الأساس في التفسير - ج ٦

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٦

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٨

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله واصحابه

ربّنا تقبّل منّا ، إنّك أنت السّميع العليم

٢

كلمة في المجموعة الثانية من قسم المئين :

رأينا أن المجموعة الأولى من قسم المئين عمّقت اليقين ودلّت على النور وأخرجت من الظلمات ، ثمّ تأتي المجموعة الثانية من قسم المئين وأولها سورة الحجر التي تفصّل في مقدمة سورة البقرة من جديد تفصيلا غير الذي فصّلته سورة يونس ، ثمّ تأتي بعد ذلك سورة النحل والإسراء والكهف ومريم فتفصّل في الآيات (٢١٠ ، ٢١١ ، ٢١٢ ، ٢١٣) من سورة البقرة.

سورة النحل تفصّل في الآية (٢١٠) وهي (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) ولذلك فإن أول آية في سورة النحل هي : (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ ...)

وسورة الإسراء تفصّل في الآية (٢١١) وهي (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ولذلك تجد في سورة الإسراء قوله تعالى (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ ....)

وسورة الكهف تفصّل في الآية (٢١٢) وهي (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ولذلك تجد في سورة الكهف (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) وسورة مريم تفصّل في الآية (٢١٣) وهي (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ.) ولذلك تجد في سورة مريم (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ.)

٣

والتدليل على ما ذكرناه هنا سيأتي بتوسع فيما بعد إن شاء الله.

إن الآيات (٢١٠ ، ٢١١ ، ٢١٢ ، ٢١٣) من سورة البقرة آتية بعد قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ) (مُبِينٌ* فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.)

وإذن فهي آتية في حيّز الدعوة إلى الدخول في الإسلام كله ، وترك اتباع خطوات الشيطان ، ولذلك فإن السور الأربع التي جاءت تفصّل الآيات الأربع قد عمّقت معنى الدخول في الإسلام كله وترك اتباع ـ خطوات الشيطان ـ كما سنرى ـ وبما أن سورة الحجر كانت مقدمة لهذه السور الأربع فإنها ذكرت مثل هذا المعنى فقالت (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ* الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) أي أقساما ، قبلوا قسما وردوا قسما ، فسورة الحجر والسور الأربعة بعدها تشكل كلا متكاملا ضمن قسمها وهذا سيتضح معنا بشكل أكمل عندما نستعرض سور المجموعة كلها.

٤

٥

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ، والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربّنا تقبّل منّا ، إنّك أنت السّميع العليم

٦

قال الألوسي في تقديمه لسورة الحجر :

(أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بمكة وروي ذلك عن قتادة. ومجاهد. وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) وقوله سبحانه : (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) وذكر الجلال السيوطي في الإتقان عن بعضهم استثناء الآية الأولى فقط ثم قال قلت : وينبغي استثناء قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ) الآية لما أخرجه الترمذي وغيره في سبب نزولها وأنها في صفوف الصلاة ، وعلى هذا فقول أبي حيان ومثله في تفسير الخازن إنها مكية بلا خاف .. من قلة التتبع وهي تسع وتسعون آية ، قال الداني وكذا الطبرسي : بالإجماع وتحتوي ـ على ما قيل ـ على خمس آيات نسختها آية السيف.

ووجه مناسبتها لما قبلها أنها مفتتحة بنحو ما افتتحت به السورة السابقة ومشتملة أيضا على شرح أحوال الكفرة يوم القيامة وودادتهم لو كانوا مسلمين ، وقد اشتملت الأولى على نحو ذلك ، وأيضا ذكر في الأولى طرف من أحوال المجرمين في الآخرة ، وذكر هنا طرف مما نال بعضا منهم في الدنيا ، وأيضا قد ذكر سبحانه في كل مما يتعلق بأمر السموات والأرض ما ذكر ، وأيضا ... فيما يتعلق بإبراهيم عليه‌السلام ، وأيضا في كل من تسلية نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما فيه وغير ذلك مما لا يحصى».

