تراثنا ـ العددان [ 69 و 70 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 69 و 70 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٢

١

محتويات العدد

* كلمة التحرير :

* مكانة التراث الإسلامي تتعزّز مع الزمن

................................................................. هيئة التحرير ٧

* تشييد المراجعات وتفنيد المكابرات (٢٢).

................................................. السيّد علي الحسيني الميلاني ١٣

* عدالة الصحابة (٩).

.......................................................... الشيخ محمّد السند ٨٠

* الشواهد الشعرية في مؤلّفات المحقّق الكركي.

...................................................... الشيخ محمّد الحسّون ١٢٥

* دليل المخطوطات (١٢) ـ مكتبة المهدوي.

...................................................... السيّد أحمد الحسيني ٢٠٣

٢

* فهرس مخطوطات مكتبة أميرالمؤمنين العامّة / النجف الأشرف (١٢).

........................................ السيّد عبدالعزيز الطباطبائى قدّس سرّه ٢٤٦

* مصطلحات النحوية (٢١).

....................................................... السيّدعلي حسن مطر ٢٨٩

* من ذخائر التراث :

* المعقبون من ولد الإمام أميرالمؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ـ للسيّد الشريف يحيى بن الحسن بن جعفر الحجّة الحسيني المدني العبيدلي.

............................................... تحقيق : فارس حسّون كريم ٢٩٩

* من أنباء التراث.

................................................................ هيئة التحرير ٤٠٣

* صورة الغلاف : نموذج من مخطوطة «المعقبون من ولد الإمام أمير المؤمنين أبي الحسن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ـ للشريف يحيى بن الحسن بن جعفر الحجّة العبيدلي العقيقي (٢١٤ ـ ٢٧٧ هـ) ، المنشور في هذا العدد ص ٢٩٩ ـ ٤٠٢.

٣
٤

٥
٦

كلمة العـدد :

مكانة التراث الإسلامي تتعزّز مع الزمن

بسـم الله الرحمن الرحـيم

يتخوّف بعضهم أن تؤثّر التقنيات الحديثة ـ كالأقراص المدمجة ، وشبكات النت ـ على تداول الكتاب الإسلامي وأن تقلّل من أهمّيته وقيمته. لكنّه تخوّف واهم ، لأنّ هذه التقنيات وسائل عرض جديدة لنسخ الكتاب الإسلامي إلى جانب نسخه المطبوعة والمخطوطة ، والكتاب على القرص المدمج أو في الشبكة ، ما هو إلاّ نسخة أُخرى من الكتاب ، تؤكّد قيمته وأهمّيته ، وتعزّز مكانته ..

ويتخوّف بعضهم على الكتاب الإسلامي من الحالة العامّة للإعلام العالمي ، التي تؤثّر على القراءة ، وتشدّ الناس إلى المسموعات والمرئيات ، مضافاً إلى مشاغل الحياة المتعدّدة والمواد السيئة التي تشدّ الجيل إليها ، وتقضم وقته وتشغله عن المطالعة.

وهذا التخوّف صحيح إلى حدّ ، لكنّه لا يتّصل بمكانة الكتاب الإسلامي مباشرة ، فهو تخوّف على التديّن بشكل عام من نمط الحياة الذي تفرضه وسائل المدنية المعاصرة ، فتبعد المسلم عن مصادر دينه ، وتستغرق وقته في ضرورات حياته ، أو تجعله يصرف وقته في غير الضروري.

٧

لكن لا يصحّ أن نبالغ في التخوّف من موجة الثقافة المادية التي تبعد الناس عن الدين ، فطالما شهدت شعوب أُمّتنا الإسلامية موجات مضادّة للدين واجتازتها ، وهي الآن تجتاز موجة المادية بسرعة ، بدليل أن نسبة المتديّنين في حالة ازدياد وليست في تناقص!

