الأساس في التفسير - ج ١١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٦٤١

قدم الألوسي لسورة المسد بقوله :

(وتسمى سورة المسد ، وهي مكية وآيها خمس بلا خلاف في الأمرين ، ولما ذكر سبحانه فيما قبل دخول الناس في ملة الإسلام ، عقبه سبحانه بذكر هلاك بعض ممن لم يدخل فيها وخسرانه.

على نفسه فليبك من ضاع عمره

وليس له منها نصيب ولا سهم

كذا قيل في وجه الاتصال ، وقيل هو من اتصال الوعيد بالوعد ، وفي كل مسرة له عليه الصلاة والسلام. وقال الإمام في ذلك : إنه تعالى لما قال (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) فكأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إلهي فما جزائي؟ فقال الله تعالى : لك النصر والفتح ، فقال : فما جزاء عمي الذي دعاني إلى عبادة الأصنام؟ فقال : تبت يداه ، وقدم الوعد على الوعيد ليكون النصر متصلا بقوله تعالى (وَلِيَ دِينِ) والوعيد راجعا إلى قوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ) على حد (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) الآية فتأمل هذه المجانسة الحاصلة بين هذه السور مع أن سورة النصر من آخر ما نزل بالمدينة ، وتبت من أوائل ما نزل بمكة لتعلم أن ترتيبها من الله تعالى وبأمره عزوجل ثم قال : ووجه آخر وهو أنه لما قال (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) فكأنه قيل : إلهي ما جزاء المطيع؟ قال : حصول النصر والفتح ، ثم قيل : فما جزاء العاصي؟ قال : الخسار في الدنيا والعقاب في العقبى ، كما دلت عليه سورة تبت. انتهى وهو كما ترى).

كلمة في سورة المسد ومحورها :

بعد الآيات الخمسة الآتية بعد مقدمة سورة البقرة والتي رأينا أنها كانت محورا للسور الثلاث السابقة : الكوثر ، والكافرون ، والنصر ، يأتي قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ* الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

لاحظ كلمة (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وأن سورة المسد تبدأ بقوله تعالى (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) قال ابن كثير : (أي وقد تحقق خسارته وهلاكه) ، من هذه

٦٤٢

البداية للسورة ندرك أن الله عزوجل يعطينا في هذه السورة نموذجا على هؤلاء الخاسرين من الرجال والنساء ، وأي نموذج؟ عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزوجة عمه ، وفي ذلك ما فيه من التحذير والإنذار ، وقطع الطمع والإبعاد عن الأماني.

فمن ربط السورة بمحورها ندرك أن أبا لهب وزوجته هما النموذجان الرجالي والنسائي على الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض ، ومن ثم استحقوا إضلال الله عزوجل لهم.

ختمت سورة الكافرون بقوله تعالى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) وجاءت سورة النصر تبشر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنصر على الكافرين ، وتأتي سورة المسد لتتحدث عن مآل الكافرين وخسرانهم من خلال الحديث عن شخصية آذت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي وزوجها الإيذاء الكثير ، وحرصت على رد وصد الناس عن الإسلام ، فهي داخلة دخولا أوليا في قوله تعالى (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ..) ومن ثم فللسورة صلتها الوثيقة بما قبلها ، فليس أعداء الله مغلوبين فقط ، بل من حارب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيها واستمر على ذلك فإنه كذلك معذب عند الله عزوجل يوم القيامة وفي الآخرة ، وهو نصر ثان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ففي سورة النصر تسجيل للنصر الدنيوي على الكافرين وفي سورة المسد تسجيل للنصر الأخروي على الكافرين.

إن سورة المسد نزلت في أوائل الدعوة الإسلامية ، فأن تأتي في محلها الذي جاءت به متصلة بما قبلها وما بعدها ، متصلة بمحورها من سورة البقرة ، فهذا وحده إعجاز ، وفيه معجزات وفي السورة. فلنبدأ عرض السورة.

٦٤٣

سورة المسد

وهي خمس آيات وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

فائدتان في التعريف بأبي لهب وزوجته وفي سبب النزول :

١ ـ قال ابن كثير : (فأبو لهب هذا هو أحد أعمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم واسمه عبد العزى بن عبد المطلب ، وكنيته أبو عتبة ، وإنما سمي أبا لهب لإشراق وجهه ، وكان كثير الأذية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والبغضة له ، والازدراء به ، والتنقص له ولدينه. روى الإمام أحمد عن رجل يقال له ربيعة بن عباد من بني الديل وكان جاهليا فأسلم قال : رأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول : «يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا» والناس مجتمعون عليه ووراءه رجل وضىء الوجه ، أحول ذو غديرتين يقول : إنه صابىء كاذب ، يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه فقالوا : هذا عمه أبو لهب ، ثم رواه عن شريح عن ابن أبي الزناد عن أبيه فذكره قال أبو الزناد : قلت لربيعة : كنت يومئذ صغيرا؟ قال : لا والله إني يومئذ لأعقل أني أزفر القربة ، تفرد به أحمد. وقال محمد ابن إسحاق حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال : سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول : إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتبع القبائل ، ووراءه رجل أحول وضىء الوجه ، ذو جمة يقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على القبيلة فيقول : «يا بني فلان إني رسول الله إليكم ، آمركم أن تعبدوا الله لا تشركوا به شيئا ، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به» وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه : يا بني فلان هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تسمعوا له ولا تتبعوه فقلت لأبي : من هذا؟ قال :

٦٤٤

عمه أبو لهب. رواه أحمد أيضا والطبراني بهذا اللفظ).

