الأساس في التفسير - ج ٤

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ٤

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٧٦

١
٢

كلمة في آفاق الوحدة القرآنية بين يدي المجلد الرابع

نعرض في هذا المجلد سور : الأعراف والأنفال وبراءة ، وكما رأينا فإن القسم الأول من أقسام القرآن والذي هو قسم السبع الطوال ينتهي بنهاية سورة براءة وإذن فبنهاية هذا المجلد ينتهي عرض القسم الأول من أقسام القرآن ليأتي بعد ذلك القسم الثاني والذي يسمية الحديث الشريف الحسن الذي مر معنا في قسم المئين.

لقد رأينا فيما مضى أن لسورة البقرة سياقها الخاص بها ، ثم رأينا أن كل سورة جاءت بعدها لها محورها من سورة البقرة ، وأن كل سورة جاءت بعد سورة البقرة تفصل في محور من سورة البقرة ، وفي امتدادات هذا المحور من السورة نفسها ، فسورة آل عمران فصلت في مقدمة سورة البقرة ، وفي امتدادات هذه المقدمة ، أي : في المعاني التي هي أكثر لصوقا بها ، ثم جاءت سورة النساء ففصلت في الآيات الخمس الآتية بعد المقدمة وفي امتدادات هذه الآيات ، ثم جاءت سورة المائدة ففصلت في الآيتين اللتين جاءتا بعد الآيات الخمس وفي امتدادات معانيهما ، ثم جاءت سورة الأنعام ففصلت في آخر آيتين في المقطع الأول من القسم الأول من سورة البقرة ، وفي امتدادات معانيهما ، وتأتي بعد ذلك سورة الأعراف ، وهي تفصل في المقطع الثاني من القسم الأول من سورة البقرة ، وهو المقطع الذي يتحدث عن قصة آدم عليه‌السلام كما تفصل في امتدادات هذا المقطع.

وبتفصيل السور الخمس الآتية بعد سورة البقرة لمحاورها وامتدادات هذه المحاور تكون أكثر معاني سورة البقرة قد أصابها التفصيل الأول في القسم الأول من أقسام القرآن

وتأتي بعد سورة الأعراف سورتا الأنفال وبراءة ، ونلاحظ أنهما تفصلان في محور يأتي بعد آيات كثيرة من قصة آدم فهما تفصلان في قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) فلما ذا جاء محورا سورتي الأنفال وبراءة بعيدين عن محور سورة الأعراف؟

إن السور الخمس الآتية بعد سورة البقرة مباشرة فصلت في الآيات التسعة والثلاثين

٣

الأولى من سورة البقرة وفي امتدادات معاني هذه الآيات من سورة البقرة ؛ ولذلك فإن ما بين الآية (٤٠) من سورة البقرة وما بين الآية (٢١) التي هي محور سورة الأنفال تكاد تكون امتدادات مباشرة للآيات الأولى ، فلم تشكل أي منها محورا خاصا لسورة حتى جاءت الآيات (٢١٦ ، ٢١٧ ، ٢١٨) لتشكل محورا خاصا لسورتي الأنفال وبراءة ، وجاءت سورتا الأنفال وبراءة لتفصل في هذا المحور وامتداداته ، فتم بذلك التفصيل الأول لسورة البقرة ليأتي بعد ذلك في قسم المئين التفصيل الثاني.

وبما مر في المجلدات الثلاثة السابقة على هذا المجلد ، ومما سيمر معنا في هذا المجلد سنرى : أن كل سورة تأتي بعد سورة البقرة لها محورها من سورة البقرة ، وأن كل سورة تأتي بعد سورة البقرة تفصل في محور من سورة البقرة ، وفي امتداد من امتداداته ، وهكذا يتكرر التفصيل ولكنه في كل مرة يأتي بشكل جديد وبمعان جديدة.

إنه بنهاية سورة براءة ينتهي قسم السبع الطوال وقد رأينا وسنرى كيف أن هذا القسم تترابط معانيه وتتكامل سوره ، ورأينا أكثر من صورة من صور الربط بين هذا القسم ، كما رأينا كيف أن كل سورة تأتي بعد سورة البقرة تفصل في محور من سورة البقرة ، على نفس الترتيب الموجود في سورة البقرة ، دون اشتراط التعاقب المباشر فقد يأتي محور السوره اللاحقة بعد آيات كثيرة من محور السورة السابقة كما سنرى ذلك في سورتي الأنفال وبراءة.

