الأساس في التفسير - ج ١١

سعيد حوّى

الأساس في التفسير - ج ١١

المؤلف:

سعيد حوّى


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٤

الذنوب فإن لها من الله طالبا» ورواه النسائي وابن ماجه. وروى ابن جرير عن أنس قال : كان أبو بكر يأكل مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) فرفع أبو بكر يده وقال : يا رسول الله إني أجزى بما عملت من مثقال ذرة من شر؟ فقال : «يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فبمثاقيل ذر الشر ، ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير حتى توفاه يوم القيامة» ورواه ابن أبي حاتم.

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه» وأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضرب لهن مثلا كمثل قوم نزلوا أرض فلاة فحضر صنيع القوم فجعل الرجل ينطلق فيجىء بالعود والرجل يجىء بالعود حتى جمعوا سوادا وأججوا نارا وأنضجوا ما قذفوا فيها.).

٥٤١

المجموعة الرابعة عشرة

من القسم الرابع من أقسام القرآن

المسمى بقسم المفصل

وتشمل سور :

العاديات ، والقيامة ،

والتكاثر

٥٤٢
٥٤٣

كلمة في المجموعة الرابعة عشرة من قسم المفصل :

تتألف المجموعة الرابعة عشرة من ثلاث سور ، والذي دلنا على بدايتها أن السورة الأولى منها مبدوءة بقسم ، وهي علامة مطردة على بداية المجموعات كما رأينا ، والذي دلنا على نهايتها أن سورة العصر بعدها مبدوءة بقسم مما يشير إلى أن سورة التكاثر هي نهاية المجموعة.

وقد عرفنا أن السورة المبدوءة بقسم تفصل في مقدمة سورة البقرة ، وهذا يدلنا على محور سورة العاديات ، وقد رأينا من قبل أن سورة الحاقة فصلت في مقدمة سورة البقرة ، والملاحظ أن سورة القارعة تشبه سورة الحاقة ، ففي سورة الحاقة. ورد قوله تعالى : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ* وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ* كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) وفي سورة القارعة يأتي قوله تعالى : (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ* وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) لاحظ وجود كلمة القارعة في السورتين. وأن لفظ القارعة في سورة الحاقة تفسير للحاقة ، وهذا يشير إلى أن السورتين تصبان في مصب واحد ، مما يشير إلى وحدة محور السورتين.

والملاحظ أن سورة الحاقة تقول : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ* فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ .. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ ..).

وأن سورة القارعة تقول : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ* وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ* فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ .. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ ..) تتشابهان تشابها كبيرا مما يشير إلى وحدة محورهما. فإذا كان محور سورة الحاقة هو مقدمة سورة البقرة فكذلك سورة القارعة.

وعلى هذا فإن محور سورتي العاديات والقارعة هو مقدمة سورة البقرة.

وتأتي سورة التكاثر والظاهر من معانيها أنها تفصل فيما بعد مقدمة سورة البقرة ، أي : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ* الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً

٥٤٤

فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ومن ثم تجد سورة التكاثر تخاطب الناس فتقول : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ).

إن ما بعد مقدمة سورة البقرة دعوة للناس جميعا إلى عبادة الله عزوجل شكرا له على نعمه. ولكن كثيرين من الناس تشغلهم النعمة عن المنعم ، ولذلك تأتي سورة التكاثر لتؤنب هؤلاء على اشتغالهم بالنعمة عن المنعم حتى ماتوا ، وتعالج هذه الظاهرة ، والملاحظ بشكل عام أن المجموعة الرابعة عشرة تعالج بشكل عام ظواهر مرضية في الطبيعة البشرية تنأى بها عن الحق وقبوله ، فلنبدأ عرض المجموعة.

٥٤٥

سورة العاديات

وهي السورة المائة بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الأولى من المجموعة الرابعة عشرة

من قسم المفصل ، وهي إحدى عشر آية

وهي مكية

٥٤٦

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٥٤٧

بين يدي سورة العاديات :

قال الألوسي عن هذه السورة : (ولما ذكر سبحانه فيما قبلها الجزاء على الخير والشر أتبع ذلك فيها بتعنيف من آثر دنياه على آخرته ، ولم يستعد لها بفعل الخير ، ولا يخفى ما في قوله تعالى هناك : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) وقوله سبحانه هنا : (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) من المناسبة أو العلاقة على ما سمعت من أن المراد بالأثقال ما في جوفها من الأموات أو ما يعمهم ، والكنوز).

