الأساس في التفسير - ج ١١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

١
٢
٣
٤

المجموعة السادسة

من القسم الرابع من أقسام القرآن

المسمى بقسم المفصل

وتشمل سور :

الحاقة ، والمعارج ، ونوح ،

والجن ، والمزمل ،

والمدثر

٥
٦

كلمة في المجموعة السادسة من قسم المفصل

ترددت كثيرا في تحديد حدود المجموعة السادسة بدايتها ونهايتها وعدد سورها ، فمن القديم كان مستقرا في حسي وقلبي أن سورة الحاقة بداية مجموعة ، إلا أنني لاحظت أن سورة الحاقة تشبه سورة الواقعة شبها عجيبا في مضمونها ، وفي نهايتها ؛ فسورة الواقعة تنتهي بقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) وكذلك سورة الحاقة ، ومضمون سورة الحاقة يشبه إلى حد بعيد مضمون سورة الواقعة ، وقد رأينا أن سورة الواقعة كانت نهاية مجموعة ، ولم تكن بداية مجموعة. وبعد التأمل الطويل رجحت أن سورة الحاقة بداية مجموعة ، وأنها هي والسور الخمس بعدها مجموعة واحدة ، ومن قبل قلنا إن المعاني وحدها هي التي لها الحكم النهائي ، وقد رأيت أن المعاني توصل إلى هذه النتيجة.

وإذن فمن خلال المعاني يتبين أن السور الست التي ذكرناها تشكل مجموعة واحدة ، ومن خلال المعاني نرى أن الحاقة والمعارج ونوح والجن تفصل في مقدمة سورة البقرة ، وأن سورتي المزمل والمدثر تفصلان في الآيات السبع بعد المقدمة ، وسنرى أدلة ذلك أثناء الكلام عن هذه السور.

والمجموعة وهي تفصل تكمل البناء ، وتوضح الطريق ، ويرافق فيها الإقناع الدعوة إلى بذل الجهد في كل جانب من الجوانب ولنبدأ عرض سور المجموعة.

٧

سورة الحاقة

وهي السورة التاسعة والستون بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الأولى من المجموعة السادسة من قسم

المفصل ، وهي اثنتان وخمسون آية

وهي مكية

٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٩

بين يدي سورة الحاقة :

قال الألوسي ذاكرا وجه المناسبة بين سورة الحاقة ونون : (ولما وقع في نون ذكر يوم القيامة مجملا شرح سبحانه في هذه السورة الكريمة نبأ ذلك اليوم وشأنه العظيم ، وضمنه عزوجل ذكر أحوال أمم كذبوا الرسل عليهم‌السلام ، وما جرى عليهم ؛ ليزدجر المكذبون المعاصرون له عليه الصلاة والسلام).

وقال صاحب الظلال عن سورة الحاقة : (هذه سورة هائلة رهيبة ؛ قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة ؛ وهي منذ افتتاحها إلى ختامها تقرع هذا الحس ، وتطالعه بالهول القاصم ، والجد الصارم ، والمشهد تلو المشهد ، كله إيقاع ملح على الحس ، بالهول آنا وبالجلال آنا ، وبالعذاب آنا ، وبالحركة القوية في كل آن!

والسورة بجملتها تلقي في الحس ـ بكل قوة وعمق ـ إحساسا واحدا بمعنى واحد ... أن هذا الأمر ـ أمر الدين والعقيدة ـ جد خالص حازم جازم. جد كله لا هزل فيه. ولا مجال فيه للهزل. جد في الدنيا وجد في الآخرة ، وجد في ميزان الله وحسابه. جد لا يحتمل التلفت عنه هنا أو هناك كثيرا ولا قليلا. وأي تلفت عنه من أي أحد يستنزل غضب الله الصارم ، وأخذه الحاسم).

(إنها سورة هائلة رهيبة. قل أن يتلقاها الحس إلا بهزة عميقة. وهي بذاتها أقوى من كل استعراض ومن كل تحليل ، ومن كل تعليق!).