على أنّ هذا لا يؤثر على مكانة التراث الإسلامي والكتاب ، فلا ننس أنّ الأحداث الأخيرة قد زادت من إقبال المسلمين ، وضاعفت من إقبال غيرهم على الكتاب الإسلامي؛ وهذا دليل على أنّ مكانة التراث تتعزّز مع الزمن رغم العوامل المضادّة.

والسبب في ذلك أنّ هذا التراث المقدّس يتميّز بعناصر قوّة فريدة!

١ ـ التراث الإسلامي خالد إلى يوم القيامة :

التراث بمعناه الإسلامي يعني مصادر الإسلام ، من القرآن الكريم ، وأحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، والأئمّة من أهل بيته عليهم السلام ، ومؤلّفات العلماء التي تتعلّق بذلك .. وتسميتنا لها جميعاً بالتراث باعتبارها مصادر ورثناها من أجيالنا السابقة. والقرآن الكريم هو الكتاب المصدّق للكتب السماوية والمهيمن عليها ، ونبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم هو خاتم الأنبياء المصدّق لهم والمكمّل لبنائهم عليهم السلام ، ورسالته هي الصيغة الإلهية الخاتمة لرسالات الله تعالى إلى الشعوب ، إلى يوم القيامة.

والدين الذي يمتاز بهذه الميزات الحيوية ، يبقى تراثه حيّاً مطلوباً ، معاشاً من قبل المسلمين ، مقصوداً من قبل غيرهم للاطّلاع والمعرفة ، وهذا يعزّز مكانة تراثه دائماً.

٢ ـ تأكيد القرآن والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم على أهمّية الكتابة والقراءة :

إنّ الكتاب والكتابة أصل من أُصول الدين الإلهي ؛ إذ قام الدين الإلهي على إرسال الأنبياء والرسل عليهم السلام وتنزيل الصحف والكتب الإلهية.

٨

إنّ أطول آية في القرآن آية الدَيْن ، التي أمر الله فيها عموم المسلمين بكتابة الديون حتّى اليومية منها ، فقال تعالى : (يا أيّها الّذينَ آمنوا إذا تَدايَنْتُمْ بدَيْنٍ إلى أجلٍ مسمّىً فاكْتُبوهُ ولْيَكتُبْ بينَكمْ كاتبٌ بالعدلِ ولايأبَ كاتبٌ أنْ يكْتُبَ كما علّمهُ اللهُ فلْيَكتُبْ ولْيُمْلِلِ الّذي عليهِ الحقُّ ولْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ ولا يَبْخَسْ منهُ شيئاً فإنْ كانَ الّذي عليهِ الحقُّ سَفيهاً أو ضَعيفاً أو لا يَستطيعُ أنْ يُمِلَّ هُوَ فلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدلِ) (١) .. الآية.

وقد صحّ عندنا أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بكتابة أحاديثه ، بل تدلّ عليه مصادر غيرنا أيضاً ، ففي صحيح البخاري ١ / ٣٦ : «عن أبي هريرة : ما من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أحد أكثر حديثاً عنه منّي ، إلاّ ما كان من عبـد الله بن عمرو ، فإنّه كان يكتب ولا أكتب» ، وفيه أيضاً : «فجاء رجل من أهل اليمن فقال : اكتب لي يا رسول الله ، فقال : اكتبوا لأبي فلان».

وفي مسند أحمد ٢ / ١٧١ : «أخرج لنا عبـد الله بن عمرو قرطاساً وقال : كان رسول الله يعلّمنا ، يقول : اللّهمّ فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت ربّ كلّ شيء وإله كلّ شيء ، أشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لاشريك لك ، وأنّ محمّـداً عبدك ورسولك ، والملائكة يشهدون ...».

وروى الطبرسي في الاحتجاج ١ / ٤٢ : «ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يامعشر المسلمين واليهود! اكتبوا بما سمعتم. فقالوا : يا رسول الله قد سمعنا ووعينا ولا ننسى. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : الكتابة أذكر لكم».