ولكن يلاحظ أنه ولو لم تكن المحاور متعاقبة إلا أنك لو جمعتها مع بعضها فإنك تجد ترابطا فيما بينها فلو أنك وضعت الآيات التي تشكل محاور السور السبع التي جاءت بعد سورة البقرة بجانب بعضها فإنك تخرج بموضوع متكامل مترابط ، وهذا معنى سنراه فيما بعد وسنبرهن عليه كثيرا.

إنه ليس كل آية في سورة البقرة هي محورا لسورة مستقلة لأن كثيرا من أياتها تعتبر امتدادا لمعاني أيات أخرى وهذا هو السر في أن تفصيل السور مع أنه يأتي على ترتيب

٤

الآيات في سورة البقرة ولكن لا يأتي على ترتيب متعاقب ، غير أنك لا تخرج من قسم من أقسام القرآن إلا وقد أخذت تفصيلا جديدا لمعاني سورة البقرة على نوع من أنواع الترتيب ستراه كلما جاءت مناسبة.

ومع احتياطنا أن لا نكثر التكرار لكنه لكون الميزة الأولى لهذا التفسير هو العرض لوجهة نظر جديدة في موضوع الوحدة القرآنية فإننا نرى أنفسنا مضطرين لتكرار نرجو ألا يأخذنا القارىء عليه ولنبدأ عرض سورة الأعراف :

٥
٦

٧

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٨

كلمة في سورة الأعراف ومحلها في السياق القرآني ومحورها :

رأينا أن سورة آل عمران فصلت في العشرين آية الأولى من سورة البقرة ، ورأينا أن سور : النساء والمائدة والأنعام فصلت فيما بعد ذلك إلى نهاية الآية (٢٩). من سورة البقرة ، وفصلت كل واحدة منها في محور خاص بها مع كونها ثلاثتها تخدم ذلك المقطع بالتكامل ، ونلاحظ أن آخر آية في سورة الأنعام قالت : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ.) وهي تلفت النظر إلى الآية الثانية في محورها من سورة البقرة (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) مع الآية التي بعدها (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.) وإذن فإن سورة الأنعام أوصلتنا إلى مقطع جديد في سورة البقرة ، وهو الذي فيه الحديث عن قصة آدم ، ولقد استقرت قصة آدم في سورة البقرة على قوله تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وتأتي بعد سورة الأنعام سورة الأعراف (المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ* اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ....) لاحظ قوله تعالى في سورة البقرة (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) وقوله تعالى في الآية الثالثة في سورة الأعراف (اتَّبِعُوا.) والناظر إلى سورة الأعراف يرى أنها تتألف من مقدمة ، ثم قصة آدم ، وبناء عليها ، ثم قصص قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وقوم شعيب ، ثم بناء عليها. ثم قصة موسى مع فرعون. ثم قصة بني إسرائيل بعد الخروج من مصر. ثم مواجهة مع بني إسرائيل. ومن تأمل هذه المعاني يجد باختصار أنها نماذج من الهدى الذي أنزله الله خلال العصور على أمم ؛ وموقف هذه الأمم من هذا الهدى وما عوقبت به ، وكل ذلك بمثابة درس لهذه الأمة ، فالسورة تفصيل إذن لمحور خاص هو قوله تعالى (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وإذ كان ما قبل هذا في سورة البقرة قصة آدم ، وما بعده قصة بني إسرائيل ضمن السياق الخاص لسورة البقرة ، فإن قصة آدم وبني إسرائيل ترد هنا بما يخدم المحور الخاص لسورة الأعراف.

٩

في سورة البقرة ذكرت قصة آدم ، وههنا تذكر ، ثم بعد ذلك توجه نداءات لبني آدم (يا بَنِي آدَمَ) ليأخذوا ههنا دروس القصة.