(ذلك المعنى الذي تتمحض السورة لإلقائه في الحس ، يتكفل أسلوبها وإيقاعها ومشاهدها وصورها وظلالها بإلقائه وتقريره وتعميقه بشكل مؤثر حي عجيب :

إن أسلوب السورة يحاصر الحس بالمشاهد الحية ، المتناهية الحيوية ، بحيث لا يملك منها فكاكا ، ولا يتصور إلا أنها حية واقعة حاضرة ، تطالعه بحيويتها وقوتها وفاعليتها بصورة عجيبة!).

كلمة في سورة الحاقة ومحورها :

جاءت سورة الحاقة بعد سورة (ن) التي ذكرنا أنها نهاية مجموعة ، وهذا يجعلنا نستأنس أن سورة الحاقة بداية مجموعة ، وإذا كانت سورة الحاقة بداية مجموعة فهي تفصل في مقدمة سورة البقرة ، ولذلك فإنها تبدأ بالكلام عن اليوم الآخر ، وصلة ذلك

١٠

بقوله تعالى في الآيات الأولى من سورة البقرة : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) واضحة ، ثم هي تتحدث عن مآل المسلمين ومآل الكافرين ، وصلة ذلك بالكلام عن المتقين والكافرين في أوائل سورة البقرة واضحة ، كما هي تتحدث عن سبب تعذيب الكافرين (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ* وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) وصلة ذلك بقوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) واضحة ، وتتحدث عن القرآن : (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ* وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ... (وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) ... (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ* وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) وصلة ذلك بقوله تعالى في مقدمة سورة البقرة : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) واضحة ، وهذا كله يؤكد أن سورة الحاقة بداية مجموعة.

يبقى أن نتساءل عن سر التشابه بين سورة الحاقة وسورة الواقعة؟ أقول : إن اليوم الآخر يدفع للعمل كما يدفع للإيمان ، وقد جاءت سورة الواقعة تفصل في ما بعد مقدمة سورة البقرة ، وجاءت سورة الحاقة تفصل في مقدمة سورة البقرة وبين المقامين تداخل ، فالكلام عن اليوم الآخر دافع للتحلي ، كما هو دافع للتخلي ، ودافع للإيمان كما أنه دافع للعمل ، ومن ثم تقدم الحديث عن اليوم الآخر في السورتين للوصول إلى ما ينبغي أن يبنى عليه ، على أن كلا من السورتين تخدم محورها بشكل رئيسي.

ومع أن هناك تشابها في السورتين فإن لكل سورة روحها وسياقها الخاص بها ، ومعانيها وألفاظها ، وطريقة عرضها ، وكل من السورتين على غاية من الكمال والبيان ، مما يدلك على أن هذا القرآن من عند الله ، فأن نرى معنى واحدا يعرض بعشرات الطرق ، وفي كل مرة تجد عرضا على غاية من الكمال والعلو في موضوع لم يطرقه العرب أصلا فذلك شأن غير مستطاع للبشر.

إن سورة الواقعة وسورة الحاقة نموذجان على السور التي تعرض اليوم الآخر ، ثم تبني على ذلك ما ينبغي أن يبنى عليه من بناء ، إن في مجال الإيمان ، أو في مجال العمل.

١١

وسنرى سورا أخرى تشبهما في هذا المجال ، ولعل في هذا الذي ذكرناه سر التشابه بين هذه السور وإن اختلفت المحاور.

لقد رأينا سورا تعرفنا على الله ، ثم تنطلق من خلال التعريف عليه جل جلاله ، إلى البناء على ذلك ما ينبغي أن يبنى من إيمان وعمل.

ولقد رأينا سورا تذكرنا بإعجاز القرآن ، ثم تنطلق لتبني على كون هذا القرآن من عند الله ما ينبغي أن يبنى من إيمان وعمل.

ورأينا سورا تعرفنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم تنطلق لتبني على ذلك ما ينبغي أن يبنى من إيمان وعمل ، وكل ذلك يأتي أحيانا بشكل دوري ، وأحيانا بشكل متباعد ، والإنسان أعجز من أن يحيط بأسرار هذا القرآن ، فلو أن عقول الأولين والآخرين اجتمعت لتحيط بكل أسرار هذا القرآن لما كان لها إلى ذلك سبيل ، فكما أن الله حدثنا عن ذاته فقال : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) فإن كتابه كذلك ، لقد سمى الله كتابه روحا فقال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وقال عن الروح الإنسانية : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وما يقال عن روح الإنسان يقال عن القرآن ، مع ملاحظة أن كون القرآن روحا هو إحدى خصائصه التي بسببها مع غيره يعجز الإنسان عن أن يأتي بمثل هذا القرآن.

