، إن في دنياكم بإزهاق النفس ، أو بإذهاب المال ، أو بهما) ..

____________

(١) صحيح البخاري : كتاب الفتن ب ٣ ـ فتح الباري ١٣ / ٩.

١٢٢

وفي رواية ابن أبي شيبة : (إنّ أبا هريرة كان يمشي في السوق ويقول : اللّهمّ لا تدركني سنة سـتّين ولا إمارة الصبيان) ، وفي هذا إشارة إلى أنّ أوّل الأُغيلمة كان في سنة سـتّين ، وهو كذلك ؛ فإنّ يزيد بن معاوية استُخلف فيها.

ـ إلى أن قال : ـ تنبيه : يتعجّب من لعن مروان الظلمة المذكورين مع أنّ الظاهر أنّهم من ولده ، فكأنّ الله تعالى أجرى ذلك على لسانه ليكون أشـدّ في الحجّة عليهم لعلّهم يتّعظون.

وقد وردت أحاديث في لعن الحكم والد مروان وما ولد ، أخرجها الطبراني وغيره ، غالبها فيه مقال ، وبعضها جـيّد» (١).

وكذا ما رواه البخاري في الباب الثاني من كتاب الفتن ـ وعنونه : باب قول النبيّ صلى الله عليه وآله : «سترون بعدي أُموراً تنكرونها» ـ : «وقال عبـدالله بن زيد ، قال النبيّ صلى الله عليه وآله : اصبروا حتّى تلقوني على الحوض»!!

ثمّ روى البخاري أحاديث في الباب تدعو إلى السكوت عن سلاطين الجور والإطاعة لهم ، وهي أشبه بنصوص السلطة من النصوص النبوية ..

قال تعالى : (والمؤمنونَ والمؤمناتُ بعضهم أولياء بعضٍ يأمرونَ بالمعروف وينْهَوْنَ عن المنكر) (٢) ..

وقال تعالى : (المنافقونَ والمنافقاتُ بعضهم من بعضٍ يأمرونَ بالمنكر وينهوْنَ عن المعروف) (٣) ..

____________

(١) فتح الباري ١٣ / ١٠ ـ ١١.

(٢) سورة التوبة (البراءة) ٩ : ٧١.

(٣) سورة التوبة (البراءة) ٩ : ٦٧.

١٢٣

وقال تعالى : (ولا ترْكنوا إلى الّذين ظلموا فتمَسّكُمُ النارُ) (١).

وبمثل هذه الملحمة القرآنية والإسرار النبوي ما رواه البخاري أيضاً في كتاب الفتن : الباب الأوّل والرابع من اقتراب الفتن بعده صلى الله عليه وآله ، وإحداث أصحابه بعده صلى الله عليه وآله ..

وكلّ ذلك خارج مخرج التحذير والإنذار .. (حكمةٌ بالغةٌ فما تُغنِ النُذُرُ) (٢).

للبحث صلة ...

____________

(١) سورة هود ١١ : ١١٣.

(٢) سورة القمر ٥٤ : ٥.

١٢٤

الشواهد الشعرية في مؤلّفات

المحقق الكركي

الشيخ محمّد الحسون

بسـم الله الرحمن الرحـيم

المحقّق الكركي علي بن الحسين بن عبـد العالي (ت ٩٤٠ هـ) علمٌ من أعلام الطائفة الحقّة ، وشخصية سياسية بارزة في النصف الأوّل من القرن العاشر الهجري.

ولا يستطيع الدارس لتلك الفترة الزمنية المهمّة والحساسة بأحداثها وتحوّلاتها السياسية أن يتجاوز الكركي دون أن يقف على مكانته العلمية المرموقة ودوره في تطوير العلوم الإسلامية ـ خصوصاً الفقه ـ بما توصّل إليه من نظريّات جديدة صهرها في بودقة مؤلّفاته الكثيرة.

لقد استطاع الكركي أن يرفد المكتبة الإسلامية بثمانين مُؤلَّفاً تقريباً ، مختلفة في مواضيعها وحجمها وأساليبها ، فمنها الكتب الاستدلالية المطوّلة ، كـ : جامع المقاصد ، وحواشيه على شرائع الإسلام وإرشاد الأذهان ومختلف الشيعة ، ومنها الرسائل الصغيرة التي خصّص كلّ منها لبحث مسألة علمية واحدة.

١٢٥

وقد جَمعتْ هذه المؤلّفات بين سهولة العبارة وبلاغتها ، وبين متانة محتواها وقوّة دلالتها على المطلوب.

ونظرة سريعة لآثار هذا الرجل الفذّ المتمثّلة بمؤلّفاته وإجازاته ، يتّضح لنا جليّاً القدرة البلاغية العالية التي كان يتّصف بها.