وقال صاحب الظلال : (يجري سياق هذه السورة في لمسات سريعة عنيفة مثيرة ، ينتقل من إحداها إلى الأخرى قفزا وركضا ووثبا ، في خفة وسرعة وانطلاق ، حتى ينتهي إلى آخر فقرة فيها فيستقر عندها اللفظ والظل والموضوع والإيقاع! كما يصل الراكض إلى نهاية المطاف!

وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة ، القادحة للشرر بحوافرها ، المغيرة مع الصباح ، المثيرة للنقع وهو الغبار ، الداخلة في وسط العدو فجأة تأخذه على غرة ، وتثير في صفوفه الذعر والفرار! يليه مشهد في النفس من الكنود والجحود والأثرة والشح الشديد.

ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور!.

وفي الختام ينتهي النقع المثار ، وينتهي الكنود والشح ، وتنتهي البعثرة والجمع ... إلى نهايتها جميعا. إلى الله. فتستقر هناك : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) ..

والإيقاع الموسيقي فيه خشونة ودمدمة وفرقعة ، تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة ، والصدور المحصل ما فيها بشدة وقوة ، كما تناسب جو الجحود والكنود ، والأثرة والشح الشديد. فلما أراد لهذا كله إطارا مناسبا ، اختاره من الجو الصاخب المعفر كذلك ، تثيره الخيل العادية في جريها ، الصاخبة بأصواتها القادحة بحوافرها ، المغيرة فجاءة مع الصباح ، المثيرة للنقع والغبار ، الداخلة في وسط العدو على غير انتظار .. فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار.

يقسم الله سبحانه يخيل المعركة ، ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري ، قارعة للصخر بحوافرها حتى توري الشرر

٥٤٨

منها ، مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو ، مثيرة للنقع والغبار. غبار المعركة على غير انتظار. وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب!.

إنها خطوات المعركة على ما يألفه المخاطبون بالقرآن أول مرة .. والقسم بالخيل في هذا الإطار فيه إيحاء قوي بحب هذه الحركة والنشاط لها ، بعد الشعور بقيمتها في ميزان الله).

كلمة في سورة العاديات ومحورها :

تتحدث سورة العاديات عن طبيعة الإنسان ، وأنه جحود ، وأنه محب لمصلحته ومنفعته وهي تعالج هذا المعنى عند الإنسان ، بتذكيره بالبعث والحساب ، ومعرفة الله عزوجل ، وإذا تذكرنا مقدمة سورة البقرة فإننا نرى أنها تتحدث عن المتقين والكافرين والمنافقين ، وهذه السورة تتحدث عن سبب الكفر والنفاق ، وتعالج ذلك ليكون الإنسان من المتقين ، وهذه هي الصلة الرئيسية لهذه السورة بمقدمة سورة البقرة.

انتهت سورة الزلزلة بقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) وسورة العاديات تتحدث عن طبيعة الإنسان وكنوده ومحبته للمال والدنيا ، وتعالج ذلك. وفي ذلك حض على فعل الخير وترك الشر فالسورة كثيرة الصلات بما قبلها.

سورة العاديات

وهي إحدى عشرة آية وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣)

٥٤٩

فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

التفسير :