وفي سورة البقرة تختم قصة آدم بالقاعدة : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ثم تأتي هناك قصة بني إسرائيل ـ كنموذج على أمة أنزل عليها وحي ـ وههنا تأتي قصص قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب كنماذج على أمم أنزل عليها وحي ، ثم تأتي بعد ذلك قصة بني إسرائيل كأمة أنزل عليها وحي ، وفي هذا السياق يتوجه الخطاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) فمن خلال دروس الماضين يتوجه الخطاب إلى الناس أن يتبعوا الهدى الذي أنزله الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعطى هذه الأمة دروسا وتوجيهات

وقد جاءت قصة آدم عليه‌السلام في سورة البقرة في سياق القسم الذي ابتدأ بأمر ونهي (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَلا تَجْعَلُوا اللهَ) أندادا وجاءت قصة آدم هناك ، وفيها ذكر لعقوبة من خالف الأمر والنهي وفي الأعراف تفصيلات ذلك ؛ ولذلك يأخذ الكلام عن التوحيد والعبادة المحل الأكبر في السورة ويكاد القسم الأخير منها يختص بذلك

إن محور سورة الأعراف من سورة البقرة هو قوله تعالى : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ولهذا المحور ارتباطاته في سورة البقرة ، وامتداداته ، وتبدأ سورة الأعراف فتأمر هذه الأمة باتباع ما أنزل إليها ، وتخاطب الناس جميعا أن يتبعوا ما أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعد من يتبع وتنذر من يخالف (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ..) فسورة الأعراف تفصل في المحور وامتداداته وارتباطاته ، وتبني عليه في سياقها الخاص الآخذ بعضه برقاب بعض ضمن ترابط وتلاحم كاملين يستطيع المتأمل ـ أدنى تأمل ـ أن يراهما ، وسنرى تفصيل ذلك.

١٠

وسورة الأعراف تبدأ بالأحرف (المص) فهي تبدأ بالأحرف نفسها التي ابتدئت بها سورتا البقرة وآل عمران ، مع زيادة (ص) وكنا ذكرنا من قبل أن فواتح السور تؤدي خدمات متعددة منها أنها تعتبر مفاتيح من مفاتيح الفهم للوحدة القرآنية ، وسيتضح هذا الموضوع معنا شيئا فشيئا وسنرى أن الحرف (ص) إذا وجد في سورة يكون علامة على شىء له صلة بهذا الموضوع. وكل ما نقوله هنا : إن مجىء الأحرف الثلاثة التي بدئت بها سورة البقرة مع زيادة الحرف (ص) في قسم واحد يشير إلى انطلاقة جديدة بعد جولات :

لنتذكر أن سورة البقرة بدأت بقوله تعالى (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ثم سارت حتى وصلت إلى قصة آدم التي انتهت بقوله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) والصلة واضحة بين الآيتين هناك ، فإذ تأتي سورة الأعراف مبدوءة بنفس الأحرف مع زيادة حرف الصاد ، فكأنها تشير إلى ذلك الربط للانطلاق منه إلى تفصيل جديد ، إن مجىء سورة الأعراف وابتداءها بقوله تعالى (المص) أي بالأحرف التي بدأت بها سورة البقرة مع زيادة «ص» التي فهم منها ابن عباس أنها تشير إلى التفصيل كما سنرى ، والتي تفصل آية فيها حرف الصاد (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) كل ذلك فيه إشارات لمن تأمل. وسنرى أن لمجىء الصاد هنا زيادة على «الم» معنى خاصا له صلة في الدلالة على السياق القرآني العام ، وهو شىء سنراه عند سورة «مريم» وسورة «ص» وهو مرتبط بذكر «ص» هنا ، ومن ثم فإننا نؤخر الكلام عنه إلى هناك.

نقول :

١ ـ قال الألوسي في تقديمه لسورة الأعراف : أخرج أبو الشيخ وابن حبان عن قتادة قال : هي مكية إلا آية (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ) وقال غيره إن هذا إلى (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ) مدني. وأخرج غير واحد عن ابن عباس وابن الزبير أنها مكية ولم يستثنيا شيئا ...... وكلها محكم ، وقيل : إلا موضعين ، الأول (وَأُمْلِي لَهُمْ) فإنه نسخ بآية السيف ، والثاني (خُذِ الْعَفْوَ) فإنه نسخ بها أيضا عند ابن زيد ، وادعى أيضا (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) كذلك وفيما ذكر نظر»