ولا عجب في ذلك ؛ فقد نشأ وترعرع ودرس في جبل عامل ، وهو آنذاك مدرسة علميّة تتّصف بقوّة بلاغتها ، ثمّ سافر إلى عواصم البلدان الإسلامية كمصر ودمشق وبيت المقدس وتتلمذ على كبار علمائها.

وقد استشهد الكركي في مصنّفاته بمجموعة من الأبيات الشعريّة ، فقمتُ بجمعها بعد استقراءٍ كاملٍ لمؤلّفاته جميعها ، سواء المطبوع منها والمخطوط ، فأوردتُ الشاهد الشعري مرتّباً حسب القافية ، وأوضحت كيفية الاستشهاد به ، وتحدّثت قليلاً عن قائله ، والمناسبة التي قيل فيها.

والحمد لله ربّ العالمين.

* * *

١٢٦

(١)

تَوَدُّ عَدِوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أنَّنِي

صَدِيقُكَ إنَّ الرَأيَ عَنْك لَعـازِبُ

استشهد به المحقّق الكركي في رسالته نفحات اللاهوت ، عند كلامه على وجوب موالاة أولياء الله تعالى ومودّتهم ، ومعاداة أعدائه والبراءة منهم ، وذكر عدّة آيات دالّة على ذلك ، ثمّ قال : فهذه الآيات ناطقة بوجوب معاداة أعداء الله ، بل دالّة على أنّ ذلك جزء من الإيمان ، فإنّ مخالف ذلك لا يمكن أن يكون مؤمناً ، وقاعدة لسان العرب تقتضي ذلك أيضاً ، قال الشاعر : ... ـ وذكر البيت ـ.

ثمّ قال : فمودّة العدوّ خروج عن ولاية الوليّ ، فكما يحرم الخروج عن موالاة الله وأوليائه ، كذلك يحرم الدخول في موالاة أعداء الله وأعداء أوليائه. وقد روي أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول : «اللّهمّ لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي نعمة ، فإنّي وجدت في ما أوجبته : (لا تَجِدُ قَوماً يُؤمِنُونَ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حادَّ اللهَ) (١).

والبيت الذي يأتي بعد هذا الشاهد :

وليس أخي مَنْ ودَّني رَأيَ عَينِهِ

ولكنْ أخي مَن ودَّني وهو غائبُ (٢)

وقائل هذين البيتين هو كلثوم بن عمرو بن أيوب بن عبيد ، المعروف بالعتّابي ، من شعراء الدولة العبّـاسـية ، اتّصل بالبرامكة فترة من الزمن ، فوصفوه للرشيد ، ووصلوه به ، فبلغ عنده كلّ مبلغ ، وعظمت فوائده منه.

____________

(١) سورة المجادلة ٥٨ : ٢٢ ، الدرّ المنثور ٨ / ٨٧ ، تفسير القرآن العظيم ـ لابن كثير ـ ٤ / ٣٥٣ ، نفحات اللاهوت : ٤٦.

(٢) العقد الفريد ٢ / ٢٢٧.

١٢٧

كان شاعراً مترسّلاً بليغاً ، مطبوعاً في فنون الشعر ، تتلمذ عليه وأخذ منه وروى شعره منصور النمري (١).

له كلمات أدبيّة يجريها بعض الأُدباء مجرى الحِكم ..

منها : الأُخوان ثلاثة أصناف : فرع بائن من أصله ، وأصل متّصل بفرعه ، وفرع ليس له أصل.

فأمّا الفرع البائن من أصله ، فإخاء بُني على مودّة ثمّ انقطعت ، فحفظ على ذمام الصحبة.

وأمّا الأصل المتّصل بفرعه ، فإخاء أصله الكرم وأغصانه التقوى.

وأمّا الفرع الذي لا أصل له ، فالمموّه الظاهر الذي ليس له باطن (٢).

ومنها : ما رأيتُ الراحة إلاّ مع الخلوة ، ولا الأُنس إلاّ مع الوحشة (٣).

ومنها : ببكاء القلم تبتسم الكتب (٤).

ومنها : الأقلام مطايا الفِطَن (٥).

(٢)

فإنْ كُنتَ بالشُّورى مَلكْتَ أُمورَهُمْ

فَكيْفَ بِهذَا والمُشيروُنَ غُيَّبُ

وإنْ كُنْتَ بِالقُرْبَى حَجَجْتَ خَصِيمَهُـمْ

فَغَيـرُكَ أوْلـى بِالنَّـبـيّ وَأقْـرَبُ

ذكرهما في رسالته نفحات اللاهوت عند تحدّثه عن مظلومية الإمام عليّ عليه السلام ..

____________

(١) الأغاني ١٣ / ١٠٩.

(٢) العقد الفريد ٢ / ٢٢٦.

(٣) العقد الفريد ٣ / ١٦٥.

(٤) العقد الفريد ٤ / ٢٧٨.

(٥) العقد الفريد ٤ / ٢٧٩.