وقال ابن كثير : وكانت زوجته من سادات نساء قريش وهي أم جميل واسمها أروى بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان ، وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده فلهذا تكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم.

٢ ـ في سبب نزول هذه السورة قال ابن كثير :

روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش فقال : «أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟» قالوا : نعم ، قال : «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا؟ تبا لك ، فأنزل الله (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) إلى آخرها. وفي رواية فقام ينفض يديه وهو يقول : تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) الأول دعاء عليه ، والثاني خبر عنه.

التفسير :

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) أي : جعلت يداه هالكتين ، والمراد إهلاك جملته ، قال النسفي : التباب الهلاك. قال ابن كثير : أي خسرت وخابت وضل عمله وسعيه (وَتَبَ) قال النسفي : أي وكان ذلك وحصل. وقال ابن كثير : أي وقد تب أي تحقق خسارته وهلاكه (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) أي : لم يغن عنه ماله ومكسوبه أو كسبه ، قال النسفي : أي لم ينفعه ماله الذي ورثه من أبيه ، والذي كسبه بنفسه ، أو ماله التالد أو الطارف ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما (ما كَسَبَ) ولده. أقول : فعلى هذا القول يكون معنى الآية : ما أغنى عنه ماله ولا ولده من عذاب الله شيئا ، قال الألوسي : (وروي أنه كان يقول : إن كان ما يقول ابن أخي حقا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي وولدي فأنزل الله في ذلك : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) (سَيَصْلى) أي سيدخل (ناراً ذاتَ لَهَبٍ) أي ذات توقد. قال ابن كثير : أي ذات شرر ولهب وإحراق شديد ، قال النسفي : والسين للوعيد أي هو كائن لا محالة وإن تراخى وقته (وَامْرَأَتُهُ) أي ستصلى النار ذات اللهب (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) قال

٦٤٥

النسفي : والتقدير : أعني حمالة الحطب (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال النسفي : والمسد الذي فتل من الحبال فتلا شديدا من ليف كان أو جلد أو غيرهما. أقول : قد اختلفت عبارات المفسرين في تفسير قوله تعالى (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) هل هذا وصف لها في الدنيا؟ وما المراد به إن كان الأمر كذلك؟ أو هو وصف لها في الآخرة وما المراد به إن كان الأمر كذلك؟ أو هو وصف لها في الدنيا والآخرة؟ وقد سرد ابن كثير الأقوال الواردة في ذلك متداخلة. فلننقل كلامه.

قال ابن كثير عند قوله تعالى : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) :

(يعني تحمل الحطب فتلقي على زوجها ليزداد على ما هو فيه وهي مهيأة لذلك مستعدة له (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) قال مجاهد وعروة من مسد النار ، وعن مجاهد وعكرمة والحسن وقتادة والثوري والسدي : حمالة الحطب كانت تمشي بالنميمة ، واختاره ابن جرير. وقال العوفي عن ابن عباس وعطية الجدلي والضحاك وابن زيد : كانت تضع الشوك في طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال ابن جرير : كانت تعير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر ، وكانت تحتطب فعيرت بذلك ، كذا حكاه ولم يعزه إلى أحد ، والصحيح الأول والله أعلم. قال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة فقالت : لأنفقنها في عداوة محمد ، يعني فأعقبها الله منها حبلا في جيدها من مسد النار. وروى ابن جرير عن الشعبي قال : المسد الليف ، وقال عروة بن الزبير : المسد سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ، وعن الثوري : هو قلادة من نار طولها سبعون ذراعا ، وقال الجوهري : المسد الليف ، والمسد أيضا حبل من ليف أو خوص وقد يكون من جلود الإبل أو أوبارها ومسدت الحبل أمسده مسدا إذا أجد فتله.

وقال مجاهد : (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي : طوق من حديد ألا ترى أن العرب يسمون البكرة مسدا؟

وقد قال بعض أهل العلم في قوله تعالى (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) أي : في عنقها حبل في نار جهنم ترفع به إلى شفيرها ثم ترمى إلى أسفلها ثم كذلك دائما. قال أبو الخطاب بن دحية في كتابه التنوير : وقد روى ذلك وعبر بالمسد عن حبل الدلو كما قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : كل مسد رشاء. وأنشد في ذلك :

وبكرة ومحورا صرارا

ومسدا من أبق مغارا

قال : والأبق القنب.