فلنبدأ بعرض سورة الحاقة ولنعرضها على فقرتين :

الفقرة الأولى تستمر حتى نهاية الآية (٣٧).

الفقرة الثانية تستمر حتى نهاية الآية (٥٢).

وتتألف الفقرة الأولى من مقدمة ومجموعتين.

١٢

الفقرة الأولى

وتمتد من الآية (١) حتى نهاية الآية (٣٧) وهذه هي

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَاقَّةُ (١) مَا الْحَاقَّةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (٣))

المجموعة الأولى

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (٥) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (٨) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (٩) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (١٠) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (١١) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (١٢))

المجموعة الثانية

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (١٣) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (١٤) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١٥) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (١٦) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (١٧) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ

١٣

لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (١٨) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (٢٥) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (٢٦) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (٢٧) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (٢٨) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (٢٩) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (٣٠) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (٣١) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (٣٢) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ (٣٣) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣٤) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (٣٥) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (٣٦) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (٣٧))

تفسير مقدمة السورة :

(الْحَاقَّةُ) هذه الكلمة مشتقة من حق يحق بالكسر أي : وجب ، والمراد بها الساعة الواجبة الوقوع ، الثابتة المجىء ، التي هي آتية لا ريب فيها. قال ابن كثير : الحاقة من أسماء يوم القيامة لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد ، ولهذا عظم الله أمرها فقال : (مَا الْحَاقَّةُ) أي : الحاقة ما هي وأي شىء هي؟ تفخيما لشأنها وتعظيما لهولها ، أي : حقها أن يستفهم عنها لعظمتها (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) قال النسفي : أي وأي شىء أعلمك ما الحاقة؟ يعني : أنك لا علم لك بكنهها ومدى عظمها لأنه من العظم والشدة بحيث لا تبلغه دراية المخلوقين.

كلمة في السياق :

١ ـ هذه مقدمة السورة ، وفيها ذكر ليوم القيامة وتفخيم له ، يعقب ذلك

١٤

المجموعة الأولى من الفقرة الأولى ، وفيها ذكر لأمم كذبت بالساعة ، فحل بهم ما حل ، ثم تسير السورة في سياقها المبدع الرائع الذي يهز الكيان هزا. قال ابن كثير : (روى الإمام أحمد ... عن عمر بن الخطاب أنه قال : خرجت أتعرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن أسلم فوجدته قد سبقني إلى المسجد ، فقمت خلفه فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن ، قال : فقلت هذا والله شاعر كما قالت قريش ، قال فقرأ (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) قال : فقلت كاهن ، قال فقرأ (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ* وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ* لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ* ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ* فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) إلى آخر السورة ، قال : فوقع الإسلام في قلبي كل موقع ، فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب رضي الله عنه). لاحظ كلمة عمر في جاهليته : فجعلت أعجب من تأليف القرآن ، وكيف كانت هذه السورة من أسباب إيمانه ، لتدرك روعة هذه السورة ، وروعة الإعجاز القرآني.

٢ ـ قدمت السورة للكلام عن يوم القيامة بما هو الغاية في الفخامة والتعظيم ، فقرعت الآذان والقلوب بهذا الجرس القوي ، والاستفهام بعد الاستفهام عن شأنها وها هي ذي المجموعة الأولى من الفقرة الأولى تتحدث عن من كذب بها وما حل بهم بسبب التكذيب.

تفسير المجموعة الأولى من الفقرة الأولى :

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) أي : بالحاقة فوضعت القارعة موضعها ، لأنها من أسماء يوم القيامة ، وسميت بالقارعة لأنها تقرع الناس بالأفزاع والأهوال ، وثمود قوم صالح ، وعاد قوم هود (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) قال النسفي : (أي : بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة ، واختلف فيها فقيل الرجفة ، وقيل الصيحة ...) وقال ابن كثير في تفسير الطاغية : وهي الصيحة التي أسكتتهم ، والزلزلة التي أسكنتهم ، هكذا قال قتادة : الطاغية الصيحة وهو اختيار ابن جرير (وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ) أي : شديدة الصوت أو باردة (عاتِيَةٍ) أي : شديدة العصف والهبوب. قال الضحاك : عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة (سَخَّرَها) أي : سلطها (عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ) من الليالي سبعا ومن النهر ثمانية (حُسُوماً) قال ابن كثير : أي : كوامل متتابعات مشائيم أو مستأصلة استئصالا (فَتَرَى الْقَوْمَ) أيها