١٢٨

قال : وفي كلام أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة مواضع متعدّدة هي كالصريحة في المطلوب ، وفيها من التوجّع والتألّم ما يفتّ الكبد ويوهي الجلد ، أحببتُ أن أُورد منها نبذة ؛ لأنّ أكثر ذلك مروي من طرق أهل السُـنّة ، وما من شـيء إلاّ وقـد ذكر الشيخ عزّ الدّين عبـد الحميد بن أبي الحديد إسناده من طرقهم ومَن أورده منهم ، فمن ذلك الخطبة المعروفة بالشقشقية.

وبعد ذكره لها قال : ومن كلامه عليه السلام : «يا عجباً! أن تكون الخلافة بالصحابة ولا تكون بالصحابة والقرابة!!» ويروى له عليه السلام شعر في هذا المعنى : ... ـ وذكر البيتين ـ.

ثمّ قال : ومن كلامه عليه السلام من هذا النمط شيء كثير لمن تتبّعه ، ولسنا بصدد حصره ؛ لأنّ اليسير منه كافٍ في الدلالة على ما نحن بصدده لمن كان طالباً للحقّ ومتحرّياً للصواب. ولعمري من وقف على ما أثبتناه من الدلائل ، واطّلع على ما أوردناه من الحجج ، فلم يعرف الحقّ من كلّ واحد منها ، ولا تبيّن له طريق الهدى من جملتها ، لسقيم الفؤاد ، وشديد المرض بداء العناد ، مأيوس من برئه بعلاج الكلام ، إذ لا دواء له بعد إلاّ الضرب بالحسام ، والمؤاخذة بعظيم الانتقام (١).

وشرح ابن أبي الحديد المعتزلي كلامه عليه السلام قائلاً : حديثه عليه السلام في النثر والنظم المذكورين مع أبي بكر وعمر ..

أمّا النثر فإلى عمر توجيهه ؛ لأنّ أبا بكر لمّا قال لعمر : امدد يدك ، قال له عمر : أنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وآله في المواطن كلّها ، شدّتها

____________

(١) نفحات اللاهوت : ١٣١ ـ ١٣٣ ، نهج البلاغة : ٥٠٢ ـ ٥٠٣ خطبة ١٩٠ ، ديوان الإمام عليّ عليه السلام : ١٣٨ ـ ١٤٠.

١٢٩

ورخائها ، فامدد أنت يدك. فقال عليّ عليه السلام : إذا احتججتَ لاستحقاقه الأمر بصحبته إياه في المواطن كلّها ، فهلاّ سلّمت الأمر إلى من قد شركه في ذلك وزاد عليه بالقرابة!!

وأمّا النظم فموجّه إلى أبي بكر ؛ لأنّ أبا بكر حاجّ الأنصار في السقيفة فقال : نحن عترة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبيضته التي تفقّأت عنه. فلمّا بويع احتجّ على الناس بالبيعة ، وأنّها صدرت عن أهل الحلّ والعقد. فقال عليّ عليه السلام : أمّا احتجاجك على الأنصار بأنّك من بيضة رسول الله صلى الله عليه وآله ومن قومه ، فغيرك أقرب نسـباً منك إليه ، وأمّا احتجاجك بالاختيار ورضى الجماعة بك ، فقد كان قوم من جـملة الصحابة غائبين لم يحضـروا العقد ، فكيف يثبت (١)؟!

(٣)

فَوَاللهِ لَوْلا اللهُ لأ شَيْءَ غَيْرُه

لَزُلزِلَ مِنْ هَذا السَّريرِ جَوَانِبُهْ

ذكره في كتابه جامع المقاصد في بحث النكاح ، مُستشهداً به على حرمة ترك وطء الزوجة أكثر من أربعة أشهر ..

قال : يدلّ على ذلك ما رواه صفوان بن يحيى ، أنّه سأل الرضا عليه السلام عن رجل يكون عنده المرأة الشابّة ، فيمسك عنها الأشهر والسنة لا يقربها ، ليس يريد الإضرار بها ، يكون لهم مصيبة ، أيكون في ذلك آثماً؟ قال : «إذا تركها أربعة أشهر كان آثماً بعد ذلك ، إلاّ أن يكون بإذنها» (٢).

____________

(١) شرح نهج البلاغة ١٨ / ٤١٦.

(٢) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٢٥٦ ح ١٢١٤ ، التهذيب ٧ / ٤١٢ ح ١٦٤٧.

١٣٠

وقد نُقل أنّ عمر سأل نساء أهل المدينة ـ لمّا أخرج أزواجهن إلى الجهاد ، وسـمع امرأة تنشـد أبياتاً من جـملتها : ... وذكر البيت ـ عن أكثر ما تصبر المرأة عن الجماع؟ فقيل : أربعة أشهر. فجعل المدّة المضروبة للغيبة أربعة أشهر (١).