بل تدلّ الأحاديث والنصوص على أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أوّل من أسّس الإحصاء ودوّن الدواوين ، وليس غيره كما زعموا ، قال البخاري : ٤ / ٣٣ : «عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن حذيفة رضي الله عنه ، قال : قال النبيّ صلّى الله

____________

(١) سورة البقرة ٢ : ٢٨٢.

٩

عليه [وآله] وسلّم : اكتبوا لي من تلفّظ بالإسلام من الناس ، فكتبنا له ألفاً وخمسمائة رجل ...».

وأنّهم كتبوا عنه القرآن والسُـنّة ، وكانوا يدركون أهمّية ذلك ، خلافاً لِما يقوله غير الشيعة ؛ فعن ابن عبّـاس ـ كما في سنن البيهقي ٦ / ١٦ ـ قال : «كانت المصاحف لا تباع ، كان الرجل يأتي بورقه عند النبيّ صلّى الله عليه [وآلهج وسلّم فيقوم الرجل فيحتسب فيكتب ، ثمّ يقوم آخر فيكتب ، حتّى يفرغ من المصحف».

وعن الإمام الصادق عليه السلام ـ كما في الكافي ٥ / ١٢١ ـ : «عن روح بن عبـدالرحيم ، قال سألته عن شراء المصاحف وبيعها ، فقال : إنّما كان يوضع الورق عند المنبر وكان ما بين المنبر والحائط قدر ما تمرّ الشاة أو رجل منحرف ، قال : فكان الرجل يأتي ويكتب من ذلك ...». انتهى.

كما كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يهتم بتدوين الأحكام وإرسالها إلى الأمصار ؛ فقد روى البيهقي في سُـننه ١ / ٣٠٩ : «إنّ رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسُـنن والديات ، وبعث به مع عمرو ابن حزم». انتهى.

كما أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان حريصاً على أن يملي على عليّ عليه السلام كلّ ما يحتاج إليه الأئمّة الاثنا عشر من بعده عليهم السلام ؛ ففي بصائر الدرجات : ١٨٧ : «عن الإمام الباقر عليه السلام ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام : اكتب ما أُملي عليك. قال عليّ عليه السلام : يا نبيّ الله! وتخاف عليَّ النسيان؟! قال : لست أخاف عليك النسيان وقد دعوت الله لك أن يُحفظك فلا يُنسيك ، لكن اكتب لشركائك. قال : قلت : ومن شركائي يا نبي الله؟ قال : الأئمّة من ولدك ، بهم تسقى أُمّتي الغيث ، وبهم يستجاب دعاؤهم ، وبهم يصرف البلاء عنهم ، وبهم تنزل الرحمة من السماء ، وهذا أوّلهم ، وأومأ بيده إلى الحسن ، ثمّ هذا ، وأومأ

١٠

بيده إلى الحسين ، ثمّ قال : الأئمّة من ولدك».

٤ ـ أئمّة أهل البيت عليهم السلام ورثوا تراث الأنبياء عليهم السلام :

في الكافي ١ / ٢٢٥ : «إنّ الإمام الصادق عليه السلام سئل عن قول الله عزّ وجلّ : (ولَقَدْ كَتَبْنا في الزَبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِكْرِ) : ما الزبور وما الذكر؟

فقال عليه السلام : الذكر عند الله ، والزبور الذي أنزل على داود ، وكلّ كتاب نزل فهو عند أهل العلم ، ونحن هم».

وفي بصائر الدرجات : ١٨٢ : «عن الإمام الصادق عليه السلام قال : إنّ الكتب كانت عند عليّ عليه السلام فلمّا سار إلى العراق استودع الكتب أُمّ سلمة ، فلمّا مضى عليّ كانت عند الحسن ، فلمّا مضى الحسن كانت عند الحسين ، فلمّا مضى الحسين كانت عند عليّ بن الحسين ، ثمّ كانت عند أبي عليهم السلام».