٦٤٦

وقال آخر :

يا مسد الخوص تعوذ مني

إن تك لدنا لينا فإني

ما شئت من أشمط مقسئن

أقول : الذي ينشرح له الصدر أن وصف أم جميل بحمالة الحطب هو وصف ذم لها في الدنيا ، وهل المراد به سيرها بالنميمة لإشعال الفتن ، أو المراد بذلك حملها للحطب فعلا لتضعه في طريق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحقرها الله عزوجل بذلك بأن شبهها بالحطابين والحطابات لتجزع من ذلك ويجزع بعلها. وهما في بيت العز والشرف ، وفي منصب التروة والجد ، كلا المعنيين وارد. وأما قوله تعالى (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) فترجح أن المراد به الإشارة إلى نوع من أنواع عذابها في الآخرة ، والمراد بالحبل من المسد حبل من حبال النار كما قال مجاهد وعروة : من مسد النار. وكما قال مجاهد : أي طوق من حديد. ألا ترى أن العرب يسمون البكرة مسدا؟ وكما قال سعيد بن المسيب : فأعقبها الله منها حبلا في جيدها من مسد النار ، وكما قال عروة بن الزبير ، المسد سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ، وكما قال الثوري : هو قلادة من نار طولها سبعون ذراعا. وبذلك تكون الآيتان قد حقرنا زوجة أبي لهب غاية التحقير ، إذ وصفتها في الدنيا بصفة تعتبرها هي غاية في الحقارة ، ووصف حالها في الآخرة بصفة تفيد أقصى حالات الذلة. أن يكون كحبل الليف في عنقها تسحب منه ، ولا يفهمن فاهم أن حمل الحطب للعمل مذموم في الآية ، فالآية لا تتعرض لهذا الموضوع وإنما تحقر امرأة بما تعتبره هذه المرأة تحقيرا في مثل حالها. قال النسفي : (ونصب عاصم (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) على الشتم ، وأنا أحب هذه القراءة وقد توسل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بجميل من أحب شتم أم جميل) أقول : هذا ترجيح منه أن المراد بالآية تحقير أم جميل وأن من أحب هذا المعنى مأجور.

كلمة في السياق :

١ ـ نزلت هذه السورة في أوائل الإسلام ، ومن المعلوم أن كثيرين ممن حاربوا الدعوة الإسلامية. ابتداء دخلوا فيها بعد ذلك كعمر وأبي شعبان وخالد بن الوليد وغيرهم كثير. فأن تذكر السورة أن أبا لهب وزوجته سيدخلان النار فهذا إخبار بالغيب أنهما سيبعثان على كفرهما ، وقد تحقق هذا ، وفي ذلك وحده معجزة من

٦٤٧

معجزات هذا القرآن تقطع بأنه من عند الله عزوجل ، وقد رأينا شبيها بهذا في سورة النصر ، وهكذا نجد أن المجموعة الأخيرة من القرآن فيها ألوان من الإعجاز ، وألوان من المعاني عدا عن التغطية الواسعة لآيات كثيرة من سورة البقرة ، مما يجعلنا نعرف حكمة الله عزوجل فيها ، بأن جعلها خاتمة مجموعات القرآن.

٢ ـ رأينا في السورة تفسيرا للخسران الذي تحدث عنه محور السورة ، وهو دخول أبي لهب وزوجته نار جهنم ، وأي خسران أكبر من ذلك ، ومن الخسران ألا يغني عن الإنسان ماله وولده شيئا ، ومن الخسران أن يذم الله أحدا أو يحقره ، فما أشده من خسران. ولذلك كله صلة بمحور السورة ، فأبو لهب وزوجته ناقضا عهد ، قاطعان لما أمر الله به أن يوصل ، مفسدان في الأرض (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) وبهذا نكون قد عرفنا صلة السورة بمحورها ، وصلتها بما قبلها ، ونكتفي بهذا القدر.

الفوائد :

١ ـ بمناسبة الكلام عن السورة ينقل لنا ابن كثير كيفية استقبال زوجة أبي لهب لهذه السورة. قال ابن كثير :

(روى ابن أبي حاتم عن أسماء بنت أبي بكر قالت لما نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول.