وهذا البيت جزء من مقطوعة شعريّة قالتها امرأة مجهولة ..

حكى السيوطي عن الحافظ أبي بكر بن أبي الدنيا في كتابه الأشراف ، قال : حـدّثني أبـي ، عن محمّـد بن إسـحاق ، عن سليمان بن جبير مولى ابن عبّـاس ـ وقد أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ـ قال : ما زلتُ أسمع حديث عمر هذا أنّه خرج ذات ليلة يطوف بالمدينة ، وكان يفعل ذلك كثيراً ، فمرّ بامرأة مغلقة عليها بابها وهي تقول ـ فاستمع لها عمر ـ :

تَطاوَلَ هذا اللَّيلُ تَسْـري كَواكِبُهْ

وأرَّقَني أنْ لا ضَجِيعَ أُلاعِبُهْ

فواللهِ لَوْلا اللهُ لا شيءَ غَيْرُهُ

لحَرَّكَ مِن هذا السَّريرِ جوانِبُهْ

وبِـتُّ أُلاهي غَيْرَ بِدْعِ مُلَعَّنٍ

لَطِيفِ الحَشـا لا يَحتويهِ مُصاحِبُهْ

يُلاعبنُي طَوْراً وَطَوْراً كأنّما

بَدَا قَمرَاً في ظُلْمـةِ اللَّيْلِ حـاجِبُهْ

يُسَرُّ مَنْ كانَ يَلْهو بِقُرْبِهِ

يُعَاتِبُني في حُبِّهِ وَأُعاتِبُهْ

وَلكِنَّني أخْشَى رَقِيباً مُوَكَّلاً

بِأنْفُسِنا لا يَفْتُرُ الدَّهْرَ كاتِبُهْ

ثمّ تنفّست الصعداء وقالت : لهانَ على ابن الخطّاب وحشتي في بيتي ، وغيبة زوجي عنّي ، وقلّة نفقتي؟

فقال عمر : يَرحمك الله. فلمّا أصبح بعث إليها بنفقة وكسوة ، وكتب إلى عامله يُسرّح إليها زوجها (٢).

____________

(١) جامع المقاصد ١٢ : ٥٠٦ ـ ٥٠٧.

(٢) شرح شواهد المغني ٢ / ٦٦٨ ـ ٦٦٩ رقم ٤٢٨.

١٣١

وأخرج المتّقي الهندي عن ابن عمر أنّه قال : خرج عمر بن الخطّاب فسمع أمرأة تقول :

تَطاوَلَ هذا اللَّيْلُ وَاسْـودَّ جانِبُهْ

وَأرّقَني أنْ لا حَبيبَ أُلاعِبُهُ

فَواللهِ لَوْلا اللهُ إنّي أُراقِبُهْ

لَحَرَّكَ مِنْ هـذَا السَّريرِ جَوَانِبُهْ

فقال عمر لحفصة : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت : ستّة أو أربعة أشهر ، فقال عمر : لا أحبس الجيش أكثر من هذا (١).

(٤)

قَدْ عَلِمـَتْ خَيْبَرُ أنَّي مَرْحَبُ

شَاكيِ السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ

أطْعَنُ أحْيَانـاً وَحينـاً أضْـرِبُ

إذْ الحُروبُ أقْبَلـتْ تَلْتَـهِـبُ

أوردهما في رسالته نفحات اللاهوت ، عند حديثه عن واقعة خيبر ، وما أبداه الإمام عليّ عليه السلام من الشجاعة والصبر في فتح هذا الحصن وقتل مرحب وانهزام اليهود ..

قال : وروى الثعلبي في تفسير قوله تعالى : (ويَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً) (٢) : فإنّ ذلك في فتح خيبر ، بإسناده قال : حاصر رسول الله صلى الله عليه وآله أهل خيبر حتّى أصابتنا مخمصـة (٣) شديدة ، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وآله أعطى اللواء عمر بن الخطّاب ونهض من نهض معه من الناس ، وتلقّوا أهل خيبر ، فانكشف عمر وأصحابه ، ورجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يُجَبّنهُ أصحابه ويُجبّنهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله قد أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس.

____________

(١) كنز العمّال ١٢ / ٥٠٦ ـ ٥٠٧.

(٢) سورة الفتح ٤٨ : ٢٠.

(٣) المخمصـة : المجاعة. الصحاح ٣ / ١٠٣٨ مادّة «خمص».

١٣٢

فأخذ أبو بكر راية رسول الله صلى الله عليه وآله ثمّ نهض فقاتل ثمّ رجع ، فأخذها عمر فقاتل ثمّ رجع ، فأُخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : «أما والله لأُعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ، ويحبّه الله ورسوله ، يأخذه عنوة» ، وليس ثمة عليّ عليه السلام.