كلمة في سورة الحجر ومحورها :

سورة الحجر هي كالمقدمة للسور الأربع الآتية بعدها ، وهي في الوقت نفسه تفصّل في مقدمة سورة البقرة ، فمحورها هو الآيات الأولى من سورة البقرة :

(الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.)

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) إنك لو تأملت سورة الحجر فإنك ستجد فيها : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ).

٧

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ* وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ* لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ.)

كما نجد فيها : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ* ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ.)

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) فالسورة تفصّل في شأن المتقين ، كما تفصّل في شأن الكافرين الذين لا ينفع معهم إنذار ، إنها تفصّل في مقدمة سورة البقرة ، مع تركيز على تفصيل أحوال الكافرين. قال صاحب الظلال :

(محور هذه السورة الأول هو إبراز المصير المخوّف الذي ينتظر الكافرين المكذبين .. وحول هذا المحور يدور السياق في عدة جولات متنوعة الموضوع والمجال ، ترجع كلها إلى ذلك المحور الأصيل سواء في ذلك القصة ، ومشاهد الكون ، ومشاهد القيامة ، والتوجيهات والتعقيبات التي تسبق القصص وتتخلله وتعقب عليه).

إن السورة تركز على تفصيل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.) ولذلك فهي تدلنا على صفات هذا النوع من الكافرين الذين لا ينفع معهم إنذار ، إن من خلال المعنى أو من خلال القصة ، وتردّ على الذين يتصورون أن الله لا يعذب : (نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) وتضرب الأمثلة على أنواع من تعذيبه للكافرين في الدنيا. هذا هو محور سورة الحجر الرئيسي :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) إنها شرح لحال الكفار وموقفهم من الإنذار ، وهي في الوقت نفسه توجيه للنذير كيف يفعل وكيف يوجّه نذارته ، وبماذا يقابل رفضهم للإنذار ، كما أن فيها تعليلا لهذه الحالة من الكفر الطاغي الأعمى :

لاحظ هذه التوجيهات للنذير :

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

٨

(نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ.)

(فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ.)

(لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ.)

(فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.)

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ* وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ.)

إنك عند ما تقرأ هذه التوجيهات في محلها تجد أنّ كل توجيه منها يأتي في محله بما يخدم محور السورة وسياقها.

ومن قبل قلنا : إن أي سورة في القرآن لها محورها من سورة البقرة ، وهي تفصّل فيه ، وفي بعض امتداداته من سورة البقرة نفسها ، فهي تجذب الشىء إلى نظيره ، وسورة الحجر تصلح أن تكون نموذجا على ذلك ، فهي تفصّل في مقدمة سورة البقرة ، وفي بعض امتدادات هذه المقدمة ، بحيث يتألف من مجموع ذلك المقدمة الكاملة للسور الأربع التالية ، إن السور الأربع التالية لسورة الحجر تناقش أهم الدوافع والصوارف في شأن حمل الإسلام كله ، من ثمّ فإن سورة الحجر تفصّل في محورها من سورة البقرة ، وتفصّل في امتداداته ضمن سياقها الخاص ليشكّل ذلك مقدمة كاملة للسور بعدها ، فإذا كانت السور بعدها تناقش الدوافع والصوارف لحمل الإسلام كله ، فإن سورة الحجر تتحدث عن الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض ، كما أنها تنذر وتوجّه وتوطّئ ، وكل ذلك سنراه عند عرضها ، وسنعرض سورة الحجر على مجموعات بدلا من عرضها كمقاطع للتسهيل على القارىء.