٢ ـ ذكرنا من قبل أن الذين تكلموا عن الوحدة القرآنية ، والمناسبات بين السور

١١

إما أنهم تكلموا عن هذا الموضوع من خلال صلة أوائل السورة اللاحقة بأواخر السورة السابقة ، أو من خلال الوحدة الموضوعية للقرآن بمعنى : أن المعاني القرآنية تتكامل شيئا فشيئا في هذا القرآن ، وكنموذج على الشيئين معا نذكر ما قاله السيوطي في المناسبة بين سورة الأعراف وسورة الأنعام : قال :

ومناسبتها لما قبلها أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق وفيها (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ) وقال سبحانه في بيان القرون (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ) وأشير إلى ذكر المرسلين ، وتعداد الكثير منهم ، وكان ما ذكر على وجه الإجمال جىء بهذه السورة بعدها مشتملة على شرحها وتفصيله ، فبسط فيها قصة آدم وفصلت قصص المرسلين وأممهم ، وكيفية هلاكهم أكمل تفصيل ، ويصلح هذا أن يكون تفصيلا لقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) ولهذا صدر السورة بخلق آدم الذي جعله في الأرض خليفة ، وقال سبحانه في قصة عاد (جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) وفي قصة ثمود (جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) وأيضا قال سبحانه فيما تقدم (كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) وهو كلام موجز ، وبسطه سبحانه هنا بقوله تعالى : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ) الخ ، وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأولى فهو أنه قد تقدم (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ) وافتتح هذه بالأمر باتباع الكتاب ، وأيضا لما تقدم (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) قال جل شأنه في مفتتح هذه (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) الخ ، وذلك من شرح التنبئة المذكورة ، وأيضا لما قال سبحانه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) الآية ، وذلك لا يظهر إلا في الميزان ؛ افتتح هذه بذكر الوزن فقال عز من قائل (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) ثم من ثقلت موازينه : وهو من زادت حسناته على سيئاته ، ثم من خفت وهو على العكس ، ثم ذكر سبحانه أصحاب الأعراف وهم ـ على أحد الأقوال ـ : من استوت حسناتهم وسيئاتهم).

وكما ترى فإن في هذه اللفتات معاني صحيحة فالوحدة القرآنية لها أكثر من مظهر

٣ ـ ومما قدم به صاحب الظلال لسورة الأعراف هده المقتطفات :

إن موضوع سورة الأنعام هو العقيدة. وموضوع سورة الأعراف هو العقيدة .. ولكن بينما سورة الأنعام تعالج العقيدة في ذاتها ؛ وتعرض موضوع العقيدة وحقيقتها ؛ وتواجه الجاهلية العربية في حينها ـ وكل جاهلية أخرى كذلك. مواجهة صاحب الحق

١٢

الذي يصدع بالحق ، وتستصحب معها في هذه المواجهة تلك المؤثرات العميقة العنيفة الكثيرة الموفورة التي تحدثنا عنها إجمالا وتفصيلا ونحن نقدم السورة ونستعرضها ووقفنا أمامها ما شاء الله أن نقف .. بينما سورة الأنعام تتخذ هذا المنهج ، وتسلك في الطريق .. نجد سورة الأعراف ـ وهي تعالج موضوع العقيدة كذلك ـ تأخذ طريقا آخر ، وتعرض موضوعها في مجال آخر. إنها تعرضه في مجال التاريخ البشري .. في مجال رحلة البشرية كلها من الجنة والملأ الأعلى ، وعائدة إلي النقطة التي انطلقت منها .. وفي هذا المدى المتطاول تعرض «موكب الإيمان» من لدن آدم «عليه‌السلام» إلى محمد عليه الصلاة والسلام ـ تعرض هذا الموكب الكريم يحمل هذه العقيدة ويمضي بها على مدار التاريخ. يواجه بها البشرية جيلا بعد جيل ، وقبيلا بعد قبيل .. ويرسم سياق السورة في تتابعه : كيف استقبلت البشرية هذا الموكب وما معه من الهدى؟ كيف خاطبها هذا الموكب. وكيف جاوبته؟ كيف وقف الملأ منها لهذا الموكب بالمرصاد ، وكيف تخطى هذا الموكب أرصادها ومضى في طريقه إلى الله؟ وكيف كانت عاقبة المكذبين وعاقبة المؤمنين في الدنيا وفي الآخرة؟ إنها رحلة طويلة .. ولكن السورة تقطعها مرحلة مرحلة وتقف منها عند معظم المعالم البارزة ، في الطريق المرسوم. ملامحه واضحة ومعالمه قائمة ، ومبدؤه معلوم ، ونهايته مرسومة .. والبشرية تخطو فيه بجموعها الحاشدة. ثم تقطعه راجعة .. إلى حيث بدأت رحلتها في الملأ الأعلى ..