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) قال ابن كثير : يقسم تعالى بالخيل إذا أجريت في سبيله فعدت وضبحت ، وهو الصوت الذي يسمع من الفرس حين تعدو. أقول : والتقدير : والخيل العاديات يضبحن ضبحا (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) قال ابن كثير : (يعني اصطكاك نعالها بالصخر فتقدح منه النار) قال النسفي : (والقدح : الصك ، والإيراء : إخراج النار) (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) قال ابن كثير : (يعني الإغارة وقت الصباح). قال النسفي : (فالمغيرات تغير على العدو وقت الصبح) (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) قال النسفي : أي : فهيجن بذلك الوقت غبارا ، وقال ابن كثير في الآية : يعني غبارا في مكان معترك الخيول (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) قال النسفي : فوسطن به أي : بذلك الوقت جمعا جموع الأعداء ، ووسطه بمعنى توسطه (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) قال النسفي : أي لكفور أي : إنه لنعمة ربه خصوصا لشديد الكفران. قال ابن كثير : هذا هو المقسم عليه. بمعنى : إنه لنعم ربه لكفور جحود (وَإِنَّهُ) أي : وإن الإنسان (عَلى ذلِكَ) أي : على كنوده (لَشَهِيدٌ) أي : يشهد على نفسه ، وعلى هذا القول محمد بن كعب القرظي. قال ابن كثير : فيكون تقديره : وإن الإنسان على كونه كنودا لشهيد أي : بلسان حاله أي ظاهر ذلك عليه في أقواله وأفعاله (وَإِنَّهُ) أي : الإنسان (لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) قال النسفي : (أي : وإنه لأجل حب المال لبخيل ممسك ، أو إنه لحب المال لقوي وهو لحب عبادة الله ضعيف) وقال ابن كثير : (أي : وإنه لحب الخير ـ وهو المال ـ لشديد ، وفيه مذهبان : أحدهما أن المعنى وإنه لشديد المحبة للمال والثاني وإنه لحريص بخيل من محبة المال وكلاهما صحيح).

٥٥٠

أقول : يمكن أن يكون المراد بالخير في هذا السياق ما هو أعم من المال. من ما يدخل في كل ما يعتبره الإنسان خيرا لنفسه. قال ابن كثير : ثم قال تبارك وتعالى مزهدا في الدنيا ، ومرغبا في الآخرة ، ومنبها على ما هو كائن بعد هذه الحال وما يستقبله الإنسان من الأهوال (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) أي : أفلا يعلم الإنسان إذا بعث من في القبور من الموتى ، وقال ابن كثير : أي : أخرج ما فيها من الأموات (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ) قال النسفي : أي ميز ما فيها من الخير والشر. قال ابن عباس وغيره : يعني : أبرز وأظهر ما كانوا يسرون في نفوسهم (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) قال النسفي : أي : لعالم ، فيجازيهم على أعمالهم من الخير والشر. وخص (يومئذ) بالذكر وهو عالم بهم في جميع الأزمان ، لأن الجزاء يقع يومئذ ، وقال ابن كثير : أي العالم بجميع ما كانوا يصنعون ومجازيهم عليه أوفر الجزاء ، ولا يظلم مثقال ذرة.

كلمة في السياق :

انصب السياق على ذكر طبيعة الإنسان فهو كنود ويحب المال والمنافع الدنيوية ، وذكرت السورة علاج هاتين الصفتين ، وذلك يكون بتذكر البعث ، وما يكون فيه من تحصيل ما في الأنفس ، وعلم الله عزوجل بها ، إن هذا التذكر هو الذي يحرر الإنسان من كنوده ، وحبه الشديد للمال حتى لا يلقى الله عزوجل بأمراضه المخجلة تلك ، فإذا علم الإنسان ذلك تحرر من الكفر ، وأقبل على الإيمان والصلاة والإنفاق ، واتباع كتاب الله عزوجل ، فلا صارف يصرف عن هذه الأشياء مثل جحود نعم الله عزوجل ومحبة الدنيا ، ومن هذا الذي ذكرناه ندرك سياق السورة الخاص ، وصلتها بمحورها أي : بمقدمة سورة البقرة ، فالسورة تحرر الإنسان مما يمنعه من التحقق بصفات المتقين ، إن الجحود لنعم الله عزوجل ينتج عن الكفران الذي لا يرافقه اعتراف ولا عبودية ، ومن ثم فلا إيمان ولا صلاة ولا اتباع كتاب. وإن حب المال ينتج عنه حجب الحقوق ، وعدم الإنفاق وينتج عنه ، قبول الفتنة في أمر الإسلام.

وإن ما بين قوله تعالى في هذه السورة : (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ .. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ). وبين قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لصلة ، فمن الصوارف التي تصرف الإنسان عن قبول الإنذار شحه وحبه للدنيا.

٥٥١

الفوائد :

١ ـ القول الراجح أن المراد بالقسم الوارد في السورة الخيل ، وهناك خلاف. هل المراد بها خيل الغزاة أو خيل الحجيج في انطلاقها من عرفات إلى مزدلفة إلى منى. وهو خلاف لا يوقف عنده. فالحج نوع جهاد في سبيل الله ، ولا شك أن في القسم بالخيل تعظيما لها. كآلة جهاد ، وهذا يجعل المسلم يفكر دائما بآلات الجهاد.

