تراثنا ـ العدد [ 65 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 65 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٩٤

تشيّع» .. لكنّ عبيـدالله بن موسى وأبا نعيم ومشايخ البخاري الكوفيّـين كانت عقيدتهم فوق عقيدة أبي غسّان ، وإلاّ لَما قال البخاري كذلك ، فكيف يكونون إنّما ينالون «من معاوية وذويه» فقط؟!

كلاّ! ليس الأمر كذلك ، وممّا يشهد لِما قلناه ، تصريح غير واحدٍ منـهم بأنّ محـدثي الكوفـة كانوا يقدّمون عليّـا على عثمان ، وقد ذكر الذهبـي أيضـا ذلـك ، وعـدد أسماء بعضهم ، وفيهم «عبـيدالله بن موسى» و«عبـد الرزّاق بن همّام» (١).

وجاء بترجمة «عبـد الرزّاق» : «قلت لعبـد الرزّاق : ما رأيك أنـت؟! ـ يعـني في التفضـيل ـ قال : فأبى أن يخـبرني ، وقال : كان سفيان يقول : أبـ وبكر وعمر ، ويسكت. ثـمّ قال لـي سـفيان : أُحبّ أن أخلـو بأبي عروةـيعـني مع ـ مراً ـ فقل ـ نا لمعـمر فقال : نـعم ؛ فخلا بـه ، فلمّا أصبح ، قلت : يـا أبـا عـروة! كيف رأيـته؟ قال : هو رجلٌ ، إلاّ أنّـه قلّـما تكاشف كوفـياً إلاّ وجدت فيه شيئاً ـ يريد التشيّع ـ ثمّ قال عبـد الرزّاق : وكان مالك يقول : أبو بكر وعمر ، ويسكت. وكان معمر يقول : أبو بكر وعمر وعثمان ، ويسكت ، ومثله كان يقول هشام بن حسّان» (٢).

فمن هذا يُعرف حال عبـد الرزّاق بن همّام ، وحال أهل الكوفة ، ومنه يفهم أنّ المعنى الصحيح للتشـيع هو ما ذكرناه ، وإلاّ لَما قال ابن عيينة في عبـد الرزّاق : «أخاف أنْ يكون من الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا» (٣).

وإلاّ لَما قيل بترجمة «اليامي» : «من أهل الكوفة الّذين لا يحمدون

____________

(١) ميزان الاعتدال ٢ / ٥٨٨.

(٢) سير أعلام النبلاء ٩ / ٥٦٩.

(٣) سير أعلام النبلاء ٩ / ٥٧١.

٤١

على مذاهبهم»!!

كما يفهم ذلك أيضاً من قول الذهبي بترجمة «محمّـد بن فضيل بن غزوان الكوفي» ـ وهو من رجال الصحاح السـتّة ـ : «على تشيّع كان فيه» ، فإنّه وإنْ حاول جعل تشيّعه على حدّ تكلّمه في من حارب أو نازع الأمر عليّـا ، إلاّ أنّه روى عن يحيى الحماني : «سمعت فضيلاً ـ او حُدّثت عنه ـ قال : ضربت ابني البارحة إلى الصباح أنْ يترحّم على عثمان ، فأبى عليَّ» (١).

بل لقد وصفوا «تليد بن سليمان» ـ وهو من مشايخ أحمد ومن رجال الترمذي ـ بالتشيّع ـ كما عن أحمد بن حنبل وغيره ـ مع أنّه «كان يشتم عثمان» و«يشتم أبا بكر وعمر» (٢).

وسيأتي مزيد من الكلام عن هذا الموضوع ...

الرفض في اصطلاح القوم :

لقد تبـين من خلال ما تقدّم : أنّ حقيقة التشـيع ليس مجرّد محبّة عليٍّ عليه السلام ، أو مجرّد التكلّم في من حاربه كمعاوية وطلحة والزبير وغيرهم ، أو مجرّد التكلّم في عثمان .. بل التشيّع تقديم عليٍّ عليه السلام على جميع الصحابة ، والقول بإمامته بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مباشرةً ، ورفض إمامة من تقدّم عليه ، ولذا وصفوا مثل «أبي الطفيل» الصحابي الجليل بـ : «الرفض» ، كما في كتاب المعارف (٣).

لكن القوم اتّخذوا ـ في علم الرجال والحديث ـ مصطلح «الرفض»

____________

(١) سير أعلام النبلاء ٩ / ١٧٤.

(٢) تاريخ بغداد ٧ / ١٣٨.

(٣) المعارف : ٦٢٤ ، «أسماء الغالية من الرافضة».

٤٢

للدلالة على المعنى الأخير ؛ محاولين التفريق بين المصطلحين من أجل التغطية على حال من اتّصف بحقيقة التشيّع ممّن ذكرناهم وغيرهم ..

إنّه مصطلح حادث وضـعوه للطعن في الرواة وردّ أحاديثهم ، وقد نصّ على ذلك ابن تيميّة بعد أن حكى السبّ والشتم للشيعة عن الشعبي وغيره ، فقال : «لكن لفظ (الرافضة) إنّما ظهر لمّا رفضوا زيد بن علي بن الحسين ، في خلافة هشام ، وقصّة زيد بن علي بن الحسين كانت بعد العشرين ومائة ... والشعبي توفّي سنة خمس ومائة أو قريباً من ذلك ، فلم يكن لفظ الرافضة معروفاً آنذاك ، وبهذا وغيره يعرف كذب لفظ الأحاديث المرفوعـة التي فيها لفظ الرافضـة ، ولكنْ كانوا يسمّون بغير ذلك الاسم ...» (١).