وفي بصائر الدرجات : ٣٣٨ : «عن علي السائي ، قال : سألت الصادق عليه السلام عن مبلغ علمهم ، فقال : مبلغ علمنا ثلاثة وجوه : ماض وغابر وحادث ، فأمّا الماضي فمفسّر ، وأمّا الغابر فمزبور ، وأمّا الحادث فقذف في القلوب ونقر في الأسماع ، وهو أفضل علمنا ، ولا نبيّ بعد نبيّنا صلى الله عليه وآله وسلم».

٥ ـ الأئّمة عليهم السلام واصلوا خطّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في العناية بالتراث :

وقف عليّ عليه السلام ضدّ سياسة منع الحديث ومنع تدوينه وتدوين القرآن ، التي تبنّتها السلطة بعد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فكان عليه السلام يأمر من يطيعه بالتحديث والتدوين ويروي لهم أحاديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك. وقد روى في كنز العمّال ١٠ / ٢٦٢ : «عن عليّ ، قال : قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم : اكتبوا هذا العلم فإنّكم تنتفعون به ، إمّا في دنياكم وإمّا في آخرتكم ، وإنّ العلم لايضيع صاحبه ـ الديلمي».

وروى في الكافي ١ / ٥٢ : «عن أبي بصير ، عن الإمام الصادق عليه السلام ،

١١

قال : اكتبوا فإنّكم لا تحفظون حتّى تكتبوا ..

وروى عن عبيد بن زرارة ، عن الإمام الصادق عليه السلام قال : احتفظوا بكتبكم فإنّكم سوف تحتاجون إليها».

٦ ـ علماء المذهب واصلوا خطّ الأئمّة عليهم السلام في العناية بالتراث :

وضع محدّث الإسلام الكليني قدس سره في الكافي ١ / ٥٢ عنواناً باسم : «باب رواية الكتب والحديث وفضل الكتابة والتمسّك بالكتب» ، وممّا رواه فيه أنّ أبا بصير سأل الإمام الصادق عليه السلام عن قول الله جلّ ثناؤه : (الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ أُولَئِكَ الّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الألْبَابِ) (١)؟ فقال : هو الرجل يسمع الحديث فيحدّث به كما سمعه ، لايزيد فيه ولا ينقص منه».

وروى سؤال محمّـد بن الحسن للإمام الجواد عليه السلام ، قال له : جعلت فداك ، إنّ مشايخنا رووا عن أبي جعفر وأبي عبـد الله عليهما السلام وكانت التقية شديدة فكتموا كتبهم ولم ترو عنهم ، فلمّا ماتوا صارت الكتب إلينا ، فقال : حدّثوا بها فإنّها حقّ».

وقال الصدوق قدس سره في كمال الدين : ١٩ : «وذلك أنّ الأئمّة عليهم السلام قد أخبروا بغيبته عليه السلام ووصفوا كونها لشيعتهم في ما نقل عنهم واستحفظ في الصـحف ، ودوّن في الكتب المؤلّفة من قبل أن تقع الغيبة بمائتي سنة ..

أمام هذا الواقع العريق ، وهذه الثروة العظيمة من التراث ، كان لا بُدّ من النهوض بخدمة تراثنا وتقديمه إلى العالم في أحسن حُلّة مادية ومعنوية ، ولهذا الهدف الكبير كان العديد من المؤسّسات والمراكز العلمية والثقافية.

هيئـة التحـرير

____________

(١) سورة الزمر ٣٩ : ١٨.

١٢

تشـييد المـراجَعـات

وتفنيد المكابَـرات

(٢٢)

السـيّد عليّ الحسـيني الميلاني

المراجـعة (٤٠) ـ (٤٦)

آيـة الولايـة

قال السـيّد ـ رحمه الله ـ :

«نعم أتلوها عليك آية محكمة من آيات الله عزّ وجلّ في فرقانه العظيم ، ألا وهي قوله تعالى في سورة المائدة : (إنما وليّكم الله ورسوله والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتوّل (١) الله ورسوله والّذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) (٢) ..