مذمما أبينا

ودينه قلينا

وأمره عصينا

ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر ، فلما رآها أبو بكر قال : يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف عليك أن تراك ، فقال : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنها لن تراني» وقرأ قرآنا اعتصم به كما قال تعالى (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني ، قال : لا ورب هذا البيت ما هجاك ، فولت وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها. قال : وقال الوليد في حديثه أو غيره : فعثرت أم جميل في مرطها وهي تطوف بالبيت فقالت : تعس مذمم فقالت أم حكيم بنت عبد المطلب : إني لحصان فما أكلم ، وثقاف فما أعلم ، وكلتانا من بني العم ، وقريش بعد أعلم ، وقال الحافظ أبو بكر البزار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما نزلت (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) جاءت امرأة أبي لهب ورسول الله

٦٤٨

صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس ومعه أبو بكر فقال له أبو بكر : لو تنحيت لا تؤذيك بشىء فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه سيحال بيني وبينها» فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر فقالت : يا أبا بكر هجانا صاحبك ، فقال أبو بكر : لا ورب هذه البنية ما ينطق بالشعر ، ولا يتفوه به ، فقالت : إنك لمصدق ، فلما ولت قال أبو بكر : ما رأتك؟ قال : «لا مازال ملك يسترني حتى ولت» ثم قال البزار : لا نعلمه يروى بأحسن من هذا الإسناد عن أبي بكر رضي الله عنه.

٢ ـ رأينا أن اسم أبي لهب هو عبد العزى وقد علل ابن كثير لتكنيته في السورة بأبي لهب بقوله : وإنما كناه والتكنية تكرمة لاشتهاره بها دون الاسم أو لكراهة اسمه فاسمه عبد العزى ، أو لأن مآله إلى نار ذات لهب فوافقت حاله كنيته.

٣ ـ ختم ابن كثير الكلام عن سورة المسد بالإشارة إلى ما تضمنته من معجزة إذ تتحدث عن المستقبل فيقع ، وهو المعنى الذي ذكرناه من قبل قال :

(قال العلماء وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ، ودليل واضح على النبوة ، فإنه منذ نزل قوله تعالى (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ* وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان ، لم يقيض لهما أن يؤمنا ، ولا واحد منهما لا باطنا ولا ظاهرا ، لا مسرا ولا معلنا ، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة).

٦٤٩

سورة الاخلاص

وهي السورة الثانية عشرة بعد المائة بحسب الرسم القرآني

وهي السورة العاشرة من المجموعة الخامسة عشرة

من قسم المفصل ، وهي أربع آيات

وهي مكية

٦٥٠

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٦٥١

بين يدي سورة الإخلاص :

قال صاحب الظلال في سورة الإخلاص :

(هذه السورة القصيرة تعدل ثلث القرآن كما جاء في الروايات الصحيحة. روى البخاري عن أبي سعد : أن رجلا سمع رجلا يقرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يرددها.

فلما أصبح جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ـ وكأن الرجل يتقالها ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده ، إنها لتعدل ثلث القرآن» ..

وليس في هذا من غرابة فإن الأحدية التي أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلنها : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) .. هذه الأحدية عقيدة للضمير ، وتفسير للوجود ، ومنهج للحياة .. وقد تضمنت السورة ـ من ثم ـ أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة الإسلام الكبيرة ..

هذه السورة إثبات وتقرير لعقيدة التوحيد الإسلامية ، كما أن سورة الكافرون نفي لأي تشابه أو التقاء بين عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك .. وكل منهما تعالج حقيقة التوحيد من وجه. وقد كان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستفتح يومه ـ في صلاة سنة الفجر ـ بالقراءة بهاتين السورتين .. وكان لهذا الافتتاح معناه ومغزاه ..).

كلمة في سورة الإخلاص ومحورها :

بعد الآيتين اللتين كانتا محور سورة المسد من سورة البقرة يأتي قوله تعالى في سورة البقرة (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

لاحظ مضمون الآيتين ، ومضمون سورة الإخلاص :

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فكما ترى فسورة الإخلاص تعرفنا على الله عزوجل الذي أنكرت وعجبت آية سورة البقرة الأولى من الكفر به ، والذي دللت على وجوده الآيتان كلتاهما ، فسورة الإخلاص إذن تعرفنا على الله عزوجل ، كما عرفتنا عليه آيتا المحور ، مع ملاحظة أن سورة الإخلاص

٦٥٢

تعرفنا على صفات الله عزوجل التي لا ينبغي أن تغيب عن أحد ، ولا ينبغي أن تغيب عن عقل ، لأنها الصفات التي توصل إليها البداهة.

جاء قبل سورة الإخلاص سورة الكافرون وسورة النصر وسورة المسد ، وقد أمرت سورة الكافرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلن أنه لا يعبد ما يعبده الكافرون ، وجاءت سورة النصر لتبين أن النصر كائن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أهل الكفر ، وجاءت سورة المسد لتبين عقوبة الكافرين ، وتأتي سورة الإخلاص لتعرفنا على الله عزوجل الذي يعبده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والملاحظ أن سورة الكافرون مبدوءة بقوله تعالى (قُلْ) وسورة الإخلاص مبدوءة بقوله تعالى (قُلْ) وبينهما سورتان ليستا مبدوءتين (بقل). في سورة الكافرون أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلن مفاصلته للكافرين في العبادة والدين ، وهذه سورة الإخلاص يأمر الله عزوجل رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلن صفات إلهه الذي يعبده ، والذي لا يعبده الكافرون ولا يعرفونه جل جلاله.