ولك ـ نّهم اختل ـ فوا فـي هذا اللفظ أيضـا ، مفـهومـا ومصداقـا ، فعـن عبـد العزيز بن أبي روّاد ـ وهو من رجال البخاري في التعاليق والأربعة ـ وقد سُئل مَنْ الرافضي؟! قال : «مَن كره أحداً من أصحاب محمّـد» ، ووافقه على ذلك مَن حضر من العلماء (٢).

وعن الدارقطني : أنّ أوّل عقد يحلُّ في الرفض تفضيل عثمان على عليّ (٣).

واعترضه الذهبي قائلاً : «ليس تفضيل عليٍّ برفضٍ ولا هو ببدعة ، بل ذهب إليه خلقٌ من الصحابة والتابعين ... ومن أبغض الشيخين واعتقد

____________

(١) منهاج السُـنّة ١ / ٣٥ ـ ٣٦ ، وقد عرفت أنّ واقـع الرفض قديم ، وأنّهم يصفون بعض الصحابة بالتشيّع وبالرفض ، فكان معناهما في الحقيقة واحداً ، وهو القول بإمامة عليٍّ عليه السلام بلا فصل.

(٢) تهذيب التهذيب ٦ / ٣٠٢.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٦ / ٤٥٧.

٤٣

صـحّة إمامتهما فهو رافضي مقيت ، ومن سبّهما واعتقد أنّهما ليسا بإمامَي هدىً فهو من غلاة الرافضة» (١).

أقـول :

بل الحقّ مع الدارقطني ، فإنّ أوّل عقدٍ من عقود رفض خلافة المشايخ هو القول بتفضيل عليٍّ عليه السلام على عثمان ، وهذا ما سنؤكّد عليه في ما بعد ، ولكنّ الذهبي يعترف بذهاب خلق من الصحابة والتابعين إلى تفضيل أمير المؤمنين عليه السلام ..

ثمّ كيف يجتمع بغض الشيخين مع الاعتقاد بصحّة إمامتهما ، ليسمّى صاحـبه بالرافضـي المقيت؟! وإذا ل ـ م يكن تفضـيله علـيه السلام برفض ولا بدعةٍ ، فلماذا قال بعض أئمّتهم في عبـد الرزّاق بن همّام الصنعانيـلمّا سئل عن رأيه في التفضيل فأبى أن يجيب ـ : «أخاف أنْ يكون من الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا»؟! (٢).

ثمّ إنّ الذهبي عنون في ميزانه ابن عقدة فقال : «أحمد بن محمّـد بن سعيد بن عقدة ، الحافظ أبو العبـاس ، محدّث الكوفة ، شيعي متوسّط» (٣) ، مع أنّه بترجمة «أحمد بن الفرات» ذكر ابن عقدة ووصفه بـ : «الرفض والبدعة» (٤).

وهـذا من تناقضاتـه بناءً على هذا المصطلح الجديد ، وهو ممّا يؤيّد ما نذهب إليه في معنى التشيّع كما تقدّم وسيأتي تفصيله.

____________

(١) سير أعلام النبلاء ١٦ / ٤٥٧.

(٢) سير أعلام النبلاء ٩ / ٥٦٩.

(٣) ميزان الاعتدال ١ / ١٣٦.

(٤) ميزان الاعتدال ١ / ١٢٨.

٤٤

وأمّا ابن حجر ، فهو يقول بالترادف بين «الرافضي» وبين «الشيعي الغالي» ، والمقصود منهما من قدّم عليّاً على أبي بكر وعمر ، قال : «فإنْ انضاف إلى ذلك السبّ أو التصريح بالبغض فغالٍ في الرفض» (١).

هـذا ما أردنا ذكره في هذا الفصل باختصار ، ويتلخّص في أُمور :

الأوّل : إنّ القوم ليس عندهم علماء يقفون عند آرائهم في الجرح والتعديل ، بحيث يكون القول الفصل والميزان العدل في هذا الباب.

والثاني : إنّ القوم ليس عندهم قواعد متقنة يرجعون إليها ، وضوابط محكمة يعتمدون عليها في هذا الباب.

والثالث : إنّ القوم ليس عندهم مصطلحات محدّدة ثابتة متفّق عليها بينهم ، مفهوماً ومصداقاً.

والرابع : إنّ القوم في أكثر أقوالهم في الجرح والتعديل يتّبعون الهوى والعصـبية ، وكيف يجوز الأخذ بآراء مَن هذا حاله؟!

والخامس : إنّ «التشيّع» بالمعنى الصحيح هو «الرفض» لخلافة من تقدّم على عليٍّ عليه السلام ، ولذا وصف مثل أبي الطفيل الصحابي بكلا الوصفين ، وكذا كثيرٌ من التابعين والأئمّة الأعلام في مختلف القرون.

حكم الرواية عن الرافضي والشيعي :

وقد اختلفوا في حكم الرواية عن «الرافضي» و«الشيعي» على أثر اختلافهم في العنوانَين مفهوماً وحكماً .. وتحيّروا في ذلك بشدّة ؛ لكثرة الرواة الشيعة من جهةٍ ، ولاعتراف القوم بعدالتهم وأمانتهم وضبطهم في

____________

(١) مقدّمة فتح الباري : ٤٦٠.