٩

المجموعة الأولى

وتمتدّ حتى نهاية الآية (١٥) وهذه هي :

(الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (١) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (٤) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُّنظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (١١) كَذَٰلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (١٥))

التفسير :

(الر) سبق الكلام عن هذه الأحرف (تِلْكَ) أي : ما تضمنته هذه السورة من الآيات (آياتُ الْكِتابِ) أي : معجزات الكتاب (وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) أي : كثير الإبانة

١٠

والتوضيح ، فالقرآن مبين عن الله وصفاته مبين عن الله ورسله ، مبين عن سنن الله وشرعه ودينه ، مبين عن طبيعة الإنسان وخصائص الإنسان وأدواء الإنسان وطرق علاجها ، بل إنه مبين لكل شىء يحتاجه الإنسان (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) هذا إخبار عن الكفار أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر ويتمنّون لو كانوا مسلمين في الدنيا ، ومتى يكون هذا؟ هل هو عند النزع إذا كشف الحجاب ، أو يكون يوم القيامة إذا عاينوا حالهم وحال المسلمين ، أو إذا رأوا عصاة المسلمين يخرجون من النار ، أو إذا رأوا المسلمين يعبرون على الصراط ، أو إذا رأوا أهل الجنة في الجنة ، أو عند هذا كله؟ أقوال للعلماء ، ولم استعملت ربما التي تفيد التقليل في هذا المقام مع أن تمني الإيمان والإسلام في هذه المقامات قطعي وكثير وكبير؟ الجواب : إنما جىء ب (ربما) للإشعار بأن ما سيرونه من أهوال يشغلهم عن التمني ، وبناء عليه يصدر الله عزوجل لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرا فيه إهانة لهم فيقول (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) بدنياهم (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي ويشغلهم أملهم وأمانيهم عن حقيقة أنفسهم وعما أمامهم وعن الحق الذي أنزل إليك وعما كلفوا به (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي سوء صنيعهم ، والمعنى : اقطع طمعك من ارعوائهم لأن الإنذار وعدمه في حقهم سواء.

كلمة في السياق :

نلاحظ أن الآية الأولى في السورة لها صلة بالآية الأولى من سورة البقرة :

(الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (سورة البقرة) (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) (سورة الحجر) ثم نلاحظ الصلة المباشرة بين تتمة المجموعة وبين قوله تعالى من مقدمة سورة البقرة :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.)

بدأ ذلك بقوله تعالى (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ* ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) وتأتي بقية المجموعة لتعلّل سبب هذا الأمر ، ومن خلال ذلك نعرف أن الكلام في المجموعة عن نوع من الكفار لا يؤثر فيهم الإنذار وكل ذلك مرتبط بمقدمة سورة البقرة.

١١

فوائد :

١ ـ فهمنا من الآية أن الأكل والتمتع في الدنيا والأمل هي كل شىء بالنسبة للكافر ، وأن هذه القضايا الثلاث تشغلهم عن كل شىء ، وإذا تأملنا حال الكافرين ، وحاولنا أن نلخّص أحوالهم لم نجد أبلغ مما وصفهم القرآن به ، وفي ذلك مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني ، إذ مثل هذه الإحاطة في النفس البشرية ، وهذا البيان البليغ يخرجان عن طوق البشر ، وفي الآية تنبيه عظيم للمؤمنين على أن إيثار التلذذ والتمتع والانشغال بالآمال الكاذبة وما يؤدي إلى طول الأمل وإلى أن تصبح هذه الأخلاق عميقة الجذور في النفس والقلب ، كل ذلك ليس من أخلاق المؤمن ، كما أنّ أمر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتركهم يشير إلى أنّ الواجب في حق هؤلاء ازدراؤهم واحتقار ما هم فيه ، وأي ازدراء أكبر من أن يؤمر المكلّف بالتبليغ أن يترك من هذا شأنه! وفي عصرنا حيث تعتبر قضية الطعام والمتاع ميزان التقدم ، وحيث تقوم الحركات السياسية كلها على تعليق نفس الإنسان بالآمال الدنيوية ندرك أهمية هذا التوجيه في التربية الإسلامية.