فلمّا كان الغد تطاول رجال من قريش ، ورجا كلّ واحد منهم أن يكون صاحب ذلك ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وآله ابن الأكوع إلى عليّ فدعاه ، فجاء على بعير له حتّى أناخ قريباً من رسول الله ، وهو أرمد قد عصب عينيه بشـقّة بردٍ قطريٍ.

قال سلمة : فجئتُ به أقوده إلى رسول الله ، فقال صلى الله عليه وآله : «ما لك»؟

قال عليّ عليه السلام : «رمدت».

فقال صلى الله عليه وآله : «ادن منّي» ، فدنا منه ، فتفل في عينيه ، فما شكا وجعهما بعد حتّى مضى لسبيله.

ثمّ أعطاه الراية فنهض بالراية وعليه حلّة أرجوان حمراء قد أخرج كمّيها ، فأتى مدينة خيبر ، فخرج مرحب صاحب الحصن وعليه مِغْفَر (١) مصفّر وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه ، وهو يرتجز ويقول : ... ـ وذكر البيتين ـ.

فبرز إليه عليّ عليه السلام فقال :

أنَا الّذِي سَمَّتْني أُمّي حَيْدَرَهْ

كَلَيْثِ غَاباتٍ شَديدِ القَسْوَرَهْ (٢)

أكِيلُكُمْ بِالسَّيْفِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ (٣)

____________

(١) المِغْفَرُ : زَرَدٌ يُنسج من الدروع على قدر الرأس ، يُلبس تحت القلنسوة. الصحاح ٢ / ٧٧١ مادّة «غفر».

(٢) القسـورة : الأسـد. الصحاح ٢ / ٧٩١ مادّة «قسـر».

(٣) السَنْدَرَةُ : مكيال ضخم كالقَنْقَل والجُرافِ. الصحاح ٢ / ٦٨٠ مادّة «سدر».

١٣٣

فاختلفا بضربتين ، فبدأه عليّ عليه السلام بضربة ، فَقَدَّ الحجر والمغفر وفلق رأسه حتّى أخـذ السيف في الأضـراس ، وأخـذ المدينة ، وكان الفتح على يديـه (١).

واعلم أنّ حديث الكرامة التي منحها الله تعالى للإمام عليّ عليه السلام يوم خيبر ، من فتح هذا الحصن على يديه ، حديث متواتر أخرجه علماء المسلمين كافّة : المؤرّخون يذكرونه في مصنّفاتهم التأريخية في الغزوات التي جرت في السنة السابعة للهجرة ، وعلماء الحديث يروونه في موسوعاتهم الحديثية بعنوان «حديث الراية» ، والأُدباء يذكرون الشعر الذي قيل فيه.

قال الواقدي في حديث غزوة خيبر : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : «لأُعطينَّ الراية غداً رجلاً يُحبّه الله ورسوله ، يفتح الله على يديه ، ليس بفرّار ، أبشر يا محمّـد بن مسلمة ، غداً إن شاء الله يُقتل قاتل أخيك وتولّي عادية (٢) اليهود» فلمّا أصـبح أرسلَ إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام وهو أرمد ، فقال : «ما أُبصر سهلاً ولا جبلاً» ، قال : فذهب إليه فقال : «افتح عينيك» ففتحهما ، فتفل فيهما ، قال عليّ عليه السلام : «فما رمدت حتّى الساعة».

ثمّ دفع إليه اللواء ودعا له ومن معه من أصحابه بالنصر ، فكان أوّل من خرج إليهم الحارث أخو مرحب في عاديته ، فانكشف المسلمون وثبت عليّ عليه السلام ، فاضطربا ضربات فقتله عليّ عليه السلام ، ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن فدخلوه وأغلقوا عليهم ، فرجع المسلمون إلى موضعهم ، وخرج مرحب وهو يقول : ... ـ وذكر البيتين ـ.

____________

(١) نفحات اللاهوت : ٨٩ ـ ٩٠.

(٢) أي الّذين يعدون على أرجلهم. النهاية ٣ / ٧٤.

١٣٤

ثمّ قال : فحمل عليه عليّ عليه السلام فقطره (١) على الباب وفتح الباب (٢).

وأخـرج الطبري في أحداث السـنة السابـعة للهجرة ، بسنده عن بريدة الأسلمي أنّه قال : لمّا كان حين نزل رسول الله صلى الله عليه وآله بحصن أهل خيبر ، أعطى رسـول الله صلى الله عليه وآله اللواء عمر بن الخطّاب ، فنهض من نهض معه من الناس ، فلقوا أهل خيبر ، فانكشف عمر وأصحابه ، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يُجبّنهُ أصحابه ويجبّنهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : «لأُعطينّ اللواء غداً رجلاً يُحبّ الله ورسوله ويُحبّه الله ورسوله».