٤٥

النقل من جهةٍ أُخرى ، ولوجود عدد غير قليل منهم في الصحاح وغيرها من الكتب من جهة ثالثة.

فذهب بعضهم إلى جرح الراوي وردّ روايته ، لا لشيء ، إلاّ لتشيّعه (١) :

ففي ترجمة «ثوير بن أبي فاختة» بعد ذكر تكلّم بعضهم فيه : «قال الحاكم في المستدرك : لم ينقم عليه إلاّ التشيّع» (٢).

وفي ترجمة «عبـيدالله بن موسى» عن أحمد بن حنبل : «إنّه تركه لتشيّعه» (٣).

وفي ترجمة «علي بن غراب» قال الخطيب : «أظنّه طعن فيه لأجل مذهبه فإنّه كان يتشيّع» (٤).

وفي ترجمة «فطر بن خليفة» عن العجلي : «كان فيه تشيّع قليل» وعن ابن عيّـاش : «تركت الرواية عنه لسوء مذهبه» (٥).

____________

(١) ولا نذكر آراء الجوزجاني ؛ لأنّه كان ناصبيّاً ، لا يعتبـرون بتجـريحاته للشيعة ، ثمّ لا عجب من أنْ يتكلّموا في الراوي لأجل تشيّعه ، فإنّ في القوم من تكلّم في أئمّة العترة الطاهرة بكلّ جرأةٍ ووقاحةٍ حتّى انتقده بعض علمائهم ، كقول ابن سعدٍ صاحب الطبقات في الإمام الصادق عليه السلام : «كان كثير الحديث ، ولا يحتّج به ، ويستضعف. سئل مرّةً : هذه الأحاديث من أبيك؟ فقال : نعم. وسئل مرّةً فقال : إنّما وجدتها في كتبه» ، فاعترضه ابن حجر قائلاً : «يحتمل أنْ يكون السؤالان وقعا عن أحاديث مختلفة ، فذكر في ما سمعه أنّه سمعه ، وفي ما لم يسمعه أنّه وجده ، وهذا يدلّ على تثبّـته». تهذيب التهذيب ٢ / ١٠٤.

قلت : فإنْ كان ابن سعد لا يفهم هذا فما أجهله ، وإنْ كان يفهمه فما أسوء حاله! وعلى كلّ حالٍ فليس لقوله أيّ اعتبار.

(٢) تهذيب التهذيب ٢ / ٣٣.

(٣) تهذيب التهذيب ٧ / ٤٨.

(٤) تاريخ بغداد ١٢ / ٤٥.

(٥) مقدّمة فتح الباري : ٤٣٤.

٤٦

وفي ترجمة «علي بن المنذر» عن الإسماعيلي : «في القلب منه شيء ، لست أخيّره» (١).

وفي ترجمة «عبـدالله بن الجهم الرازي» عن أبي زرعة : «رأيته ولم أكتب عنه وكان صدوقاً. وقال أبو حاتم : رأيته ولم أكتب عنه وكان يتشيّع» (٢).

وكم من راوٍ كبيرٍ ومحدِّثٍ شهير ، تركوا أحاديثه لأنّ «عامّة ما يرويه في فضائل أهل البيت» (٣).

وكم وقع الكلام بينهم بشأن «أحمد بن الأزهر» لأنّه روى بسندٍ صحيح عن ابن عبـ اس أنّه قال : «نظر رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم إلى عليّ بن أبي طالب [عليه السلام] ، فقال : أنت سـيد في الدنيا وسـيد في الآخـرة ، حبيبك حبيبي وحبيبي حبيب الله ، وعدوّك عدوّي وعدوّي عدوّ الله ، فالويل لمن أبغضك بعدي» ، فقال الذهبي : «هو ثقة بلا تردّد ، غاية ما نقموا عليه ذاك الحديث في فضل عليّ رضي الله عنه» (٤).

وجاء بترجمة «أحمد بن محمّـد الستيتي» ـ المتوفّى سنة ٤١٧ ـ انّه : «كان يُتّهم بالتشيّع ، فحلف لنا أنّه بريء من ذلك ، وأنّه من موالي يزيد ، وأنّه قد زار قبر يزيد»!! (٥).

____________

(١) تهذيب التهذيب ٧ / ٣٣٧.

(٢) تهذيب التهذيب ٥ / ١٥٥.

(٣) انظر مثلاً : تهذيب التهذيب ٢ / ٤١ ـ ترجمة جابر بن يزيد الجعفيـ، و ج ٣ / ١٧٠ و ٣٧٤ ـ ترجمة أبي الجحاف داود بن أبي عوف ، وترجمة سالم بن أبي حفصةـ، وج ٥ / ٢٦٥ ـ ترجمة عبـدالله بن عبـد القدّوسـ.

(٤) سير أعلام النبلاء ١٢ / ٣٦٤.

(٥) سير أعلام النبلاء ١٧ / ٣٥٩ ، ويدلّ هذا على أنّ «التسنّن» المقابل لـ: «التشيّع»

٤٧

لكنّ الأكثر يأخذون برواية الشيعي ، إذا كانوا يرونه ثقة صدوقاً في نقـله .. سـواء كان ممّن يتكلّم في معاوية وأمثاله ، أو في عثمان وأعوانه ، أو في الشيخين وأصحابهما.