٢ ـ رأينا اختلاف العلماء في اللحظة التي يودّ الكافرون فيها لو كانوا مسلمين ولا شك أن ندامتهم تحصل لهم في كل لحظة يتاح لهم أن يراجعوا ما هم فيه ، ومن ثم قصّ الله علينا قولهم (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) وقصّ الله علينا قولهم (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ...) وهكذا تعددت أقوال العلماء ، لأن كلّا منهم نظر إلى ما قصّه الله علينا من أمنية في مقام فذهب إلى أن الآية تريد هذا المقام ، إلا أن هناك أربعة أحاديث يذكرها ابن كثير تعتبر نصا في الموضوع ، حديثان منها رواهما الطبراني ، وحديث رواه الطبراني وابن أبي حاتم ، وحديث منها رواه ابن أبي حاتم ، والأسانيد مختلفة ومعانيها قريبة من بعضها ، ومن ثم نكتفي بذكر الحديث الرابع الذي أخرجه ابن أبي حاتم ، وهذا هو :

«قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ومنهم ـ أي من المسلمين الذين أدخلوا النار ـ من تأخذه النار إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه إلى حجزته ، ومنهم من تأخذه النار إلى عنقه ، على قدر ذنوبهم وأعمالهم ، ومنهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها ، ومنهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها ، وأطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ خلقت إلى أن تفنى ، فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود والنصارى ومن في النار من أهل الأديان ، والأوثان لمن في النار من أهل التوحيد : آمنتم بالله وكتبه ورسله ، فنحن وأنتم اليوم في النار سواء.

١٢

فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشىء فيما مضى فيخرجهم إلى عين في الجنة وهو قوله (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ.)

٣ ـ قوله تعالى (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا ..) فيه تهديد شديد ووعيد أكيد كقوله تعالى : (قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (إبراهيم : ٣٠) وقوله (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) (المرسلات : ٤٦) ولهذا قال : (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) أي عن التوبة والإنابة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) أي عاقبة أمرهم ولنعد إلى التفسير.

إنّه بعد أن أمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يدع هؤلاء الكافرين لما هم فيه ذكر تعليلات ذلك الأمر :

(١)

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ) أي مكتوب (مَعْلُومٌ) وهو أجلها الذي كتب في اللوح المحفوظ (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) المحدّد في الكتاب (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) عن هذا الأجل المضروب. أخبر الله عزوجل أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها ، وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكهم عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهم ، فإذا كانت سنة الله كذلك فهؤلاء الكافرون المعاندون لك يا محمد سيأتيهم أجلهم ، ومن ثم فدعهم فيما هم فيه ونحن نتولى شأنهم.

(٢)

وعلة أخرى للأمر بتركهم : هي أقوالهم المتعنّتة التي تخرجهم عن طور استحقاق الدعوة والإنذار ، لأن أقوالهم تخرجهم عن الاتزان والإنصاف (وَقالُوا) أي الكفار (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي القرآن الذي تدعو إليه (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) والمعنى : إنك لتقول قول المجانين حيث تدّعي أن الله نزّل عليك الذكر (لَوْ ما) أي هلا (تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ) أي يشهدون بصدقك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فقوم هذا منطقهم : السباب ، واقتراح خرق نظام الكون ، لا يستحقون الاهتمام وإنما الترك ، ومع ذلك فقد ردّ الله عليهم أقوالهم (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِ) أي إلا تنزيلا ملتبسا بالحق والحكمة ، إما بالرسالة وإما بالعذاب ، والعذاب له أجل والرسالة لها أهلها (وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) أي لو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين ولما تأخر عذابهم ، هذا ردّ على طلبهم تنزل الملائكة ، وأما اتهامهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنون بسبب تنزل الذكر عليه