وإذا كنا رأينا في كل من السورتين السابقتين معجزة أو أكثر زائدة على الإعجاز ، فإن في سورة الإخلاص معجزة تعدل آلاف المعجزات ، وهي أنها على قصرها وصفت الله عزوجل وصفا لا تنتهي عجائبه ، حتى إن كل ضلال وقعت فيه البشرية في موضوع معرفة الذات الإلهية فإن سورة الإخلاص قد أحاطت به ، ونفته وخلصت الإنسان منه ، ثم إن العقل البشري قد يصل إلى ما ذكرته هذه السورة في التعرف على الله عزوجل ، ولكن بعد آماد وآماد ، وإن أقصى ما يمكن أن يصل إليه العقل البشري في موضوع تنزيه الذات الإلهية هو ما ورد في هذه السورة ، وسيتضح معنا هذا شيئا فشيئا كلما سرنا في دراسة السورة ، فلنر السورة.

سورة الإخلاص

وهي أربع آيات وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ

٦٥٣

كُفُواً أَحَدٌ (٤))

التفسير :

(قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قال ابن كثير : يعني هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير ، ولا نديد ولا شبيه ولا عديل ، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عزوجل ، لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله. أقول : فالله عزوجل واحد في ذاته ، واحد في صفاته ، واحد في أفعاله ، والأحدية هي التعبير الأعلى للواحدية في هذه المعاني كلها (اللهُ الصَّمَدُ) قال ابن كثير : قال عكرمة عن ابن عباس : يعني الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم. أقول : أي هو الذي يفتقر إليه خلقه ، وهو لا يفتقر إلى خلقه ، ومن ثم فالصمدية تفيد القيومية كما سنرى ، ويدخل في ذلك معان كثيرة أخرى سنراها. قال النسفي : أي وهو الذي يصمد إليه كل مخلوق ولا يستغنون عنه وهو الغني عنهم (لَمْ يَلِدْ) قال النسفي : (لأنه لا يجانس حتى تكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا) أقول : التوالد أمارة الفناء ، فالتوالد يكون من أجل بقاء الجنس ، وذلك علامة فناء المتوالدين ، والله عزوجل باق فلا ولد له جل جلاله (وَلَمْ يُولَدْ) أي : ليس له والد لأن الوالدية علامة الحدوث ، والله عزوجل أزلي قديم لا بداية لوجوده جل جلاله. وقد جعلنا أول ظاهرة تدل على الله عزوجل بشكل قطعي في كتابنا (لله جل جلاله) هي ظاهرة حدوث الكون الذي دلت عليها قوانين كثيرة عقلية وعلمية ، وهي تدل بشكل قطعي على قدم الله عزوجل كما برهنا على ذلك هناك وفصلناه (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) قال النسفي : أي ولم يكافئه أحد ، أي لم يماثله. أقول : ففي الآية نفي المماثلة عنه. قال النسفي في السورة : (فقوله : (هُوَ اللهُ) إشارة إلى أنه خالق الأشياء وفاطرها ، وفي طي ذلك وصفه بأنه قادر عالم لأن الخلق يستدعي القدرة والعلم ، لكونه واقعا على غاية إحكام واتساق وانتظام ، وفي ذلك وصفه بأنه حي ، لأن المتصف بالقدرة والعلم لا بد وأن يكون حيا ، وفي ذلك وصفه بأنه سميع بصير مريد متكلم إلى غير ذلك من صفات الكمال ، إذ لو لم يكن موصوفا بها لكان موصوفا بأضدادها وهي نقائص ، وذا من أمارات الحدوث ، فيستحيل اتصاف القديم بها ، وقوله (أَحَدٌ) وصف بالوحدانية ونفي الشريك ،

٦٥٤

وبأنه المتفرد بإيجاد المعدومات والمتوحد بعلم الخفيات ، وقوله (الصَّمَدُ) وصف بأنه ليس إلا محتاجا إليه وإذا لم يكن إلا محتاجا إليه فهو غني لا يحتاج إلى أحد ، ويحتاج إليه كل أحد ، وقوله (لَمْ يَلِدْ) نفي للشبه والمجانسة ، وقوله (وَلَمْ يُولَدْ) نفي للحدوث ووصف بالقدم والأولية ، وقوله (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) نفي أن يماثله شىء ، ومن زعم أن نفي الكفء ـ وهو المثل في الماضي ـ لا يدل على نفيه للحال ، والكفار يدعونه في الحال ـ فقد تاه في غيه ؛ لأنه إذا لم يكن فيما مضى لم يكن في الحال ضرورة ؛ إذ الحادث لا يكون كفؤا للقديم ، وحاصل كلام الكفرة يئول إلى الإشراك والتشبيه والتعطيل ، والسورة تدفع الكل كما قررنا).