واختلفوا في الاحتجاج برواية الرافضي الصدوق على ثلاثة أقوال :

أحدها : المنع مطلقاً.

والثاني : الترخّص مطلقاً.

والثالث : التفصيل ، فتقبل رواية غير الداعية ، وتردّ رواية الداعية (١).

فإن كان المراد من «الرافضي» هو «الشيعي الغال» : وهو الذي يقدّم عليّاً عليه السلام على أبي بكر وعمر ، كما هو صريح الحافظ ابن حجر ، وتدلّ عليه الشواهد والقرائن الكثيرة ؛ فهو ..

وإنْ كان المراد من «الشيعي» : من يحبُّ عليّاً عليه السلام أو يقدّمه على عثمان أو يتكلّم في معاوية ، ومن «الرافضي» : خصوص من يقدّم عليّـا عليه السلام على أبي بكر وعمر ؛ ففي الصحاح ممّن يقدّمه عليهما كثيرون ، بل فيها مَن كان يتكلّم فيهما أيضاً.

وعلى كلّ تقدير يصـحُّ قول السـيد في عنوان المراجعة : «مائة من أسناد الشـيعة في أسناد السُـنة».

____________

هو اتّباع بني أُمية ، وله شواهد كثيرة في التاريخ والرجال ، وقد حققّنا ذلك في بعض رسائلنا.

(١) ميزان الاعتدال ١ / ٢٧ ، علوم الحديث لابن الصلاح ، وقد عزا القول بالتفصيل إلى الكثير أو الأكثر من العلماء ، ونصّ شارحه الزين العراقي على أنّ البخاري ومسلماً احتجّا أيضاً بالدعاة .. انظر : التقييد والإيضاح : ١٤٥ ـ ١٤٦.

قلـت : قد ذكرنا سابقاً أسامي جمعٍ منهم.

٤٨

خامساً ـ زيادة توضيح لعنوان المراجعة :

ونقول في تشييد كلام السـيد وتوضيح عنوان المراجعة ـ مضافاً إلى ما تقـدم ـ :

إنّه قد تمثّل التشيّع في القرون الثلاثة الأُولى بالقول بأفضلية عليٍّ عليه السلام من جميع الصحابة ، وتقديمه على أبي بكر وعمر خاصّةً .. إلاّ أنّه قد مرّ بظروفٍ صعبة جدّاً ؛ فقد كانت السلطات تلاحق من عرفت فيه سمة من سمات التشيّع ، حتّى الاسم مثل «علي» و«الحسن» و«الحسين» ... فلم يجد الشيعة بُدّاً من إخفاء عقيدتهم في أهل البيت عليهم السلام ، بل لقد جاء بترجمة بعض المحدِّثين أنّه كان علويّاً ولم يكن يظهر نَسبَه (١) ، وكم من عالمٍ محدِّثٍ عُرض عليه سبُّ أمير المؤمنين والبراءة منه ، فلمّا أبى عن ذلك أُوذي من قِبَل السلطة آنذاك وبكلّ قسـوة!! (٢).

وفي مثل هذه الظروف يكون التكلّم في عثمان ، بل تفضيل عليٍّ عليه السلام عليه من أجلى آيات التشيّع ، ومن أقوى الأدلّة على القول بإمامة عليٍّ عليه السسلام بلا فصلٍ ؛ ولذا قال الدارقطني : «اختلف قوم من أهل بغداد ، فقال قوم : عثمان أفضل ، وقال قوم : عليّ أفضل ، فتحاكموا إليَّ فأمسكت وقلت : الإمساك خير ، ثمّ لم أرَ لديني السكوت وقلت للّذي استفتاني : ارجع إليهم وقل لهم : أبو الحسن يقول : عثمان أفضل من عليّ باتّفاق جماعة أصحاب رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ، وهو أوّل

____________

(١) انظر مثلاً : ترجمة أبي عبـدالله ابن المطبقي في تاريخ بغداد ٨ / ٩٧.

(٢) انظر مثلاً : ترجمة عطيّة العوفي في تهذيب التهذيب ٧ / ٢٠٠ ، وترجمة مصدع المعرقب في تهذيب التهذيب ١٠ / ١٤٣ ، ولهما نظائر كثيرون ويصعب حصرهم.

٤٩

عقدٍ يحلّ في الرفض» (١).

والسبب في ذلك واضح ؛ لأنّ القول بأفضليّة عليّ من عثمان يفضي إلى بطلان خلافة عثمان ، وبذلك تبطل خلافة أبي بكر وعمر ، لأنّ خلافة عثمان منهما وفرع على خلافتهما ، ولذا كان سكوت الدارقطني مضرّاً بدينه!! ولذا أيضاً كان القول بأفضليّة عثمان أوّل عقدٍ يحلّ في الرفض!!

أتصدّق أن يكون الراوي عن أبي سعيد الخدري : «إنّ عثمان أُدخل حفرته وإنّه لكافر بالله» من القائلين بأنّ أبا بكر وعمر إماما هدىً؟!!

إنّه أبو هارون العبدي الشيعي ، وقد روى ذلك عنه ابن عدي في الكامل حيث ترجمه ، وذكر أسماء بعض الأكابر الّذين حدّثوا عنه ، ثمّ قال : «وقد كتب الناس حديثه» (٢).