١٣

فالردّ عليه (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ) أي القرآن (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) أي من التغيير والتبديل ، قال النسفي : وهو رد لإنكارهم واستهزائهم في قولهم (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) ولذلك قال (إِنَّا نَحْنُ) فأكد عليهم أنه هو المنزل على القطع ، وأنه هو الذي نزله محفوظا من الشياطين ، وهو حافظه في كل وقت من الزيادة والنقصان والتحريف والتبديل ، بخلاف الكتب المتقدمة فإنه لم يتولّ حفظها ، وإنما استحفظها الربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا فوقع التحريف ، ولم يكل حفظه القرآن إلى غيره ، وقد جعل قوله (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) دليلا على أنه منزل من عنده آية. إذ لو كان من قول البشر أو غير آية لتطرّق عليه الزيادة والنقصان كما يتطرق على كل كلام سواه ، أو الضمير في (له) لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله (وَاللهُ يَعْصِمُكَ) ا ه. فنسبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الجنون مع أن هذا القرآن من عند الله ، والأدلة قائمة على ذلك ـ يدل على أن هؤلاء وصلوا في الطغيان على الله ورسوله حدا لا يصلح معه إلا الترك.

(٣)

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) رسلا (فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) أي فرق السابقين ، والشيعة : الفرقة إذا اتفقوا على مذهب وطريقة (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) وإذن لم يزل دأب الأمم الماضية الاستهزاء بالرسل ، فهؤلاء ماضون على سنن السابقين (كَذلِكَ) أي كما سلكنا الكفر أو الاستهزاء في شيع الأولين (نَسْلُكُهُ) أي الكفر أو الاستهزاء (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) من هذه الأمة بسبب تحققهم بصفة الإجرام عقوبة لهم (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالله أو بالذكر (وَقَدْ خَلَتْ) أي مضت (سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) أي طريقتهم التي سنّها في إهلاكهم أو في شأنهم ، ومن ثم فهؤلاء الذين هذا شأنهم ، وهذا حالهم ، لا يطمع بإسلامهم ، ومن ثم فذرهم يأكلوا ويتمتعوا ...

(٤)

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ) أي ولو أظهرنا لهم أوضح آية وهو فتح باب من السماء (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) أي يصعدون (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) أي حيّرت أو حبست من الإبصار ، أو سدّت ، أو أخذت أو شبّه عليها (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) فما يحدث لنا ليس حقيقة ، والمعنى : أن هؤلاء المشركين بلغ من غلوهم

١٤

في العناد أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ، ويسّر لهم معراج يصعدون فيه إليها ورأوا من العيان ما رأوا لقالوا : هو شىء نتخايله لا حقيقة له ؛ لقوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق ، وناس هذا شأنهم لا يقابلون إلا بالترك لأنه لا فائدة من إنذارهم ، وفي قوله تعالى : (فَظَلُّوا) إشعار بأنه حتى لو جعل عروجهم بالنهار إذ هو محل الظلول ليكونوا مستوضحين لما يرون لما كان موقفهم إلا ذلك ، وقوله تعالى : (لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا) فيه إشعار بمزيد جرمهم بأنهم مهما يحدث لهم فإنهم يعتبرونه تسكيرا للأبصار ولذلك استعملوا أكثر من مؤكد.

نقول :

١ ـ بمناسبة قوله تعالى (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) قال صاحب الظلال : «وذلك الكتاب المعلوم والأجل المقسوم يمنحه الله للقرى والأمم ، لتعمل ، ومن سنته جل جلاله أنه على حسب العمل يكون الأجل. فإذا هي آمنت وأحسنت وأصلحت وعدلت كان أجلها مديدا حتى تنحرف عن هذه الأسس كلها ، ولا تبقى فيها بقية من خير يرجى ، عندئذ تبلغ أجلها وينتهي وجودها ، إما إطلاقا بالهلاك والدثور ، وأما وقتيا بالضعف والانزواء.

ولقد يقال : إن أمما لا تؤمن ولا تحسن ولا تصلح ولا تعدل. وهي مع ذلك قوية ثرية باقية. وهذا وهم. فلا بد من بقية من خير في هذه الأمم. ولو كان هو خير الخلافة في الأرض بعمارتها ، وخير العدل في حدوده الضيقة بين أبنائها ، وخير الإصلاح المادي والإحسان المحدود بحدودها. فعلى هذه البقية من الخير تعيش حتى تستنفذها فلا تبقى فيها من الخير بقية. ثم تنتهي حتما.

إن سنة الله لا تتخلف. ولكل أمة أجل مرتب على عملها (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ.)