٢ ـ مما قالوه في الكنود سوى ما ذكرناه ، ما قال الحسن : الكنود هو الذي يعد المصائب وينسى نعم الله عليه ، وقال ابن كثير : (وروى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) ـ قال ـ : الكنود الذي يأكل وحده ، ويضرب عبده ، ويمنع رفده» ورواه ابن أبي حاتم من طريق آخر بإسناد ضعيف ، وقد رواه ابن جرير أيضا عن أبي أمامة موقوفا).

٥٥٢
٥٥٣

سورة القارعة

وهي السورة الحادية بعد المائة بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الثانية من المجموعة الرابعة عشرة

من قسم المفصل ، وهي إحدى عشرة آية

وهي مكية

٥٥٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وأصحابه

ربنا تقبل منا ، إنك أنت السميع العليم

٥٥٥

بين يدي سورة القارعة :

قال صاحب الظلال عن هذه السورة : (القارعة : القيامة. كالطامة ، والصاخة ، والحاقة ، والغاشية ، والقارعة توحي بالقرع واللطم ، فهي تقرع القلوب بهولها.

والسورة كلها عن هذه القارعة. حقيقتها. وما يقع فيها. وما تنتهي إليه .. فهي تعرض مشهدا من مشاهد القيامة.

والمشهد المعروض هنا مشهد هول تتناول آثاره الناس والجبال. فيبدو الناس في ظله صغارا ضئالا على كثرتهم : فهم (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) مستطارون مستخفون في حيرة الفراش الذي يتهافت على الهلاك ، وهو لا يملك لنفسه وجهة ، ولا يعرف له هدفا! وتبدو الجبال التي كانت ثابتة راسخة كالصوف المنفوش تتقاذفه الرياح وتعبث به حتى الأنسام! فمن تناسق التصوير أن تسمى القيامة بالقارعة ، فيتسق الظل الذي يلقيه اللفظ ، والجرس الذي تشترك فيه حروفه كلها ، مع آثار القارعة في الناس والجبال سواء! وتلقي إيحاءها للقلب والمشاعر ، تمهيدا لما ينتهي إليه المشهد من حساب وجزاء).

وقال الألوسي : (ومناسبتها لما قبلها أظهر من أن تذكر).

كلمة في سورة القارعة ومحورها :

تحدثت مقدمة سورة البقرة عن المتقين والكافرين والمنافقين ، والمنافقون كافرون في المآل. وسورة القارعة تتحدث عن حال المتقين والكافرين يوم القيامة ، وهذا أول مظهر من مظاهر صلة سورة القارعة بمقدمة سورة البقرة ، ومقدمة سورة البقرة تتحدث عن المتقين بأنهم يؤمنون بالآخرة (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) وتتحدث عن الكافرين (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وسورة القارعة تتحدث عن اليوم الآخر وعما يكون فيه من فلاح لأهل العمل الصالح ، ومن عذاب وخسران لأهل الكفر ، ولذلك صلة بمقدمة سورة البقرة كذلك.

وقد ختمت سورة العاديات بقوله تعالى : (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ* وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ* إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) وجاءت سورة القارعة لتحدثنا

٥٥٦

عن الساعة التي تبعثر فيها القبور ، وتحدثنا عما يكون فيها ، وهذا مظهر من مظاهر صلتها بما قبلها ، ولعلنا نلاحظ أن هذه المجموعة لها خصائص معينة في كونها تعالج معاني سلبية في الإنسان وذلك مظهر من مظاهر أسباب تعدد المجموعات القرآنية ، إذ تؤدي كل منها خدمة في مجال التربية والتعليم ، والبيان والتفصيل ، وهو مدى لا يحاط به. ومن ثم فلا يغني عن ختم القرآن وتكراره شىء. فكل سورة فيها جديد ، وكل مجموعة فيها جديد ، وكل قسم فيه جديد ، وكل ذلك يترك آثاره الخاصة في النفس البشرية.