لقد انطلقت هذه البشرية من نقطة البدء ، ممثلة في شخصين اثنين .. آدم وزوجه .. أبوي البشر .. وانطلق معهما الشيطان. [ممهلا] من الله في غوايتهما وغواية ذراريهما ، ومأخوذ عليهما عهد الله وعلى ذراريهما كذلك ومبتلى كلاهما وذراريهما معهما بقدر من الاختيار ، ليأخذوا عهد الله بقوة ، أو ليركنوا إلى الشيطان عدوهم وعدو أبويهم الذي أخرجهما من الجنة ؛ وليسمعوا الآيات التي يحملها إليهم ذلك الرهط الكريم من الرسل على مدار التاريخ ، أو يسمعوا غواية الشيطان الذي لا يني يجلب عليهم بخيله ورجله ، ويأتيهم عن أيمانهم وعن شمائلهم!.

انطلقت البشرية من هناك .. من عند ربها سبحانه .. انطلقت إلى الأرض تعمل وتسعى ، وتكد وتشقى ، وتصلح وتفسد ، وتعمر وتخرب ، وتتنافس وتتقاتل ، وتكدح الكدح الذي لا ينجو منه شقي ولا سعيد .. ثم ها هي ذي تؤوب! ها هي ذي راجعة إلى ربها الذي أطلقها في هذا المجال .. ها هي ذي تحمل ما كسبت طوال

١٣

الرحلة المرسومة .. من ورد وشوك. ومن غال ورخيص ، ومن تمين وزهيد ، ومن خير وشر ، ومن حسنات وسيئات. ها هي ذي تعود في أصيل اليوم .. فقد انطلقت في مطلعه! .. وها نحن أولا نلمحها من خلال السياق في السورة موقورة الظهور بالأحمال ـ أيا كانت هذه الأحمال ـ ها هي ذي عائدة إلى ربها بما معها. تطلع في الطريق ، وقد بلغ منها الجهد وأضناها المسير حتى إذا عادت إلى نقطة المنطلق وضع كل منها حمله أمام الميزان ، ووقف يرتقب في خشية ووجل .. إن كل فرد قد عاد بحصيلته فردا .. (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى :) وكل فرد على حدة يلاقي حسابه ويلقى جزاءه .. ويظل سياق السورة يتابع أفواج البشرية فوجا فوجا. إلى جنة أو إلى نار. حتى تغلق الأبواب التي فتحت لاستقبال المغتربين العائدين. فقد كانوا هنا لك في هذه الأرض مغتربين : (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللهِ ، وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ..)

ومع الغدو والرواح تعرض معارك الحق والباطل. معارك الهدى والضلال معارك الرهط الكريم من الرسل والموكب الكريم من المؤمنين ، مع الملأ المستكبرين والأتباع المستخفين. ويعرض الصراع المتكرر ؛ والمصائر المتشابهة. وتتجلى صحائف الإيمان في إشراقها ووضاءتها ؛ وصحائف الضلال في انطماسها وعتامتها ، وتعرض مصارع المكذبين بين الحين والحين. حيث يقف السياق عليها للتذكير والتحذير .. وهذه الوقفات تجىء وفق نظام ملحوظ في سياق السورة. فبعد كل مرحلة هامة يبدو وكما لو كان السياق يتوقف عندها ليقول كلمة : كلمة تعقيب للإنذار والتذكير .. ثم يمضي.

إنها قصة البشرية بجملتها في رحلتها ذهابا وإيابا. تتمثل فيها حركة هذه العقيدة في تاريخ البشرية ، ونتائج هذه الحركة في مداها المتطاول .. حتى تنتهي إلى غايتها الأخيرة في نقطة المنطلق الأول .. وهي وجهة أخرى في عرض موضوع العقيدة غير وجهة سورة الأنعام ـ وإن تلاقت السورتان أحيانا في عرض مشاهد المكذبين وعرض مشاهد القيامة ومشاهد الوجود ـ وهو مجال آخر للعرض غير مجال الأنعام ، واضح التميز ، مختلف الحدود.