فلمّا كان من الغد تطاول لها أبو بكر وعمر ، فدعا عليّاً عليه السلام وهو أرمد فتفل في عينيه وأعطاه اللواء ، ونهض معه الناس مَنْ نهض. قال : فلقي أهل خيبر فإذا مرحب يرتجز ويقول : ـ وذكر البيتين ، وفيهما : إذا الليوثُ أقْبَلَتْ تَلَهَّبُ ـ فاختلف هو وعليّ عليه السلام ضربتين ، فضربه عليّ على هامته حتّى عضّ السيف منها بأضراسه ، وسمع أهل العسكر صوت ضربته ، فما تتامّ آخر الناس مع عليّ عليه السلام حتّى فتح الله له ولهم.

ثمّ ذكره بطريق آخر ، وفيه : فقال عليّ عليه السلام :

أنَا الّذي سَمَّتْني أُمّي حَيْدَرَهْ

أكِيلُكُمُ بِالسَّيفِ كَيْلَ السَّنْدرهْ

لَيْثٌ بِغاباتٍ شَدِيدٌ قَسْوَرَهْ (٣)

وأخرجه ابن الأثير في تاريخه (٤) ، وهو مطابق لما في تاريخ الطبري.

وابن كثير في البداية والنهاية والسيرة النبوية ، والشعر فيه هكذا :

____________

(١) قطره : أي ألقاه على أحد قطريه ، وهما جانباه. الصحاح ٢ / ٧٩٦ مادّة «قطـر».

(٢) المغازي ٢ / ٦٥٣ ـ ٦٥٤.

(٣) تاريخ الطبري ٣ / ١٠ ـ ١٣.

(٤) الكامل في التاريخ ٢ / ٢١٩ ـ ٢٢٠.

١٣٥

قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أنّـي مَرْحَبُ

شَاكٍ سِلاحي بَطَلٌ مُجَرَّبُ

إذا اللّيوثُ أقْبَلَتْ تَلَهّبُ

وَأحْجَمـتَ عَنْ صَوْلَةِ المُغَلَّبُ

وفي شعر عليّ عليه السلام هكذا : أكيلكْمُ بالصّاعِ كَيْلَ السَّنْدرهْ.

وفي رواية أُخرى له فيها : (كريهِ المَنْظَرَهْ) و (أوفِيهُمُ بالصّاعِ) (١).

وأخرجه الحلبي في السيرة ، وفيه : (ضُرْغامِ آجامٍ وَلَيْثٍ قَسْوَرَهْ) ثمّ قال : فإنّ أُمّ عليّ سمّته أسداً باسم أبيها ، وكان أبوه أبو طالب غائباً ، فلمّا قدم كره ذلك وسمّاه عليّاً.

ومن أسماء الأسد : حيدره ، والحيدره : الغليظ القوي.

وقيل : لقّب بذلك في صغره ؛ لأنّه كان عظيم البطن ممتلأً لحماً ، ومن كان كذلك يقال له حيدرة.

ويقال : إنّ ذلك كان كشفاً من عليّ ، فإنّ مرحباً كان رأى في تلك الليلة في المنام أنّ أسداً افترسه ، فذكّره عليّ بذلك ليخيفه ويضعف نفسه.

ويروى أنّ عليّاً ضرب مرحباً فتترّس فوقع السيف على الترس فقدّه ، وشقّ المغفر والحجر الذي تحته والعمامتين ، وفلق هامته حتّى أخذ السيف في الأضراس ، وإلى ذلك يشير بعضهم ـ وقد أجاد ـ بقوله :

وَشَادِنٌ (٢) أبَصَـرْتُهُ مُقْبِلاً

فَقُلْتُ من وَجْديِ بِـهِ مَرْحَبا

قَدَّ فُؤادي في الهوى قَدُّهُ

قَـدَّ عليّ في الوغى مَرْحَبـا (٣)

وذكر السيوطي شطر البيت الأوّل من شعر الإمام عليّ عليه السلام (٤).

____________

(١) البداية والنهاية ٤ / ١٨٦ ـ ١٨٨ ، السيرة النبوية ٣ / ٣٥٧.

(٢) الشادن : الغزال ، والظبية. الصحاح ٥ / ٢١٤٣ ـ ٢١٤٤ مادّة «شـدن».

(٣) السيرة الحلبية ٣ / ٣٧ ـ ٣٨.

(٤) شرح شواهد المغني ٢ / ٥٣٤.

١٣٦

(٥)

قد كانَ بَعدكَ أنْباءٌ وهَنْبَثَةٌ (١)

لو كُنتَ شاهِدَها لم تكْثُرِ الخُطَبُ

إنّا فَقَدناكَ فَقْدَ الأرضِ وابِلَها

واخْتلَّ قومُكَ فاشْهَدْهُم وقد نَكبوُا

ذكرهما في رسالته نفحات اللاهوت ، عند إيراده خطبة الزهراء عليها السلام في المسجد ..

قال : ثمّ التفتت إلى قبر أبيها فتمثّلت بقول هند ابنة أثاثة شعراً : ... ـ وذكر البيتين ـ (٢).