١٥

المخاطب (فِيها) أي : في مهاب الريح أو في الأيام والليالي (صَرْعى) أي : هلكى (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ) أي : أصول (نَخْلٍ خاوِيَةٍ) أي : ساقطة أو بالية (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) أي : من نفس باقية أو من بقاء. قال ابن كثير : أي : هل تحس منهم من أحد من بقاياهم ، أو ممن ينتسب إليهم؟ بل بادوا عن آخرهم ولم يجعل الله لهم خلفا (وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ) أي : ومن تقدمه من الأمم (وَالْمُؤْتَفِكاتُ) قال النسفي : (أي : قرى قوم لوط فهي ائتفكت أي : انقلبت بهم) ، وقال ابن كثير : هم الأمم المكذبون بالرسل (بِالْخاطِئَةِ) أي : بالخطأ أو بالفعلة الخاطئة ، أو بالأفعال ذات الخطأ العظيم (فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ) أي : فعصى قوم لوط رسول ربهم ، أو فعصت كل أمة من الأمم المذكورة رسول ربها (فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً) أي : شديدة زائدة في الشدة ، كما زادت قبائحهم في القبح (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ) أي : زاد على الحد بإذن الله يوم طوفان نوح (حَمَلْناكُمْ) أيها البشر أي : حملنا آباءكم (فِي الْجارِيَةِ) أي : في سفينة نوح عليه‌السلام(لِنَجْعَلَها لَكُمْ) أي : لنجعل لكم تلك الفعلة وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين (تَذْكِرَةً) أي : عبرة وعظة ، (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي : وتفهم هذه النعمة وتذكرها أذن واعية ، أي : حافظة سامعة ، أي : يحفظها ويفهمها كل من له سمع صحيح ، وعقل رجيح. قال ابن كثير : (وهذا عام في كل من فهم ووعي).

كلمة في السياق :

بدأت السورة بذكر الحاقة ، وتفخيم أمرها من خلال سؤالين عنها ، ثم جاءت مجموعة تحدثت عن قوم عاد وثمود ، وفرعون وقومه ، وقوم لوط ، وقوم نوح كأمم كذبت باليوم الآخر الذي سيأتي حديث عنه في المجموعة الثانية ، وهي المجموعة التي ستذكر الجواب على السؤال عن الحاقة ، وبهذا تكون المجموعة الأولى من الفقرة الأولى بمثابة التمهيد قبل التفصيل في أمر الحاقة ، فقد جاءت المجموعة الأولى لتبين عاقبة من يكذب بالحاقة لتتلقى النفس البشرية البيان وهي عارفة عقوبة من يكذب بها. كانت مقدمة السورة (الْحَاقَّةُ* مَا الْحَاقَّةُ* وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ)؟ وفي المجموعة الثانية تفصيل الحديث عن الحاقة : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ ...) وجاءت المجموعة الأولى في الوسط إنذارا ووعظا وتذكيرا.

١٦

تفسير المجموعة الثانية من الفقرة الأولى :

(فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) المراد بهذه النفخة النفخة الأولى ، وهي التي يموت بها الناس. قال ابن كثير : وقد أكدها ههنا بأنها واحدة لأن أمر الله لا يخالف ولا يمانع ، ولا يحتاج إلى تكرار ولا تأكيد (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) أي : دكتا حتى ترجع الجبال كثيبا مهيلا ، وهباء منبثا ، قال ابن كثير : أي : فمدت مد الأديم العكاظي وتبدلت الأرض غير الأرض (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي : قامت القيامة ، أو نزلت النازلة ، (وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ) قال النسفي : أي : مسترخية ساقطة القوة بعد ما كانت محكمة (وَالْمَلَكُ) أي : جثت الملائكة (عَلى أَرْجائِها) قال ابن كثير : أي : على أرجاء السماء ، قال ابن عباس : على ما لم يه منها أي : حافاتها ، وقال النسفي : أي : جوانبها لأنها إذا انشقت وهي مسكن الملائكة فيلجئون إلى أطرافها (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ) أي : فوق الملائكة الموجودين على الأرجاء (يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة (ثَمانِيَةٌ) أي : ثمانية ملائكة أو ثمانية أصناف ، أو ثمانية صفوف ، والقول الأقوى أنهم ثمانية ملائكة. قال النسفي : (اليوم تحمله أربعة وزيدت أربعة أخرى يوم القيامة) (يَوْمَئِذٍ) أي : يوم القيامة (تُعْرَضُونَ) أي : للحساب والسؤال (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) أي : سريرة وحال كانت تخفى على الخلق في الدنيا. قال ابن كثير : أي : تعرضون على عالم السر والنجوى الذي لا يخفى عليه شىء من أموركم ، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ) سرورا به لما يرى فيه من الخيرات خطابا لجماعته (هاؤُمُ) أي : خذوا (اقْرَؤُا كِتابِيَهْ) قال ابن كثير : لأنه يعلم أن الذي فيه خير ، وحسنات محضة لأنه ممن بدل الله سيئاته حسنات (إِنِّي ظَنَنْتُ) أي : علمت وتيقنت (أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) قال ابن كثير : أي : قد كنت مؤمنا في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة. قال النسفي : (وإنما أجرى الظن مجرى العلم لأن الظن الغالب يقوم مقام العلم في العادات والأحكام ، ولأن ما يدرك بالاجتهاد قلما يخلو عن الوسواس والخواطر ، وهي تفضي إلى الظنون ، فجاز إطلاق لفظ الظن عليها لما لا يخلوا عنه). أقول : يفهم من كلام النسفي أن استعمال الظن بمعنى العلم في الآية ، لأن كثيرا من أعمال الآخرة مبناها على غلبة الظن لكثير من الأحكام الفقهية والفرعيات ، ومعنى (مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي :

١٧

معاين حسابي (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي : ذات رضا يرضى بها صاحبها ، أي : مرضية (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي : رفيعة قصورها ، حسان حورها ، مقيمة دورها ، دائم حبورها ، قال النسفي : أي : رفيعة المكان ، أو رفيعة الدرجات ، أو رفيعة المباني والقصور (قُطُوفُها دانِيَةٌ) أي : ثمارها قريبة من مريدها ينالها القائم والقاعد والمتكىء (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً) أي : أكلا وشربا هنيئا لا مكروه فيهما ولا أذى (بِما أَسْلَفْتُمْ) أي : بما قدمتم من الأعمال الصالحة (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي : الأيام الماضية من أيام الدنيا (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) وهم الأشقياء الكفرة الفجرة (فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) لما يرى فيه من الفضائح (وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ) أي : يا ليتني لم أعلم ما حسابي (يا لَيْتَها) أي : يا ليت الموتة التي متها (كانَتِ الْقاضِيَةَ) أي : القاطعة لأجلي فلم أبعث بعدها ، ولم ألق ما ألقى (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) أي : لم ينفعني ما جمعته في الدنيا (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) قال الألوسي : أي : بطلت حجتي التي كنت أحتج بها في الدنيا ... أو ملكي وتسلطي على الناس ، وبقيت فقيرا ذليلا ، أو تسلطي على القوى والآلات التي خلقت لي فعجزت عن استعمالها في الطاعات يقول ذلك تحسرا وتأسفا. قال ابن كثير : أي : لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذاب الله وبأسه ، بل خلص الأمر إلي وحدي ، فلا معين لي ولا مجير ، فعندها يقول الله عزوجل أي : لخزنة جهنم (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) أي : اجمعوا يديه إلى عنقه (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) أي : أدخلوه. قال النسفي : يعني : ثم لا تصلوه إلا الجحيم وهي النار العظمى. قال ابن كثير : أي : يأمر الزبانية أن تأخذه عنفا من المحشر فتغله ، أي : تضع الأغلال في عنقه ثم تورده إلى جهنم فتصليه إياها ، أي : تغمره فيها (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها) أي : طولها (سَبْعُونَ ذِراعاً) قال النسفي : بذراع الملك ، عن ابن جريج : وقيل لا يعرف قدرها إلا الله (فَاسْلُكُوهُ) أي : فأدخلوه. قال ابن كثير : (وقال ابن جرير : قال ابن عباس : تدخل في أسته ثم تخرج من فيه ، ثم ينظمون فيها كما ينظم الجراد في العود حين يشوى ، وقال العوفي عن ابن عباس : يسلك في دبره حتى يخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه) ثم علل تعالى لاستحقاقه هذا العذاب الشديد فقال : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ* وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي : على بذل طعام المسكين. قال ابن كثير : أي : لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته ، ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم ، فإن الله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا ، وللعباد بعضهم على بعض حق الإحسان