لكن أوّل عقدٍ يحلُّ في الرفض ـ حسب تعبيره ـ هو الدفاع عن معاوية والمنع من لعنه ، وطرد من تكلّم فيه (٣) وإيذاؤه ، كما فعلوا بغير واحدٍ من أئمّتهم ..

لا أقول : إنّ كلّ من تكلّم في معاوية فهو شيعي إمامي (٤).

____________

(١) سير أعلام النبلاء ١٦ / ٤٥٧.

(٢) انظر : ترجمة أبي هارون العبديـمن رجال الترمذي وابن ماجةـفي ميزان الاعتدال ٣ / ١٧٣ ، والكاملـلابن عدي ـ ٦ / ١٤٦.

(٣) بل عليهم أنْ يدافعوا عن يزيد!! ولذا قال التفتازاني بعد أن لَعَنَ يزيد بن معاوية وكلّ من حمل ظلماً على أهل البيت عليهم السلام : «فإنْ قيل : فمن علماء المذهب من لم يجوّز اللعن على يزيد مع علمهم بأنّه يستحقّ ما يربو على ذلك ويزيد. قلنا : تحامياً عن أنْ يُرتقى إلى الأعلى فالأعلى ، كما هو شعار الروافض ...». شـرح المقاصـد ٥ / ٣١١.

(٤) فالحاكم النيسابوري صاحب المستدرك على الصحيحين لا نعدّه شيعياً إماميّاً لمجرّد

٥٠

بل أقول : بأنّ ذلك كان أحد الأساليب للاِعلان عن العقيدة ؛ لأنّ التكلّم في معاوية ينتهي إلى التكلّم في عمر فأبي بكر ..

ولذا قال الذهـبي في «يحيى بن عبـد الحميد الحماني» ـ بعد قول ابن عدي : لا بأس به ـ : «قلت : إلاّ أنّه شيعي بغيض ، قال زياد بن أيوب : سمعت يحيى الحماني يقول : كان معاوية على غير ملّة الإسلام. قال زياد : كذب عدوّ الله» (١) ..

ولذا مزّقوا ما كتبوا عمّن روى مثالب معاوية (٢).

ولعلّ هذا الذي ذكرناه هو مرادهم من قولهم بترجمة بعض الأعلام : «فيه تشيّع يفضي به إلى الرفض» (٣).

وكيف يكون المحدِّث ابن أبي دارم الكوفي «مستقيم الأمر عامّة دهره» «ثمّ في آخر أيّامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب»؟!

إنّ معنى استقامة أمر الرجل أنْ يكون ثقةً صدوقاً في نقله ، وكذلك

____________

تصحيحه على شرط البخاري ومسلم حديث الطير ونحوه من الأحاديث المعتبرة الدالّة على إمامة أمير المؤمنين عليه السلام ، أو لمجرّد انحرافه عن معاوية وتكلّمه فيه بصراحةٍ ووضوح ..

ولكنْ إذا ثبت قول ابن طاهر فيه : «كان شديد التعصّب للشيعة في الباطن ، وكان يظهر التسنّن في التقديم والخلافة» ، وأنّه كان يقول : إنّ عليّـا وصيّ ، ـ ولهذه الأُمور وغيرها وصفه بعضهم بـ : «رافضي خبيث» ـ ؛ كان من القائلين بإمامة مولانا أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام ، وعلى هذا الأساس أورده السـيد رحمه الله في المائة ، والله العالم.

راجع : ترجمة الحاكم في ميزان الاعتدال ٣ / ٦٠٨ ، وسير أعلام النبلاء ١٧ / ١٦٢ ، ولسان الميزان ٥ / ٢٣٦ الطبعة الحديثة ، والطبقات ـ للسبكي ـ ٤ / ١٥٥ ، وغيرها.

(١) ميزان الاعتدال ٤ / ٣٩٢.

(٢) انظر مثلاً : ميزان الاعتدال ١ / ٢٧.

(٣) سير أعلام النبلاء ١٧ / ٥٠٧ ، ترجمة ابن السمسار الدمشقي.

٥١

كان ابن أبي دارم ـ المتوفّى سنة ٣٥١ ـ الاّ أنّه من ناحية العقيدة كان يعيش في تقيّةٍ عامّة دهره ، فلا يتظاهر بما يخالف عقيدة الجمهور ، حتّى آخر أيّام حياته ، فلمّا حضرته الوفاة روى : «إنّه عمر رفس فاطمة حتّى أسقطت بمحسن» ، وروى في قوله تعالى (وجاء فرعون ...) (١) : «جاء فرعون : عمر ، وقبله : أبو بكر ، والمؤتفكات : عائشة وحفصة» ومن هذا الوقت وصف بـ : «الرافضي الكذّاب» (٢).

أقـول :

أمّا كونه «رافضياً» فنعم ، وأمّا كونه «كذّاباً» فلماذا وقد شهدتم باستقامته عامّة دهره؟!

إنّ هذا من موارد تناقضات الذهبي أيضاً ؛ إذ نصّ في غير موضعٍ على أنّ الرفض غير مضرٍّ بالوثاقة ، وتبعه على ذلك ابن حجر في مقدّمة فتح الباري حيث يريد الدفاع عن كتاب البخاري ، لكنّهـهو الآخر ـ ناقض نفسه في مواضع كثيرة.