وحكى ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج عن أبي بكر أحمد ابن عبـد العزيز الجوهري في كتابه السقيفة ، خطبة الزهراء عليها السلام ، وذكر هذين البيتين بشكل آخر ، مضيفاً لهما بيتاً ثالثاً :

قد كانَ بعدكَ أنباءٌ وهَيْنَمةٌ (٣)

لو كنـتَ شاهِدَها لم تَكْثُرِ الخُطَبُ

أبْدَتْ رجالٌ لنا نجـوى صُدُورِهُمُ

لَـمّا قَضَـيْتَ وحالَتْ دونَكَ الكُتُبُ

تَجَهّمَتْنا (٤) رجـالٌ واسْتُخِـفّ بِنا

إذْ غِبْتَ عنّا فنحنُ اليَوْمَ نُغْتَصَبُ (٥)

وحكى الإربلي هذه الأبيات عن المصدر نفسه ـ السقيفة ـ ولكن بشكل آخر :

____________

(١) الهنبـثة : الاختلاط في القول ، ويقال : الأمر الشديد. الصحاح ١ / ٢٩٦ مادّة «هبث».

(٢) نفحات اللاهوت : ١٢٤.

(٣) الهينمةُ : الصوتُ الخفيّ. الصحاح ٥ / ٢٠٦٢ مادّة «هنم».

(٤) جَهَمْتُ الرجل وتَجَهَّمتُهُ : إذا كَلَحْتُ في وجهه. الصحاح ٥ / ١٨٩١ مادّة «جهم».

(٥) شرح نهج البلاغة ١٦ / ٢١٢.

١٣٧

قد كانَ بعـدكَ أنْباءُ وهَنْبَثَـةٌ

لو كنتَ شاهدَها لم تَكْثُرِ الخُطَبُ

إنّا فقـدنـاكَ فَقْـد الأرضِ وابِلَهـا

واخْتَلَّ قَومُكَ لـمّا غِبْتَ وانْقَلَبُوا

أبْـدَتْ رجالٌ لَنا فَحـوى صُدُورِهُمُ

لـمّا قَضَيْتَ وحالتْ دونَكَ التُرُبُ

وزاد في بعض الروايات هنا :

ضَـاقَتْ عَلَيَّ بِلادِي بَعْدَما رَحُبَتْ

وسِيمَ سِبْطاكَ خَسْفاً فِيهِ لي نَصَبُ

فَلَيْتَ قَتْلَكَ كَانَ المَوْتُ صَادَفَنا

قَوْمُ تَمَنَّوا فَأعْطُوا كُلَّ مَا طَلبَوا

تَجَهَّمَتـنـا رِجالٌ واسْتُخِـفّ بِنا

إذْ غِبْتَ عَنّا فَنَحْنُ اليَوْمَ نُغْتَصَبْ (١)

وقائلة هذه الأبيات هند بنت أثاثة بن عباد بن المطّلب بن عبـد مناف ، أُمّها أُمّ مسطح بنت أبي رهم بن المطّلب. وهي شاعرة من شواعر العرب ، أسـلمت وبايـعت الرسـول صلى الله عليه وآله وحسـن إسلامها ، وتوفّـيت حـدود سـنة ١٠ هـ (٢).

وهي التي أجابت هند بنت عتبة حينما قالت في واقعة أُحد :

نَحْنُ جَزَيْناكُمْ بِيَـوْمِ بَدْرِ

والحَرْبُ بَعْـدَ الحَربِ ذَاتَ سُعْـرِ

مـا كانَ عَنْ عُتْبَـةَ لِي مِنْ صَبْـرِ

وَلا أخيِ وَعَمَّـهِ وَبِكْري

شَفَيْتُ نَفْسِـي وَقَضَيْـتُ نَذْرِي

شَفَيْـتَ وَحْشيٌ غَلِيـلَ صَـدْرِي

فَشُكْرُ وَحْشـيّ عَلَـيَّ عُمْـرِي

حَتّى تَرِمُّ أعْظُمِـي فيِ قَبْرِي

فأجابتها قائلةً :

خزيْتِ فـي بَدْرٍ وَغَيْرِ بَـدْرِ

يا بِنْـتَ غَدّارٍ عَظِيـمِ الكُفْرِ

أقْحمَـكِ اللهُ غَدَاةَ الفَـجْـر

بِالهـاشِـميّـينَ الطِوالِ الـزُّهـرِ

بِكُلِّ قَطّاعٍ حُـسـامٍ يَفْـري

حَمْـزَةُ لَيْثـيِ وَعَلـيٌّ صَقْرِي

____________

(١) كشف الغُمّة ١ / ٣٨٩.

(٢) الطبقات الكبرى ٨ / ٢٢٨ ، الإصابة في تمييز الصحابة ٤ / ٤٢٢ ، الأعلام ٨ / ٩٦.