ذلك إلى طبيعة التعبير في السورتين. فالتعبير في كل سورة يناسب منهجها في عرض الموضوع. وبينما يمضي السياق في الأنعام في موجات متدافعة وبينما تبلغ المشاهد دائما

١٤

درجة اللألاء والتوهج والالتماع ، وتبلغ الإيقاعات درجة الرنين والسرعة القاصفة والاندفاع .. إذا السياق في الأعراف يمضي هادىء الخطو ، سهل الإيقاع ، تقريري الأسلوب. وكأنما هو الوصف المصاحب للقافلة في سيرها المديد ، خطوة خطوة ، ومرحلة مرحلة ، حتى تؤوب! وقد يشتد الإيقاع أحيانا في مواقف التعقيب ؛ ولكنه سرعان ما يعود إلى الخطو الوئيد الرتيب!

.. وهما ـ بعد ـ سورتان مكيتان من القرآن ..!!!.

كلمة في أقسام سورة الأعراف ومقاطعها

تتألف سورة الأعراف من ثلاثة أقسام ، القسم الأول : ويتألف من مقدمة السورة ومقطع واحد ، والقسم الثاني : ويتألف من أربعة مقاطع ، والقسم الثالث : ويتألف من مقطعين ، وسنرى تفصيلات ذلك وأدلته.

١٥

مقدمة السورة

تبدأ السورة بمقدمة مؤلفة من تسع آيات تحدد مضمون السورة على ضوء محورها وهذه هي :

بسم الله الرحمن الرحيم

(المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤))

(فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩))

المعنى العام :

يذكر الله عزوجل في هذه المقدمة أنه أنزل هذا القرآن على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأن على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا يتحرج في إبلاغه ، والإنذار به ، وأن الله أنزله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من

١٦

أجل أن ينذر الكافرين وأن يذكر المؤمنين. ثم أمر الله عزوجل الناس أن يقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءهم بكتاب من عند الله رب كل شىء ومليكه. ثم نهاهم عن أن يخرجوا عما جاءهم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى غيره ، فيكونوا قد عدلوا عن حكم الله إلى حكم غيره ، ثم بين أن التذكر قليل ، والغفلة كثيرة. ثم هدد الله عزوجل هؤلاء الغافلين ، مذكرا بعقابه في الدنيا والآخرة ، فبين أن كثيرا من القرى أهلكها الله بمخالفة رسله وتكذيبهم ، فأعقبهم ذلك خزي الدنيا موصولا بذل الآخرة ، وأن هذه القرى الهالكة منهم من جاءهم أمر الله وبأسه ونقمته ليلا ، ومنهم من جاءهم بأسه في قيلولتهم ووقت استراحتهم وسط النهار ، وكلا الوقتين المذكورين وقت غفلة ولهو ، فما كان قول هؤلاء المكذبين عند مجىء العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم وأنهم حقيقون بهذا ، ثم بين تعالى أنه سيسأل الجميع ، الرسل والمرسل إليهم ، ويسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به. ويسأل الرسل أيضا عن إبلاغ رسالاته. ويخبر الله الجميع بما قالوا وما عملوا من قليل وكثير ، وجليل وحقير ، لأنه تعالى الشهيد على كل شىء ، لا يغيب عنه شىء ، ولا يغفل عن شىء بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور. مع الإعلام بكون الوزن للأعمال بالحق ، فلا يظلم تعالى أحدا ، والوزن يتحدد به الفلاح والخسران ، فالمفلح من ثقلت موازينه ، والخاسر من خفت موازينه ، بسبب ظلمهم في مواقفهم من آيات الله.

المعنى الحرفي :

(المص) نقل ابن كثير هنا ما رواه ابن جرير عن ابن عباس في معناها (أنا الله أفصل) ونقل كذلك هذا القول عن سعيد بن جبير. وقال النسفي : (قال الزجاج : المختار في تفسيره ما قال ابن عباس رضي الله عنه : أنا الله أعلم وأفصل) وأقول : إن هذه الأحرف ليس في تفسيرها نص ، وكل ما قاله المفسرون هو ملاحظات لاحظوها ففهموا منها فهما ، وقد رأينا في أول تفسير سورة البقرة مجموعة ملاحظات حول هذه الأحرف ، ونلاحظ هنا أن ابن عباس قد فهم أن كل حرف من هذه الأحرف هو جزء كلمة يتشكل من المجموع جملة تنسجم مع معنى السورة (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أي هذا كتاب وهو القرآن (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) أي شك فيه ، وسمى الشك حرجا لأن الشاك ضيق الصدر حرجه كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه ، أو المراد : فلا يكن صدرك حرج منه بتبليغه لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم

١٧

عنه وأذاهم فكان يضيق صدره من الأذى ولا ينشط له ، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم والنهي متوجه إلى الحرج. والمعنى : هذا الكتاب أنزلته إليك فلا يكن بعد إنزاله حرج في صدرك (لِتُنْذِرَ بِهِ) أي : أنزل إليك لإنذارك به (وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) أي : لتنذر به الكافرين ، وتذكر به المؤمنين ، فهذا الكتاب للإنذار والذكرى (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) أي : الكتاب والسنة لأن كليهما وحي منزل. فما قصه الله علينا في كتابه ، أو قصه علينا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أخبار الماضين ، وما أمر الله به في القرآن أو أمر به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل ذلك وغيره من الكتاب والسنة وحي (وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ) أي من دون الله ، أو لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى غيره ؛ فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره (أَوْلِياءَ) أي ولا تتولوا من دونه من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره والمعنى : تتذكرون تذكرا قليلا ؛ ومن ثم ، فالذكر الكثير والتذكر الكثير هما طريق الهداية من الانحراف (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) أي كثير من القرى أردنا إهلاكها (فَجاءَها بَأْسُنا) أي فجاء أهلها عذابنا (بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) أي بائتين في الليل ، أو قائلين في النهار ، من القيلولة ، وخص هذان الوقتان لأنهما وقتا الغفلة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع. قال النسفي : (وقوم لوط عليه‌السلام أهلكوا بالليل وقت السحر ، وقوم شعيب عليه‌السلام وقت القيلولة) (فَما كانَ دَعْواهُمْ) أي دعاؤهم وتضرعهم (إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا) أي لما جاءهم أوائل العذاب (إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) أي اعترفوا بالظلم على أنفسهم والشرك حين لم ينفعهم ذلك (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ) أي فلنسألن المرسل إليهم وهم الأمم عما أجابوا به رسلهم (وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) أي عما أجيبوا به (فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ) أي فلنقصن على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم (بِعِلْمٍ) أي عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة ، وأقوالهم وأفعالهم (وَما كُنَّا غائِبِينَ) أي عنهم وعما وجد منهم (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُ) أي : ووزن الأعمال يوم يسأل الله الأمم ورسلهم العدل. قال النسفي : (ثم قيل : توزن صحف الأعمال بميزان له لسان وكفتان إظهارا للنصفة وقطعا للمعذرة) وقيل هو عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل ، والله أعلم بالكيفية التي يتم بها ذلك وسيأتي كلام على هذا الموضوع في الفوائد (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) أي فمن رجحت أعماله الموزونة التي لها وزن وقدر ـ وهي الحسنات ـ أو ما توزن به حسناتهم (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أي الفائزون (وَمَنْ خَفَّتْ

١٨

مَوازِينُهُ) أي هم الكفار فإنه لا إيمان لهم ليعتبر معه عمل. فلا يكون في ميزانهم خير فتخف موازينهم (فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ) أي يجحدون بالآيات الحجج ، والظلم بها وضعها في غير موضعها أي جحودها وترك الانقياد لها.

نقول :

وقف صاحب الظلال وقفات كثيرة عند الآيات التي مرت معنا والتي تشكل مقدمة سورة الأعراف ، فأطنب وأجاد ـ رحمه‌الله ـ وهذه مقتطفات من كلامه عن الآيات ، وخاصة عند قوله تعالى (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ ..)

قال رحمه‌الله : «كتاب أنزل إليك للإنذار به والتذكير .. كتاب للصدع بما فيه من الحق ولمواجهة الناس بما لا يحبون ؛ ولمجابهة عقائد وتقاليد وارتباطات ؛ ولمعارضة نظم وأوضاع ومجتمعات. فالحرج في طريقه كثير ، والمشقة في الإنذار به قائمة لا يدرك ذلك ـ إلا من يقف بهذا الكتاب هذا الموقف ؛ وإلا من يعاني من الصدع به هذه المعاناة ؛ وإلا من يستهدف من التغيير الكامل الشامل في قواعد الحياة البشرية وجذورها ، وفي مظاهرها وفروعها ، ما كان يستهدفه حامل هذا الكتاب أول مرة ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليواجه به الجاهلية الطاغية في الجزيرة العربية وفي الأرض كلها ..