٢ ـ وبمناسبة قوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) قال صاحب الظلال : «ويكفي تصورهم يصعدون في السماء من باب فتح لهم فيها يصعدون بأجسامهم ، ويرون الباب مفتوحا أمامهم ، ويحسون حركة الصعود ويرون دلائلها .. ثم هم بعد ذلك يكابرون فيقولون : لا لا. ليست هذه حقيقة. إنما أحد سكر أبصارنا

١٥

وخدّرها فهي لا ترى إنما تتخيل. (بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ) سحرنا ساحر فكل ما نراه وما نحسه وما نتحركه تهيؤات مسحور.

يكفي تصورهم على هذا النحو لتبدو المكابرة السمجة ويتجلى العناد المزري. ويتأكد أن لا جدوى من الجدل مع هؤلاء ، ويثبت أن ليس الذي ينقصهم هو دلائل الإيمان ، وليس الذي يمنعهم أن الملائكة لا تنزل ، فصعودهم هم أشد دلالة وألصق بهم من نزول الملائكة. إنما هم قوم مكابرون. مكابرون بلا حياء ، وبلا تحرج ، وبلا مبالاة بالحق الواضح المكشوف.

إنه نموذج بشري للمكابرة يرسمه التعبير ، مثيرا لشعور الاشمئزاز والتحقير.

كلمة في السياق :

ذكرنا أن محور هذه المجموعة من سورة الحجر هو مقدمة سورة البقرة وخاصة قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وفي هذه المجموعة من الآيات رأينا أن الله أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) ثم رأينا علل هذا الأمر في الفقرات الأربع التي جاءت بعد الأمر ، وقد عرفنا من الآيات مواصفات الكفار الذين أصبح الإنذار وعدمه في حقهم سواء. وهم الذين همّهم الطعام والشراب والمتعة ، واللاهون بالأمل ، والسابّون للرسول ، والمقترحون للآيات ، والمستهزؤون بالرسل ، والمجرمون ، والمؤولون للآيات إذا رأوها ، وإذن فليس كل كافر لا ينذر وإلا لتعطّل الإنذار والتبليغ ، وإنما من وصل إلى حالة من الكفر هذه مواصفاتها ، ولكوننا لا نعلم ـ إلا بإعلام الله بالوحي وقد انقطع الوحي ـ أن كافرا قد أصبح كذلك فنحن مطالبون بالتبليغ والإنذار.

فوائد :

لقد رأينا أن الآية الأولى في هذه السورة تشير إلى أن في هذه السورة معجزات من معجزات هذا القرآن المبين ، وأول ما نراه في المجموعة السابقة من هذه المعجزات هو هذا البيان العجيب في التصوير والعرض لمعان لا تخطر على بال بشر كقوله تعالى : (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ* لَقالُوا ...) كما رأينا في الآيات من مظاهر الإعجاز هذا النوع الجازم من الكلام الذي ليس فيه مظهر من مظاهر الضعف البشري ، ومن ذلك هذا الجزم في قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ

١٦

لَحافِظُونَ) وإنها لمعجزة واضحة في هذه الآية إلى قيام الساعة أليس في حفظ هذا القرآن بحروفه وكلماته ولهجاته وقراءاته معجزة تتحدى على الدهر؟.

المجموعة الثانية

وتمتدّ من الآية (١٦) حتى نهاية الآية (٢٢) وهذه هي :

(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (١٧) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (٢٠) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (٢٢))

التفسير :

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ) أي خلقنا فيها (بُرُوجاً) أي نجوما أو منازل للنجوم ، أو مدارات ومسارات لها ، أو منازل للشمس والقمر بالنسبة للأرض (وَزَيَّنَّاها) أي السماء (لِلنَّاظِرِينَ.) (وَحَفِظْناها) أي السماء (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي ملعون (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ) أي حاول سرقة المسموع من عالم الغيب (فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ) أي جزء من مادة النجوم (مُبِينٌ) أي ظاهر للمبصرين (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) بسطناها ووسعناها بالقدر الذي تحتاجه نشأة الحياة