حيث لا ريب في نزولها في عليّ حين تصدّق راكعاً في الصلاة بخاتـمه ، والصـحاح ـ في نزولها بعليّ إذ تصـدّق بخاتمه وهو راكع في

____________

(١) ومن هنا أُطلق في عرف سوريا «المتوالي» على الشيعي ، لأنّه يتولّى الله ورسوله والّذين آمنوا ، الّذين نزلت فيهم هذه الآية ، وفي أقرب الموارد : المتوالي واحد المتاولة وهم الشيعة ، سمّوا به لأنّهم تولّوا عليّاً وأهل البيت عليهم السلام.

(٢) سورة المائدة ٥ : ٥٥ و ٥٦.

١٣

الصلاة ـ متواترة عن أئمّة العترة الطاهرة.

وحسبك ممّا جاء نصّاً في هذا من طريق غيرهم حديث ابن سلام مرفوعاً إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فراجعه في صحيح النسائي أو في تفسير سورة المائدة من كتاب الجمع بين الصحاح السـتّة ..

ومثله حديث ابن عبّـاس وحديث عليّ ، مرفوعين أيضاً. فراجع حديث ابن عبّـاس في تفسير هذه الآية من كتاب أسباب النزول للإمام الواحدي ، وقد أخرجه الخطيب في المتّفق (١). وراجع حديث عليّ في مسندي ابن مردويه وأبي الشيخ. وإن شئت فراجعه في كنز العمّال (٢).

على أنّ نزولها في عليّ ممّا أجمع المفسّرون عليه ، وقد نقل إجماعهم هذا غير واحد من أعلام أهل السُـنّة كالإمام القوشجي في مبحث الإمامة من شرح التجريد.

وفي الباب ١٨ من غاية المرام ٢٤ حديثاً من طريق الجمهور في نزولها بما قلناه ، ولولا مراعاة الاختصار ، وكون المسألة كالشمس في رائعة النهار ، لاستوفينا ما جاء فيها من صحيح الأخبار ، لكنّها ـ والحمد لله ـ ممّا لا ريب فيه ، ومع ذلك فإنّا لا ندع مراجعتنا خالية ممّا جاء فيها من حديث الجمهور ، مقتصرين على ما في تفسير الإمام أبي إسحاق أحمد بن محمّـد ابن إبراهيم النيسابوري الثعلبي (٣) ..

____________

(١) وهو الحديث ٥٩٩١ من أحاديث كنز العمّال في ص ٣٩١ من جزئه السادس ، وقد أورده في منتخب الكنز أيضاً ، فراجع ما هو مطبوع من المنتخب في هامش ص ٣٨ من الجزء الخامس من مسند أحمد.

(٢) فهو الحديث ٦١٣٧ من أحاديث الكنز في ص ٤٠٥ من جزئه السادس.

(٣) المتوفّى سنة ٣٣٧ ، ذكره ابن خلكان في وفياته فقال : كان أوحد زمانه في علم

١٤

فنقول : أخرج عند بلوغه هذه الآية في تفسيره الكبير بالإسناد إلى أبي ذرّ الغفاري ، قال : سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بهاتين وإلاّ صمّتا ، ورأيته بهاتين وإلاّ عميتا ، يقول : عليّ قائد البررة ، وقاتل الكفرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله ، أما إنّي صلّيت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ذات يوم ، فسأله سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد شيئاً ، وكان عليّ راكعاً فأومأ بخنصره إليه وكان يتختّم بها ، فأقبل السائل حتّى أخذ الخاتم من خنصره ، فتضرّع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الله عزّ وجلّ يدعوه ، فقال : اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك : (قال رب اشرح لي صدري * ويسّر لي أمري * واحْلُل عقدة من لساني * يفقهوا قولي * واجعل لي وزيراً من أهلي * هارون أخي * اشْدُد به أزري * وأشركه في أمري * كي نسبّحك كثيراً * ونذكرك كثيراً * إنّك كنت بنا بصيراً) (١) فأوحيت إليه : (قد أُوتيت سؤلك يا موسى) (٢) اللّهمّ وإنّي عبـدك ونبيّك ، فاشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري ، واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً اشدد به ظهري ..