وهذا الموقف ليس مقصورا على ما كان في الجزيرة العربية يومذاك ، وما كان في الأرض من حولها .. إن الإسلام ليس حادثا تاريخيا ، وقع مرة ، ثم مضى التاريخ وخلفه وراءه.

إن الإسلام مواجهة دائمة لهذه البشرية إلى يوم القيامة ... وهو يواجهها كما واجهها أول مرة ، كلما انحرفت هي وارتدت إلى مثل ما كانت فيه أول مرة : إن البشرية تنتكس بين فترة وأخرى وترجع إلى جاهليتها ـ وهذه هي «الرجعية» البائسة المرذولة ـ وعندئذ يتقدم الإسلام مرة أخرى ليؤدي دوره في انتشالها من هذه «الرجعية» مرة أخرى كذلك ؛ والأخذ بيدها في طريق التقدم والحضارة ؛ ويتعرض حامل دعوته والمنذر بكتابه للحرج الذي تعرض له الداعية الأول ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ وهو يواجه البشرية بغير ما استكانت إليه من الارتكاس في وحل الجاهلية ، والغيبوبة في ظلامها الطاغي! ظلام التصورات. وظلام الشهوات. وظلام الطغيان والذل. وظلام

١٩

العبودية للهوى الذاتي ولأهواء العبيد أيضا! ويتذوق من يتعرض لمثل هذا الحرج ، وهو يتحرك لاستنقاذ البشرية من مستنقع الجاهلية ، طعم هذا التوجيه الإلهي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

(كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ، لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ.) ويعلم ـ من طبيعة الواقع ـ من هم المؤمنون الذين لهم الذكرى ، ومن هم غير المؤمنين الذين لهم الإنذار. ويعود هذا القرآن عنده كتابا حيا يتنزل اللحظة في مواجهة واقع يجاهده هو بهذا القرآن جهادا كبيرا ..

والبشرية اليوم فى موقف كهذا الذي كانت فيه يوم جاءها محمد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بهذا الكتاب ، مأمورا من ربه أن ينذر به ويذكر ؛ وألا يكون في صدره حرج منه وهو يواجه الجاهلية ، ويستهدف تغييرها من الجذور والأعماق ..

لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاءها هذا الدين ، وانتكست البشرية إلى جاهلية كاملة شاملة للأصول والفروع والبواطن والظواهر والسطوح والأعماق».

وقول الله ـ سبحانه ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ ..)

يصور حالة واقعية لا يمكن أن يدركها اليوم إلا الذي يعيش في جاهلية وهو يدعو إلى الإسلام ، ويعلم أنه إنما يستهدف أمرا هائلا ثقيلا ، دونه صعاب جسام .. يستهدف إنشاء عقيدة وتصور ، وقيم وموازين ، وأوضاع وأحوال مغايرة تمام مغايرة لما هو كائن في دنيا الناس. ويجد من رواسب الجاهلية في النفوس ، ومن تصورات الجاهلية في العقول ، ومن قيم الجاهلية ، ومن ضغوطها في الأوضاع والأعصاب ، ما يحس معه أن كلمة الحق التي يحملها ، غريبة على البيئة ، ثقيلة على النفوس ، مستنكرة في القلوب ، كلمة ذات تكاليف بقدر ما تعنيه من الانقلاب الكامل لكل ما يعهده الناس في جاهليتهم في التصورات والأفكار ، والقيم والموازين ، والشرائع والقوانين ، والعادات والتقاليد ، والأوضاع والارتباطات .. ومن ثم يجد في صدره هذا الحرج من مواجهة الناس بذلك الحق الثقيل الحرج الذي يدعو الله ـ سبحانه ـ نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألا يكون في صدره من هذا الكتاب شىء منه ، وأن يمضي به ينذر ويذكر ، ولا يحفل ما تواجهه كلمة الحق من دهشة واستنكار ، ومن مقاومة كذلك وحرب وعناء ..

٢٠