١٧

والإنسان عليها ، (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) أي جبالا ثابتة تجعلها متزنة غير مضطربة (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) أي مقدر بقدر فهو موزون بميزان الحكمة لا تصلح فيه زيادة ولا نقصان بحيث لا يطغى نوع على نوع أو على بقية الأنواع ، أو جنس على جنس أو على بقية الأجناس (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها) أي في الأرض (مَعايِشَ) أي ما يعاش به والمعايش جمع معيشة (وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) أي وجعلنا لكم فيها من لستم له برازقين من الأنعام والدواب (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي وما من شىء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والإنعام به (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) أي وما نعطيه إلا بمقدار معلوم على حسب المشيئة والحكمة البالغة والرحمة (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) قال ابن كثير : (أي تلقح السحاب فتدر ماء وتلقح الشجر ..) وقال النسفي : (وأرسلنا الرياح حوامل بالسحاب لأنها تحمل في جوفها كأنها لاقحة بها من لقحت الناقة حملت ...). وفي الفوائد عودة على هذا الموضوع. (فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ) أي من السحاب (ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) أي فجعلناه لكم سقيا بأن أنزلناه لكم عذبا منتفعا به (وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ) أي أنتم لستم بقادرين على أن تملكوا خزائنه وتعطوه ، أو أنتم لستم قادرين حتى على خزنه. قال ابن كثير : (ويحتمل أن المراد : وما أنتم له بحافظين بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله معينا وينابيع في الأرض ، ولو شاء الله تعالى لأغاره وذهب به ، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذبا وحفظه في العيون والآبار والأنهار ، وغير ذلك ليبقى لهم في طول السنة يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم).

أقول : ويحتمل معنى آخر يذكره المفسرون كما سنرى في سورة الفرقان ، وهو أن مجموع الماء الموجود في الأرض لا يزيد ولا ينقص ، ومن ثم فحبس هذا الماء على الأرض وفي جوّها ما كان ليكون لو لا أن الله جعل هذه الأرض على ما هي عليه ، فالآية قد يراد بها هذا ، أي وما أنتم بحابسين هذا الماء على الأرض وجوها حتى لا يفر من جو الأرض ، ولكن الله هو الذي فعل لكم ذلك. وبهذا انتهت المجموعة.

نقل : بمناسبة قوله تعالى : (وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ.) قال صاحب الظلال :

(والبروج قد تكون هي النجوم والكواكب بضخامتها. وقد تكون هي منازل النجوم والكواكب التي تنتقل فيها في مدارها وهي في كلتا الحالتين شاهدة بالقدرة ،

١٨

جلاله) عن هذه الظواهر وغيرها بالتفصيل هناك. ولا نرى أن نسهب في هذه وشاهدة بالدقة ، وشاهدة بالإبداع الجميل : (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ.)

وهي لفتة هنا إلى جمال الكون ، فليست الضخامة وحدها ، وليست الدقة وحدها إنما الجمال الذي ينتظم المظاهر جميعا ، وينشأ من تناسقها جميعا.

وإن نظرة مبصرة إلى السماء في الليلة الحالكة ، وقد انتثرت فيها الكواكب والنجوم ، توصوص بنورها ثم يبدو كأنما تخبو ، ريثما تنتقل العين لتلبي دعوة من نجم بعيد .. ونظرة مثلها في الليلة القمرية والبدر حالم ، والكون من حوله مهوم ، كأنما يمسك أنفاسه لا يوقظ الحالم السعيد.

إن نظرة واحدة شاعرة لكفيلة بإدراك حقيقة الجمال الكوني ، وعمق هذا الجمال في تكوينه ، ولإدراك معنى هذه اللفتة العجيبة : (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ.)

ومع الزينة الحفظ والطهارة : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) لا ينالها ولا يدنسها ولا ينفث فيها من شره ورجسه وغوايته. فالشيطان موكل بهذه الأرض وحدها ، وبالغاوين من أبناء آدم فيها. أما السماء ـ وهي رمز للسمو والارتفاع ـ فهو مطرود عنها مطارد لا ينالها ولا يدنسها. إلا محاولة منه ترد كلما حاولها : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ.)