ولو أنّك راجعت ميزان الاعتدال والمغني في الضعفاء للذهبي ، لوجدته يجرح ويضعّف ـ لا سيّما في الثاني ـ كثيراً من الأعلام ورجال الحديث ، لا لشيء فيهم سوى التشيّع ..

وكذا ابن حجر في تهذيب التهذيب ولسان الميزان.

فما أكثر تناقضات القوم في كلّ باب!!

ولكنّ الله تعالى شاء أنْ يشتمل أصحّ كتب القوم على روايات ثلّةٍ من

____________

(١) سورة الحاقّة ٦٩ : ٩.

(٢) ميزان الاعتدال ١ / ١٣٩.

٥٢

الرجال المشاهير ، مع وصفهم لهم بـ : «الغلوّ في التشيّع» أو بـ : «الرفض» ، ومع تصريحهم بتراجم كثيرٍ منهم بأنّه «كان يشتم ...» ونحو ذلك ، ممّا يدلُّ على كونهم من القائلين بإمامة أمير المؤمنين بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مباشرةً ، وهو مذهب الشيعة الإمامية (١).

ففي ترجمة (أبان بن تغلب) : «كان مذهبه مذهب الشيعة ، وهو معروف في الكوفيّين» ، و : «كان غالياً في التشيّع».

وفي ترجمة (إبراهيم بن أبي يحيى) : «كذّاب رافضي».

وفي ترجمة (أحمد بن المفضّل) : «كان من رؤساء الشيعة».

وفي ترجمة (إسماعيل الملائي) : «كان شيعيّاً من الغلاة الّذين يكفّرون عثمان».

وفي ترجمة (السدّي) : «يشتم أبا بكر وعمر».

وفي ترجمة (إسماعيل الفزاري) : «يشتم السلف».

وفي ترجمة (تليد بن سليمان) : «رافضي يشتم أبا بكر وعمر».

وفي ترجمة (جابر الجعفي) : «رافضي يشتم».

وفي ترجمة (جعفر بن سليمان) : «البغض ما شئت».

وفي ترجمة (جمع بن عميرة) : «من عتق الشيعة».

وفي ترجمة (أبي النعمان الأزدي) : «من المحترقين في التشيّع».

وفي ترجمة (الحارث الهمداني) : «كان غالياً في التشيّع» «نقم عليه إفراطه في حبّ عليٍّ وتفضيله له على غيره».

وفي ترجمة (الحسن بن حي) : «كان لا يترحّم على عثمان».

____________

(١) اقتصرنا على الشخصيّات الّذين استشهد بهم الس ـيد ، وإلاّ فهم أكثر وأكثر.

٥٣

وفي ترجمة (خالد بن مخلد القطواني) : «كان شتّاماً معلناً بسوء مذهبه».

وفي ترجمة (داود بن أبي ع ـ وفـابي الجحاف ـ) : «شيعي ، عامّـة ما يرويه في فضائل أهل البيت».

وفي ترجمة (زبيد اليامي) : «من أهل الكوفة الّذين لا يحمدون على مذاهبهم».

وفي ترجمة (سالم بن أبي حفصة) : «كان من رؤوس مَن ينتقص من أبي بكر وعمر».

وفي ترجمة (سعد بن طريف) : «يفرط في التشيّع».

وفي ترجمة (سلمة بن الفضل) : «كان أهل الري لا يرغبون فيه لسوء رأيه».

وفي ترجمة (سليمان بن قرم) : «كان رافضياً غالياً».

وفي ترجمة (شريك القاضي) : «أنت تنتقص أبا بكر وعمر».

وفي ترجمة (عبّاد بن يعقوب) : «كان داعية إلى الرفض» «يشتم عثمان» و«السلف».

وفي ترجمة (عبدالله بن عمر ـ مشكدانة ـ) : «كان غالياً في التشيّع».

وفي ترجمة (عبـد الرحمن بن صالح الأزدي) : «ألَّف كتاباً في مثالب الصحابة ، رجل سوء».

وفي ترجمة (عبـد الرزّاق بن همّام) : «مذهبه مذهب التشيّع ، و«حدّث بأحاديث في الفضائل لم يوافقه عليها أحد ، وبمثالب لغيرهم مناكير».

وفي ترجمة (عبـد الملك بن أعين) : «كان رافضياً» و : «من عتق الشيعة».

وفي ترجمة (عبـيدالله بن موسى) : «شيعي منحرف».

٥٤

وفي ترجمة (عثمان بن عمير) : «رديء المذهب ، يؤمن بالرجعة» (١).

وفي ترجمة (عدي بن ثابت) : «رافضي غال».

وفي ترجمة (العلاء بن صالح) : «من عتق الشيعة».

وفي ترجمة (علي بن زيد بن جدعان) : «كان رافضياً».

وفي ترجمة (علي بن صالح) : «هو من سلف الشيعة وعلمائهم».

وفي ترجمة (علي بن غراب) : «كان غالياً في التشيّع».

وفي ترجمة (علي بن هاشم بن البريد) : «كان مفرطاً في التشيّع».

وفي ترجمة (فطر بن خليفة) : «مذهبه مذهب الشيعة» و : «خشبي (٢) مفرط».

وفي ترجمة (موسى بن قيس الحضرمي) : «من الغلاة في الرفض».