١٣٨

إذْ رامَ شيبٌ وَأبْوكِ قَهْري

فَخَضَّـبا مِنْـهُ ضَواحيَ النحـرِ (١)

 (٦)

 ......................

ولا لَعِباً مِنّي وذو الشيْبِ يَلْعَبُ

استشهد به في حاشيته على كتاب مختلف الشيعة ، على جواز حذف أداة الاستفهام ..

قال معلّقاً على كلام العلاّمة الحلّي في استدلاله بحديث علي بن جعفر : (يتوضّأ منه للصلاة؟ قال : «لا ، إلاّ أن يكون الماء كثيراً قدر كرّ من ماء») (٢) : الاستفهام في قوله : (يتوضأ) لطلب التصديق ، وأداته ـ وهي الهمزة ـ محـذوفة ، على حـدّ قولـه : بسَبْعٍ رَمِينَ الجَمْر أمْ بِثَمانِ ، وقوله : ولا لَعِباً منّي وذو الشيبِ يَلْعَبُ.

وقد وجد التصريح بالهمزة في بعض نسخ الكتاب ، لكنّ الموجود في نسخة معتبرة من التهذيب الحذف (٣).

وهذا الشاهد عبارة عن عجز بيت قاله الكميت الأسدي من قصيدة له يمدح فيها أهل البيت عليهم السلام ، مطلعها :

طَرِبْتُ وما شَوْقاً إلى البيضِ أطربُ

ولا لَعِباً مِنّي وذو الشَيْبِ يَلْعَبُ

ومنها قوله :

____________

(١) شرح نهج البلاغة ١٥ / ١٣ ـ ١٤.

(٢) مختلف الشيعة ١ / ١٣ ، التهذيب ١ / ٤١٩ ح ١٣٢٦. وتمام الحديث كما رواه الشيخ في التهذيب عن علي بن جعفر ، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام ، قال : سألته عن الدجاجة والحمامة وأشباههن تطأ العذرة ، ثمّ تدخل في الماء ، يتوضّأ منه للصلاة؟ قال : «لا ، إلاّ أن يكون الماء كثيراً قدر كرّ من ماء».

(٣) حاشية المختلف ـ مخطوط : ورقة ٢ / أ.

١٣٩

فَمـا لـي إلاّ آلُ أحْمَدَ شِيعَـةً

وما لـي إلاّ مَذْهبُ الحَقِّ مَذْهَبُ

بِـأيّ كِتـابٍ أمْ بِأيّةِ سُنَّةٍ

تَرَى حُبَّـهُمْ عاراً عَلَيَّ وتَحْسَبُ

وجَدْنـا لَـكُمْ فـي آلِ حم آيَةً

تَـأوَّلَها منّا تَقِـيُّ ومعـرَبُ

علـى أيّ جُرْمٍ أمّ بِـأيّةِ سِيرةٍ

أُعَنَّفُ في تَقْـرِيظهِـم وأُكَذَّبُ

ومنها قوله :

ألَمْ تَرنـي مِنْ حُبِّ آلِ مُحمّـدٍ

أروُحُ وأغْدوُ خائِفـاً أتَرَقَّـبُ

فطائِفَـةٌ قَد أكْفَرَتْني بِحُبّـهمْ

وطائِفَـةٌ قالـتْ مُـسِيءٌ ومُذْنِـبُ (١)

والشاعر هو الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد ، أبو سهل الأسدي ، ولد في الكوفة ، وقضى حياته فيها متّصلاً بضروب المعرفة والثقافة ، وأشهر شعره «هاشمياته» التي قالها في بني هاشم مدافعاً عن حقّهم في الخلافة.

ذكره السيوطي قائلاً : شعره أكثر من خمسة آلاف بيت ، روى عن الفرزدق ، وأبي جعفر الباقر عليه السلام ، ومذكور مولى زينب بنت جحش ، وعنه والبة بن الحبّاب الشاعر ، وحفص بن سليمان القاضوي ، وأبان بن تغلب وآخرون. وحديثه في البيهقي في نكاح زينب بنت حجش ، ووفد على يزيد وهشام ابني عبـد الملك.

قال أبو عبيدة : لو لم يكن لبني أسد منقبة غير الكميت لكفاهم.

وقال أبو عكرمة الضـبّي : لولا شـعر الكمـيت لم يكن للّغة ترجمان ولا للبيان لسان. أخرجه ابن عساكر.

وأخرج عن محمّـد بن عقير ، قال : كانت بنو أسد تقول : فينا فضيلة ليست في العالم منزلاً منّا إلاّ وفيه بركة وراثة الكميت ؛ لأنّه رأى النبيّ صلى الله عليه وآله

____________

(١) شرح هاشميات الكميت : ٤٣ ، شرح شواهد المغني ١ / ٣٤.

١٤٠