وما الشيطان؟ وكيف يحاول استراق السمع؟ وأي شىء يسترق؟ كل هذا غيب من غيب الله ، لا سبيل لنا إليه إلا من خلال النصوص. ولا جدوى في الخوض فيه ، لأنه لا يزيد شيئا في العقيدة ؛ ولا يثمر إلا انشغال العقل البشري بما ليس من اختصاصه ، وبما يعطله عن عمله الحقيقي في هذه الحياة. ثم لا يضيف إليه إدراكا جديدا لحقيقة جديدة.

فلنعلم أن لا سبيل في السماء لشيطان ، وأن هذا الجمال الباهر فيها محفوظ ، وأن ما ترمز إليه من سمو وعلى مصون لا يناله دنس ولا رجس ، ولا يخطر فيه شيطان ، وإلا طورد فطرد وحيل بينه وبين ما يريد).

١٩

فوائد :

١ ـ بمناسبة قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ) نقول : إن ظاهرة الشهب وتعليلها الطبيعي معروف ، ولكن كثيرا من ظواهر هذا الكون قد يكون لها علاقة بقضية غيبية تعرف عن طريق خبر المعصوم ، ومن ذلك هذه القضية ، فالنصوص القرآنية والحديثية تحدثنا أن لهذه الظاهرة صلة بمنع الشياطين من استراق خبر السماء ، والذي يبدو أن الشياطين بتركيبهم يستطيعون أن يسمعوا ما لا يسمعه البشر من أمر السماء ، ومن ثم فليس لظاهرة الرجم صلة بموضوع المركبات الفضائية والأقمار الصناعية ، على أن المشتغلين في هذا الموضوع يلحظون احتمال الإصابة بالشهب ، ومن ملاحظتنا للنصوص التي تشير إلى موضوع استراق السمع ، ومن معرفتنا عن الشهب في أن نورها المتألق أثر عن اصطدام جرمها في جو الأرض ندرك أن المكان الذي يستطيع الشياطين الوصول إليه محدود ، وأن السماء الغيبية التي أخبرتنا عنها النصوص ليست كما قد يظن بعضهم أنها بعد المجرات كلها بالنسبة للأرض ، وهذا المقام الذي نحن فيه يدل على ما ذهبنا إليه من أن السموات السبع التي فوقها عرش الرحمن مغيبة عنا ، فهي داخلة في عالم الغيب ، وأن كل ما نراه إنما هو السماء بالمعنى اللغوي ، واقرأ هذا الحديث الصحيح الذي ذكره ابن كثير عن هذه الآية فلعله يساعدك على التحقق مما قلناه. قال

فقد روى البخاري عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان». قال علي وقال غيره : صفوان ينفذهم ذلك ، فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال : الحق ، وهو العلي الكبير. فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقوا السمع هكذا واحد فوق آخر ، ووصف سفيان ـ وهو أحد رواة الحديث ـ بيده ، وفرّج بين أصابع يده اليمنى نصبها بعضها فوق بعض. فربما أدرك الشهاب المستمع قبل أن يرمي بها إلى صاحبه فيحرقه ، وربما لم يدركه حتى يرمي بها إلى الذي يليه ، إلى الذي هو أسفل منه ، حتى يلقوها إلى الأرض. وربما قال سفيان : حتى تنتهي إلى الأرض. فتلقى على فم الساحر أو الكاهن ، فيكذب معها مائة كذبة فيصدق ، فيقولون : ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا كذا ، فوجدناه حقّا ـ للكلمة التي سمعت من السماء ـ؟!.

٢ ـ هذه المجموعة من الآيات التي مرّت معنا تتحدث عن ظواهر كونية متعددة كلها تشير وتدل على وجود الله بما لا يقبل جدلا ، ونحن قد تحدثنا في كتابنا (الله جل

٢٠