١٨

والمعاونة على البر والتقوى ، ولهذا أمر الله بإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وقبض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يقول : «الصلاة وما ملكت أيمانكم» قال النسفي : (وفيه ـ أي : وفي قوله تعالى : (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ـ إشارة إلى أنه لا يؤمن بالبعث ؛ لأن الناس لا يطلبون من المساكين الجزاء فيما يطعمونهم ، وإنما يطعمونهم لوجه الله ، ورجاء الثواب في الآخرة ، فإذا لم يؤمن بالبعث لم يكن له ما يحمله على إطعامهم ، أي : أنه مع كفره لا يحرض غيره على إطعام المحتاجين ، وفيه دليل قوي على عظم جرم حرمان المسكين ، لأنه عطفه على الكفر ، وجعله دليلا عليه وقرينة له ، ولأنه ذكر الحض دون الفعل ليعلم أن تارك الحض إذا كان بهذه المنزلة فتارك الفعل أحق ، وعن أبي الدرداء أنه كان يحض امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين ويقول : خلعنا نصف السلسلة بالإيمان فلنخلع نصفها بهذا ، وهذه الآيات ناطقة على أن المؤمنين يرحمون جميعا ، والكافرين لا يرحمون ؛ لأنه قسم الخلق نصفين ، فجعل صنفا منهم أهل اليمين ، ووصفهم بالإيمان فحسب بقوله : (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) وصنفا منهم أهل الشمال ووصفهم بالكفر بقوله : (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ) ، ثم قال تعالى : (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) أي : قريب يرفع عنه ويحترق له قلبه (وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) قال النسفي : (أي : غسالة أهل النار ... وأريد به هنا ما يسيل من أبدانهم من الصديد والدم). أقول : سنرى مجموعة الأقوال في الغسلين في الفوائد. قال ابن عباس : ما أدري ما الغسلين ولكني أظنه الزقوم (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) أي : الكافرون أصحاب الخطايا.

كلمة في السياق :

١ ـ فصلت هذه المجموعة في ماهية الحاقة ، وما يكون فيها ، وانقسام الناس فيها إلى قسمين : أهل يمين ، وأهل شمال ، وما لأهل اليمين وما لأهل الشمال ، والأسباب التي استحق بها أهل اليمين ما نالوه ، والأسباب التي استحق بها أهل الشمال ما نالوه.

٢ ـ نال أهل اليمين ما نالوه بسبب يقينهم بالآخرة (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) وبسبب أعمالهم الصالحة (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) ونال أهل الشمال ما نالوه بسبب كفرهم بالله ومنعهم حقوق المساكين (إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللهِ الْعَظِيمِ* وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) وبسبب خطاياهم (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) وصلة ذلك بالمحور واضحة ، فالمتقون يؤمنون بالغيب ،

١٩

ويوقنون بالآخرة ، وينفقون مما رزقهم الله عزوجل ، والكافرون ليسوا كذلك.

٣ ـ بدأت السورة بذكر الحاقة ، وتفخيم أمرها ، ثم ثنت بذكر المكذبين فيها وعذابهم ، ثم ثلثت بذكر ماهيتها ، ثم تأتي الفقرة الثانية في السورة ، وفيها تأكيد على أن هذا القرآن من عند الله عزوجل ، ومجىء هذا التأكيد في نهاية السورة يبرهن على أن اليوم الآخر حق لا مرية فيه ، فما دام القرآن يذكر ذلك ، وما دام هذا القرآن حقا خالصا من عند الله ، فاليوم الآخر الذي تحدث عنه القرآن حق.

٢٠