كلمة في السياق :

١ ـ ما ضلت البشرية في موضوع معرفة الذات الإلهية إلا لجهلها بما لا يليق بالذات الإلهية ، فأشركوا ونسبوا إلى الله الافتقار والاحتياج ، ونسبوا له الولد والزوجة ، وجعلوه مماثلا لخلقه ، وسورة الإخلاص تطهر الضمير البشري والعقل البشري من أي غلط في باب معرفة الذات الإلهية.

٢ ـ عند ما يتحدث علماء التوحيد عن الذات الإلهية وأسمائها وصفائها يتحدثون عن الصفات السلبية للذات الإلهية ، أي الصفات التي تسلب عن الله عزوجل ما لا يليق به ، ويذكرون أن أمهاتها خمس : الوحدانية ، والقدم ، والبقاء ، والمخالفة للحوادث ، والقيام بالنفس. ويقيمون الأدلة الطويلة التي تستغرق الصفحات على كل صفة من هذه الصفات ، والملاحظ أن الصفات الخمس هذه مرجعها إلى سورة الإخلاص. فالوحدانية (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، وقيامه بنفسه (اللهُ الصَّمَدُ) ، وقدمه (لَمْ يَلِدْ) ، وبقاؤه (وَلَمْ يُولَدْ) ، ومخالفته للحوادث (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

ومتى عرف الإنسان الله عزوجل بهذه الصفات فقد عرف الله حق المعرفة. أما صفات الله عزوجل الوجودية وأسماؤه الحسنى ، فتلك لا يختلف عليها الخلق ؛ لأن أدنى تفكير يوصل إليها ، من علم ، وإرادة ، وقدرة ، وحياة. والملاحظ أن النسفي قد جعل هذه الصفات داخلة فيما ذكر في السورة ـ كما رأينا ـ آخذا ذلك من قوله تعالى (هُوَ اللهُ) فإذا لم يكن هذا إعجازا فما هو الإعجاز؟.

٦٥٥

وأما صلة السورة بمحورها فهو كالتالي : محور السورة من سورة البقرة يقول (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

وسورة الإخلاص تأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعلن أمام كفر الكافرين بالله عزوجل عن صفات الله عزوجل (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

الفوائد :

١ ـ قال النسفي : وكان أبو عمرو يستحب الوقف على (أحد) ولا يستحب الوصل ، قال عبد الوارث : على هذا أدركنا القراء ، وإذا وصل نون وكسر أو حذف التنوين.

٢ ـ بمناسبة قوله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) قال النسفي : (والدليل على أنه واحد من جهة العقل : أن الواحد إما أن يكون في تدبير العالم وتخليقه كافيا أو لا فإن كان كافيا كان الآخر ضائعا غير محتاج إليه ، وذلك نقص ، والناقص لا يكون إلها ، وإن لم يكن كافيا فهو ناقص ، ولأن العقل يقتضي احتياج المفعول إلى فاعل ، والفاعل الواحد كاف ، وما وراء الواحد فليس عدد أولى من عدد ، فيفضي ذلك إلى وجود أعداد لا نهاية لها ، وذا محال ، فالقول بوجود إلهين محال ، ولأن أحدهما إما أن يقدر على أن يستر شيئا من أفعاله عن الآخر أو لا يقدر ، فإن قدر لزم كون المستور عنه جاهلا ، وإن لم يقدر لزم كونه عاجزا ، ولأنا لو فرضنا معدوما ممكن الوجود فإن لم يقدر واحد منهما على إيجاده كان كل واحد منهما عاجزا ، والعاجز لا يكون إلها ، وإن قدر أحدهما دون الآخر فالآخر لا يكون إلها ، وإن قدرا جميعا فإما أن يوجداه بالتعاون فيكون كل واحد منهما محتاجا إلى إعانة الآخر ، فيكون كل واحد منهما عاجزا ، وإن قدر كل واحد منهما على إيجاده بالاستقلال فإذا أوجده أحدهما فإما أن يبقى الثاني قادرا عليه ، وهو محال لأن إيجاد الموجود محال ، وإن لم يبق فحينئذ يكون الأول مزيلا قدرة الثاني ، فيكون عاجزا ومقهورا تحت تصرفه ، فلا يكون إلها ، فإن قلت : الواحد إذا أوجد مقدور نفسه فقد

٦٥٦

زالت قدرته ، فيلزمكم أن يكون هذا الواحد قد جعل نفسه عاجزا. قلنا : الواحد إذا أوجد مقدور نفسه فقد نفذت قدرته ، ومن نفذت قدرته لا يكون عاجزا ، وأما الشريك فما نفذت قدرته بل زالت قدرته بسبب قدرة الآخر فكان ذلك تعجيزا).