قال أبو ذرّ : فوالله ما استتمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الكلمة حتّى هبط عليه الأمين جبرائيل بهذه الآية : (إنّما وليّكم الله ورسوله والّذين آمنوا الّذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتولّ الله ورسوله والّذين آمنوا فإنّ حزب الله هم الغالبون). انتهى.

____________

التفسير ، وصنّف التفسير الكبير الذي فاق غيره من التفاسير ... إلى أن قال : وذكره عبـد الغافر بن إسماعيل الفارسي في كتاب سياق نيسابور وأثنى عليه وقال : هو صحيح النقل موثوق به ... الى آخره.

(١) سورة طه ٢٠ : ٢٥ ـ ٣٥.

(٢) سورة طه ٢٠ : ٣٦.

١٥

وأنت ـ نصر الله بك الحقّ ـ تعلم أنّ الوليّ هنا إنّما هو الأوْلى بالتصرّف كما في قولنا : فلان وليّ القاصر ، وقد صرّح اللغويون (١) بأنّ كلّ من ولي أمر واحد فهو وليّه ؛ فيكون المعنى : إنّ الذي يلي أُموركم فيكون أوْلى بها منكم ، إنّما هو الله عزّ وجلّ ورسوله وعليّ ، لأنّه هو الذي اجتمعت به هذه الصفات : الإيمان ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة في حال الركوع ، ونزلت فيه الآية ، وقد أثبت الله فيها الولاية لنفسه تعالى ولنبيّه ولوليّه على نسق واحد ، وولاية الله عزّ وجلّ عامّة ، فولاية النبيّ والوليّ مثلها وعلى أُسلوبها ، ولا يجوز أن يكون هنا بمعنى النصير أو المحبّ أو نحوهما ؛ إذ لا يبقى لهذا الحصر وجه ، كما لا يخفى. وأظنّ أنّ هذا ملحق بالواضحات. والحمد لله ربّ العالمين.

لفظ (الّذين آمنوا) للجمع فكيف أُطلق على الفرد؟

والجواب : إنّ العرب يعبّرون عن المفرد بلفظ الجمع لنكتة تستوجب ذلك.

والشاهد على ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران : (الّذين قال لهم الناس إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخْشَوْهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) (٢) ..

وإنّما كان القائل نعيم بن مسعود الأشجعي وحده ، بإجماع المفسّرين والمحدّثين وأهل الأخبار.

____________

(١) راجـع مادّة «ولي» مـن الصحاح ، أو من مختار الصحاح ، أو غيرهما من معاجم اللغة.

(٢) سورة آل عمران ٣ : ١٧٣.

١٦

فأطلق الله سبحانه عليه وهو مفرد لفظ : «الناس» ، وهي للجماعة ؛ تعظيماً لشأن الّذين لم يصغوا إلى قوله ، ولم يعبأوا بإرجافه.

وكان أبو سفيان أعطاه عشراً من الإبل على أن يثبّط المسلمين ويخوّفهم من المشركين ، ففعل ، وكان ممّا قال لهم يومئذ : (إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم) (١) ، فكره أكثر المسلمين الخروج بسبب إرجافه ، لكنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خرج في سبعين فارساً ، ورجعوا سالمين ، فنزلت الآية ثناءً على السبعين الّذين خرجوا معه صلّى الله عليه وآله وسلّم ، غير مبالين بإرجاف من أرجف.