____________

(١) العقيدة بالرجـعة من عقائد الشيعة الإمامية الاثني عشرية ، وهي في مجملها : القول بأنّ الله يرجع إلى الدنيا عليّاً والأئمّة والمخلصين من شيعتهم ، في زمن المهدي عليه السلام ، ويرجع أيضاً رؤساء الظلم والنفاق في هذه الأُمّة ، فينتقم أولئك من هؤلاء ..

وكأنّ القول بالرجعة عند الجمهور نقص موجبٌ للضعف ، مع أنّ به آيات من القرآن الكريم ؛ قال أبو حريز البصريـمن رجال البخاري في التعاليق والأربعة ـ : هي ٧٢ آية. تهذيب التهذيب ٥ / ١٦٤.

وبه روايات معتبرة كثيرة ، وقد قال به بعض الصحابة كأبي الطفيل ـ كما في المعارف ـ وعدّة من الأئمّة من غير الإمامية.

كما أنّ في كتب الجمهور أيضاً أحاديث في وقوع ذلك في زمن بعض الأنبياء ، وفي زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ، بل لقد رووا أنّ رسول الله أرجع إلى الدنيا والديه وعرض عليهما الإسلام ـ في ما يروون ـ فقبلا ، وعادا فماتا. انظر : شرح المواهب اللدنّية ١ / ١٦٦.

ولو شئنا التفصيل لفعلنا ، لكنّه خارج عمّا نحن بصدده الآن ، وبما ذكرناه الكفاية.

(٢) من ألقاب القائلين بإمامة عليٍّ عليه السلام بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأنّ إمامة غيره باطلة ، في كلام النواصب.

٥٥

وفي ترجمة (نفيع بن الحارث) : «يغلو في الرفض».

وفي ترجمة (هارون بن سعد) : «رافضي بغيض».

وفي ترجمة (يزيد بن أبي زياد) : «من أئمّة الشيعة الكبار».

وتلخّـص :

إنّ «التشيّع» ليس إلاّ «الرفض» لخلافة من تقدّم على عليٍّ عليه السلام ، وقد كان هذا هو المرتكز في أذهان الناس وعند قدماء علماء الجرح والتعديل ، الّذين تكلّموا في الرواة الموصوفين بالتشيّع ، وضعّفوهم وردّوا أحاديثهم بهذا السبب ..

وأمّا الفصل بين المصطلحين المذكورين ، بتخصيص «التشيّع» بمن يتكلّـم فـي معاوية وعائشة وطلحة والزبير ، أو يتكلّـم فيـهم وفي عثمان ، أو يقدّم عليّاً عليه ، وجعل «الرفض» لمن يقدّم عليّاً على أبي بكر وعمر ، كما جاء في كلام الذهبي وابن حجر ، وتبعهما عليه بعض الكتّاب المعاصرين ، فهو على إطلاقه غير صحيح ؛ لأنّ من الموصوفين بالتشيّع بسبب التكلّم في معاوية مَن هو من أهل السُـنة يقيناً ، كالنسائي ، الذي لاقى ما لاقى من أهل الشام كما هو معروف ، وفيهم مَن هو من القائلين بإمامة عليٍّ عليه السلام بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كالرواجني ، الذي وصِف أيضاً بالمبتدع تارةً وبالرافضي أُخرى ..

وأمّا المتكلّمون في عثمان ، فهم قائلون بإمامة عليٍّ عليه السلام كذلك يقيناً ، إلاّ أنّهم كانوا في تقيّة ، وما كان بإمكانهم أنْ يتظاهروا بعقيدتهم إلاّ بهذه الطريقة ، ثمّ إنّ جماعةً كبيرةً منهم باحوا بعقيدتهم ، من رفض خلافة مَن تقدّم على أمير المؤمنين ، والتكلّم فيه ، كما جاء بترجمتهم.

ولا يخـفى إنّ هذا التحقـيق فـي أحوال المائـة ، الّذين ذكرهم السـيد ـ طاب ثراهـانّما جاء على ضوء كلمات القوم ، وبغضّ النظر عمّا في كتب

٥٦

أصحابنا عنهم ، وإلاّ فإنّ العديد منهم يعدّون من أخصّ أصحاب الأئمّة المعصومين ، عليهم وعلى جدّهم صلوات ربّ العالمين.

قال السـيد :

«هذا آخر من أردنا ذكرهم في هذه العجالة ، وهم مائة بطل من رجال الشيعة ، كانوا حجج السُـنة وعيبة علوم الأُمّة ، بهم حفظت الآثار النبوية ، وعليهم مدار الصحاح والسُـنن والمسانيد ، ذكرناهم بأسمائهم ، وجئنا بنصوص أهل السُـنة على تشيّعهم ، والاحتجاج بهم ... وأظنّ المعترضين سيعترفون بخطئهم في ما زعموه من أنّ أهل السُـنة لا يحتجّون برجال الشيعة ... في سلف الشيعة ممّن يحتجّ أهل السُـنة بهم ـ غير الّذين ذكرناهمـاضعاف أضعاف تلك المائة عدداً ، وأعلى منهم سنداً ، وأكثر حديثاً ، وأغزر علماً ، وأسبق زمناً ، وأرسخ في التشيّع قدماً ، ألا وهم رجال الشيعة من الصحابة ... وفي التابعين ... ممّن يستغرق تفصيلهم المجلّدات الضخمة ...».