٣ ـ في تفسير (الصمد) أقوال كثيرة نذكرها لاحتياج السالك إلى الله عزوجل لمعرفتها. قال ابن كثير : (وقوله تبارك وتعالى : (اللهُ الصَّمَدُ) قال عكرمة عن ابن عباس يعني : الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم ، قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هو السيد الذي قد كمل في سؤدده ، والشريف الذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الذي قد كمل في عظمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، والعليم الذي قد كمل في علمه ، والحكيم الذي قد كمل في حكمته ، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله سبحانه هذه صفته لا تنبغي إلا له ليس له كفء وليس كمثله شىء سبحان الله الواحد القهار ، وقال الأعمش عن سفيان عن أبي وائل : (الصَّمَدُ) السيد الذي قد انتهى سؤدده ، ورواه عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود وقال مالك عن زيد بن أسلم : (الصمد) السيد ، وقال الحسن وقتادة : هو الباقي بعد خلقه ، وقال الحسن أيضا : (الصمد) الحي القيوم الذي لا زوال له ، وقال عكرمة : (الصمد) الذي لم يخرج منه شىء ولا يطعم ، وقال الربيع بن أنس : هو الذي لم يلد ولم يولد ، كأنه جعل ما بعده تفسيرا له وهو قوله (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) وهو تفسير جيد وقد تقدم الحديث من رواية ابن جرير عن أبي بن كعب في ذلك وهو صريح فيه ، وقال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن المسيب ومجاهد وعبد الله ابن بريدة وعكرمة أيضا وسعيد ابن جبير وعطاء بن أبي رباح وعطية العوفي والضحاك والسدي : (الصمد) الذي لا جوف له. وقال سفيان عن منصور عن مجاهد : (الصمد) المصمت الذي لا جوف له ، وقال الشعبي : هو الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ، وقال عبد الله بن بريدة أيضا : (الصمد) نور يتلألأ ، روى ذلك كله وحكاه ابن أبي حاتم والبيهقي والطبراني وكذا أبو جعفر بن جرير ساق أكثر ذلك بأسانيده ، وروى عن عبد الله بن بريدة عن أبيه قال : لا أعلم إلا قد رفعه قال : «الصمد الذي لا جوف له» وهذا غريب جدا والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن بريدة.

وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني في كتاب (السنة) له بعد إيراده كثيرا من هذه الأقوال في تفسير الصمد : وكل هذه صحيحة وهي صفات ربنا عزوجل ، هو الذي يصمد إليه في الحوائج ، وهو الذي قد انتهى سؤدده ، وهو الصمد الذي لا جوف له ،

٦٥٧

ولا يأكل ولا يشرب ، وهو الباقي بعد خلقه. وقال البيهقي نحو ذلك).

٤ ـ بمناسبة قوله تعالى (وَلَمْ يُولَدْ) قال النسفي :

(لأن كل مولود محدث وجسم وهو قديم لا أول لوجوده ؛ إذ لو لم يكن قديما لكان حادثا لعدم الواسطة بينهما ، ولو كان حادثا لافتقر إلى محدث ، وكذا الثاني والثالث ، فيؤدي إلى التسلسل وهو باطل ، وليس بجسم لأنه اسم للمتركب ، ولا يخلو حينئذ من أن يتصف كل جزء منه بصفات الكمال ، فيكون كل جزء إلها فيفسد القول به كما فسد بإلهين ، أو غير متصف بها بل بأضدادها من سمات الحدوث وهو محال).

٥ ـ في كتابنا (الله جل جلاله) تدليل طويل على الصفات المذكورة في هذه السورة للذات الإلهية ، فليراجع وليعلم أن هذه السورة تغني عن كل كتاب أرضي لمن عرفها وأيقن بها.

٦ ـ بمناسبة هذه السورة ، ذكر ابن كثير الحديث التالي ، قال :

وفي صحيح البخاري «لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولدا وهو يرزقهم ويعافيهم» وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله عزوجل : كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد» ورواه أيضا عن همام بن منبه عن أبي هريرة مرفوعا بمثله تفرد بهما من هذين الوجهين).

٧ ـ في سبب نزول هذه السورة قال ابن كثير :

روى الإمام أحمد عن أبي بن كعب أن المشركين قالوا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا محمد! انسب لنا ربك فأنزل الله تعالى (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* اللهُ الصَّمَدُ* لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) وكذا رواه الترمذي وابن جرير ، زاد ابن جرير والترمذي قال : (الصمد) الذي لم يلد ولم يولد لأنه ليس شىء يولد إلا سيموت ، وليس شىء يموت إلا سيورث ، وإن الله عزوجل لا يموت ولا يورث (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ولم يكن له شبيه ولا عدل وليس كمثله شىء. ورواه ابن أبي حاتم بسنده.