وفي إطلاق لفظ الناس هنا على المفرد نكتة شريفة ؛ لأنّ الثناء على السبعين الّذين خرجوا مع النبيّ يكون بسببها أبلغ ممّا لو قال : الّذين قال لهم رجل : إنّ الناس قد جمعوا لكم ، كما لا يخفى.

ولهذه الآية نظائر في الكتاب والسُـنّة وكلام العرب ؛ قال الله تعالى : (يا أيّها الّذين آمنوا اذكروا نعمتَ الله عليكم إذ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفّ أيديهم عنكم) (٢) ..

وإنّما كان الذي بسط يده إليهم رجل واحد من بني محارب يقال له : غورث ، وقيل : إنّما هو عمرو بن جحاش ، من بني النضير ، استلّ السيف فهزّه وهمّ أن يضرب به رسول الله ، فمنعه الله عزّ وجلّ عن ذلك ، في قضية أخرجها المحدّثون وأهل الأخبار والمفسّرون ، وأوردها ابن هشام في غزوة ذات الرقاع من الجزء ٣ من سيرته.

وقد أطلق الله سبحانه على ذلك الرجل ، وهو مفرد لفظ : «قوم» ،

____________

(١) سورة آل عمران ٣ : ١٧٣.

(٢) سورة المائدة ٥ : ١١.

١٧

وهي للجماعة ؛ تعظيماً لنعمة الله عزّ وجلّ عليهم في سلامة نبيّهم صلّى الله عليه وآله وسلّم.

وأطلق في آية المباهلة لفظ : «الأبناء» و «النساء» و «الأنفس» ـ وهي حقيقة في العموم ـ على الحسنين وفاطمة وعليّ بالخصوص ، إجماعاً وقولاً واحداً ؛ تعظيماً لشأنهم عليهم السلام ..

ونظائر ذلك لا تحصى ولا تستقصى.

وهذا من الأدلّة على جواز إطلاق لفظ الجماعة على المفرد إذا اقتضته نكتة بيانية.

وقد ذكر الإمام الطبرسي في تفسير الآية من مجمع البيان : إنّ النكتة في إطلاق لفظ الجمع على أمير المؤمنين تفخيمه وتعظيمه ، وذلك أنّ أهل اللغة يعبّرون بلفظ الجمع عن الواحد على سبيل التعظيم ... (قال :) وذلك أشهر في كلامهم من أن يحتاج إلى الاستدلال عليه.

وذكر الزمخشري في كشّافه نكتة أُخرى حيث قال : فإن قلت : كيف صحّ أن يكون لعليّ رضي الله عنه واللفظ لفظ جماعة؟

قلت : جيء به على لفظ الجمع ، وإن كان السبب فيه رجلاً واحداً ؛ ليرغب الناس في مثل فعله ، فينالوا مثل نواله ، ولينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ والإحسان وتفقّد الفقراء ، حتّى إن لزمهم أمر لا يقبل التأخير ، وهم في الصلاة ، لم يؤخّروه إلى الفراغ منها.

قلت : عندي في ذلك نكتة ألطف وأدقّ ، وهي : أنّه إنّما أتى بعبارة الجمع دون عبارة المفرد بقياً منه تعالى على كثير من الناس ، فإنّ شانئي عليّ وأعداء بني هاشم وسائر المنافقين وأهل الحسد والتنافس لا يطيقون

١٨

أن يسـمعوها بصـيغة المفـرد ؛ إذ لا يـبقى لهم حـينئذ مطمع في تمويـه ، ولا ملتمس في التضليل ، فيكون منهم ـ بسبب يأسهم ـ حينئذ ما تُخشى عواقبه على الإسلام ، فجاءت الآية بصيغة الجمع مع كونها للمفرد اتّقاءً من معرّتهم ، ثمّ كانت النصوص بعدها تترى بعبارات مختلفة ومقامات متعدّدة ، وبثّ فيهم أمر الولاية تدريجاً تدريجاً حتّى أكمل الله الدين وأتمّ النعمة ، جرياً منه صلّى الله عليه وآله وسلّم على عادة الحكماء في تبليغ الناس مايشـقّ عليهم ، ولو كانت الآية بالعبارة المختصّة بالمفرد ، لـ (جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصّروا واستكبروا استكباراً) (١).