سورة القارعة

وهي إحدى عشرة آية وهذه هي :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

التفسير :

(الْقارِعَةُ) قال ابن كثير : القارعة من أسماء يوم القيامة كالحاقة والطامة والصاخة والغاشية وغير ذلك (مَا الْقارِعَةُ) هذا سؤال يراد به تعظيم أمرها وتفخيم شأنها : (وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) قال النسفي : أي شىء أعلمك ما هي ، ومن أين علمت ذلك؟ أقول : وفي السؤال الثاني كذلك تفخيم آخر لشأنها. قال ابن كثير : ثم فسر ذلك بقوله : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) قال النسفي : (شبههم بالفراش في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من كل جانب ، كما يتطاير

٥٥٧

الفراش إلى النار وقال ابن كثير في الآية : (أي في انتشارهم وتفرقهم وذهابهم ومجيئهم من حيرتهم مماهم فيه كأنهم فراش مبثوث) (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) قال النسفي : شبه الجبال بالعهن : وهو الصوف المصبغ ألوانا لأنها ألوان (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) وبالمنفوش منه لتفرق أجزائها. قال ابن كثير : ثم أخبر تعالى عما يؤول إليه كل العاملين ، وما يصيرون إليه من الكرامة والإهانة بحسب أعمالهم. فقال : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) قال النسفي : أي باتباعهم الحق وهي جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وحظ عند الله أو جمع ميزان وثقلها رجحانها ، وقال ابن كثير : أي رجحت حسناته على سيئاته (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) أي : ذات رضا أو مرضية. قال ابن كثير : يعني في الجنة (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) قال النسفي : أي باتباعه الباطل. قال ابن كثير : أي رجحت سيئاته على حسناته (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) قال النسفي : أي فمسكنه ومأواه النار ، وقيل للمأوى أم على التشبيه لأن الأم مأوى الولد ومفزعه. وقال ابن كثير : قيل معناه فهو ساقط في الهاوية ، وهي اسم من أسماء النار (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) قال النسفي : الضمير يعود إلى هاوية والهاء للسكت ، ثم فسرها الله عزوجل فقال : (نارٌ حامِيَةٌ) قال النسفي : أي بلغت النهاية في الحرارة.

كلمة في السياق :

بينت السورة عاقبة المتقين الذين ثقلت حسناتهم ، وعاقبة الكافرين الذين لا يقبل الله عزوجل منهم عملا ، وفي ذلك دعوة للإيمان والتقوى والعمل الصالح ، كما أن فيها دعوة للتحرر من الكفر والفجور ، وصلة ذلك بمقدمة سورة البقرة لا تخفى.

فائدة :

بمناسبة قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ* فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ* وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ* نارٌ حامِيَةٌ) قال ابن كثير : (روى ابن جرير عن الأشعث بن عبد الله الأعمى قال : إذا مات المؤمن ذهب بروحه إلى أرواح المؤمنين فيقولون : روحوا أخاكم فإنه كان في غم الدنيا قال : ويسألونه ما فعل فلان؟ فيقول : مات أو ما جاءكم؟ فيقولون : ذهب به إلى أمه الهاوية ، وقد رواه ابن مردويه من طريق أنس بن مالك مرفوعا بأبسط من هذا وقد أوردناه في كتاب صفة النار ـ أجارنا الله تعالى منها بمنه وكرمه ـ وقوله تعالى : (نارٌ

٥٥٨

حامِيَةٌ) أي : حارة شديدة الحر قوية اللهب والسعير. قال أبو مصعب عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية؟ فقال : «إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا» ورواه البخاري ، وفي بعض ألفاظه : «إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها» وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : سمعت أبا القاسم صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءا من نار جهنم» فقال رجل : إن كانت لكافية؟ فقال : «لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءا حرا فجرا» تفرد به أحمد من هذا الوجه وهو على شرط مسلم .. وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت ، فهي سوداء مظلمة» وقد روي هذا من حديث أنس وعمر بن الخطاب عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن أهون أهل النار عذابا من له نعلان يغلي منهما دماغه» وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف ، فأشد ما تجدون في الشتاء من بردها ، وأشد ما تجدون في الصيف من حرها» وفي الصحيحين : «إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة ، فإن شدة الحر من فيح جهنم»).

٥٥٩

سورة التكاثر

وهي السورة الثانية بعد المائة بحسب الرسم القرآني

وهي السورة الثالثة والأخيرة من المجموعة الرابعة

عشرة من قسم المفصل ، وهي ثمان آيات

وهي مكية

٥٦٠