أقـول :

وقد أوضحنا ـ ولله الحمد ـ مقاصد السيّد وشيّدنا مطالبه ، بما لا مزيد عليه ، ولا يدع مجالاً للمكابرة ..

ومن المعلوم ، إنّ التشيّع لعليٍّ عليه السلام بمعنى تقديمه على غيره من الصحابة والقول بإمامته وخلافته بعد رسول الله بلا فصل ، إنّما يتحقّق بالاقتداء بـ ه واتّباعه والأخذ منه ، وكذلك بالأئمّة المعصومين من بعده ، عملاً بقول الرسـول الأكرم : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا ...» ، وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوحٍ ، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها

٥٧

غـرق» (١).

فالشيعة في أُصول الدين وما يجب الاعتقاد به من المبدأ وصفاته والمعاد ، وفروعـه من الأحكام الشرعية ، من الحلال والحرام وغير ذلك ، تبعٌ للكتاب المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ولباب مدينة العلم وأهل العصمة ..

فإيمانهم بالرجـعة ـ مثلاً ـ يرجع إلى الكتاب والسُـنة ، وعملهم بالتقيّة ـ احياناً ـ امتثالٌ لأمر الله ورسوله ـ وقد وجدنا إنّ أئمّة العامّة عملوا بها في مسألة خلق القرآن ، كما رأينا إنّ جمعاً من الأعلام منهم يروون حديث الرجعة ويقولون بها ـ وهكذا في سائر الشؤون.

فالشيعة الإمامية أهل السُـنة النبوية حقيقةً ، وهم المسلمون حقّاً ، وهم أهل النجاة في الآخرة ..

وعلى غيرهم إقامة الدليل القطعي على صحّة عقائدهم وأعمالهم وأقوالهم .. وأنّى لهم ذلك ..

ومن شاء التفصيل فليرجع إلى كتب العقائد ..

والحمد لله ربّ العالمين.

هذا تمام الكلام في هذه المراجعة ، وبه يتمّ الكلام في المبحث الأوّل من كتاب المراجعـات.

للبحث صلة ...

____________

(١) وقد تقدم البحث عن الحديثين سابقا. وأما الرواية : «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وسنتي» كما في بعض كتب القوم فقد حققنا في رسالة مفردة أن لا سند لها ولا يتم لها معنى إلا بالرجوع الى أهل بيت الهدى. فراجع : الرسائل العشر في الأحاديث الموضوعة في كتب السنّة.

٥٨

عدالة الصحابة

(٦)

الشيخ محمد السند

موقف الصديقة فاطمة عليها السلام تجاه الصحبة والصحابة

ف ـ قد روي عن المف ـ ضّ ـ ل بن عمـر ، قـال : «قال مولاي جعفـر الصادق عليه السلام : لمّا وُلّي أبو بكر بن أبي قحافة ...

ثمّ سرد عليه السلام منعه فاطمة وعليّ وأهل بيته الخمس والفيء وفدكاً ، ومجيء فاطمة لمحاجّة أبي بكر بقوله تعالى : (فآتِ ذا القربى حقّه) (١).

وأنّها ووُلدها أقرب الخلائق إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وبقوله تعالى : (واعلموا أنّما غنمتم من شيءٍ فأنّ لله خُمُسَهُ وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (٢) وقوله تعالى : (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فللّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولة بين الأغنياء) (٣) وأنّ ما لله فهو لرسوله ،

____________

(١) سورة الروم ٣٠ : ٣٨.

(٢) سورة الأنفال ٨ : ٤١.

(٣) سورة الحشر ٥٩ : ٧.

٥٩

وما لرسـوله فهـو لذي القربـ ى ، وأنّها وعلـي ووُلدهما ذوو القربى الّذين قـال الله ت ـ عالـى فيهـم : (قـل لا أسألكـم علـيه أجـراً إلاّ المـودّة في القربى) (١) ..

فنظر أبو بكر بن أبي قحافة إلى عمر بن الخطّاب وقال : ما تقول؟

فقال عمر : ومَن اليتامى والمساكين وأبناء السبيل؟!

قالت فاطمة عليها السلام : اليتامى الّذين يأتمّون بالله وبرسوله وبذي القربى ، والمساكين الّذين أُسكنوا معهم في الدنيا والآخرة ، وابن السبيل الذي يسلك مسلكهم.

قال عمر : فإذاً الخمس والفيء كلّه لكم ولمواليكم وأشياعكم؟!

فقالت فاطمة عليها السلام : أمّا فدك فأوجبها الله لي ولولدي دون موالينا وشيعتنا ، وأمّا الخمس فقسّمه الله لنا ولموالينا وأشياعنا كما يقرأ في كتاب الله.

قال عمر : فما لسائر المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان؟!

قالت فاطمة : إنْ كانوا موالينا ومن أشياعنا فلهم الصدقات التي قسّمها الله وأوجبها في كتابه فقال الله عزّ وجلّ : (إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم وفي الرقاب) (٢) ... إلى آخر القصّة.

قال عمر : فدك لكِ خاصّة والفيء لكم ولأوليائكم؟! ما أحسب أصحاب محمّـد يرضون بهذا!!

____________

(١) سورة الشورى ٤٢ : ٢٣.

(٢) سورة التوبة ٩ : ٦٠.

٦٠