وهذه الحكمة مطردة في كلّ ما جاء في القرآن الحكيم من آيات فضل أمير المؤمنين وأهل بيته الطاهرين ، كما لا يخفى.

وقد أوضحنا هذه الجمل وأقمنا عليها الشواهد القاطعة والبراهين الساطعة في كتابينا : سبيل المؤمنين وتنزيل الآيات.

والحمد لله على الهداية والتوفيق.

السياق دالّ على إرادة المحبّ؟!

إنّ الآية بحكم المشاهدة مفصولة عمّا قبلها من الآيات الناهية عن اتّخاذ الكفّار أولياء ، خارجة عن نظمها ، إلى سياق الثناء على أمير المؤمنين وترشيحه ـ للزعامة والإمامة ـ بتهديد المرتدّين ببأسه ، ووعيدهم بسطوته ؛ وذلك لأنّ الآية التي قبلها بلا فصل إنّما هي قوله تعالى : (يا أيها الّذين آمنوا من يرتدّ منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبّهم ويحبّونه أذلّة على المؤمنين أعزّة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون

____________

(١) سورة نوح ٧١ : ٧.

١٩

لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم) (١) ..

وهذه الآية مختصّة بأمير المؤمنين ، ومنذرة ببأسه (٢) وبأس أصحابه ، كما نصّ عليه أمـير المؤمنين يوم الجـمل ، وصـرّح به الباقر والصادق ، وذكره الثعلبي في تفسيره ، ورواه صاحب مجمع البيان عن عمّار ، وحذيفة ، وابن عبّـاس ، وعليه إجماع الشيعة ..

وقد رووا فيه صحاحاً متواترة عن أئمّة العترة الطاهرة ؛ فتكون آية الولاية على هذا واردة بعد الإيماء إلى ولايته والإشارة إلى وجوب إمامته ، ويكون النصّ فيها توضيحاً لتلك الإشارة ، وشرحاً لما سبق من الإيماء إليه بالإمارة ..

فكيف يقال بعد هذا : إنّ الآية واردة في سياق النهي عن اتّخاذ الكفّار أولياء؟!

____________

(١) سورة المائدة ٥ : ٥٤.

(٢) نظير قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : لن تنتهوا معشر قريش حتّى يبعث الله عليكم رجلاً امتحن الله قلبه بالإيمان ، يضرب أعناقكم وأنتم مجفلون عنه إجفال الغنم. فقال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله؟ قال : لا. قال عمر : أنا هو يا رسول الله؟ قال : لا ، ولكنّه خاصف النعل. قال : وفي كفّ عليّ نعل يخصفها لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.

أخرجه كثير من أصحاب السنن وهو الحديث ٦١٠ في أول صفحة ٣٩٣ من الجزء ٦ من الكنز.

ومثله قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : إنّ منكم رجلاً يقاتل الناس على تأويل القرآن كما قوتلتم على تنزيله. فقال أبو بكر : أنا هو؟ وقال عمر : أنا هو؟ قال : لا ، ولكنّه خاصف النعل في الحجرةٌ. فخرج عليّ ومعه نعل رسول الله يخصفها.

أخرجه الإمام أحمد بن حنبل من حديث أبي سعيد في مسنده ، ورواه الحاكم في مستدركه ، وأبو يعلى في المسند ، وغير واحد من أصحاب السُـنن ، ونقله عنهم المتّقي الهندي في ص ١٥٥ من جزئه السادس.

٢٠