وقال عكرمة : لما قالت اليهود : نحن نعبد عزير ابن الله ، وقالت النصارى : نحن نعبد المسيح ابن الله ، وقالت المجوس : نحن نعبد الشمس والقمر ، وقالت المشركون : نحن

٦٥٨

نعبد الأوثان ، أنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يعني : هو الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير ولا نديد ، ولا شبيه ولا عديل ، ولا يطلق هذا اللفظ على أحد في الإثبات إلا على الله عزوجل لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله).

٨ ـ ذكر ابن كثير تسعة أحاديث تفيد أن سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن نكتفي منها بذكر الحديث الأول :

روى البخاري عن أبي سعيد أن رجلا سمع رجلا يقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يرددها فلما أصبح جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ـ وكأن الرجل يتقالها ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذى نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن»).

أقول : قال النسفي في تعليل كون سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن :

(لأن القرآن يشتمل على توحيد الله ، وذكر صفاته ، وعلى الأوامر والنواهي ، وعلى القصص والمواعظ ، وهذه السورة قد تجردت للتوحيد والصفات ، فقد تضمنت ثلث القرآن ، وفيه دليل شرف علم التوحيد ، وكيف لا يكون كذلك والعلم يشرف بشرف المعلوم ، ويتضع بضعته ، ومعلوم هذا العلم هو الله وصفاته ، وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه ، فما ظنك بشرف منزلته وجلالة محله ، اللهم احشرنا في زمرة العالمين بك ، العاملين لك ، الراجين لثوابك ، الخائفين من عفابك ، المكرمين بلقائك).

٩ ـ وذكر ابن كثير بابا آخر غير الباب المذكور آنفا يدل على فضل سورة الإخلاص.

(حديث آخر في فضلها) روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث رجلا على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم ب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ* ...) فلما رجعوا ذكروا ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «سلوه لأي شىء يصنع ذلك» فسألوه فقال : لأنها صفة الرحمن ، وأنا أحب أن أقرأ بها فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أخبروه أن الله تعالى يحبه» هكذا رواه في كتاب التوحيد ، وقد رواه مسلم والنسائي أيضا من حديث عبد الله بن وهب)

١٠ ـ وذكر ابن كثير بابا آخر عن سورة الإخلاص تحت عنوان : (حديث آخر في كون قراءتها توجب الجنة) قال :

(روى الإمام مالك بن أنس عن عبيد الله بن عبد الرحمن عن عبد بن حسين قال : سمعت أبا هريرة يقول : أقبلت مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسمع رجلا يقرأ (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)

٦٥٩

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وجبت ـ قلت : وما وجبت؟ قال : الجنة» ورواه الترمذي والنسائي من حديث مالك وقال الترمذي : حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث مالك وتقدم حديث «حبك إياها أدخلك الجنة).

وقال ابن كثير : (روى الإمام أحمد أيضا عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ قل هو الله أحد حتى يختمها عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة» فقال عمر : إذا نستكثر يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أكثر وأطيب» تفرد به أحمد ورواه أبو أحمد الدارمي في مسنده فقد روى عن سعيد بن المسيب يقول إنه قال : إن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ قل هو الله أحد عشر مرات بنى الله له قصرا في الجنة ، ومن قرأها عشرين مرة بنى الله له قصرين في الجنة ، ومن قرأها ثلاثين مرة بنى الله له ثلاثة قصور في الجنة» فقال عمر بن الخطاب : إذا نكثر قصورنا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الله أوسع من ذلك» وهذا مرسل جيد).

١١ ـ وعقد ابن كثير بابا تحت عنوان : (حديث آخر في الدعاء بما تضمنته من الأسماء) :

(روى النسائي عند تفسيرها عن عبد الله بن بريدة عن أبيه أنه دخل مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد فإذا رجل يصلي يدعو يقول : اللهم إني أسألك بأني أشهد أن لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، قال : «والذي نفسي بيده لقد سأله باسمه الأعظم ، الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب» وقد أخرجه بقية أصحاب السنن من طرق عن مالك بن مغول عن عبد الله بن بريدة عن أبيه به ، وقال الترمذي : حسن غريب).

١٢ ـ وعقد ابن كثير بابا في فضل سورة الإخلاص مع المعوذتين نقتطف منه بعض رواياته ختاما لهذه الفوائد لتكون هذه الفائدة مقدمة للكلام عن سورتي الفلق والناس.

قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد ... عن عقبة بن عامر قال : لقيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فابتدأته فأخذت بيده فقلت : يا رسول الله بم نجاة المؤمن؟. قال : يا عقبة أخرس لسانك ، وليسعك بيتك ، وابك على خطيئتك. قال : ثم لقيني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فابتدأني فأخذ بيدي فقال : يا عقبة بن عامر ألا أعلمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم. قال قلت : بلى جعلني الله فداك. قال : فأقرأني (قل هو الله أحد ، وقل أعوذ برب الفلق ، وقل أعوذ برب الناس) ثم قال : يا عقبة

٦٦٠